مع «أوميكرون»… القلق مشروع والهلع ممنوع

في قائمة المربكات الكبرى، التي تضطرب بعد ظهورها حياة البشر وتختلف أحوال معيشتهم تأثراً بها، تتربع على قمتها الجوائح والأوبئة. فبعد عامين من ظهور فيروس كورونا في ووهان بالصين، يحيي الفيروس ذكراه السنوية بمتحور جديد أُعلن عنه في جنوب أفريقيا ومنحته منظمة الصحة العالمية اسم «أوميكرون». ويشكل المتحور الجديد مع المتحور السابق عليه المعروف بـ«دلتا»، الذي ظهر في الهند في شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، خطراً جديداً على صحة الإنسان واستقرار المجتمعات وتطورات اقتصاداتها.
وحتى كتابة هذه السطور ظهرت حالات متعددة للإصابة بالفيروس المتحور مرت بأفريقيا وآسيا، وتكاثرت مع اكتشافها بالاختبارات المتلاحقة في أوروبا وكندا. ولم تظهر حالات بعد في الولايات المتحدة ولكن رئيسها جو بايدن، قال إنها فقط مسألة وقت حتى يصل «أوميكرون» إلى أميركا، بما يدعو للقلق ولكنه دعا شعبه لعدم الذعر أو الهلع الذي يزيد الأمور ارتباكاً. كما ذكر بايدن بعد اجتماع مع كبير خبراء الأمراض المعدية الأشهر أنتوني فاوتشي، بأن بلاده ستتعرف على هذا المتحور وستهزمه، وأنه سيحيط الشعب بالمستجدات. ووفقاً لفاوتشي، فإن اللقاحات المتاحة توفر حماية للأشخاص الملقحين بالكامل، ولكن فريقه سيحتاج إلى أسبوعين للتعرف على مزيد من المعلومات عن مدى خطورة السلالة الجديدة وخصائصها وسبل التعامل معها.
وفي الوقت الذي يدعو فيه الدكتور فاوتشي إلى الالتزام بالإجراءات الاحترازية المألوفة منذ إعلان الجائحة، وتعزيز كل من حصل على جرعتين من اللقاح بثالثة، وأن يمتد التطعيم ليشمل الأطفال، يواجه العالم معضلتين فيما يتعلق باللقاح. أولهما عزوف الكثيرين في أميركا وأوروبا عن تلقي اللقاح لعدم ثقتهم به علمياً، أو لاقتناعهم بالمناعة الطبيعية كبديل لعملية السيطرة بفرض لقاحات، أو لتمردهم على الانصياع لأي ضوابط أو قيود باعتبارات تمسكهم بحرياتهم وسيادتهم على أجسادهم. وفي حين يتعرض فاوتشي وفريقه لهجوم شديد لتمسكه بضرورة التلقيح للبالغين، خصوصاً من سياسيين من الجنوب الأميركي من المنتمين للحزب الجمهوري، ذكرت مجلة «نيويوركر» على لسان دكتور فاوتشي رده على هذا الهجوم بأن «متحوراً فيروسياً للغباء تم التعرف عليه في تكساس! وأن هذا المتحور سريع الانتشار لديه مناعة شديدة ضد كل المعلومات». ويستمر السجال والجدل المتواصل بين من يملكون رفاهية الاختيار في الدول الغنية، ففي نهاية الأمر لديهم العلاج في منظومتهم الصحية إذا ساءت اختياراتهم، رغم ما في ذلك من مخاطر تتجاوز في تكلفتها ما تتطلبه الوقاية.
