الاستثمار الأكثر أماناً… لم يعد كذلك

في عام 2007، وبعد عامين من انتقال ملكية أسهم والدها إليها، أصبحت الصينية يانغ هيوان أغنى امرأة في آسيا وهي لا تزال ابنة 26 ربيعاً. وتمكنت يانغ من إدراج شركتها العقارية «كانتري غاردن» في سوق هونغ كونغ ورفعت بعدها القيمة السوقية للشركة من 19 مليار دولار عام 2007 إلى أكثر من 46 مليار دولار عام 2018، وذلك بفضل النمو المطّرد لقطاع العقار الصيني. ولكن الوضع لم يستمر على حاله ليانغ، فقطاع العقار الصيني تعرض لهزة عنيفة خلال العام الماضي، تسببت في خسارة يانغ أكثر من نصف ثروتها البالغة 23.7 مليار دولار، لتصل الآن إلى 11.3 مليار. خسارة ملياردير لنصف ثروته خلال عام واحد ليست بالحدث البسيط، وهي ناتج لأزمة عميقة في قطاع العقار الصيني، فكيف حدثت هذه الأزمة لقطاع يعدّه الكثيرون الاستثمار الأكثر أماناً؟ وما تبعات هذه الأزمة على بقية العالم؟
نمو الاقتصاد الصيني أدى إلى زيادة الطبقة المتوسطة، وهو ما رفع الطلب على المنتجات العقارية، ونتيجة لذلك زاد نشاط الشركات العقارية التي اتبعت نموذج عملٍ متهور هو أحد أسباب الأزمة اليوم. فكانت هذه الشركات تشتري الأراضي الشاسعة بسعر باهظ، ومن ثم تبيع المساكن للعملاء قبل البدء بأعمال البناء. وتُموّل هذه الشركات المشاريع من الدفعات الأولى للمشترين ومن القروض الميسّرة من البنوك. هذا النموذج زاد ديون الشركات العقارية وبالتالي زيادة معدل الخطر فيها، ولذلك، وعندما التفتت الحكومة الصينية إلى هذا السلوك الخطر بداية هذا العام وقررت إيقاف الديون الميسّرة على هذه الشركات وتحديد سعة ديونها، دخلت هذه الشركات في دوامة تسببت في عجز الكثير منها عن سداد ديونها، لتصل الديون المتعثرة لدى البنوك الصينية اليوم إلى أكثر من 430 مليار دولار.
الأثر الواقعي لهذه الأزمة كان إيقاف الأعمال على الكثير من المنشآت السكنية في الصين، وهو أمر أدركه المشترون، فقرروا قبل عدة أسابيع عدم سداد أقساط المساكن كنوع من الاحتجاج على الوضع الراهن، وهو ما فاقم أزمة الشركات التي لم تعد تجد السيولة الكافية لتسيير أعمالها وسداد ديونها. وما حدث لـ«كانتري غاردن» هو أمر مشابه لذلك، فلم تستطع الشركة الاقتراض من البنوك، ولم يشفع لها أن مالكتها هي أغنى امرأة في آسيا، ولذلك قررت الشركة بيع نسبة من الأسهم بسعر مغرٍ للحصول على سيولة تبلغ 343 مليون دولار، ولكن هذا الإجراء أكد للسوق أن الشركة لا تملك السيولة لتسيير أعمالها وسداد ديونها، فانخفض سعر السهم بنحو 15 في المائة، وانخفضت قيمة الشركة بـ1.7 مليار دولار في يوم واحد.
وقطاع العقار له نسبة لا يستهان بها في الناتج المحلي الصيني، فنسبته تشكل ما بين 18 و30 في المائة منه، أي أن ربع الناتج المحلي الصيني (في المتوسط) من قطاع العقار. والعالم لم ينسَ بعدُ كارثة 2008 المالية التي لم تختلف مسبباتها كثيراً عن الحال في الصين، وعلى الرغم من أن الأزمة الحالية قد لا تتفاقم إلى أزمة عالمية، حسب آراء الخبراء، فإن أثرها قد لا يكون بسيطاً في العالم بأسره، فحينما يتأثر قطاع حجمه يقترب من 4 تريليونات دولار، فإن العالم سيتأثر بلا أدنى شك من هذا التأثر. ويبدو أن الحكومة الصينية أدركت أن أثر احتجاجات الملّاك بعدم الدفع قد يزيد الوضع سوءاً، ولذلك فقد أعلنت عن حزم مساعدات للقطاع العقاري بنحو 44 مليار دولار على عدة مراحل، وهو أمر يصب في مصلحتها بشكل مباشر.
إن خسارة يانغ لنصف ثروتها ما هو إلا رمز على عمق أزمة الديون في العالم، وأزمة العقار في الصين بشكل خاص. وهو دليل على أن الاستثمارات المعتمدة على الديون بشكل كامل هي استثمارات خطرة على الاقتصاد، والدليل أن الأزمة الحالية هي أزمة لقطاع يعد أحد أكثر القطاعات أماناً من الناحية الاستثمارية، وأثره السلبي كان على ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وهو إثبات على أن نفس الأثر قد يحدث على أي اقتصاد في العالم، ولأي استثمار يستند إلى الديون بشكل كلي. وها هي صورة يانغ أصبحت رمزاً لانهيار العقار، بعد أن كانت مثالاً للمرأة الآسيوية الناجحة.

