قرار السحب بالدولار: الهيركات الصريح والمباشر

بعد أن أدّى قرار رفع سعر صرف السحوبات إلى موجة جديدة من التدهور في سعر صرف الليرة اللبنانيّة، أصدر حاكم مصرف لبنان قراره الأساسي الذي قضى بتسليم المصارف حصّتها الشهريّة من السيولة بالدولار النقدي عوضًا عن الليرة اللبنانيّة، على أن تقوم المصارف بدفع هذه الدولارات للمودعين بحسب سعر المنصّة، بدل الليرات الناتجة عن السحوبات الشهريّة من الودائع. وكمعظم قرارات مصرف لبنان التي تأتي من ضمن عالم أسعار الصرف المتعددة، تمّت صياغة التعميم بعبارات ملتبسة وغامضة. وهذا ما فرض مراجعة الآليّات التطبيقيّة في المصارف لفهم مضمونه وطريقة تنفيذه.

الهدف من هذا القرار المستجد لم يكن سوى خلق موجة إيجابيّة في سوق الصرف الموازية، لإعادة التوازن إلى سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وعكس مسار التدهور السريع في قيمة الليرة الذي خلقه قرار رفع سعر صرف السحوبات. فترجمة القرار الجديد من الناحية العمليّة يفترض أن يكون ضخ كميّات من السيولة بالعملة الصعبة في السوق، مقابل الحد من تدفّق الليرات النقديّة إلى الأسواق. وهذا إجراء يفترض أن يدفع السوق إلى ترقّب تحسّن في قيمة الليرة، وبالتالي زيادة الطلب عليها. وبذلك، يراهن حاكم مصرف لبنان على إنهاء حالة الطلب الكثيف على الدولار التي تلت قرار رفع سعر صرف السحوبات، والذي تلقّفته السوق بسلبيّة شديدة من جهة ترقّب حجم السيولة بالليرة، التي سيؤدّي القرار إلى ضخها في السوق، وما سينتج عن هذه الكتلة من ضرر على قيمة الليرة.

الهيركات المباشر
لم يكن من السهل فهم مندرجات تعميم السحوبات بالدولار، خصوصًا أن صياغته جاءت بعبارات تشبه الطلاسم التي يصعب فهم أثرها المباشر على المودع، أو طريقة تطبيقها العمليّة داخل الفروع المصرفيّة. في خلاصة الأمر، وفي حال طلب عميل المصرف سحب مبلغ 1,000$ دولار من حسابه، فسيظل المصرف يحوّل قيمة السحب إلى الليرة وفقًا لسعر 8000 ليرة للدولار الواحد، ما سيُنتج للعميل مبلغ 8,000,000 ليرة لبنانيّة. لكنّ العميل وعوضًا عن استلام الملايين الثمانية بالليرة النقديّة، سيستلم ما يوازيها بالدولار النقدي، وبحسب سعر منصّة صيرفة البالغ نحو 22,400 ليرة للدولار اليوم، ما سيجعل حصيلة العمليّة 357 دولار نقدًا. في النتيجة، سيُقيّد على حساب العميل 1,000 دولار أميركي، مقابل استلام 357 دولار فقط، أي بنسبة هيركات صريحة تبلغ حدود 64.3 في المئة.

في الواقع، يمكن القول إن آليّة تطبيق القرار الجديد يمكنها أن تمثّل تحسّناً محدوداً جدّاً للمودع، لكونها تخفّض قيمة الاقتصاص من قيمة السحوبات إلى نحو 64.3 في المئة، مقارنة بنسبة اقتصاص تصل إلى حدود 70 في المئة في عمليّات السحب المباشر بالليرة على أساس سعر صرف 8000 ليرة للدولار، إذا ما أخذنا في الاعتبار الفارق بين سعر صرف السحوبات وسعر صرف السوق الموازية. لكنّ هذا التحسّن المحدود مرهون بسعر صرف المنصّة المعتمد لتحديد قيمة الدولارات النقديّة التي يتقاضاها المودع. وهذا السعر لا يعتمد على أي آليّة شفّافة لتحديده في مصرف لبنان.

