عقلانية العقوبات الغربية

العقوبات الاقتصادية أداة للدبلوماسية القسرية، وهي أحد أقسى التحركات غير العسكرية التي تُمارَس على الدول لتغيير سلوكياتها. والأمثلة على العقوبات الاقتصادية في العصر الحديث تمتد من كوبا إلى فنزويلا وكوريا الشمالية وإيران، وغيرها من الدول التي طُبقت العقوبات الاقتصادية في حقها بمستويات مختلفة.
والعقوبات الحالية على روسيا هي الأقوى من نوعها، فهي على دولة من دول مجموعة العشرين، وعلى اقتصاد يحتل الترتيب الحادي عشر في العالم، لدولة هي الثالثة في إنتاج النفط. فما هي تبعات هذه العقوبات؟ وهل صُممت لهدف استراتيجي محدد؟
أول ما سيتأثر من هذه العقوبات هي تجارة السلع؛ سواء كانت السلع نفطية أو أغذية أو غيرها. هذا التأثر قد يكون على إنتاجية السلع نفسها، كحصاد القمح أو عمليات التعدين واستخراج الموارد الطبيعية، أو غيرها من الأنشطة الاقتصادية التي ستتأثر في روسيا بفعل الحرب نفسها، ناهيك عن العقوبات الاقتصادية. كما أن السلع ستتأثر في نقلها بفعل التعثر الحاصل في الشحن؛ سواء بسبب عدم رغبة شركات الشحن في الدخول في غمار العقوبات، أو عدم القدرة على دفع أو تسلُّم المبالغ بفعل العقوبات على النظام المالي الروسي.
وقد تأثرت السلع فعلياً بسبب تعثر القطاع اللوجستي وسلاسل الإمداد بفعل الجائحة، والذي اصطدم بالحرب قبل أن يفيق من أثر الجائحة التي تناساها العالم بفعل هذه الحرب الدامية.
وبالحديث عن النظام المالي، فروسيا الآن تعاني من هذه العقوبات بسبب تجميد أصولها الخارجية، وفرض العقوبات على بنكها المركزي، إضافة إلى إيقاف خدمات نظام «سويفت» عنها. هذه العقوبات أثَّرت سلباً على العملة الروسية، وأعاقت الحكومة الروسية عن تسييل احتياطياتها وأصولها الخارجية التي استثمرت فيها طويلاً استعداداً لأزمات شبيهة.
ولكن تجب الإشارة هنا إلى أن هذه العقوبات –على الرغم من خطورتها على الاقتصاد الروسي– فإنها قد لا تتسبب في انهيار للاقتصاد الروسي؛ ذلك أن روسيا منذ اجتياحها لجزيرة القرم عام 2014، أدركت مدى قدرة الدول الغربية على التأثير في اقتصادها عند تكاملها مع الاقتصاد العالمي. ولذلك فإن روسيا وبشكل تدريجي تمكنت من عزل اقتصادها ونظامها المالي عن الاقتصاد العالمي والاعتماد على الدولار منذ ذلك الحين. فعلى سبيل المثال، انخفض التبادل التجاري بالدولار بين روسيا والصين من 97 في المائة في عام 2014 إلى أقل من 33 في المائة في الوقت الحالي.
وللدول الغربية سلاح إضافي ضد روسيا، وهو سلاح التقنية، فالصناعات الروسية تعتمد على أشباه الموصلات التي تُصنع في الدول الغربية أو في دول حليفة لها، وفي حال مُنعت هذه المنتجات عن روسيا فسوف تتأثر صناعاتها. وقد تطبق الحكومة الأميركية عقوبات على شركات التقنية الروسية، تماماً كما فعلت مع شركة «هواوي» الصينية إبان رئاسة دونالد ترمب؛ حيث منعت عنها خدمات «غوغل» والمعالجات الحاسوبية، وغيرها.
من هذه العقوبات ما يؤثر على روسيا وحدها، مثل العقوبات على الشركات التقنية، إلا أن بعض العقوبات قد تتعدى روسيا إلى دول لا ناقة لها ولا جمل في هذه الحرب. فلو تأثر الإنتاج الروسي للقمح فستتأثر دول عديدة، وقد تواجه دول خطراً فعلياً على أمنها الغذائي على المدى القصير. كما ستتأثر بعض الدول الأوروبية بسبب استيرادها لمعادن من روسيا تدخل في صلب صناعاتها. وقد وصل أثر هذه العقوبات إلى أستراليا التي تعتمد على روسيا في الشحن الجوي؛ حيث تستأجر الدول الغربية وأستراليا الطائرات من شركة «فولغا-دبز» الروسية، ومن هذه الطائرات طائرة «أنتونوف-24» وهي إحدى أكبر طائرات الشحن العسكرية والتي يمكنها نقل الطائرات المروحية. اعتماد الشركات على الطائرات الروسية يعني ارتفاعاً في تكلفة النقل الجوي، والذي سوف يؤثر بلا شك على دول عديدة.
إن تدافع الدول الغربية على فرض عقوبات على روسيا قد لا يبدو مدروساً بشكل شامل، فكل دولة تفرض عقوبات لا تؤثر على اقتصادها، دون النظر بشكل متأنٍّ إلى الآثار غير المباشرة التي قد تترتب عليها، وفي حُمّى العقوبات والاستنكارات التي يشهدها العالم الآن، قد يكون من الصعب على أي دولة الاحتجاج على العقوبات التي قد تضر باقتصادها المحلي.
والمتأمل في العقوبات الغربية على روسيا، قد يصعب عليه إيجاد منطق عقلاني لبعضها، فبعضها امتد ليضر أندية محلية لأن مالكها روسي، والآخر بدأ في مصادرة القصور والأملاك واليخوت لأن ملاكها أثرياء روس. والعذر الغربي هو عدم تمويل «آلة الحرب» الروسية، فكيف لمصادرة يخت في حوض البحر الأبيض المتوسط أن تضر بتمويل الجيش الروسي؟ أما النكتة الحقيقية فهي معاقبة القطط الروسية، فما هو الهدف الاستراتيجي من ذلك؟ وهل يجعل ذلك السلوك الغربي أقرب إلى ما يصفه عمرو بن كلثوم، بقوله في المعلَّقة: ألا لا يجهلنَّ أحد علينا… فنجهل فوق جهل الجاهلينا؟

