العالم اليوم يخوض أحداثاً متسلسلة سياسية واقتصادية، حيث إنه من الصعب تفادي أخبار اليوم من الأحداث العالمية لتبعات حرب روسيا وأوكرانيا، والاقتصاد والمال ليس بمعزل عن ذلك.
هذه الأحداث بدأت بالتسارع، حيث اتخذت الدول الكبرى ممثلة بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وعدد من حلفائهما قراراً صارماً بعزل عدد من البنوك الروسية عن نظام الدفع الدولي الرئيسي «سويفت»، وكما سيتم تجميد أصول البنك المركزي الروسي، مما يحد من قدرة روسيا على الوصول إلى احتياطياتها الخارجية، وهذا العزل يعد من أشد العقوبات التي فرضت على روسيا، حيث إنه في بيان مشترك تم التصريح بالنية إلى عزل روسيا عن النظام الدولي المالي، وهذا ما تم عمله الآن.
روسيا من جهة أخرى لديها بديل عن نظام «سويفت»، وهو «SPFS»، حيث يُمكن للمتعاملين داخلياً وخارجياً استعماله مما لا يؤثر على البنية التحتية المالية الروسية، وقد تم إنشاؤه في عام 2014 بعد تهديدات أميركا بطرد روسيا من نظام «سويفت» المالي أثناء اندلاع أزمة شبه جزيرة القرم مع أوكرانيا.
سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الخارجية، على مدار الأشهر القليلة الماضية قامت على قرارات حاسمة مما سيترتب عليه آثار اقتصادية دائمة على العالم بأسره، حيث بدأت في يناير (كانون الثاني) الماضي في التحالف الصيني الروسي من خلال دعوة بكين الغرب بأخذ مخاوف موسكو الأمنية المعقولة بعين الاعتبار، وتبعها حرب أوكرانيا حالياً والقادم مجهول؟!
هناك أيضاً مخاوف من أن تستخدم روسيا العملات المشفرة للحد من آثار العقوبات الغربية، حيث ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أنه «في وقت تشن قوات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، غزواً على أوكرانيا، فإن هذا هو أول صراع كبير في عصر التشفير، وهو ما يعني أيضاً، ولأول مرة على الإطلاق، أنه توجد أداة يمكنها نقل مليارات الدولارات بسهولة عبر الحدود وهي متاحة ليتم استخدامها».
والسؤال الآن هل روسيا قادرة على أن تستند على العملة المشفرة؟ الجواب نعم، ولكن لفترة محدودة لا تتجاوز عدة أشهر، حيث أفضل مما ذكر في هذا الصدد هو ما قاله المحلل السياسي الإيطالي دانييلي روفينيتي، في أحد لقاءاته، إنه «يمكن أن توفر العملات المشفرة طريقة لتجاوز القنوات المالية التقليدية، إذ تستند على محفظة مجهولة الهوية دون الحاجة إلى مؤسسة، كالبنك، مما يعني تجنب متطلبات معرفة العميل (KYC)، والوصول إلى السلطات الاقتصادية المركزية، وعليه لا يمكن للدول التي فرضت العقوبات أن توقف تدفق العملات المشفرة بالقوة». وتابع: «في حين أن العملات المشفرة ليست بديلاً مثالياً، إلا أنها بالتأكيد تساعد الأفراد الخاضعين للعقوبات على تلقي الأموال».
ومن المثير للدهشة أن البنك المركزي الروسي أراد، مؤخراً، حظر العملات المشفرة مثل الصين، لكن فلاديمير بوتين أجبره على إعادة التفكير، ووضعه في مسار نحو التنظيم – مما يجعل التحويل من التشفير إلى العملات الرقمية عملية أكثر أماناً.
ولكن لا بد أن نعي بأن الحكومة الروسية شرعت على تطوير عملتها الرقمية (الروبل الرقمي) لتسهيل عملية استخدامه في التجارة المباشرة مع الدول الأخرى التي تقبل به، مما يسمح بإجراء المعاملات خارج النظام المصرفي الدولي مع أي دولة ترغب في التجارة في العملات الرقمية.
في الجهة المقابلة، علق رئيس الفيدرالي الأميركي جيروم باول، أثناء شهادته أمام الكونغرس الأميركي، أنه يرى أن العملات الرقمية وسيلة لخرق القانون، وأنه لا يجب على الجهات الرسمية أن تتسامح معها. أخيراً، روسيا تتميز بقوتها في المجال السيبراني (تقنية المعلومات) مما يساعد على استمرار تلك الحلول التي وضعتها السياسة الروسية في دعم العملات المشفرة (الروبل الرقمي أو غيره) ما قد يجعلها تصمد لفترة زمنية قصيرة في ظل تواصل العقوبات الدولية المفروضة عليها.