أما الإشكاليّة الأساسيّة في القرار الجديد، فتتمثل في انتقاله إلى الهيركات الصريح، على شكل فارق واضح بين قيمة الدولارات التي يتقاضاها المودع وتلك التي تم تقييدها على حسابه. مع العلم أن آليّات السحب السابقة كانت تنطوي على اقتصاص ضمني وغير مباشر، من خلال الفارق بين سعر الصرف المعتمد للسحوبات وسعر الصرف الفعلي في السوق السوداء، فيما يرفض مصرف لبنان الاعتراف به كسعر صرف واقعي. ولذلك، وبدلاً من التحجج بعدم توفّر الدولارات لدفع قيمة السحوبات بالليرة وبأسعار صرف منخفضة كما كان يجري سابقًا، انتقل مصرف لبنان اليوم إلى دفع الدولارات، إنما بعد الاقتصاص منها علناً بألاعيب أسعار الصرف المتعددة في عمليّة السحب الواحدة.

إشكاليّات التنفيذ
قبل أن يتفاءل المودع بالتحسّن الطفيف في قيمة الاقتصاص من قيمة السحب، بعد تحويل الاقتصاص إلى هيركات صريح، ثمّة إشكاليّات عديدة تتصل بآليّات تنفيذ هذا التعميم. فبحسب بنود التعميم، من المفترض أن يتم العمل بهذه الآليّة من اليوم وحتّى نهاية الشهر الحالي، على أن تتقاضى المصارف ما تبقى من حصّتها الشهريّة من السيولة من مصرف لبنان بالدولار النقدي، بدلاً من الليرات النقديّة، من أجل تنفيذ هذه العمليّات.

لكنّ الإشكاليّة الأولى بحسب العديد من المصادر المصرفيّة تكمن في أن الغالبيّة الساحقة من المصارف اللبنانيّة، استنفدت حصّتها من السيولة لهذا الشهر، بعد أن استفادت منها بالليرات الورقيّة. مع الإشارة إلى أن المصارف تستعمل في العادة القسم الأكبر من هذه الحصّة الشهريّة في بداية الشهر لتغطية سحوبات الرواتب الموطّنة، واستفادة المودعين من سقوف السحب الشهريّة. ولهذا السبب، من الموقّع أن تشكّل هذه الحقيقة الذريعة الأولى لعدم تطبيق مندرجات التعميم، والاستمرار بتأمين السحوبات بالليرات الورقيّة، بالاستفادة من المبالغ التي سحبتها المصارف سابقًا بالعملة المحليّة من حصتها من السيولة من مصرف لبنان.

أما الإشكاليّة الثانية التي تصب في اتجاه عدم استفادة المودع من التعميم، فتكمن في أن غالبيّة المودعين استفادوا كالعادة من سقف سحوباتهم منذ بداية الشهر، وخصوصًا بالنسبة للحسابات التي تستفيد من توطين الراتب بالدولار المصرفي (اللولار). مع العلم أن بعضاً آخر من أصحاب الودائع سارعوا إلى استعمال حصّتهم من السحوبات النقديّة بالليرة بعد أن قام مصرف لبنان بإصدار قرار رفع سعر صرف السحوبات النقديّة من 3900 و8000 ليرة مقابل الدولار، للاستفادة من السحوبات وفق سعر الصرف الأعلى نسبيّاً. ولهذا السبب بالتحديد، من المتوقّع أن تستفيد نسبة قليلة جدًّا من المودعين من القرار الجديد، حتّى لو بادرت المصارف إلى فتح باب الاستفادة منه.

أخيراً، لم تبادر الفروع المصرفيّة، حتّى بعد ظهر يوم الجمعة 17 كانون الأول الجاري، إلى البدء بتطبيق آليّات تنفيذ القرار، بحجّة عدم استلامها أي تعليمات من إدارتها بخصوص كيفيّة تطبيق التعميم. ومع احتساب أيام العطل المتبقية حتّى نهاية الشهر، يتبيّن أن المصارف بالكاد تملك نحو ثمانية أيّام عمل لتنفيذ هذا التعميم، في حين أن غالبيّة الفروع المصرفيّة لا تملك حتّى آليّات للقيام بعمليّات صيرفة متصلة بمنصّة مصرف لبنان، ما يعني أن الفترة لن تكون كافية حتّى لمباشرة العمل بالتعميم.