د. عبد الله الردادي

السياسة النقدية والسيادة اللبنانية: هل الدولرة الشاملة بعد الفوضى الشاملة؟

أصعب ما تشهده السياسة النقدية في لبنان يكمن في ثلاثية الضغوط التي تسببّت منذ سنوات وتحديدًا بشكل متفاقم منذ العام 2011، بتكبيل المصرف المركزي وتضييق هامش القرار فيه بين انهيار السياسة المالية للحكومات المتعاقبة وغياب إقرار الموازنات، وخصوصاً قطع الحسابات واللجوء للتمويل المباشر من مصرف لبنان حتى اليوم، والتمسّك بنظام سعر الصرف المبني على ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي بنفس المستوى، أيًا يكن وضع ميزان المدفوعات، واستمرار الاستيراد على أساسه لسنوات، واستمرار تقديم سلفات خزينة خصوصاً منها للكهرباء على أساسه… فضلًا عن ضغط الدولرة الجزئية التي تحكم المصرف المركزي بتثبيت سعر الصرف نظرًا للتداول بالعملتين في الأسواق… اليوم بعد سقوط نظام ربط سعر الصرف من الطبيعي أن يعتقد البعض أنّ البديل هو تحرير سعر الصرف. إلّا أنّ هذا الخيار مستحيل في ظل ارتفاع الدولرة الجزئية التي تتطوّر لتصبح رسميًا.. فكانت ردة فعل السوق فرض الدولرة كأمر واقع ولو بشكل فوضوي بغياب القرار الرسمي…ما هي أبرز التحدّيات لاتخاذ القرار وإشكالية السيادة في السياسة النقدية؟ وكيف الهروب عبر ترك الدولرة الشاملة تتحقق كأمر واقع؟

من الملفت في الأدبيات الاقتصادية الحديثة التي تناولت لبنان، مقالة علمية للاقتصادي المتخصّص بالدولرة، لا سيما في البلدان النامية، جان فرنسوا بونسوJean Francois Ponsot (2019)، الذي صنّف لبنان للمرة الأولى في سلسلة مقالاته، ضمن خانة البلدان التي تتسّم بالدولرة الرسمية ولو الجزئية… فيما أكثرية القراءات تتجّه اليوم لاعتبار لبنان على طريق الدولرة غير الرسمية، والتي قد تصبح شاملة، بعد تزايد نسبتها في الأسواق والقطاعات يومًا بعد يوم، وتقبّل لا بل المطالبة بسيطرة الدولار في السوق، إن من حيث التسعير أو التداول والدفع، فضلًا عن عملة الإدخار…

 

سياسيًا، في لبنان وفي بعض البلدان النامية التي شهدت ميلًا نحو الدولرة تدريجيًا، يشكّل هاجس «السيادة الاقتصادية» لدى السلطات الرسمية نوعًا من الـ Tabou في اتخاذ القرار رسميا بشأن الدولرة كـ»نظام الربط الصارم» لسعر صرف العملة الوطنية، بعد الوصول إلى لحظة اللارجوع في افتقاد الثقة بالسياسات الاقتصادية التي تعكسها قيمة العملة الوطنية.. وذلك بعد سقوط حتى نظام التثبيت، من خلال نظام الربط المرن للعملة الوطنية بعملة أجنبية دولية مثل الدولار، في ظل دولرة جزئية ناتجة من تجربة تضخّم مفرط وانهيار سعر الصرف…

 

