حسمت الأدلة المتوالية جدلاً دار بين معسكرين من الاقتصاديين والبنوك المركزية انقسما حول طبيعة زيادات الأسعار بعد الجائحة، هل هي تعكس تضخماً مؤقتاً أم مستمراً، فلم يعد هناك مجال للشك أن التضخم ليس عارضاً مؤقتاً. وأن البنوك المركزية الرئيسية بما في ذلك البنك الفيدرالي الأميركي قد تأخرت في إجراءات التصدي المفروضة، بما أثر على ثقة الأسواق في أدائها، بما في ذلك من تبعات حالية ومستقبلية. فالاقتصاد لا يتسامح مع مروجي «فن عمل لا شيء» خاصة في فترات الأزمات، حيث يكون «عمل كل شيء ممكن» واجباً ملزماً على صانع القرار.
فهناك تكلفة عالية للتباطؤ في اتخاذ القرار؛ إذ سيستمر التضخم لمدد أطول مما كان واجباً، إذا ما تم احتواؤه مبكراً من خلال سحب إجراءات التيسير النقدي، ثم الشروع في رفع أسعار الفائدة. والأسوأ سيكون إذا ما اضطرت البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة بمعدلات أسرع وأعلى إذا لم تجد الاستجابة التي تتوقعها، وهي بذلك كقائد سيارة تأخر في تخفيف سرعة مركبته في حينه، فيضطر إلى ضغط الكوابح بعنف بما في ذلك من تداعيات.
والسؤال المتكرر عن أسعار الفائدة يتركب من شقين؛ الأول ما مدى الارتفاعات المتوقعة في أسعار الفائدة؟ والآخر إلى متى ستستمر هذه الارتفاعات؟ وتشير توقعات السوق بعد تصريحات رئيس البنك الفيدرالي جيروم باول إلى ارتفاعات متوالية على مدار هذا العام والعام المقبل تبلغ كل واحدة منها 25 نقطة أساس لترتفع بمتوسطات أسعار الفائدة من متوسطاتها الحالية، التي تتراوح بين الصفر و0.25 في المائة ليصل سعر الفائدة إلى ما يتراوح بين 1.75 في المائة و2 في المائة مع بداية عام 2024. ويبرر هذه الزيادات ما وصل إليه الارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية في الولايات المتحدة بالغاً رقم 7 في المائة، وهو أعلى من معدل التضخم العالمي الذي وصل إلى 6 في المائة. ويدعم الموجة التضخمية وتوقعاتها ارتفاع الأجور في الولايات المتحدة بمقدار 5 في المائة، كما أنه بسؤال الناس عن توقعاتهم عن التضخم على مدار الاثني عشر شهراً المقبلة تأتي إجاباتهم، وفقاً لمجلة «الإكونوميست» البريطانية، لتحوم حول 6 في المائة. هذا سيحتم الاستمرار في رفع أسعار الفائدة، كما تقدم، مع العمل على استعادة الثقة في قرارات البنك الفيدرالي، فمجرد رفع سعر الفائدة وحده لا يكفي للسيطرة على التضخم وتوقعاته، كما أن هناك حدوداً لرفع سعر الفائدة لن تتجاوزها حتى لا تؤثر سلباً على إجراءات التعافي الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بالاستثمار وأثره على النمو والتشغيل. هذا فضلاً عن مخاطر هذه الزيادات على الديون العامة والخاصة والعائلية التي بلغت مستويات عليا فيما يعرف بالموجة الرابعة للديون التي يرجى ألا تنتهي بأزمة كالثلاث السابقات عليها، وكان آخرها الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
وفي هذه الأثناء، تسبب سوء الإدارة الاقتصادية في التعامل مع تغيرات المناخ إلى ما يسمى «التضخم الأخضر»، بالانحراف عن أسس التحول الآمن والعادل والكفء إلى طاقة نظيفة لتخفيف الانبعاثات الضارة بالبيئة والمناخ. فما شهدناه من انسحاب مرتجل من الاستثمار في مصادر الطاقة التقليدية مع هرولة منفعلة إلى مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، وزيادة نسبة إسهامها في التضخم، هذا مع الأخذ في الاعتبار عزل الأثر السلبي للتوترات الجيوسياسية على أسعار الطاقة. وينبغي إيضاح أن عملية التحول من نظام للطاقة إلى نظام بديل ستكون مكلفة وأن لها أثراً على الأسعار. ولوضع النقاط على الحروف، أوضح ما يأتي:
– من الصحيح علمياً أن العالم ينبغي أن يخفف حدة الانبعاثات الضارة بمقدار 7.6 في المائة سنوياً حتى 2030 حتى يتوافق مع تعهدات اتفاق باريس، وهو أمر ليس يسيراً إذا علمنا أن العالم، حتى مع توقف نشاطه المفاجئ في أعقاب الجائحة عام 2020، لم تنخفض فيه معدل زيادة الانبعاثات الضارة عن 6 في المائة.