قنبلة صوتيّة
ببساطة، نحن أمام قنبلة صوتيّة أراد منها حاكم مصرف لبنان وقف تدهور سعر صرف الليرة بأساليب استعراضيّة، من خلال الإيحاء بنيّته ضخ الدولار النقدي في السوق ووقف عمليّة خلق النقد بالليرة. مع العلم أن الحاكم نفسه يعلم أنّه لن يتمكّن من تنفيذ القرار بشكل جدي بسبب محدوديّة الفترة الزمنيّة التي يشملها القرار، وبسبب شح العملة الصعبة الذي لن يسمح له بتمويل هذا النوع من السحوبات لجميع حسابات المودعين. وعلى أي حال، من الواضح أن هذه القنبلة الصوتيّة لم يتجاوز مفعولها بالنسبة إلى سعر صرف السوق الموازية مدّة 24 ساعة فقط، بدلالة عودة سعر صرف الدولار مقابل الليرة للارتفاع بعد ظهر يوم الجمعة، أي في اليوم الذي تلا صدور القرار.

أخيرًا، يبقى من الضروري الإشارة إلى أن أكثر ما يخشاه المودعون اليوم هو استنسابيّة تنفيذ هذا التعميم، وحصر عمليّات بيع دولارات المنصّة بفئات معيّنة من المودعين دون سواهم. أما المسألة التي تدفع المودع للخشية من هذه الاستنسابيّة، فهي آليّات عمل المنصّة المعتمدة طوال الفترة السابقة، التي حصرت عمليّات بيع الدولار بحلقة ضيّقة من التجّار المخظيين، من دون أن تتضح المعايير التي تم على أساسها اختيار المستفيدين من دولارات المنصّة. ولهذا السبب، فمن الطبيعي أن نتوجّس من تحوّل التعميم الأخير إلى باب من أبواب هدر احتياطات مصرف لبنان المتبقية، لتنفيع شريحة صغيرة من النافذين.

علي نور الدين

مشهد عقاري حزين… والتوقعات غير مشجعة

 

تغيّرت كثيراً معالم الاحياء والشوارع في المدينة، فالأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا ادتا الى هجرة المؤسسات والمكاتب وإقفال العديد من المحلات التجارية والمطاعم والمصارف لا سيما في العاصمة وجوارها… فالاحياء باتت شبه فارغة والمناطق التي كانت بالأمس تعجّ بالحياة باتت اليوم هادئة اكثر من اللزوم.

وفق شركة «رامكو» العقارية وصل معدل الشغور (أي حصة المباني الفارغة) إلى مستويات قياسية بسبب انخفاض الطلب، إذ ان معظم الشركات، وفي محاولة منها للحد من نفقاتها، لجأت الى خفض عدد فروعها في العاصمة كما في المناطق، وتقليص انتشارها خصوصاً القطاع المصرفي. فقد عمدت غالبية المصارف الى اغلاق عدد كبير من فروعها ومكاتبها بين ليلة وضحاها بعدما كانت تشغل الاف الامتار في العاصمة، منها على سبيل المثال مبنى بنك عوده وسط المدينة، وقد ولّد هذا الشغور مخزونا كبيرا للتأجير.

في هذا السياق، يقول الخبير العقاري رجا مكارم لـ»الجمهورية» ان مبنى بمساحة 50 مترا مربعا في شارع المقدسي في الحمرا كان ايجاره في عام 2019 نحو 22 ألف دولار سنويا بينما يُعرض الآن بسعر 10000 دولار سنويا، وأفضل عرض حصل عليه مالكه حتى الآن هو 8000 دولار في السنة.

ولفت الى ان الايجارات التجارية تنقسم الى قسمين: ايجار المكاتب والمؤسسات وايجار المحلات. وكشف ان ارتفاع عمليات الإغلاق ادى إلى انخفاض إيجارات المكاتب الى ما بين 50% وحتى 60% مقارنة مع العام 2019. والملاحظ ان الشركات باتت تتجه نحو مناطق تكون فيها الكلفة التأجيرية أقل، والبعض حصل على عقود تأجيرية منخفضة الكلفة ولم يشغلها بعد ليحتفظ بهذه الاسعار الى مرحلة لاحقة.

