عندما يجتمع التضخم مع الركود الاقتصادي

تداولت وسائل الإعلام مصطلح (Stagflation)، ويعني التضخم المصحوب بالركود، وهو مصطلح تمت صياغته ليكون مرادفاً للزيادات المزدوجة في الأسعار، وفقدان الوظائف، وصور السيارات المصطفة في طوابير محطات البنزين. وبينما يشير المصطلح إلى الزيادة الحادة بالأسعار مع فقدان الوظائف، استخدم الاقتصاديون هذا المصطلح على نطاق أوسع إشارةً إلى الفترة التي يستمر فيها التضخم أعلى من هدف البنوك المركزية، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على النمو الاقتصادي.
وأعطى البنك الدولي صورة داكنة للاقتصاد العالمي في الفترة المقبلة في تقريره الصادر الأسبوع الماضي، وتوقع البنك أن يتراجع النمو العالمي إلى 2.9% في عام 2022، بعد أن بلغ 5.7% في عام 2021، كما يتوقع أن ينخفض مستوى دخل الفرد في الاقتصادات النامية هذا العام بنسبة 5%. وفي الاقتصادات المتقدمة، من المتوقع أن يتباطأ النمو من 5.1% إلى 2.6%، أما في الاقتصادات النامية والناشئة، فقد ينخفض النمو من 6.6% إلى 3.4%، وهو أقل بكثير من متوسط العقد الماضي والذي وصل إلى 4.8%. وتوقع البنك الدولي أن ينخفض التضخم العام المقبل، ولكنه سيبقى أعلى من مستهدفات التضخم في الكثير من الدول، وقد يؤدي استمرار التضخم إلى انكماش الاقتصاد العالمي. ومعدلات التضخم المرتفعة تضر بالاقتصاد لكونها تضغط على ميزانيات الأفراد والأسر مما يجعلها تقلل الإنفاق الاستهلاكي، مما يُضعف النشاط الاقتصادي ويبطئ من نمو الشركات (هذا إن نَمَت)، وكذلك تراجع أرباحها.
هذا هو التضخم الأكثر حدة منذ أربعة عقود، مما جعل الكثير يقارنونه بالركود الذي حدث في الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي، حيث تضاعفت معدلات البطالة في الولايات المتحدة وأوروبا، وبلغ التضخم حينها 14%. وتتشابه هذه الحالة مع السبعينات في ثلاثة جوانب رئيسية: الأول، هو الاضطرابات المستمرة في جانب العرض، وهو ما يغذّي التضخم بشكل واضح. هذا النقص تمثل في عدد من الأشكال، منها الجائحة وكيف أثرت على سلاسل التوريد العالمية، ومثالها الأقرب هو نقص الرقائق الإلكترونية. كذلك اضطراب إمدادات الطاقة بفعل الحرب الروسية الأوكرانية. ولعل ما جعل الكثير يربطون هذا الزمن بالسبعينات هو نقص إمدادات النفط آنذاك بفعل حظر عدد من الدول العربية للنفط، هذا الاضطراب شبيه لما أحدثته الحرب الروسية – الأوكرانية من هزة لأسواق الطاقة العالمية. السبب الثاني للتشبيه بالسبعينات هو السياسة النقدية التيسيرية التي تبعت الجائحة لتنشيط الاقتصادات المتقدمة، فسهّلت الكثير من الدول القروض بخفض أسعار الفائدة لتنشيط الاقتصاد بعد الجائحة، وأسهم ذلك في زيادة التضخم. أما الثالث فهو هشاشة بعض الأسواق الناشئة والتي تضررت بشكل كبير بفعل بسبب تشديد السياسة النقدية ورفع أسعار الفائدة.
وما يدعو للتفاؤل أن البنوك المركزية استفادت من دروس السبعينيات، فهي الآن تملك مستهدفاً واضحاً للتضخم بعكس السبعينات وتسعى للوصول لهذه المستهدفات من خلال سياساتها النقدية. كما أن الحكومات أصبحت أكثر قدرة بالمساهمة بتخفيف معدلات البطالة من خلال خلق استثمارات لتوفير الوظائف. والحكومات على استعداد للمكافحة حتى لا تصل إلى الحالة في السبعينات الميلادية حيث دخل الكثير من الدول في دوامات لسنوات طويلة لم يستطع بعضها حتى الآن في الخروج منها.
إن تخفيف ضغوط التضخم قد يكمن في حلّين رئيسين: الأول هو حل عقبات سلاسل التوريد والذي يقلل التكاليف على المنتجات والمواد الغذائية والوقود ويجعلها أكثر وفرة، وبالتالي أقل سعراً. ولا يبدو الحل لهذه العقبات في الأفق حتى الآن، فلا تزال الصين حتى الآن تعاني من تفشي فيروس «كورونا»، ولا يزال نقص الأيدي العاملة يشكّل تحدياً للموانئ والمخازن. ولذلك فإن البنوك المركزية لجأت إلى الحل الآخر وهو رفع سعر الفائدة لتقليل الطلب من الشركات والمستهلكين. وحتى الآن فقد رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة المستهدف مرتين، وأعلن عن رفعه لمرة ثالثة قبل أيام، ومن غير المستبعد أن يرفعه مرتين أخريين بنهاية هذا العام. وعلى الرغم من أنه حل مثبت للتحكم بسعر التضخم، فإن رفع سعر الفائدة بهذا الشكل قد يتسبب في القضاء على النمو والوصول إلى ركود، وهي معضلة قد يستعصي على بعض الحكومات حلها.

د. عبد الله الردادي

باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية

مصير المودعين في يد رَجُلٍ يقول «لا»

عندما قرّر المودعون، التحرّك للاعتراض على الجزئية المتعلقة بتوزيع الخسائر ضمن خطة التعافي، لم تكن المفاجأة التي تنتظرهم تتعلّق بصعوبة تغيير حرف مما كُتب فحسب، بل الأهم أنّهم اكتشفوا جميعاً، أنّ ما كُتب، كتبه رجل واحد أوحد، والباقون بصموا عليه. وهذا الرجل يقول «لا».

تواجه الخطة الاقتصادية التي وافق عليها مبدئياً صندوق النقد الدولي معارضة مُبرّرة من قِبل غالبية الأطراف، بعدما تبيّن انّ طريقة توزيع الخسائر ستؤدّي عملياً الى ثلاثة أمور:

 

اولاً- هدر حقوق كل المودعين عن المبالغ التي تفوق قيمتها الـ100 الف دولار.

 

ثانياً- إفلاس القطاع المصرفي من خلال شطب رؤوس الاموال بالكامل، ومن ثم شطب ودائع القيّمين على القطاع.

 

ثالثاً- الإبقاء على إدارة الدولة كما هي، والامتناع عن إشراك القطاع الخاص في مهمة الإنقاذ، بما يحرم البلد فرصة حقيقية للخروج من النفق.

 

هذه النتائج المباشرة، حاولت جهات عدة، جمعت المودعين والمصارف والهيئات الاقتصادية في خندق واحد، تغييرها، من خلال التحرّك في اتجاه الحكومة المسؤولة مبدئياً عن خطة الإنقاذ. كذلك حاول البعض التحرّك في اتجاه صندوق النقد للغاية نفسها.

 

ما كان مُذهلاً في هذا الموضوع، انّ كل الدروب التي سلكها المعترضون الساعون الى تعديلات في الخطة، والتي ترتكز على مبدأ إشراك الدولة في تحمّل المسؤولية، أودت بهم إلى عنوان واحد: مكتب نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي. حتى وزير المال، وهو عضو في اللجنة التي كلّفتها الحكومة وضع خطة التعافي والاتفاق في شأنها مع صندوق النقد، نفض يديه من الخطة، وقال لمن راجعه انّ الأب الروحي والفعلي للخطة هو سعادة الشامي، وعليهم إقناع هذا الرجل بأي تغيير يعتبرون انّه يساعد في التعافي بطريقة أفضل.