المعضلة الثانية الأكبر خطراً هي عدم العدالة في توفير اللقاحات حول العالم. وفي مقال نشر الأسبوع الماضي بصحيفة «الشرق الأوسط» الغراء بقلم جوردون براون رئيس الحكومة البريطانية الأسبق، بصفته سفيراً لمنظمة الصحة العالمية لتمويل الصحة العالمية، أقر بفشل المجتمع الدولي في الوفاء بتحقيق التوزيع العادل للقاحات. فرغم أن العالم مع نهاية هذا العام سيكون قد أنتج 12 مليار لقاح، فإن 95 في المائة من البالغين في الدول الأفقر ما زالوا محرومين من اللقاح الذي تستحوذ عليه الدول الأغنى. ولن تصل أكثر من 80 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل للحد الأدنى المقرر عالمياً بتطعيم 40 في المائة من البالغين من سكان كل دولة. وهو ما حذرنا منه تكراراً منذ الإعلان رسمياً في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 عن الانتصار العلمي بتطوير عدة لقاحات ناجعة في زمن قياسي. ففي حين انتصر العلم خابت الإرادة السياسية وخارت قواها المحدودة أمام جشع المستحوذين على اللقاح، الذين ستنتهي في مخازنهم صلاحية 100 مليون جرعة قبل نهاية هذا العام لن ينتفع بها فقير أو غني.
وهكذا لم تشهد الدول النامية بعد كل اجتماع دولي للتعهدات إلا اتساعاً في الفجوة بينها وبين الدول ذات اللقاحات إنتاجاً أو اقتناء، ولم تجد الدول الأفقر مع هذا الحرمان إلا سخاء في وعود لم يوف بها. فوفقاً لبراون، فإن الدول الأغنى اشترت بالفعل ما يقترب من 90 في المائة من كافة اللقاحات، كما تسيطر على 70 في المائة من توريدات المستقبل. هذا في حين أن عدد من حصلوا على اللقاح في أفريقيا يقل عن 7 في المائة وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وعن صافي حسابات الوعود، فقد أوفت الولايات المتحدة بحوالي 22 في المائة من تبرعاتها الموعودة فحسب، وهي بذلك أفضل نسبياً من أداء الاتحاد الأوروبي الذي لم يتجاوز نسبة 15 في المائة.
وتجتمع هذا الأسبوع جمعية الصحة العالمية، وينتظر منها أن تتبنى قرارات مهمة لمنع تكرار حالات الإهمال السابقة على الأوبئة التي يعقبها هلع بعد الإعلان عن تفشيها، وذلك من خلال الاستثمار في تدابير وقائية وإتاحة التمويل الكافي للعمل الصحي الدولي، والنظر فيما تتبناه إدارة منظمة الصحة العالمية من اقتراح لمعاهدة دولية جديدة تدعم التنسيق الدولي في الاستعدادات المانعة لتفشي الأوبئة، والدفع بسرعة المواجهة حال حدوثها دوت إبطاء.
ومن العجيب أنه على بعد مسافة قريبة من مقر منظمة الصحة العالمية، حيث تقبع منظمة التجارة العالمية، ما زال هناك إصرار على عدم منح الإعفاء المؤقت من قيود حماية حقوق الملكية لما يتعلق بمواجهة جائحة من لقاح وعلاج. وضيع العالم وقتاً ثميناً منذ تقدمت جنوب أفريقيا والهند في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2020 بطلب الإعفاء الذي رفضته إدارة ترمب الأميركية ودول غنية معها، ثم عاودتا الكرة ومعهما ستون من الدول النامية في شهر مايو (أيار) من هذا العام بطلب جديد، ولم يحرك هذا ساكناً رغم موافقة ما أظهرتها الولايات المتحدة منذ عدة شهور، بعدما كانت معترضة على الموافقة من قبل، لتعارضها الآن دول أوروبية بحجج واهية.