سياسيًا، صحيح أنّ العملة الوطنية الخاصة بكل بلد لها رمزية ودلالة على استقلال وسيادة اقتصادية، مثلها مثل وجود علم ونشيد وطني للبلد المعني… إلّا أنّ الأدبيات العملية وتجارب البلدان، أظهرت أنّ الدولرة الشاملة ما هي إلّا نظام ربط صارم Hard Peg يتمّ الوصول إليه كأمر واقع، بعد صعوبة تأمين الاستقرار النقدي، حتى عبر الربط المرن Soft Peg في ظل دولرة جزئية وانعدام الثقة لدى العملاء الاقتصاديين… وبالتالي، على الرغم من صعوبة اتخاذ القرار باعتماد «عملة أجنبية» رسميًا إلى جانب أو ربما مكان العملة الوطنية، إلّا أنّ «غياب القرار» لا يلغي واقع أنّ العملة الجيّدة تطغى على العملة الضعيفة» عند تواجدها في نفس السوق La bonne monnaie chasse la mauvaise monnaie

المصدر: Ponsot, J. F. (2019). Économie politique de la dollarisation. Mondes en développement, 188(4), 51-68.

 

 

السلطات الرسمية تعرف تمامًا أنّه في ظل دولرة جزئية مرتفعة لا يمكن اللجوء إلى تحرير سعر الصرف واعتماد «النظام العائم» لسعر الصرف، لأنّ كل الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية أثبتت أنّ هكذا خيار هو الأخطر على اقتصاد البلد المعني، حيث السوق يتّسم فقط بالطلب على الدولار دون أي طلب على العملة الوطنية.. مما يجعل من المستحيل توقّع مستوى التوازن في تلاقي العرض والطلب لتحديد سعر صرف حقيقي مقبول في السوق، يضمن صمود العملة الوطنية…

 

وقد أظهرت مجمل الدراسات حول الدولرة منذ السبعينات والثمانينات، أنّ الدولرة في الاقتصادات النامية ترافقت مع عملية تفكّك نقدي، كان التضخم المفرط هو الشكل الأكثر شيوعاً. وتميل التحليلات الأخيرة إلى التركيز على قضية الدولرة الشاملة، والتي لا يتمّ تفسيرها على أنّها تمحو المخاوف المتعلقة بالتضخم المفرط وفوضى التسعير والتداول في الأسواق… وتتعارض الدولرة بحكم الواقع، أو غير الرسمية، مع الدولرة القانونية أو الرسمية.. إذ تتوافق الدولرة الواقعية مع الوضع الذي يستخدم فيه العملاء الاقتصاديون العملة الأجنبية، على الرغم من عدم وجود غطاء قانوني. إنّه خيار عفوي يأتي من اختيار القطاع الخاص.

 

فيما تتميّز الدولرة الرسمية بحكم القانون، مع الوضع الذي يتمّ فيه الاعتراف رسميًا باستخدام العملات الأجنبية من قِبل السلطات.. إنّها دولرة مؤسسية تعكس اختيار السلطات العامة. ولكن يُلاحظ عادة، أنّ معظم التحليلات لا تحترم هذا التمييز. هناك اتجاه يتمّ الخلط فيه عموماً بين الدولرة الجزئية والدولرة الواقعية والدولرة الكاملة مع الدولرة الرسمية.

 

وهناك نوعان من الدولرة الرسمية يمكن تحديدهما من جانب واحد، عن طريق استبدال عملة وطنية بعملة أجنبية بحتة. وببساطة من خلال منح هذه الأخيرة سلطة تحرير غير محدودة في كل أنحاء البلاد، أو اختفاء العملة المحلية أو اختزالها بأدوار محدّدة (دفع الضرائب، رواتب القطاع العام، رسوم المعاملات الرسمية…). في تعميق التمييز المزدوج بين: الدولار الجزئي والدولار الكامل من جهة؛ ومن ناحية أخرى، الدولرة بحكم الواقع والدولرة (الرسمية) القانونية، من المهم الإشارة إلى معيارين للتمييز: المعيار الأول، يتعلّق بدرجة تغلغل معدل الدولرة في الممارسات النقدية للبلد المعني، فيما المعيار الثاني يتعلّق بدرجة إضفاء الطابع الرسمي أو المأسسة على دولرة الاقتصاد. ويؤدي الجمع بين معياري التمايز إلى أربعة أنظمة قياسية للدولرة.

