هل من أمل للمودعين اللبنانببن بالحصول على اموالهم؟

عندما أبلغ بنك لبناني عارف ياسين بأنه أغلق حسابات بقيمة 20 مليون $تخص النقابة المهنية التي يرأسها وأصدر بدلا من ذلك شيكا بخُمس القيمة الاسمية للحسابات، رفع نقيب المهندسين الأمر إلى المحكمة.

فهذه الأموال، التي تم توفيرها من اشتراكات المهندسين وأُودعت في فرنسبنك، مخصصة للرعاية الصحية والمعاشات التي تغطيها النقابة لحوالي 100 ألف شخص يواجهون الآن خطر فقدان شريان للحياة في بلد يعصف به انهيار اقتصادي منذ ثلاث سنوات.

وقال ياسين “هذه أموال تكونت من اشتراكات المهندسين والانتسابات والرسوم النسبية يا اللي بتيجي من أعمال المهندسين عبر سنوات طويلة. وهذه حقوق للمهندسات والمهندسين. وبما أنه تراجعت الأعمال عموما، بالتالي أصبح بدون مبالغة استعادة مدخرات وأموال نقابة المهندسين من البنوك مسألة حياة أو موت للمهندسين عموما”.

وقال فرنسبنك إن قواعد السرية المصرفية تقتضي ألا يسمح البنك بالكشف عن معلومات حول العميل.

وفشلت النخبة الحاكمة حتى الآن في وضع خطة للتعافي لمعالجة الانهيار المالي الذي تعاني منه البلاد منذ أواخر 2019، وتتفاقم الأزمة الآن في المحاكم بين المودعين والبنوك.

وانطلاقا من الشعور بالخوف على مدخرات حياتهم، يقاضي مزيد من أصحاب الحسابات البنوك على أمل الحصول على أموالهم. ويقول محامو المودعين إن المزيد من البنوك تقوم، ردا على ذلك، بإغلاق الحسابات وإصدار شيكات دون استشارة العملاء.

ولم يتفق الساسة الحاكمون بعد على طريقة للتصدي للخسائر المالية الفادحة التي تكبدها النظام المالي عندما انهار الاقتصاد تحت وطأة الديون المتراكمة على مدى عقود من الفساد والمحسوبية وسوء الإدارة.

ولم يقروا أيضا قانونا لمراقبة رأس المال للتصدي لما يصفه البنك الدولي بأنه أحد أسوأ موجات الانهيار المالي في العالم على الإطلاق. ومن شأن مثل هذا القانون أن يضمن معاملة عادلة للمودعين.

ولا يزال أكثر من 100 مليار دولار محتجزة في البنوك اللبنانية، وتتزايد المعارك القضائية للوصول إلى أي أموال ما زالت باقية في النظام المصرفي.

وفي واحدة من أبرز القضايا، حكمت محكمة في لندن لصالح مدخر يسعى للحصول على 4 ملايين دولار مودعة لدى بنك عودة وبنك سوسيتيه جنرال في لبنان.

* لا يريدون الدفع

تقول البنوك، التي تطالب بقانون لمراقبة رأس المال، إن الحكم الصادر في لندن يترتب عليه ضعف السيولة الباقية للمودعين الأقل حظا الذين لا يستطيعون القيام بمثل هذا الإجراء.

قال فؤاد دبس، الشريك المؤسس لاتحاد المودعين، الذي يضم محامين ونشطاء، إن صغار المودعين هم الأشد تضررا.

ورفع الاتحاد حوالي 300 دعوى بالنيابة عن مدخرين في لبنان والخارج منذ 2019. وتشمل الدعاوى قضايا طلب تحويل أموال وإعادة فتح حسابات مغلقة. لكنه قال إنه لم يتم البت لصالح المودعين سوى في 12 قضية فقط.

وقال دبس “إنهم يغلقون ببساطة حسابات الناس لأنهم لا يريدون رد أموالهم.. وهم يفعلون ذلك بصورة أكثر تكرارا لأنهم لا يرون أن هناك هيئة تنظيمية تقف ضدهم”.

وتبدي الحكومة قلقا متزايدا بشأن الأحكام المؤيدة للمودعين وأوامر محاكم أخرى بتجميد أصول بعض من أكبر البنوك اللبنانية بينما يحقق قاض في معاملاتها مع البنك المركزي.

وقال رئيس الوزراء نجيب ميقاتي “أنا بس بانتهز ها المناسبة وأقول ما ننبسط بالحجوزات يا اللي عم بتصير على المصارف والحركات يا اللي عم بتصير على المصارف لأنه هو من عم بيقوم بها الدعاوى هن كبار المودعين وبالتالي إذا حطوا أيدهم على المصاري ما راح يبقى شي للصغار”.