هناك ضرورة عالمية الأثر تحتم السماح للدول النامية ذات القدرة على إنتاج اللقاحات بالسير قدماً في ذلك، ولكن يعطلها التعنت بالتمسك بحقوق الملكية، وهو ما ينبغي التصدي له، وعدم الاكتفاء بوعود بقروض ميسرة أو دعم بمنح اللقاح. فالمنطق البسيط، فيما يفهم من شرح أهل الاختصاص، إما أن تكون في الدول النامية معامل وطاقات لإنتاج اللقاح وسرعة توزيعه فتصبح بذلك جزءاً من الحل، وإلا أصبحت جزءاً من المشكلة بجعلها مأوى ومكامن لخطر تحور مستمر للفيروس وعدم السيطرة سريعاً عليه؛ فلم يكن «دلتا» آخر التحورات، ولن يكون «أوميكرون» آخرها أيضاً.
ورغم ما مر به العالم من خبرة عن الأثر الاقتصادي لهذه التطورات فقد تكون هناك تساؤلات معلقة، ألخصها في حوار مفترض على طريقة الكاتب الآيرلندي صمويل بيكيت، في مسرحيته الشهيرة في «انتظار جودو» بين بطليه إستروجان الملول المتعجل، وفلاديمير الفيلسوف الهادئ:
– ما الذي ينتظر العالم من تغيرات اقتصادية؟
* الإجابة يسيرة وليست سارة.
– أفصح بالله عليك!
* بحكم ما رأيناه من تجربة مريرة خلال العامين الماضيين علينا أن نتوقع مزيداً من عدم اليقين، وتقلباً في الأسواق مع انخفاض في معدلات النمو والتشغيل لضعف الاستثمارات، مع زيادة في التباين في الدخول والثروات لصالح الدول الأغنى المستحوذة على اللقاحات، مصحوب ذلك كله بارتفاع في معدلات التضخم في الأسعار.
– وكأنك تقرأ تقرير مريض متعدد العلات! ولكنك تقول بوجود تضخم رغم ما نراه من مظاهر الركود؟ هل يجتمعان معاً.
* العين أسيرة ما تراه. ربما ترى أنت ركوداً حيث تعيش وتعمل، ولكن الركود ليس شاملاً لكل القطاعات؛ وإن كانت هناك مخاوف مما يسمى بالركود التضخمي مثلما حدث في السبعينات باجتماع الشرين معاً، وهو ما لا أرجح حدوثه فما زال هناك نمو يقترب من 6 في المائة في هذا العام، و5 في المائة في العام المقبل.
– أرقامكم لا نراها إلا في التقارير كثيرة التعديل والتغيير.
* ملاحظتك لا بأس بها، ولكن لا تنس أنها تتحدث عن توقعات تصيب وتخطئ. كما أن الأرقام متوسطات محسوبة لإجمالي أرقام متباينة في عالم يعاني من التفاوت أصلاً.
– ولكن ما سبب هذا التضخم؟ وهل هو مؤقت أم مستمر؟
* أراك تتابع تصريحات جيروم باوال رئيس البنك الفيدرالي الأميركي ومعارضيه. هو يراه مؤقتاً وهم يرونه مستمراً.
– وكيف تراه أنت؟
* أراه تضخماً محدوداً في الدول المتقدمة سينحسر بعد حين، ولكنه سيكون غلاء في الدول الأفقر التي تفتقد نظماً شاملة للضمان الاجتماعي. فستضار بزيادة تكلفة المعروض باستمرار ارتباك سلاسل الإمداد، ولاعتمادها على سلع مستوردة بتكاليف تعلو مع انخفاض سعر الصرف، مع زيادة خدمة الديون المقترضة لشراء هذه السلع بسبب إجراءات ستتخذها الدول المتقدمة لكبح جماح التضخم عندها برفع أسعار الفائدة.
– هل هذا من العدل في شيء؟
* لا!
– تقولها ببساطة… ولكن حقاً ما العمل؟
* أو لم تسمع عن نصيحة الرئيس بايدن؟
– وماذا قال؟
* خلاصة ما قاله إن القلق مشروع والهلع ممنوع
– أحقاً قال ذلك؟ أستطيع أنا أيضاً قول مثل هذا الكلام وأكثر.
* حسناً… قله إذن!
– لا نستطيع الاستمرار هكذا.
* هذا ما تظن