أما ايجار المحلات التجارية فتراجع بنسبة تتراوح ما بين 20 و 30% مقارنة مع العام 2019 والطلب قليل بنتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد.

مشاريع عقارية
من جهة أخرى، اعتبر مكارم انه من الصعب اليوم، لا بل من المستحيل الانطلاق بمشاريع عقارية جديدة، عازيا ذلك الى اختفاء بعض العوامل التي كانت تشجع المطور على البناء، فاليوم عدا عن ان اي مشروع تطوير عقاري يحتاج الى fresh money، ما عاد ممكنا الاستعانة بالتمويل الذي يتأتى عادة من البيع المسبق على الخريطة لأن الشراة يطالبون بالحصول على سند الملكية قبل الدفع النقدي. ناهيك عن تعذّر الحصول على قرض مصرفي لتمويل هكذا مشاريع. وبالتالي، يمكن القول ان اجواء العمل ما عادت ملائمة للمطور الذي بات مجبرا على تأمين النقدي لشراء الارض ثم للبناء، بينما في السابق كان يؤمّن ثلث المبلغ من المصرف والثلث الثاني من البيع على الخريطة ويؤمّن المبلغ المتبقي من رأسماله. وأشار الى ان الاستثمار في القطاع راهناً بات ينطوي على الكثير من المخاطر.

وردا على سؤال، أكد مكارم ان الشراء بواسطة «اللولار» انتهى، وان مخزون الشقق الذي كان متوفرا ابان بدء الأزمة عام 2019 بيع بالكامل بواسطة الشيكات المصرفية التي مكّنت المطورين من تسديد ديونهم والتزاماتهم تجاه المصارف. وعليه، انتقلت ملكية ما بين 2000 الى 3000 شقة في السوق الى صغار المستثمرين الذين بِتملّكهم لشقتين او ثلاث حَموا انفسهم من تدهور قيمة العملة، ويعرض هؤلاء شققهم للايجار اليوم ليؤمنوا مردوداً مالياً وسنداً لهم في هذه الضائقة الاقتصادية. ولفت الى ان طالبي الـ fresh dollar كبدل ايجار قلائل وهم في غالبيتهم من اللبنانيين الذين يدفعون بالعملة الصعبة، أما الاجانب في لبنان فيتراوح عددهم ما بين 100 و 200 اجنبي على 3000 شقة معروضة للايجار، ويمكن الاستنتاج من ذلك انه سيظل لدينا مخزون كبير من الشقق المعروضة للايجار انما من دون مستأجرين.

انطلاقاً من ذلك، نرى ان هذا المعروض الكبير من الشقق للايجار والذي يفوق الطلب سيضطر اصحاب الشقق الذين يحتاجون الى الاموال النقدية الى عرضها للبيع، لذا نتوقع ان يرتفع الطلب على بيع الشقق في المرحلة المقبلة بعملة الـ fresh money ما سيطرح مشكلة بالاسعار. وشرح مكارم ان الاسعار التي يطمح اليها البائع اليوم هي اقل بـ 40 الى 50% من قيمة ما كانت عليه الشقة عام 2019 بالدولار الفعلي ورغم ذلك لا يزال يرى الشاري ان هذا الانخفاض قليل مقارنة مع بقية اسعار السلع والخدمات التي تراجعت ما بين 70% الى 85%، فالشاري يطالب بمزيد من الخفوضات متسلحاً بالنقدي الذي يملكه، والبائع يرفض ان يخفّض اسعار الشقق اكثر من نصف ثمنها الا اذا كان بحاجة ماسة لتسييل شقته الى نقدي وبالنتيجة لا يشهد السوق اي عمليات بيع ملحوظة، فالمعروض من الشقق اكبر بكثير من الطلب، جازما ان البيوعات اليوم هي حصراً لمن يملك الـfresh money. وعن بورصة اسعار الشقق، رأى مكارم انها تميل نحو الانخفاض في المرحلة المقبلة لأنّ العرض اكبر من الطلب

ايفا ابي حيدر