– أن مقترحات التعجيل بتسعير الكربون لكي تصل إلى 75 دولاراً كحد أدنى حتى عام 2030، على النحو الذي اقترحه، على سبيل المثال، الاقتصاديان فيتور جاسبار وإيان بري لا يمكن تجاهل أثرها التضخمي، خاصة إذا ما علمنا أن أربعة أخماس من الانبعاثات الضارة لا يوجد حالياً أي تسعير لها وأن ما يتم تسعيره فعلياً لا يتجاوز 3 دولارات كمتوسط عالمي.
– أن الإجراءات المقترحة لتخفيض الانبعاثات تتضمن أيضاً تسعيراً للكربون في إطار نظام التجارة في الانبعاثات، كما في حالة أوروبا، وهو ما وصل إلى 90 يورو للطن في نهاية عام 2012، أي ثلاثة أمثال سعره في بداية العام وفقاً للاقتصادية الألمانية إزابل شنابل، عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، في كلمة لها في الجمعية الأميركية للتمويل في مطلع هذا العام.
إن هذا المزيج من الإجراءات التي رفعت، وسترفع، تكلفة الحصول على مزيج الوقود من المصادر التقليدية، عن مستوياتها السعرية من دونها، مع الاندفاع الذي تسبب في رفع تكلفة مكونات مصادر الطاقة البديلة كما شهدنا في العام الماضي في أسواق الليثيوم والجرافايت والكوبالت والمنجنيز وغيرها، فضلاً عن إجراءات مقترحة لتسعير الكربون في مراحل الإنتاج والتجارة والاستخدام، لا يمكن تجاهلها عند حساب معدلات التضخم والتحسب له. فلا يمكن التهوين من الأثر السعري لهذه التحولات، على النحو الذي اعتادت عليه نماذج قياسية معمول بها في بعض البنوك المركزية عند اعتبارها التغيرات في أسعار الطاقة كتطور عارض في جانب العرض يندثر بعد حين.
فعلى سبيل المثال، تجد ارتفاعات أسعار الوقود وقد أصبحت مكوناً مهماً في ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين في أوروبا في الربع الأخير من العام الماضي، حيث وصل لأعلى مستوياته تاريخياً منذ العمل باليورو من عشرين عاماً مضت. كما أن هناك ما يلزم فعله من جانب السياسات المالية ونظم الضمان الاجتماعي لمساندة الفئات الأفقر في المجتمع. فحتي الاقتصادات الغنية بات فقراؤها يعانون من ارتفاع أسعار الطاقة، حيث أشار 8 في المائة من مواطني الاتحاد الأوروبي، نحو 35 مليوناً، من عدم قدرة دخولهم على ملاحقة ارتفاع تكلفة الوقود اللازم لتدفئة منازلهم وفقاً لما ذكرته إزابل شنابل في مداخلتها المشار إليها.
القصد هنا هو وضع الإجراءات الحيوية اللازمة للتصدي لتغيرات المناخ في إطارها المطلوب للإدارة الحصيفة للتحول نحو الحياد الكربوني. وستلزم هذا التعامل مع آثار هذه الإجراءات على الأسعار، خاصة في ظل الارتفاعات العالمية الراهنة للتضخم. ومن المهم التذكرة مجدداً بأهمية تنفيذ إجراءات التصدي لتغيرات المناخ كمكون رئيسي غير منفصل عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، حتى يتم تحجيم آثارها السلبية على الفقر والتفاوت في توزيع الدخل والثروة والنمو وفرص العمل. وتؤكد تبعات ما بعد الجائحة خطورة ترك عملية اتخاذ القرارات لتتبع نهج الجزر المنعزلة، فكل جزيرة منها تنبري بإجراءات ومواقف منفردة، وكأن العالم قاصر عليها ومن فيها غير مدركة أن أهل الجزر الأخرى ليسوا أفضل حالاً بعزلتهم، وأن في هذه التصرفات والقرارات المتنافرة ما يهددهم جميعاً. وهناك من يدرك مبكراً الخطر على مصلحته في استمرار الغفلة عن التعاون والتنسيق، ولكن هناك من لا يستبين نصح اليوم إلا ضحى الغد!
د. محمود محيي الدين
اقتصادي مصري