د. محمود محيي الدين.
اقتصادي مصري

إرتفاع سعر الصَّرف.. كلامٌ في الأسباب والحُلول

يَتدحرج لبنان بخطى متسارعة نحو الهاوية تحت أنظار حُكَّامه المتخاصمين، المُقتَرعين على مستقبل شَعبِهِ والعابثين بقَدَرِه. باتَ مُعظم الشعب اللبناني يَعيشُ تحت خطِّ الحياة، في بلدٍ يأكلون ويشربون ويموتون فيه أذلّاءَ، متوجِّسين وَمَتروكين.

يُمَرِّر اللبنانيون الوقت على وَقعِ ما تشهده السوق الموازية من إرتفاعٍ غيرِ مسبوقٍ لسعر صرف الدولار الذي لامَسَ مستوياتٍ قياسيَّةً بحجم المأساة. يُنذِر هذا التدهور الخطير بتداعيات إضافية للأزمة المستفحلة على حياة اللبنانيين وقدرتهم على الصمود. يَعكِسُ هذا الارتفاع فقدان الثقة بالاقتصاد اللبناني وبالليرة من قِبل اللبنانيين، كنتيجة للواقع الاقتصادي والسياسي الآخذ بالتأزم. فبالإضافة إلى شحِّ عرض الدولار وانخفاض حجم التحويلات، تَشهَد الأسواق طلباً متزايداً على الدولار، بعد وضع رفع الدعم حيِّزَ التنفيذ بطريقةٍ أشبه بصدمةٍ قاتلة ودون تأمين شبكة أمان اجتماعيَّة تُبعد الكارثة. فَرَفعُ الدعم عن المحروقات كفيل وحده بتهديد اللبنانيين في معيشتهم ومأكلهم وطبابتهم وأمَلهِم. في هذا الوقت المصيري، تتلهَّى الدولة بابتداع العلاجات الموضعيَّة المؤقتة، وسط غيابٍ كاملٍ للخطط الإصلاحية الشاملة وتراجعٌ حادٌّ في الإيرادات. في سياقٍ متَّصل، ساهمت الأزمة الأخيرة مع المَملكة العربيَّة السعودية ودول الخليج وما نَتَجَ منها من تأزّم حكومي تطور إلى انسدادٍ كلّي للأفق بتعميق الجرح. فقد أحدث عدم انتظام العمل الحكومي وتعليق الجلسات، تأخيرًا في إقرار خطَّة الإصلاح التي سترتكز عليها المفاوضات مع صندوق النَّقد الدَولي، على الرغم من الجهود المبذولة من قِبل اللجنة المُفاوِضَة.

على صَعيد آخر، إنّ عَدَم حيازة المصرف المركزي احتياطات كافية من العملة الصعبة تُمَكِّنه من التدخّل في سوق القطع مدافعاً عن الليرة، يؤدِّي الى فتح المجال واسعًا أمام المضاربة الشرسة التي تساهم من دون أدنى شك في ارتفاع سعر الصَّرف. قد تكون هذه المضاربة ناتجة من تدخّلات مشبوهة لأطراف محليين ولبعض المؤسسات الماليَّة ولعدد من المصارف، كما أنَّها قد تكون ناتجة من تلاعب متعمَّد بسعر الصرف عبر التطبيقات الإلكترونية التي لم تَعُد خَفيَّة على أحد. إلّا أنَّ عامل التحكّم بسعر الصرف عن بُعد، وإن كان مؤثراً، فهو لا يَختَصِر أسباب هذا الارتفاع كما يَزعَم مَصرِفُ لبنان. في الواقع، تتسبَّب الإدارة الارتجالية والسيِّئة للأزمة السياسيَّة والاقتصاديَّة في لبنان إلى زيادة كبيرة، مستمرَّة ومتزامنة في نسبة التضخُّم وفي معدَّل البطالة أو ما يُعرَف بـ Stagflation. في الوقت نفسه، يَشهَدُ الاقتصاد اللبناني نُموَّاً سالبًا خطيرًا Economic Depression مما يجعله أقرب الى الاقتصاد الافتراضي. وسط هذا الكَمّ من المشكلات وفي غياب حلول جدِّية قد تأخذ الأمور في لبنان منحىً اكثر خطورة مع ارتفاع الاسعار والفَقر والقَهر والذُّل.