 

ومن خلال جمع المعلومات من مصادر عدة، تواصل أصحابها مع أعضاء في الحكومة، كان الجواب هو نفسه: الشامي هو من وضع الخطة، وهو من يرفض إدخال أي تعديل عليها. أكثر من ذلك، رئيس الحكومة نفسه نجيب ميقاتي بدا مستسلماً للأمر الواقع، وبدا وكأنّه لا يعرف بدقّة أبعاد الخطة، ونصح مراجعيه بالاتصال بالشامي.

 

قبل التطرّق الى مضمون الخطة، والى الجزئية التي يطالب المودعون والمصارف والهيئات الاقتصادية بتعديلها، لتكون ملائمة أكثر لمستقبل الاقتصاد في البلد، لا بدّ من القول انّ من غير الطبيعي، ومن غير الصحي أو المنطقي، أن يكون رجل واحد قرّر مصير الناس، من دون أن يملك أي طرف حق المطالبة بالتعديل والتصحيح. وهذا الأمر إن دلّ على شيء انما يدلّ إلى حجم الاهمال وقلة المعرفة واستسهال القرارات المصيرية، لدى السلطة التنفيذية بشكل عام. وهذا الوضع الاستهتاري المفرط، يفسّر ربما لماذا وصل لبنان إلى هذه الكارثة، من دون أن يتنبّه من يدير السلطة إلى الأمر.

 

انّ فكرة إنشاء صندوق سيادي يدير أملاكاً ومؤسسات عامة، لا يخدم تطلعات اللبنانيين في إعادة اموال المودعين فحسب، بل الأهم انّ إنشاء هذا الصندوق ضرورة وطنية تخدم مصالح كل اللبنانيين دون استثناء، ومن ضمنهم طبعاً غير المودعين، والذين لا علاقة لهم بموضوع إعادة الودائع بشكل مباشر. انّها مصلحة اقتصادية عامة يؤمّنها إدخال القطاع الخاص الى إدارة الملك العام. ونحن هنا لا نخترع البارود إذا فعلنا ذلك، لأنّ كل اقتصاديات الدول الحرة المزدهرة تستند إلى هذا المبدأ. الولايات المتحدة بعظمتها وثرواتها وقدراتها يديرها القطاع الخاص من الألف الى الياء، ودور السلطة فيها تنظيمي فقط.

 

انّها فرصة نادرة لكي نرفع الظلم عن البلد، من خلال رفع وصاية السلطة عن إدارة الاصول العامة، وإشراك القطاع الخاص الحيوي في المهمة، مع دور رقابي دقيق للدولة، بالتعاون مع مؤسسات دولية متخصّصة تضمن ان تتحول هذه الاصول من «مادة» شبه خاسرة أو مهملة، إلى مصدر انتاج للمال وللثروات يستفيد منها كل المواطنين. كما انّ هذه الاصول التي يقول البعض، سواء عن قصد وسوء نية، أو عن جهل وقلة معرفة، انّه لا يمكن التفريط بها لإعادة حقوق المودعين، سوف تتضاعف قيمتها مرات عدة، في سنوات قليلة، وسيدرك الناس الفرق بين ما عانوه طوال عقود من الإدارة الفاشلة، والتي ستستمر حتماً في فشلها، وبين ادارة ناجحة تجيد تكبير حجم الوزنات ومضاعفتها في فترة زمنية قصيرة. والحقيقة، وبصرف النظر عن ملف الحفاظ على حقوق المودعين، الصندوق السيادي ضرورة وطنية لا بدّ منها إذا كنا نريد الإنقاذ فعلاً. لكن المشكلة، انّ الجميع قد يقتنعون، المودع منهم وغير المودع، بفكرة الصندوق السيادي، لكن من يستطيع إقناع سعادة الشامي بالتعديل المطلوب؟

انطوان فرح