حسمت الأدلة المتوالية جدلاً دار بين معسكرين من الاقتصاديين والبنوك المركزية انقسما حول طبيعة زيادات الأسعار بعد الجائحة، هل هي تعكس تضخماً مؤقتاً أم مستمراً، فلم يعد هناك مجال للشك أن التضخم ليس عارضاً مؤقتاً. وأن البنوك المركزية الرئيسية بما في ذلك البنك الفيدرالي الأميركي قد تأخرت في إجراءات التصدي المفروضة، بما أثر على ثقة الأسواق في أدائها، بما في ذلك من تبعات حالية ومستقبلية. فالاقتصاد لا يتسامح مع مروجي «فن عمل لا شيء» خاصة في فترات الأزمات، حيث يكون «عمل كل شيء ممكن» واجباً ملزماً على صانع القرار.
فهناك تكلفة عالية للتباطؤ في اتخاذ القرار؛ إذ سيستمر التضخم لمدد أطول مما كان واجباً، إذا ما تم احتواؤه مبكراً من خلال سحب إجراءات التيسير النقدي، ثم الشروع في رفع أسعار الفائدة. والأسوأ سيكون إذا ما اضطرت البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة بمعدلات أسرع وأعلى إذا لم تجد الاستجابة التي تتوقعها، وهي بذلك كقائد سيارة تأخر في تخفيف سرعة مركبته في حينه، فيضطر إلى ضغط الكوابح بعنف بما في ذلك من تداعيات.
والسؤال المتكرر عن أسعار الفائدة يتركب من شقين؛ الأول ما مدى الارتفاعات المتوقعة في أسعار الفائدة؟ والآخر إلى متى ستستمر هذه الارتفاعات؟ وتشير توقعات السوق بعد تصريحات رئيس البنك الفيدرالي جيروم باول إلى ارتفاعات متوالية على مدار هذا العام والعام المقبل تبلغ كل واحدة منها 25 نقطة أساس لترتفع بمتوسطات أسعار الفائدة من متوسطاتها الحالية، التي تتراوح بين الصفر و0.25 في المائة ليصل سعر الفائدة إلى ما يتراوح بين 1.75 في المائة و2 في المائة مع بداية عام 2024. ويبرر هذه الزيادات ما وصل إليه الارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية في الولايات المتحدة بالغاً رقم 7 في المائة، وهو أعلى من معدل التضخم العالمي الذي وصل إلى 6 في المائة. ويدعم الموجة التضخمية وتوقعاتها ارتفاع الأجور في الولايات المتحدة بمقدار 5 في المائة، كما أنه بسؤال الناس عن توقعاتهم عن التضخم على مدار الاثني عشر شهراً المقبلة تأتي إجاباتهم، وفقاً لمجلة «الإكونوميست» البريطانية، لتحوم حول 6 في المائة. هذا سيحتم الاستمرار في رفع أسعار الفائدة، كما تقدم، مع العمل على استعادة الثقة في قرارات البنك الفيدرالي، فمجرد رفع سعر الفائدة وحده لا يكفي للسيطرة على التضخم وتوقعاته، كما أن هناك حدوداً لرفع سعر الفائدة لن تتجاوزها حتى لا تؤثر سلباً على إجراءات التعافي الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بالاستثمار وأثره على النمو والتشغيل. هذا فضلاً عن مخاطر هذه الزيادات على الديون العامة والخاصة والعائلية التي بلغت مستويات عليا فيما يعرف بالموجة الرابعة للديون التي يرجى ألا تنتهي بأزمة كالثلاث السابقات عليها، وكان آخرها الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
وفي هذه الأثناء، تسبب سوء الإدارة الاقتصادية في التعامل مع تغيرات المناخ إلى ما يسمى «التضخم الأخضر»، بالانحراف عن أسس التحول الآمن والعادل والكفء إلى طاقة نظيفة لتخفيف الانبعاثات الضارة بالبيئة والمناخ. فما شهدناه من انسحاب مرتجل من الاستثمار في مصادر الطاقة التقليدية مع هرولة منفعلة إلى مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، وزيادة نسبة إسهامها في التضخم، هذا مع الأخذ في الاعتبار عزل الأثر السلبي للتوترات الجيوسياسية على أسعار الطاقة. وينبغي إيضاح أن عملية التحول من نظام للطاقة إلى نظام بديل ستكون مكلفة وأن لها أثراً على الأسعار. ولوضع النقاط على الحروف، أوضح ما يأتي:
– من الصحيح علمياً أن العالم ينبغي أن يخفف حدة الانبعاثات الضارة بمقدار 7.6 في المائة سنوياً حتى 2030 حتى يتوافق مع تعهدات اتفاق باريس، وهو أمر ليس يسيراً إذا علمنا أن العالم، حتى مع توقف نشاطه المفاجئ في أعقاب الجائحة عام 2020، لم تنخفض فيه معدل زيادة الانبعاثات الضارة عن 6 في المائة.