 

أما هروب المؤسسات الرسمية من اتخاذ القرار بالدولرة الشاملة تحت راية «السيادة النقدية والاقتصادية» فما هو الّا مسألة وقت بانتظار «الإقرار» بخيار السوق فرض الدولرة الشاملة كأمر واقع، في ظلّ فوضى عارمة بين الأسواق والقطاع والتعامل بين المواطنين وانهيار الاستقرار الاجتماعي نتيجة الهوة وقلة العدالة الاجتماعية التي تنتج من «حرمان» جزء من الموظفين من العملة الصعبة، فيما جزء آخر من المواطنين «يتمتع» بالحصول عليها وفرض التسعير والتداول بها و»تهميش» كل من لا يملكها، أو يملك ما يوازيها وفق سعر السوق الموازي، من إمكانية الحصول على أبسط الأساسيات (بنزين ودواء وتغطية صحية وطبابة وتعليم ولباس.. وحتى غذاء، متى اشتدت الأزمة).

 

في الوقت عينه، تحقّق الكثير من الشركات والمؤسسات الأجنبية والمحلية مردودًا بالعملة الأجنبية واضحًا في عقودها (من شركات الاستيراد والتصدير والتأمين وإعادة التأمين ومكاتب السفر والشركات العاملة في المطار والمرفأ والمؤسسات المالية الدولية ومكاتبها في لبنان، والمنظمات الدولية ذات الموازنات بالعملات الأجنبية والرواتب بالعملات الأجنبية…)، وهي لا تزال تسدّد الضرائب للدولة اللبنانية بالعملة الوطنية وعلى أساس سعر صرف رسمي.. مع كل ما يشكّل ذلك من خسارة إيرادات محقّة للدولة، كان يمكنها استخدامها لتغطية تكاليفها بالعملة الأجنبية وجزء من رواتب القطاع العام بالعملة الصعبة، لو يتمّ الاعتراف بالدولار الأميركي كعملة رسمية للتسعير والتداول وتسديد الضرائب المحقّة لخزينة الدولة، في أكثر وضع اختناقًا لماليتها وإضرب مفتوح لموظفيها!

 

علماً أنّ لبنان وقبل الأزمة الحالية وبعد الأزمة النقدية في الثمانينات، يشهد دولرة جزئية مرتفعة لم تتراجع حتى طيلة فترة 22 عامًا من تثبيت سعر الصرف، مما يدلّ إلى صعوبة استعادة الثقة في أكثر الفترات استقرارًا على جميع الصعد، فكيف بالحري اليوم؟ ولذلك تمّ مطلع التسعينات إنشاء غرفة مقاصة للشيكات بالدولار إلى جانب المقاصة للشيكات بالليرة اللبنانية، كما كانت تجري عملية تعبئة الصرافات الآلية بالدولار الأميركي إلى جانب الليرة اللبنانية، لا بل كان يُسمح للمودعين إجراء التحويلات أوتوماتيكيًا بين العملتين وسحب المبلغ المطلوب ورقيًا عبر الصرافات الآلية دون رقيب أو حسيب أو سقوف تحول دون «تنشيف» السوق من «الدولار الورقي» وجعلها مادة سهلة للمضاربة في السوق السوداء في أي «ساعة صفر»…

 

كل الخيار اليوم محصور بين تنظيم الانتقال التدريجي باتجاه الدولرة الشاملة وفق خارطة طريق (سبق نشرها في صحيفة «الجمهورية» بالذات بتاريخ 11 أيار 2022) مما يوفّر على لبنان ومواطنيه عناء الفوضى، وبين «غياب قرار» وترك الأسواق تفرض الأمر الواقع للإقرار به لاحقاً، بعد صراع اجتماعي لا يمكن تحديد مداه ومخاطره مسبقًا بين الشرائح التي يصلها الدولار، وتلك التي تختنق لافتقاده ويضيق حالها بالوصول لأبسط حقوقها المعيشية اليومية وعلى رأسها حق الطبابة المدولرة كليًا اليوم…

 

يبقى القول إنّ السياسة النقدية هدفها الأساس تأمين الاستقرار في قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية، مما يتطلّب استقلالية المصرف المركزي، لاسيما تجاه السلطة المالية، للتحرّر من مخاطر الضغط عليه لطباعة العملة الوطنية وتمويل عجز الخزينة ومديونيتها.. ولكن، في ظلّ تكبيل السياسة النقدية بالسياسة المالية وتفادي غياب القرار بشأن نظام سعر الصرف، لا يبقى من هامش تحرّك بالأدوات التقليدية لتأمين الاستقرار النقدي.. فهل تكون مسألة وقت فقط للاعتراف رسميًا بالدولرة الشاملة بعد الفوضى الشاملة؟

د. سهام رزق الله