أمَّا مِفتاح الحَلّ، فَيَكمُنُ في فكِّ الحَلقة المُفرَغَة التي يدور فيها البلد، عبر تأمين استقرار سياسيّ يدفع نحو استعادة الثِّقة المفقودة. فإن كان فقدان الثقة أحد أبرز أسباب الأزمة، فاستعادتها ستشكّل من دون أيِّ شَكّ أحد أبرز الحلول. المطلوب ليس فقط الوصول إلى اتِّفاقٍ مع صندوق النَّقد الدولي يؤمِّنُ فَرضَ إصلاحاتٍ يرفضها المُتفلِّتون، بل الالتزام بما سَيَتِمُّ الاتفاق عليه. فكيف لدولةٍ عاجزة عن إصدار بطاقة تمويليَّة وعَدَت بها شعبها قبل أي رفع للدعم، أن تلتزم بما ستتعهد به أمام صندوق النقد؟ لا بل، كيف لشعب يقتله حكَّامه أن يثق بقاتله مخلِّصًا؟ عمليًا، لا بُدَّ للحلّ أن يبدأ بإيجاد صيغةٍ تُمَهِّدُ لإعادة ترتيب العلاقات مع الدول العربيَّة، لتعود بعدها اجتماعات الحكومة الى الانتظام وإقرار خطَّة شامِلة من أجل التفاوض مع صندوق النَّقد على أساسِها. فالدور العربي في إعادة النهوض محوريّ، أساسيّ واستراتيجيّ، وهو دور لا تَجذُبهُ خُصوبَة الأرض الآنية، بل هويَّتها المُستَدامة! في الوقت الذي يُهَدِّدُ الموت والمرض حياة اللبنانيين، لا مكان للخلافات والمواقف والتَّعطيل. في لبنان اليوم أطفالٌ يدرسون وهم جائعون وشيبٌ يتمنونٌ موتاً بات قريباً، وشبابٌ يُغلِبُهُ اليأس … وحُكَّامٌ من أشباه البَشَر ولا بَشَر.

إنّ لبنان يسير بخطىً متسارعة نحو نقطة «اللاعودة»، حيث لا تنفع الحلول ولا ينفع الندم … فاستيقظوا يا من تحرقون الأمل في عيوننا لتشعلوا أنانياتكم القذرة! نعيش في زمنٍ يَبتَعِدُ فيه النَظَرُ عن لبنان وعن أوجاع شعبه…

فالعين في هذه الأيام ليست على بيروت بل على فيينا!

 