– أن مقترحات التعجيل بتسعير الكربون لكي تصل إلى 75 دولاراً كحد أدنى حتى عام 2030، على النحو الذي اقترحه، على سبيل المثال، الاقتصاديان فيتور جاسبار وإيان بري لا يمكن تجاهل أثرها التضخمي، خاصة إذا ما علمنا أن أربعة أخماس من الانبعاثات الضارة لا يوجد حالياً أي تسعير لها وأن ما يتم تسعيره فعلياً لا يتجاوز 3 دولارات كمتوسط عالمي.
– أن الإجراءات المقترحة لتخفيض الانبعاثات تتضمن أيضاً تسعيراً للكربون في إطار نظام التجارة في الانبعاثات، كما في حالة أوروبا، وهو ما وصل إلى 90 يورو للطن في نهاية عام 2012، أي ثلاثة أمثال سعره في بداية العام وفقاً للاقتصادية الألمانية إزابل شنابل، عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، في كلمة لها في الجمعية الأميركية للتمويل في مطلع هذا العام.
إن هذا المزيج من الإجراءات التي رفعت، وسترفع، تكلفة الحصول على مزيج الوقود من المصادر التقليدية، عن مستوياتها السعرية من دونها، مع الاندفاع الذي تسبب في رفع تكلفة مكونات مصادر الطاقة البديلة كما شهدنا في العام الماضي في أسواق الليثيوم والجرافايت والكوبالت والمنجنيز وغيرها، فضلاً عن إجراءات مقترحة لتسعير الكربون في مراحل الإنتاج والتجارة والاستخدام، لا يمكن تجاهلها عند حساب معدلات التضخم والتحسب له. فلا يمكن التهوين من الأثر السعري لهذه التحولات، على النحو الذي اعتادت عليه نماذج قياسية معمول بها في بعض البنوك المركزية عند اعتبارها التغيرات في أسعار الطاقة كتطور عارض في جانب العرض يندثر بعد حين.
فعلى سبيل المثال، تجد ارتفاعات أسعار الوقود وقد أصبحت مكوناً مهماً في ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين في أوروبا في الربع الأخير من العام الماضي، حيث وصل لأعلى مستوياته تاريخياً منذ العمل باليورو من عشرين عاماً مضت. كما أن هناك ما يلزم فعله من جانب السياسات المالية ونظم الضمان الاجتماعي لمساندة الفئات الأفقر في المجتمع. فحتي الاقتصادات الغنية بات فقراؤها يعانون من ارتفاع أسعار الطاقة، حيث أشار 8 في المائة من مواطني الاتحاد الأوروبي، نحو 35 مليوناً، من عدم قدرة دخولهم على ملاحقة ارتفاع تكلفة الوقود اللازم لتدفئة منازلهم وفقاً لما ذكرته إزابل شنابل في مداخلتها المشار إليها.
القصد هنا هو وضع الإجراءات الحيوية اللازمة للتصدي لتغيرات المناخ في إطارها المطلوب للإدارة الحصيفة للتحول نحو الحياد الكربوني. وستلزم هذا التعامل مع آثار هذه الإجراءات على الأسعار، خاصة في ظل الارتفاعات العالمية الراهنة للتضخم. ومن المهم التذكرة مجدداً بأهمية تنفيذ إجراءات التصدي لتغيرات المناخ كمكون رئيسي غير منفصل عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، حتى يتم تحجيم آثارها السلبية على الفقر والتفاوت في توزيع الدخل والثروة والنمو وفرص العمل. وتؤكد تبعات ما بعد الجائحة خطورة ترك عملية اتخاذ القرارات لتتبع نهج الجزر المنعزلة، فكل جزيرة منها تنبري بإجراءات ومواقف منفردة، وكأن العالم قاصر عليها ومن فيها غير مدركة أن أهل الجزر الأخرى ليسوا أفضل حالاً بعزلتهم، وأن في هذه التصرفات والقرارات المتنافرة ما يهددهم جميعاً. وهناك من يدرك مبكراً الخطر على مصلحته في استمرار الغفلة عن التعاون والتنسيق، ولكن هناك من لا يستبين نصح اليوم إلا ضحى الغد!
د. محمود محيي الدين
اقتصادي مصري
بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات