تُقدّر استراتيجية الحكومة المقدمة في جلستها الختامية انّ خسائر القطاع المصرفي تفوق الـ 70 مليار دولار، ومنها نصيب مصرف لبنان الذي يوازي الـ 60 مليار دولار، وما تبقّى يعود للمصارف، بينما غفرت الخطة عن خسائر الدولة. من المهم جداً معرفة أسباب الخسائر وكيفية تحديدها قبل وضع استراتيجية للنهوض. لقد عانت المصارف الى حد كبير بسبب تلكؤ الدولة ومصرف لبنان في معالجة التزاماتها تجاهها.
كما أدى الوضع الاقتصادي المتدهور الى تعثّر القروض الخاصة. فيجب تحميل السلطة المسؤولية المُطلقة لخراب الاقتصاد اللبناني وليس المودع ولا المصارف. وكما اكد تقرير مجلس حقوق الانسان للامم المتحدة الصادر في 11 نيسان 2022 ان الازمة وإفقار اللبنانيين يعود لسياسات الحكومات المتعاقبة الخاطئة.
وممّا يثير الشك هو طلب الاعتراف بهذه الخسائر في مذكرة الحكومة. فما هي صلاحية الحكومة في طلب الغفران لأخطائها وإبراء ذمتها؟ يوجد فرق كبير بين ما يسمّى خسائر غير قابلة للرد والتزامات متأخرة الخدمة. الدولة خسرت أصولها المالية ولم تربح خصومها المالية. انّ الالتزامات المتعثرة لا تعتبر خسائر لصاحب الحق، انما الأصول الفعلية التي هدرت هي الخسائر الحقيقية. ان الحكومة اللبنانية ومصرف لبنان تقاعسا عن خدمة ديونهما، وتبقى هذه الديون ولا يحق لأحد شطبها، فهذا يعتبر انتهاكاً للدستور.
انّ الاستراتيجية المفترضة تُحمّل مسؤولية الخسائر لمصرف لبنان وتُعزيها لسعر الصرف الثابت وتمويل العجز المالي، وتعتبره المسؤول الأول عن الأزمة. فسياسة سعر الصرف المثبت كانت في الأساس بطلب من حكومة الرئيس الحريري، والعجز المالي المتتالي سببه سياسات الهدر للمال العام.
أما بخصوص الركائز والمبادىء المطروحة (1 و2):
انّ حل الترابط بين ميزانيات المصارف التجارية – الديون السيادية – ميزانية مصرف لبنان لا يعني سوى شطب هذه الالتزامات. وهذا يشير الى تَمويه اسلوب ما يسمّى بالإصلاح ويُخفي الشفافية المطلوبة في طرح الحلول. فمن غير الممكن حل هذا الترابط الا من خلال إلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية والوطنية تجاه المصارف ممّا ينطوي على ضرورة إلغاء كميات مماثلة من ودائع المودعين في المصارف، وكذلك شطب ديون الدولة لدى المصارف. المودع بنهاية المطاف هو من سيتحمّل مجمل التكلفة بحسب هذه الخطة.
انّ الشفافية المطلقة المذكورة في التقرير هي فقط ادّعاء وتهدف الى طمس الحقيقة والسير مع رغبة المؤسسات الدولية، الذي يثير الشك بما يُضمر للبنان.
ان تراتبية الحقوق عند استيعاب الخسائر المذكورة في الاستراتيجية هي إجراء استنسابي ويجب اولاً تحديد المسؤوليات وبدونها لن يكون هناك اية نتيجة إيجابية. انّ شطب أسهم المصارف يتعارَض مع اعادة رسملتها، كما انّ إلغاء الودائع والديون قد يحتّم اجراءات قانونية طويلة الامد مما سيزيد من تعثر الاقتصاد اللبناني.
ولا يتوجّب ان تتهم الحكومة المصارف بالهروب من مسؤولياتها مع العلم انّ الخطة تقضي على اموال المودعين وهذا ما تحافظ عليه المصارف. قد تستنفذ رؤوس اموال المصارف عندما تكون المصارف سبب الخسارة، وهذا هو المبدأ العالمي، وليس عندما تكون الدولة السبب.
أما حماية صغار المودعين في المصارف القابلة للاستمرار فهو افتراض استنسابي ايضا ومدمّر للاقتصاد اللبناني بسبب التمييز بين المودعين، اضافة الى انّ هذه الحماية لصغار المودعين لا تبقى سارية المفعول بعد 31 آذار 2022 كما ذُكر، فكيف سيُولد إجراء كهذا الثقة لدى المودعين؟ وايضا لا تتضمن الخطة مصادر لتعويض صغار المودعين وخاصة من لهم ودائع في المصارف التي ستخضع للتصفية. ان شطب الودائع لكبار المودعين سيقلّص القوة الشرائية وينتج عنه كساد عميق في جميع المرافق.
وتذكر الخطة انه «ينبغي ألا يستخدم دعم الحكومة لتغطية الخسائر…»، لكن هذا الافتراض مخالف لقانون النقد والتسليف الذي يُحَمل خسارة مصرف لبنان على عاتق الدولة. كما انّ الدستور اللبناني أيضا يوجِب الدولة الحفاظ على الأملاك المالية والحقيقية الخاصة. ان الاخلال بهذه القوانين سيعُرض للطعن في مجلس النواب. في جميع الدول التي واجهت أزمات مصرفية لعبت الحكومات الدور الرئيسي في تحمّل تكلفة الاصلاح والتعافي وحتى إذا لم تكن الحكومة هي الشريك الاساسي في الأزمة.
وبالنسبة الى ما يخص التطبيق فقد ذُكر إلغاء تعددية سعر الصرف الرسمي، اي ان الهدف هو الابقاء للسعر الرسمي الموحّد اضافة الى السعر الموازي. وهذا يعني الاستمرار باتّباع ازدواجية سعر الصرف، وتعود هذه الممارسة بأضرار على الاقتصاد.
وبخصوص حل المصارف غير القابلة للاستمرار فهذا من شأن مصرف لبنان وليس من اختصاص الحكومة. كما انّ اقتراحاتها لإعادة رسملة المصارف الخاصة ومصرف لبنان هي محاولة جوفاء لأنّ الخطة بحدّ ذاتها تقضي على مصادر التمويل، وليس للدولة القدرة على اصدار سندات سيادية لتعويم مصرف لبنان بعد شطب ديونها. اما رسملة المصارف من جزء من الودائع فهي فقط اعادة تصنيف لخصوم المصارف ولا توفّر رسملة حقيقية. ولا تؤكد الخطة وكيفية توفّر رأس المال الجديد الضروري للمصارف القابلة للاستمرار.
وفشلت الاستراتيجية في تحديد الخسائر التي تكبّدها المواطن لغاية الان. فلم يبق من الودائع بالليرة اللبنانية سوى أقل من 5 %، كما خسرت الودائع الدولارية مبالغ طائلة بسبب حسابها على سعر صرف وهمي. انّ مجموع الخسارات للقطاع الخاص والمواطن وغير المقيم قد تتعدى الـ 40 مليار دولار لحينه، اضافة الى البطالة واغلاق عدد كبير من المؤسسات الخاصة.
وختاماً، واقع الأمر انّ كل فقرة في هذه الاستراتيجية تثير الاستفهام والريبة، وفي جميع الحالات تفتقد الاستراتيجية الى التحليل واعطاء الدلائل والاثباتات لجميع الإجراءات المطروحة وكيف سيكون أثرها على الاقتصاد.
ان هذه الاستراتيجية يشوبها خلل كبير وسينتج عنها ركود عميق في الاقتصاد وفقدان الثقة لعقود مستقبلية. ولا داعي للحكومة بالدفاع عنها من خلال التهجّم على المصارف، فهذا يشير إلى فقدان المسؤولية والحكمة. التمويل المتوفّر من صندوق النقد سيكون محدودا جدا ولن نحصل على استمرارية التعافي بالاستناد الى خطته كونها تستهدف تحميل المواطن كل الاعباء، مما يثير الدهشة ويعطي الحافز للسلطة بالاستمرار في هدر الاموال وعدم تحمل المسؤولية.
يوجد حلول بديلة تعيد الثقة للاقتصاد، وأهمها:
– التحرير الكامل لسعر الصرف حالاً لجميع المعاملات المصرفية والاصول والخصوم المالية الاخرى.
– اعادة جدولة جميع الاصول والخصوم المالية بحسب ما كانت عليه قبل الازمة.
– تحرير السوق المالي والرأسمالي.
– تحقيق توازن في مالية الدولة خلال سنة واحدة.
– إنشاء شركات مساهمة لأهم مؤسسات القطاع العام وطرحها في بورصة بيروت مع وضع سقف على الاستملاك الفردي. وهذا يوفّر دخلا كبيرا للدولة يخوّلها إعادة التزاماتها وتحقيق التوازن في ماليتها. اما الصندوق السيادي فيحتاج لعقود للتعويض عن الخسائر.
– التوقف عن أخذ نصائح صندوق النقد الدولي، وهو المُعد لهذه الخطة، لحين تصور حل جدي للأزمة.
دكتور منير راشد