عندما قرّر المودعون، التحرّك للاعتراض على الجزئية المتعلقة بتوزيع الخسائر ضمن خطة التعافي، لم تكن المفاجأة التي تنتظرهم تتعلّق بصعوبة تغيير حرف مما كُتب فحسب، بل الأهم أنّهم اكتشفوا جميعاً، أنّ ما كُتب، كتبه رجل واحد أوحد، والباقون بصموا عليه. وهذا الرجل يقول «لا».
تواجه الخطة الاقتصادية التي وافق عليها مبدئياً صندوق النقد الدولي معارضة مُبرّرة من قِبل غالبية الأطراف، بعدما تبيّن انّ طريقة توزيع الخسائر ستؤدّي عملياً الى ثلاثة أمور:
اولاً- هدر حقوق كل المودعين عن المبالغ التي تفوق قيمتها الـ100 الف دولار.
ثانياً- إفلاس القطاع المصرفي من خلال شطب رؤوس الاموال بالكامل، ومن ثم شطب ودائع القيّمين على القطاع.
ثالثاً- الإبقاء على إدارة الدولة كما هي، والامتناع عن إشراك القطاع الخاص في مهمة الإنقاذ، بما يحرم البلد فرصة حقيقية للخروج من النفق.
هذه النتائج المباشرة، حاولت جهات عدة، جمعت المودعين والمصارف والهيئات الاقتصادية في خندق واحد، تغييرها، من خلال التحرّك في اتجاه الحكومة المسؤولة مبدئياً عن خطة الإنقاذ. كذلك حاول البعض التحرّك في اتجاه صندوق النقد للغاية نفسها.
ما كان مُذهلاً في هذا الموضوع، انّ كل الدروب التي سلكها المعترضون الساعون الى تعديلات في الخطة، والتي ترتكز على مبدأ إشراك الدولة في تحمّل المسؤولية، أودت بهم إلى عنوان واحد: مكتب نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي. حتى وزير المال، وهو عضو في اللجنة التي كلّفتها الحكومة وضع خطة التعافي والاتفاق في شأنها مع صندوق النقد، نفض يديه من الخطة، وقال لمن راجعه انّ الأب الروحي والفعلي للخطة هو سعادة الشامي، وعليهم إقناع هذا الرجل بأي تغيير يعتبرون انّه يساعد في التعافي بطريقة أفضل.
ومن خلال جمع المعلومات من مصادر عدة، تواصل أصحابها مع أعضاء في الحكومة، كان الجواب هو نفسه: الشامي هو من وضع الخطة، وهو من يرفض إدخال أي تعديل عليها. أكثر من ذلك، رئيس الحكومة نفسه نجيب ميقاتي بدا مستسلماً للأمر الواقع، وبدا وكأنّه لا يعرف بدقّة أبعاد الخطة، ونصح مراجعيه بالاتصال بالشامي.
قبل التطرّق الى مضمون الخطة، والى الجزئية التي يطالب المودعون والمصارف والهيئات الاقتصادية بتعديلها، لتكون ملائمة أكثر لمستقبل الاقتصاد في البلد، لا بدّ من القول انّ من غير الطبيعي، ومن غير الصحي أو المنطقي، أن يكون رجل واحد قرّر مصير الناس، من دون أن يملك أي طرف حق المطالبة بالتعديل والتصحيح. وهذا الأمر إن دلّ على شيء انما يدلّ إلى حجم الاهمال وقلة المعرفة واستسهال القرارات المصيرية، لدى السلطة التنفيذية بشكل عام. وهذا الوضع الاستهتاري المفرط، يفسّر ربما لماذا وصل لبنان إلى هذه الكارثة، من دون أن يتنبّه من يدير السلطة إلى الأمر.
انّ فكرة إنشاء صندوق سيادي يدير أملاكاً ومؤسسات عامة، لا يخدم تطلعات اللبنانيين في إعادة اموال المودعين فحسب، بل الأهم انّ إنشاء هذا الصندوق ضرورة وطنية تخدم مصالح كل اللبنانيين دون استثناء، ومن ضمنهم طبعاً غير المودعين، والذين لا علاقة لهم بموضوع إعادة الودائع بشكل مباشر. انّها مصلحة اقتصادية عامة يؤمّنها إدخال القطاع الخاص الى إدارة الملك العام. ونحن هنا لا نخترع البارود إذا فعلنا ذلك، لأنّ كل اقتصاديات الدول الحرة المزدهرة تستند إلى هذا المبدأ. الولايات المتحدة بعظمتها وثرواتها وقدراتها يديرها القطاع الخاص من الألف الى الياء، ودور السلطة فيها تنظيمي فقط.
انّها فرصة نادرة لكي نرفع الظلم عن البلد، من خلال رفع وصاية السلطة عن إدارة الاصول العامة، وإشراك القطاع الخاص الحيوي في المهمة، مع دور رقابي دقيق للدولة، بالتعاون مع مؤسسات دولية متخصّصة تضمن ان تتحول هذه الاصول من «مادة» شبه خاسرة أو مهملة، إلى مصدر انتاج للمال وللثروات يستفيد منها كل المواطنين. كما انّ هذه الاصول التي يقول البعض، سواء عن قصد وسوء نية، أو عن جهل وقلة معرفة، انّه لا يمكن التفريط بها لإعادة حقوق المودعين، سوف تتضاعف قيمتها مرات عدة، في سنوات قليلة، وسيدرك الناس الفرق بين ما عانوه طوال عقود من الإدارة الفاشلة، والتي ستستمر حتماً في فشلها، وبين ادارة ناجحة تجيد تكبير حجم الوزنات ومضاعفتها في فترة زمنية قصيرة. والحقيقة، وبصرف النظر عن ملف الحفاظ على حقوق المودعين، الصندوق السيادي ضرورة وطنية لا بدّ منها إذا كنا نريد الإنقاذ فعلاً. لكن المشكلة، انّ الجميع قد يقتنعون، المودع منهم وغير المودع، بفكرة الصندوق السيادي، لكن من يستطيع إقناع سعادة الشامي بالتعديل المطلوب؟
انطوان فرح