ويتهم كثير من المودعين النخبة الحاكمة في لبنان بأنهم يبذلون جهودا لحماية الأثرياء والبنوك التي يرتبط بعضها بسياسيين كبار بصفتهم مساهمين فيها أكبر من الجهود التي يبذلونها لحماية أصحاب الحسابات الصغيرة.

قالت دانا تروميتر، وهي مخرجة أفلام تبلغ من العمر 48 عاما وتعيش في بريطانيا، إن “النخبة تقوم على الدوام بتحويل الأموال إلى الخارج” مضيفة أن “الأشخاص العاديين” لا يحظون بنفس المعاملة.

* ليس عدلا

بالرغم من أن معظم المدخرين يعجزون عن الوصول إلى أموالهم، إلا أن عدم وجود قانون لمراقبة رأس المال يعني عدم وجود سبب قانوني لوقف التحويلات. وقال مصدر مطلع إن بعض البنوك حولت أموالا لسياسيين وحلفائهم.

ولم ترد جمعية مصارف لبنان على الفور على طلب للتعليق. وتقول البنوك إنها تسعى إلى معاملة جميع المودعين بإنصاف وتقصر معظم التحويلات على الاحتياجات الأساسية، مثل التعليم والرعاية الصحية.

ورفعت دانا دعوى قضائية قبل عامين في لبنان للوصول إلى مدخرات تقاعد والدتها المحجوزة في البنك، لكن دون جدوى.

قالت “هذا ليس عدلا”، وأضافت أن والدتها “لا تستطيع حتى الحصول على أقل القليل من البنك لمساعدتها في كل يوم.. تشتري فحسب الضروريات اليومية”.

وقال المحامي علي زبيب إن المعدل المتسارع لإغلاق الحسابات في البنوك ربما يكون سببه الحكم الذي صدر في لندن لصالح رجل الأعمال البريطاني فاتشي مانوكيان، الذي كان يقدم المشورة له.

أضاف زبيب “ربما تهدف البنوك بالتالي إلى منع تكرار نفس الموقف من خلال إغلاق الحسابات بشكل استباقي”.

وقال دبس إن أكثر من 50 مودعا بريطانيا على اتصال منذ صدور الحكم لأن حساباتهم أُغلقت من جانب واحد، أو لأنهم يخشون من إغلاقها.

وأضاف أن معظمهم لديهم حسابات في بنكي بلوم وعودة.

وقال المستشار القانوني لبنك بلوم إن البنك أغلق بعضا من حسابات اللبنانيين والأجانب خلال الأزمة، وإن العقد الذي يوقعه العملاء يمنح البنك الحق في إغلاق الحسابات من جانب واحد دون إشعار مسبق.

وقال البنك إن بعض الحسابات المغلقة كانت لمواطنين أو مقيمين بريطانيين وإن بعض الحسابات أُغلقت منذ حكم لندن.

وقال بنك عودة، الذي لم يعلق على هذا التقرير، بعد حكم لندن إنه يطلب من المقيمين في المملكة المتحدة تطبيق الشروط السارية على كل من يفتح حسابا جديدا، بمعنى أنه لن تكون هناك تحويلات دولية أو سحب نقدي. وقال البنك إنه سيغلق الحساب في حالة عدم قبول ذلك.

 

قال كريم ضاهر، رئيس لجنة حقوق المودعين في نقابة المحامين في بيروت، إنه يتلقى مكالمات منتظمة من مودعين يشعرون بالانزعاج ويجدون صعوبة في الوصول إلى جزء فقط من أموالهم.

وأضاف “هؤلاء الناس يخصصون أموالا للتقاعد، ولإرسال أطفالهم إلى المدارس والجامعات.. هذا وضع كارثي”.

من يدفع البلد الى «التصحُّر» المالي؟ ولماذا؟

المواجهة بين بعض القضاء والقطاع المالي، كادت ان تتحوّل مواجهة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية. والمفارقة في هذا المشهد ان الظالم، يسعى لكي يكون وسيطاً وحكماً بين المظلومين المتناحرين، بدلاً من ازالة أسباب الظلم، من خلال تحمُّل مسؤولية ما جرى، ومسؤولية تنظيم الانهيار بانتظار الفرج.