د. عبد الله الردادي

مسؤول سابق في صندوق النقد: آخر فرصة للبنان قبل الانهيار الكامل

مع انطلاق الجولة الثانية من المفاوضات مع فريق صندوق النقد الدولي الاسبوع المقبل، حذّر مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي، المعنيين في لبنان، من أنه إذا لم يتوصلوا إلى اتفاق مع الصندوق قريباً في شأن برنامج تمويل، فإن البلاد ستواجه انهياراً اقتصادياً كاملاً.

رغم انّ أمله ضئيل بأن يأخذ السياسيون اللبنانيون ومستشاروهم بالاعتبار، خطورة ودقّة المرحلة قبل بدء الجولة الثانية من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، أبدى المسؤول السابق في صندوق النقد الدولي محمد الحاج ملاحظاته حول الاسباب الفعلية للأزمة وسبل إنقاذ البلاد التي تعيش مراحلها الاخيرة قبل الانهيار الشامل.

واعتبر في حديث لـ«الجمهورية» انه بعد تعدّد التحليلات والتقارير حول أسباب الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان، يجب أن يكون واضحاً للجميع أن الأزمات التي يواجهها لبنان حالياً هي محلية الصنع، وقد زرعت بذورها في أوائل التسعينات حيث كانت سياسات الاقتصاد الكلي غير متّسقة ومشوّهة، وكان الفساد لا يزال واسع الانتشار.

قال: منذ عام 1992، تدخّل السياسيون في إدارة السياسات النقدية وسياسات الصرف الأجنبي، بشكل مخالف لقانون النقد والتسليف الذي يمنح مصرف لبنان الاستقلالية المالية والإدارية، وهو الامر الذي شكّل انحرافًا واضحًا عن الدور الذي لعبه مصرف لبنان منذ أن بدأ عملياته في العام 1964.