ما بين ميردوخ وزوكربيرغ

قبل نحو أسبوعين، عاود قطب الإعلام الشهير روبرت ميردوخ، شن هجماته على شركات التكنولوجيا العملاقة من جديد، مركزاً انتقاداته هذه المرة على شركتي «ألفا بيت» المالكة لمحرك البحث الأشهر «غوغل»، و«ميتا» المالكة لموقع «التواصل الاجتماعي» الأهم «فيسبوك».
يجسد ميردوخ حالة إعلامية فريدة بسبب النفوذ الكبير لشركته «نيوز كورب»، التي يُضرب بها المثل أحياناً على الاحتكار في مجال «الإعلام التقليدي»، والنزوع الربحي، الذي يتجاوز معايير الأداء المرعية، ويضرب بقيَم العمل الصحافي عرض الحائط، سعياً لتحقيق المصالح التجارية.
ومع ذلك، فقد وجد ميردوخ أن «غوغل» و«فيسبوك» يرتكبان مخالفات كبيرة يمكن أن تؤثر سلبياً في قدرة «وسائل الإعلام التقليدية» على الاستدامة من جانب، وأن تضر بمصالح بعض الأطراف وتقوض السلامة المجتمعية من جانب آخر.
ففي اجتماع الجمعية العمومية لحملة أسهم «نيوز كورب»، كرر قطب الإعلام الشهير انتقاداته لـ«غوغل»، لأنه يعيد نشر المواد الصحافية التي تنتجها «وسائل الإعلام التقليدية» من دون أن يدفع المقابل المناسب لها، بما يحد من قدرتها على مواصلة تمويل أعمالها. كما انتقد «فيسبوك»، لأنه «يمارس سياسة انتقائية تؤدي إلى تغييب الأصوات المحافظة، وتعكس انحيازاً لليسار والديمقراطيين»، وهو الانتقاد الذي يتكرر منذ سنوات، رغم محاولات رئيس شركة «ميتا» مارك زوكربيرغ الحثيثة لنفيه.
من المدهش حقاً أن تصدر تلك الانتقادات المتكررة عن ميردوخ، الذي تورطت وسائل الإعلام التي يملكها في أخطاء كبيرة، كلفته في بعض الأحيان التضحية ببعضها، كما حدث في إطار فضيحة صحيفة «نيوز أوف ذي وورلد»، التي اضطر إلى إغلاقها بينما كانت في ذروة ازدهارها، بسبب تورطها في فضيحة تنصت على هواتف بعض المصادر.
ورغم وجود ميردوخ شبه الدائم على «لوحة التنشين» باعتباره هدفاً سهلاً للهجوم والنقد عند الحديث عن مدى التزام شركته بمعايير الأداء الصحافي والقيم المهنية والمؤسسية، فإن انتقاداته لشركات التكنولوجيا العملاقة تحظى بقدر من الوجاهة. وتستمد انتقادات ميردوخ وجاهتها من أن وسط «الإعلام التقليدي» الذي تعمل خلاله شركته يتمتع بميراث ضخم من آليات الضبط والتقنين وإخضاع الأداء للتقييم، وهو الأمر الذي تفتقده شركات التكنولوجيا العملاقة رغم توسعها وانتشارها ونفوذها الكبير. ففي شهر أبريل (نيسان) الماضي، تحدثت صوفي زانغ، الموظفة السابقة في «فيسبوك» إلى عدد من وسائل الإعلام عن أخطاء فادحة ترتكبها الشركة في حق الأمن القومي والسلم الأهلي لعديد الدول، بسبب عدم اتخاذها الخطوات الملائمة للحد من المعلومات المضللة وخطاب الكراهية.
ورغم خطورة ما كشفت عنه زانغ، فإن موقعها في الشركة لم يحرك الرأي العام والحكومات والمؤسسات التشريعية بالشكل الكافي، وهو الأمر الذي تغير تغيراً جذرياً حين خرجت المسؤولة السابقة في الشركة فرانسيس هوغن، على الإعلام، مفجرة مفاجآت جديدة وصادمة في هذا الصدد.
فقد قالت هوغن في تصريحات إعلامية وفي شهادة أمام الكونغرس الأميركي، في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إن «فيسبوك» يُغلب اعتبارات الربحية وزيادة التفاعل على حساب سلامة المستخدمين، كما قدمت وثائق تثبت تلك الاتهامات، مطالبة زوكربيرغ بالتنحي عن رئاسة الشركة بسبب «عجزه عن اتخاذ القرارات السليمة». وكان من سوء حظ «فيسبوك» أن العاصفة التي فجرتها شهادة هوغن تزامنت مع أزمة انقطاع خدمات منصات الشركة الرئيسة، الأمر الذي جسد المحنة التي يعانيها «فيسبوك»، وعظم الشعور بخطورة وضعه الاحتكاري وأنموذج الأعمال الذي يتبعه. وفي استجابة مثيرة لتلك التطورات، صدر تصريح مهم يوجه سهام انتقاد لاذعة إلى «فيسبوك» وغيره من شركات التكنولوجيا العملاقة؛ إذ قالت جين ساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، إن «التسريبات التي كشفتها هوغن توضح أن التنظيم الذاتي في شركات التكنولوجيا العملاقة لا يعمل».
والتنظيم الذاتي ببساطة هو مزيج من المعايير التي تحدد أنماط الأداء المناسبة لوسائل الإعلام، بما يضمن لها الحفاظ على حرية الرأي والتعبير من جانب، ويصون مصالح الجمهور والأطراف المعنية من جانب آخر.
ويُعد التنظيم الذاتي أحد المكاسب المتولدة عن تفعيل نظرية المسؤولية الاجتماعية في العمل الصحافي، ويعكس نمط التزام طوعي من قبل الناشرين والعاملين في المجال الإعلامي بمبادئ وقيم وأساليب عمل لا تُغلب الاعتبارات الربحية والدعائية على المعايير المهنية والمسؤولية تجاه الجمهور. وفي مختلف الوقائع التي كان ميردوخ عرضة خلالها للانتقاد، كان التنظيم الذاتي في مجال «الإعلام التقليدي» يعمل، ويحد من انفلاتاته، ويُقوم أداء وسائله الإعلامية، وهو أمر لم ننجح حتى الآن في أن نقنع زوكربيرغ وزملاءه بتطويره وتبنيه.

