وفقًا لتقديرات مصرف “غولدمان ساكس”، من المتوقّع أن يلجأ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي –وهو بمثابة المصرف المركزي في الولايات المتحدة- إلى رفع معدلات الفوائد خلال العام الحالي 4 مرّات، في أشهر: آذار وحزيران وأيلول وكانون الأوّل، أي بوتيرة مرّة واحدة كل ثلاثة أشهر. مع الإشارة إلى أن زيادة معدلات الفوائد خلال شهر آذار المقبل باتت الآن بحكم الأمر المؤكّد، وفقًا لجميع التحليلات والتقديرات، في ظل حاجة الاحتياطي الفيدرالي إلى استيعاب معدّلات التضخّم والغلاء الفاحش. فرفع معدلات الفوائد من شأنه أن يرفع كلفة الاستدانة ويلجم عمليّات الإقراض، كما من شأنه التشجيع على امتصاص السيولة إلى داخل النظام المالي على شكل ودائع واستثمارات العوائد الثابتة. وفي المحصّلة، سيكون بإمكان السلطة النقديّة من خلال هذه الإجراءات تقليص حجم السيولة المتداولة في السوق، وبالتالي تخفيض معدلات التضخّم.
آثار مؤلمة على الدول النامية.. ومنها لبنان
للوهلة الأولى، قد يبدو للمتابع أنّ ما نتحدّث عنه ليس سوى بعض القرارات والتطوّرات المرتبطة بالسوق المحلّي الأميركي حصرًا، والبعيدة عن التأثير على حياة المقيمين في الدول الناميّة. لكنّ السيولة التي نتحدّث عن امتصاصها ولجمها هنا، هي في واقع الأمر العملة العالميّة الأكثر انتشارًا والأكثر تأثيرًا على الأنظمة المصرفيّة والماليّة وأسواق القطع: أي الدولار الأميركي. ولهذا السبب بالتحديد، من المفترض أن يؤدّي قرار رفع الفوائد السريع خلال العام الحالي إلى انقلاب كبير في توازنات الأسواق الماليّة، وخصوصًا أسواق الدول النامية السريعة التأثّر بتدفّق التحويلات الخارجيّة إليها، والشديدة الاعتماد على هذه التحويلات لإعادة تمويل ديونها وعجوزات ميزانيّاتها العامّة وميزانها التجاري. بل وشديدة التأثّر أيضًا بأسعار الفوائد وكلفة الاقتراض على ميزانيّاتها العامّة وشركاتها الخاصّة.
في الواقع، شهد العالم انقلابًا من هذا النوع عام 2015، يوم شرعت الولايات المتحدة برفع معدلات فوائدها بشكل سريع وبقرارات متتالية، بعد أن خرجت الأسواق من تبعات الأزمة الماليّة العالميّة السابقة. يومها، قررت المصارف المركزيّة حول العالم العودة لرفع معدلات الفوائد بشكل تدريجي، والخروج من حقبة الفوائد شديدة الانخفاض التي تم اعتمادها لضخ السيولة في السوق وإنعاش الاقتصاد العالمي. وبمجرّد العودة إلى رفع الفوائد، عانت الدول النامية –ومنها لبنان على سبيل المثال- من تسارع التحويلات باتجاه الدول المتطورّة التي رفعت فوائدها، وهو ما أدّى إلى أزمات ميزان المدفوعات وأسعار صرف العملات المحليّة في العديد من الاقتصادات الناشئة. بل ويمكن القول أن ذلك التطوّر كان أحد الأسباب التي تضافرت لمراكمة أسباب الانهيار المالي في لبنان، الذي حصل بعد سنوات طويلة من عجز ميزان المدفوعات واستنزاف احتياطات المصرف المركزي.
اليوم، وبعد تحرّك الأسواق العالميّة والخروج تدريجيًّا من المحنة الاقتصاديّة التي رافقت تفشّي وباء كورونا، تستعد المصارف المركزيّة في الدول المتطوّرة لرفع معدلات فوائدها، لاستيعاب معدلات التضخّم المرتفعة التي غالبًا ما تصاحب الارتفاع السريع في معدلات النمو الاقتصادي. وهذا التطوّر، سيكون له آثار كارثيّة على الدول النامية، ومنها لبنان الذي بات يعتمد في اقتصاده على حركة الدولار النقدي، وتدفّقه إلى السوق المحليّة، عوضًا عن حركة السيولة داخل النظام المالي. ببساطة، أي ضمور في حركة النقد بالعملات الأجنبيّة وتدفّقها إلى الأسواق، نتيجة ارتفاع معدلات الفوائد، سيكون له أثر بالغ على ما تبقى من تحويلات نقديّة وافدة إلى السوق اللبنانيّة، بما فيها تلك يجنيها المغتربون العاملون في البلدان النامية.