وأسِف الحاج أنه عندما كانت الدول حول العالم منشغلة ببناء مؤسسات اقتصادية قوية واقتصادات قوية وتحسين مستويات المعيشة لسكانها، كان السياسيون اللبنانيون منشغلين ببناء إمبراطورياتهم داخل القطاع العام وتوظيف مؤيديهم في المؤسسات الحكومية لتصميم وإدارة السياسة العامة. مشيرا الى انه «لسوء الحظ، أصبحت سياسات مصرف لبنان ركيزة مهمة للحفاظ على النظام الاقتصادي الفاسد الذي تأسس في أوائل التسعينات. إن وجود مصرف مركزي مستقل، كما كان الحال في لبنان قبل عام 1992، بإدارة فريق اقتصادي قوي على دراية بالمفاهيم الأساسية لاستدامة الاقتصاد الكلي، كان ليتوقف عن تمويل الحكومة ويؤكد على الحاجة إلى تعويم سعر الصرف منذ فترة طويلة».

أضاف: «لقد فشل صانعو السياسات أيضا بشكل بائس في إدارة الأزمات منذ تشرين الاول 2019، حيث كان من الممكن تجنّب الانهيار الاقتصادي منذ ذلك الوقت، لو كانت الحكومة وصنّاع السياسات مستعدّة لمعالجة السبب الجذري للأزمات من خلال برنامج إصلاح شامل. لكن، بدلاً من ذلك، وكما جرت العادة منذ أوائل التسعينات، تمّ اعتماد تدابير اقتصادية مالية مجتزأة وغير منسقة أدّت إلى المزيد من الهدر والفساد. كان يجب على صانعي السياسات ومستشاريهم أن يَعوا أنه عندما حاولت البلدان حول العالم التي واجهت أزمات اقتصادية ومالية أقل حدة ولديها مؤسسات أقوى بكثير من لبنان، معالجة مشاكلها الاقتصادية بمفردها، لم تنجح. وفي معظم الحالات، انتهى بها الأمر بالذهاب إلى صندوق النقد الدولي بعدما لحق المزيد من البؤس والفقر بالسكان. وهذا ما حصل ويحصل في لبنان الآن.

وشدد الحاج على ان لبنان يمرّ بمنعطف حرج للغاية ولم يعد لديه الوسائل أو الأدوات الاقتصادية الفعالة لامتصاص أي صدمات اقتصادية أخرى. مصرف لبنان مفلس وسرعان ما سينفد الاحتياطي القابل للاستخدام لدعم الليرة اللبنانية. إن الوضع المتردي الذي يواجهه لبنان يأتي في وقت تتزايد فيه التوترات السياسية العالمية وترتفع أسعار السلع بشكل كبير. وتشير جميع المؤشرات الاقتصادية بوضوح إلى أن لبنان هو حاليا في المرحلة الأخيرة قبل الانهيار الاقتصادي الكامل. مما يعني، استمرار سعر صرف العملة المحلية بالانهيار، ومواصلة نسَب التضخم والبطالة بالارتفاع بشكل كبير، والمزيد من الانكماش الاقتصادي، والمزيد من حالات الإفلاس، ونقص في السلع الأساسية، وإغلاق المصارف وانهيار نظام الدفع، والمزيد من الجرائم…

واعتبر ان هناك بديلا لسيناريو الاصلاح غير المنظّم الذي يتبعه لبنان حالياً، «وهو برنامج إنقاذ منظّم يدعمه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، سيعمل على استقرار الاقتصاد ويتضمن خارطة طريق متسقة لتحقيق الانتعاش الاقتصادي مع مرور الوقت. وبموجب برنامج إنقاذ صندوق النقد الدولي، ستكون عملية الاصلاح أقل صعوبة بكثير مما شهدته البلاد منذ تشرين الاول 2019». مشددا على ان برنامج صندوق النقد سيتضمّن حتماً شبكة الأمان الاجتماعي.

وفيما أوضح الحاج أنّ الشرط المسبق للتفاوض في شأن برنامج إصلاح ناجح مع صندوق النقد الدولي هو وجود التزام سياسي واضح بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، سأل: هل سيضع السياسيون اللبنانيون خلافاتهم جانبا ولو لمرة واحدة وينقذوا البلاد من الانهيار الاقتصادي الكامل المتوقع، أم أن كراهيتهم واستياءهم تجاه بعضهم البعض سيمنعانهم من اتخاذ الخيارات الصحيحة؟

رنى سعرتي