د. ياسر عبد العزيز

لا داعي للهلع… الليرة ممسوكة بخيوطٍ عنكبوتية

اذا أخذنا السنة كوحدة زمنية لقياس تطور ارتفاع الدولار (انهيار الليرة)، سيتبيّن لنا ان الدولار ارتفع حوالى 300% في العام 2020. واذا اعتبرنا انّ الليرة ستواصل مسارها الانحداري نفسه، من دون زيادة أو نقصان في العام 2021 الذي ينتهي بعد شهر من اليوم، فهذا يعني ان معدل سعر الدولار ينبغي ان يكون في نهاية العام الحالي 32 ألف ليرة.

في كانون الثاني 2020، وصل سعر الدولار الى 2100 ليرة، ارتفاعاً من سعره الرسمي (1507)، وفي نهاية العام نفسه بلغ الدولار عتبة الـ 8400 ليرة، بما يعني ان سعره في السوق السوداء تضاعف 4 مرات خلال سنة. لكن الدولار قد يعجز عن تحقيق الرقم الارتفاعي نفسه في العام 2021، وقد يكتفي بزيادة قدرها 3 أضعاف.

واقعياً، هذا الوضع بالنسبة الى سوق الصرف يعتبر ايجابياً، بمعنى ان البلد لم يدخل بعد مرحلة الانفلاش الكلي على مستوى سعر العملة الوطنية، ولم نصل الى مرحلة شطب ثلاثة أو اربعة أصفار لإعادة سعر العملة الوطنية نظرياً ونفسياً الى ما كانت عليه قبل الأزمة. وقد يكون من المفيد ان نتذكّر ان ايران، ومنذ وقتٍ ليس ببعيد، شطبت اربعة اصفار من عملتها بعد مرحلة من التضخّم المفرط (Hyperinflation) حتّمت عليها اتخاذ مثل هذا الاجراء. وبالتالي، لا يُفترض ان يكون مفاجئاً ان الدولار في لبنان وصل الى 25 الف ليرة، بل ان المفاجئ، على المستوى المالي والاقتصادي، ان يكون الدولار قد اكتفى في الـ11 شهرا الاولى من 2021، بالارتفاع فقط حوالى 200%، في حين انه ارتفع حوالى 380% في الفترة نفسها من العام 2020.

في المفهوم الاقتصادي، وحتى السياسي، لم يحصل اي تطور يمكن البناء عليه للقول ان مسار انهيار الليرة يمكن ان يصبح أبطأ، بل العكس صحيح. اذ ان الاوضاع المالية والاقتصادية والسياسية اصبحت اسوأ، والعام 2021 كان أشد سواداً على المستويات الثلاث من العام 2020.