كلفة السيولة ترتفع على الدول النامية
النتيجة البديهيّة الأولى لرفع معدلات الفوائد في الولايات المتحدة الأميركيّة، والأسواق المتطوّرة بشكل عام، ستكون هروباً للأموال باتجاه الأسواق الغربيّة بحثًا عن معدلات الفائدة السخيّة، في ظل بيئة اقتصاديّة أكثر استقرارًا وأكثر جاذبيّة للاستثمار. ونزوح الأموال بهذا الشكل، سيعني تلقائيًّا ضرب بورصات الدول النامية، وشح الدولار في أسواقها، وارتفاع العجوزات في ميزان مدفوعاتها ومن ثم الضغط على أسعار صرف عملاتها المحليّة. بل والمتوقّع في الدول التي تعتمد تثبيت سعر الصرف، كحال لبنان قبل العام 2019، أن تؤدّي هذه التطورات إلى الضغط على احتياطات العملات الصعبة المتوفّرة في المصارف المركزيّة، وزيادة الضغوط على أنظمة الدول النامية المصرفيّة بشكل عام.
ولمحاولة الحفاظ على السيولة المتوفّرة بالعملات الأجنبيّة في أنظمة الدول النامية الماليّة، سيكون على هذه الدول زيادة معدلات الفوائد لديها بشكل موازٍ، ما يعني زيادة كلفة الحصول على هذه الأموال بالنسبة إلى الأنظمة المصرفيّة. ومع رفع نسب الفوائد على الودائع، سيكون على هذه الدول زيادة نسب الفوائد على الاقتراض، ما يعني زيادة الضغوط على الدول والشركات الخاصّة المقترضة، واستنزاف ميزانيّتها لتمويل فوائد هذه القروض.
أما بالنسبة إلى الدول النامية التي تعتمد على الاقتراض المباشر من الأسواق الدوليّة، عبر بيع سندات الخزينة المتداولة في هذه الأسواق، فستكون هذه الدول مطالبة بعرض فوائد أعلى على سندات الدين التي تصدرها، بمجرّد رفع المصارف المركزيّة الغربيّة معدلات الفوائد التي تمنحها على الودائع. وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن يكتسب الدولار المزيد من القوّة في مقابل العملات الأخرى، مع زيادة الطلب عليه نتيجة نزوح المزيد من الرساميل باتجاه الولايات المتحدة، وهو ما سيفاقم من تدهور عملات الدول التي لا تمتلك قاعدة إنتاجيّة صلبة تسمح بالحفاظ على تدفقات العملة الأجنبيّة إليها.
لكل هذه الأسباب، طالب صندوق النقد الدولي الاقتصادات الناشئة بالاستعداد لفترات من الاضطراب الاقتصادي، لمواجهة المتاعب الماليّة التي ستنتج عن بدء معدلات الفوائد بالارتفاع عالميًّا، بمجرّد اتخاذ الاحتياطي الفيدراليّة قرار زيادة معدلات الفوائد في الولايات المتحدة.
لبنان في عين العاصفة
بمجرّد اعتماد المصارف المركزيّة في الغرب سياسات نقديّة انكماشيّة، ولجوئها إلى رفع الفوائد لامتصاص المعروض من النقد في الأسواق العالميّة، ستصبح شروط الحصول على قروض صندوق النقد وبكميات وازنة أصعب وأكثر قسوة على الدول النامية، ومنها لبنان، وخصوصًا مع تقلّص كميات السيولة الموجودة والمخصصة لهذه الغايات. بل ومع ارتفاع معدلات الفوائد عالميًّا، سيكون من المتوقّع أن ترتفع نسبة الفوائد على قروض الصندوق التي يستهدف لبنان الحصول عليها في المستقبل. وإذا كانت الدولة اللبنانيّة تطمح للحصول على رزم أخرى من القروض والمساعدات من دول أخرى، كرزم قروض مؤتمر سيدر، بعد الدخول في برنامج قرض مع الصندوق، فسيكون الحصول على هذه القروض والمساعدات مسألة أصعب في حال لجوء الدول المانحة لهذه القروض إلى سياسات نقديّة انكماشيّة قاسية.
لكن أهم ما سيواجه لبنان، هو تراجع قيمة التدفقات الماليّة السائلة المتجهة إليه، والتي يستفيد منها سوقه المحلّي لتمويل حاجاته بالدولار النقدي. فشحّ السيولة الذي تواجهه السوق المحليّة اليوم، سيترافق مع تراجع المعروض النقدي على مستوى الدول النامية بشكل عام، بل وفي جميع الأسواق العالميّة، بما فيها تلك التي يعمل فيها مغتربون لبنانيون كأفريقيا ودول الخليج العربي. وهكذا، ستُضيف هذه العوامل المزيد من الضغوط على الوضع المالي المتأزّم أساسًا في لبنان، وهو ما سيؤثّر حكمًا على قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركي في السوق الموازية.
علي نور الدين