لم يعد ما يجري اليوم مرتبطاً بالقانون ومندرجاته. وقد لا يكون مهماً الاستفاضة في قراءة ما يجري استناداً الى معطيات تؤكد أو تنفي انّ ما يصدر من قرارات عن بعض القضاء مسيّسة، وتخدم مصالح أطراف سياسية ورغباتها، ام لا. بل ان الخطير والمهم في ما يجري، انه سيؤدّي الى تعميق مأساة اللبنانيين، ويدفع البلد نحو «التصحّر» المالي، بحيث يصبح مشهد اليمن السعيد حاضراً في الأذهان. والمقصود هنا بلد بلا مصارف، وبلا ايرادات، وممتنع عن دفع ديونه، وعاجز عن تنظيم الانهيار، وينفق ما تبقّى من رصيد مالي، وسيادته منقوصة ودولته غير موجودة عملياً. وبذلك نكون قد اجتزنا المسافة التي تفصلنا عن الدولة الفاشلة، التي تنتظر المساعدات لخفض منسوب الجوع. ولولا الجناح الاغترابي المميز، لأمكَن الجزم بأن المشهد الشعبي بعد فترة قصيرة سيكون شبيهاً بمشهد المجتمعات التي كان اللبناني يتعرّف إليها فقط من خلال الاخبار والشاشات، وكان يعتبر انها في مكان بعيد جداً عنه، قد يعنيه التعاطف معها، لكن لا يعنيه أن يقلق من التعرّض لمثلها في يوم من الأيام.

 

بصرف النظر عن التسييس في بعض الاجراءات القضائية، وهو أمر معروف وليس جديداً على اللبنانيين، فإنّ المسؤول عن الشواذات والمظالم والاجراءات التي قد تقضي على اي أمل بالوقوف مجددا في المدى المنظور، هي الدولة اللبنانية بكل مكوناتها، وبما فيها السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتضمّ اللائحة المتآمرين الراغبين عن سابق تصور وتصميم في الوصول الى هذا الدرك، والاغبياء الطامعين بالسلطة ويعتقدون انهم يمارسون حقهم السياسي المشروع. وما تحاول الدولة ان تقوم به اليوم، كان مطلوبا منها منذ تشرين 2019، لكنها تكتفي منذ ذلك التاريخ بالوقوف متفرجة.

 

ما هي المخاطر التي نتّجه اليها، في حال استمر الوضع على فوضويته، والتي يختلط فيها السياسي بالقضائي بالمصالح الانتخابية، والمصالح الرئاسية وربما بمخططات القضاء على هوية البلد بالكامل؟

اولاً – إنهيار اضافي في القطاع المالي برمته، بما يعني الانتقال من دولة لديها على الأقل بنية تحتية جاهزة لاعادة احياء القطاع المصرفي في اطار خطة للانقاذ الشامل، الى دولة فاشلة دمّرت بنيتها المالية من أساساتها، وصارت في مكان آخر لا علاقة له بلبنان الذي نعرفه.

ثانياً – اكتساب صفة الدولة الفاشلة بحيث يصبح التعاطي معنا من منطلق الوصاية اذا سمحت الظروف بذلك، او الاهمال وتركنا لمصيرنا، خصوصا اذا «نجحنا» في اغلاق كل الطرق التي تسمح باستخراج الغاز والنفط من مياهنا.

ثالثاً – تسريع إفراغ البلد من كل مقدراته وكادراته البشرية، خصوصا ان الانهيار الاضافي الذي نتّجه اليه قد يقود الى غياب ما تبقى من خدمات خجولة لا تزال قائمة، وتسمح لبعض الكادرات بالعمل «اون لاين»، لإدخال العملات الصعبة والمساهمة في الصمود النسبي للوضع الاقتصادي والمعيشي.

 

ولا بد من طرح السؤال التالي: اذا كانت «الدولة» هي المسؤولة الرئيسية عن الانهيار وعن الافلاس الذي وصل اليه البلد وأعلنته الحكومة رسمياً في آذار 2020، فمن المسؤول عن السقوط الحر الذي يتعرض له اللبنانيون منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، وهو مستمر؟ من سيتحمّل مسؤولية هدر حوالى 20 مليار دولار من العملات في مصرف لبنان منذ بداية الأزمة؟ ومن سنسأل غداً عن مصير الـ13,5 مليار دولار (الاحتياطي الالزامي + حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد) عندما تنضب ويبدأ البحث عن بديل لمواصلة الهدر، والأرجح ان الدور سيكون على احتياطي الذهب؟

 

الحكومة التي اجتمعت وشعر رئيسها بالغضب لغياب أركان السلطة القضائية عن حضور الاجتماع، أوليست هي المسؤولة عن دعم الليرة اليوم من دون خطة واضحة لتبرير الأسباب وتحديد الأهداف، وقد نفاجأ غداً بأنه لم يبق في خزائن المركزي ما يسدّ رمق الجائعين؟