ما ينبغي التنبّه له انه لا يمكن التعاطي مع ملف سعر الصرف بشكل ظرفي، واحتساب الارتفاع او الهبوط في فترات زمنية معينة كمقياس زمني لبناء الاستنتاجات. على سبيل المثال لا الحصر، اذا اعتمد الباحث النصف الثاني من العام 2020، وهو عام اعلان افلاس الدولة اللبنانية، (آذار 2020)، يتبيّن له ان سعر صرف الدولار بين تموز وكانون الاول من العام المذكور (6 أشهر)، تراجع حوالى 10%، من 9200 ليرة للدولار، الى 8400 في نهاية العام. فهل كان مسموحاً الاستنتاج ان مسار الدولار هبوطي، طالما انه انخفض خلال الاشهر الستة الاخيرة من هذه السنة بهذه النسبة؟ وهل من المنطقي البناء على هذا الوضع للاستنتاج ان الدولار في العام 2021 كان يُفترض أن يواصل الهبوط؟

مثال آخر لم يمض عليه سوى شهرين ونصف الشهر. في منتصف ايلول الماضي وصل سعر صرف الدولار الى 13900 وربما أقل. وفي منتصف تموز من العام نفسه، اي قبل شهرين من هذا التاريخ، كان سعر الدولار حوالى 23 الف ليرة. بما يعني ان اعتماد الفترة الزمنية بين تموز وايلول كوحدة قياس، يُظهر ان الدولار تراجع بنسبة 65%. فهل كان يمكن البناء على هذه النسبة للقول ان الدولار سيواصل مساره الانحداري؟

كل هذه الحسابات وفق وحدة قياس زمنية مُختارة لا تعكس الواقع، ولا تساعد في قراءة صحيحة لمسار الليرة. ما هو موضوعي وعلمي في هذا الاطار ان المسار العام لليرة هو الهبوط، بصرف النظر عن الطلعات والنزلات الظرفية، واحيانا من دون اسباب مُقنعة. اذ ان السبب الرئيسي لهذا الوضع هو الثابت في هذه العملية، اي افلاس الدولة، منذ آذار 2020، بما يعني ان المسار المالي والاقتصادي، وفي غياب معالجة هذا الوضع سيستمر في المضي من سيئ الى اسوأ، وبصرف النظر عن النسب المتوقعة لسرعة الانهيار، ومتى يمكن ان يشتد، ومتى يمكن ان يتباطأ. وبالمناسبة، اذا اعتمدنا وحدة قياس الدولار في النصف الثاني من العام الحالي، يتبين ان العملة الخضراء، وفي حال بقي السعر في حدود الـ25 الف ليرة حتى نهاية السنة، ارتفعت فقط بنسبة 8 %. وهي نسبة ضئيلة تكاد توازي نسبة انخفاض اليورو عالمياً مقابل الدولار في العام 2021.

خُلاصة هذا العرض، ان سعر الصرف لا يزال مقبولاً من الوجهة المالية، وليس المعيشية طبعاً، لكنّ لجمه يتمّ على حساب المواطن، لأنّ الانفاق، ومن ضمنه الاجور والخدمات لم ترتفع بنسب تهدف الى دعم المواطن بالحد الأدنى لمساعدته على الصمود. لكن كل الخيارات، بما فيها تصحيح الاجور، تتطلب دفع ثمنٍ ما في مكان آخر. انها حكاية ليرة لا تزال ممسوكة جزئياً بخيوط رفيعة أشبه بخيوط العنكبوت القابلة للتقطّع في اية لحظة نتيجة أية دعسة ناقصة. وكل الاجراءات خارج اطار معالجة السبب الرئيسي هي بمثابة إعادة توزيعٍ للأضرار، لا أكثر ولا أقل.

انطوان فرح