في عالمنا اليوم، يعيش أكثر من 55 في المائة من البشر في المدن، أي نحو 4.2 مليار إنسان، هذه النسبة لم تكن تزيد على 36 في المائة في عام 1970. ويتوقع أن تزيد بحلول عام 2050 لتصل إلى نحو 66 في المائة. لهذه الزيادة في عدد السكان أسباب متعددة، ولها نتائج أيضاً، وفيما تسعى بعض الدول لزيادة عدد سكان المدن، يسعى البعض الآخر إلى العكس. وأدت زيادة السكان في المدن إلى تحول بعض المدن إلى أشبه بالدول من ناحية عدد السكان والناتج القومي والتأثير الاجتماعي والاقتصادي.
فعلى سبيل المثال، يبلغ الناتج القومي لمدينة نيويورك نحو 1.8 تريليون دولار، وهو أكثر من الناتج القومي لكندا بأكملها. كما يبلغ الناتج القومي للوس أنجليس تريليون دولار، وهو يساوي الناتج القومي لماليزيا. وتشكل العديد من مدن العالم أهمية اقتصادية لدولها بعدد سكانها المرتفع ومساهمتها في الناتج القومي، فعلى سبيل المثال، تشكل نسبة سكان مدينة ساو باولو نحو 11 في المائة من سكان البرازيل، بينما تبلغ نسبة مساهمتها في الناتج القومي البرازيلي 20 في المائة. وفي شنغهاي الصينية يعيش 1.2 في المائة من سكان الصين، يساهمون بـ2.9 في المائة من الناتج القومي الصيني. وفي الهند، يعيش 2 في المائة من السكان في مدينة مومباي، تشكل مساهمتهم 6.3 من الناتج القومي الهندي.
ولهذه الأرقام دلالات عدة، منها أن التجمّع السكاني في منطقة واحدة يزيد من الإنتاجية، فعدد سكان نيويورك لا يزيد على 9 ملايين نسمة، ولكن ناتجها القومي يزيد على كندا ذات الـ38 مليون نسمة. وكذلك حول الحال للوس أنجليس ذات الأربعة ملايين نسمة، والتي تتفوق بناتجها القومي على ماليزيا ذات الـ32 مليون نسمة. وزيادة سكان المدن ترتبط ارتباطاً إيجابياً بزيادة الإنتاجية والنمو الاقتصادي فيها. هذه النتائج هي أحد أسباب حرص الدول على زيادة عدد التجمعات السكانية، من خلال دراسة العوامل الجاذبة للسكان في المدن، والأثر المتوقع لهذه الزيادة.
وتتعدد عوامل الجذب والقوّة للمدن والتي عادة ما تكون معروفة لدى القائمين عليها، فمنها الميزات الطبيعية، مثل الجو المعتدل، أو القرب من البحر. ومنها تركز الأنشطة القطاعة مثل الصناعات أو الخدمات، ومنها تقدم البنية التحتية والخدمات والاتصالات والمواصلات. إضافة إلى بعض المميزات الأخرى كالسياحة والأماكن التاريخية والنشاطات الترفيهية. كما أن زيادة السكان ترتبط بمعدل التوظيف في المدن، ومستوى جودة الحياة، وخصائص الشركات الناشطة فيها، ومستوى الابتكار والتعلم، وبيئة الأعمال.
ويمكن تفسير الارتباط الإيجابي بين الإنتاجية وعدد السكان بعدة طرق. أولها أن تجمع الشركات ذات القطاعات المتشابهة وتركزها في مكان واحد يزيد من تنافسيتها. كما أن وجودها في ذات المنطقة الجغرافية يجعلها تتشارك في الخدمات المساندة التي تحتاج لها، مثل الخدمات اللوجيستية والقرب من الموردين. كما أن التركّز الجغرافي يخلق ثقافة لهذه القطاعات في المناطق التي تتركز فيها، وهو ما يزيد من تبادل الأفكار ويعطي مجالاً أكبر للإبداع والابتكار. ولا ينحصر هذا الاجتماع في الشركات ذات الأنشطة المتشابهة، بل حتى وجود شركات متعددة القطاعات في منطقة واحدة يعطي جاذبية لانتقال المواهب لهذه المنطقة، ويزيد من النشاط الاستهلاكي والاقتصادي فيها.
إن من الصعوبة إغفال الأهمية الاقتصادية للمدن، وفي أكبر 600 مدينة في عالم اليوم، يعيش أكثر من 20 في المائة من سكان العالم، وينتج أكثر من 60 في المائة من إجمالي الناتج العالمي. هذه الأرقام في ازدياد مستمر، وقد يكون توسع بعض المدن على حساب بعضها الآخر، والذي قد يتضرر كثيراً من نزوح السكان منه. ولذلك فإن الجذب المستمر للسكان مهم جداً، ولا بد من أن تكون هذه الزيادة تدريجية حتى لا تستفيد مناطق على حساب أخرى. وأن تتوازى هذه الزيادة مع تطوير في البنى التحتية من مواصلات واتصالات ومياه ومساكن. وإلا فإن رؤوس الأموال لن تجد جاذبية في هذه المدن، خاصة أنها تلتفت وبشكل كبير للمواهب التي يهمها كثيراً هذه البنى التحتية. كما أن خلق ثقافة لريادة الأعمال مهم جداً في المدن، لا سيما مع كون الشركات الناشئة جزءاً مهماً من الاقتصاد العالمي.
د.عبدالله الردادي