نظرة على بريطانيا ما بعد «بريكست»

انتهى عهد بوريس جونسون لكن الاضطرابات بدأت لتوها. للمرة الثالثة في أقل من عقد من الزمان، أدت أزمة في قيادة حزب المحافظين إلى الإطاحة برئيس الوزراء من منصبه. ففي حين جرى إسقاط أسلافه بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فقد انهار عهد جونسون بسبب سلسلة من الأزمات، بعضها، مثل نقص العمالة وارتفاع تكاليف المعيشة، كان ماديا، والبعض الآخر، ولا سيما قرار جونسون التغلب على الوباء، كان أخلاقيا. في النهاية، كانت المشكلة في الأساس انتخابية وتمثلت في سلسلة من الهزائم واستطلاعات الرأي البائسة التي أقنعت المشرعين المحافظين بأن قوة الجاذبية الانتخابية لجونسون قد انتهت.
ورغم ذلك، من غير المرجح أن يقدم المرشحان اللذان يتنافسان على استبداله أي بديل أفضل. فقد خدم كلاهما في حكومة جونسون – ريشي سوناك كوزير للخزانة، وليز تروس كوزيرة للخارجية – وهما متورطان، بشكل مباشر أو عن طريق الجمعيات، في الفضائح التي أسقطته. والأكثر أهمية أن أيا منهما عرض أي فكرة عن كيفية التعامل مع المشاكل الهيكلية لبريطانيا، سواء بتقديم تخفيضات في الضرائب أو في الإنفاق. لذلك، بالنسبة للدولة، كلا الخيارين سيئ. ولذلك فالفوضى في الأشهر الأخيرة لم تبارح مكاناها.
لكن استقالة جونسون ستساهم في وضع نهاية لشيء ما أيضا. لما يقرب العامين بعد انتخابه في ديسمبر (كانون الأول) 2019، تمتعت البلاد بفترة من السلم الاجتماعي النسبي والاستقرار السياسي. مدعومة بقرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإطلاق التطعيمات الناجحة لـ«كوفيد 19»، أحرزت الحكومة تقدما كبيرا على معارضة حزب العمال الضعيفة والمحبطة. علاوة على ذلك، بدا أن الدولة – في الفضاء الزمني الغريب والوباء – قد تضافرت جهودها. ففي هذه الفترة القصيرة البينية التي خلت فيها البلاد من رئيس للوزراء بدا أن بريطانيا، التي يغذيها حس الدولة القومية، كانت تعود إلى الحياة من جديد.
لكن هذا لم يعد موجودا. ففي ظل الركود الاقتصادي، والانقسام الاجتماعي، والانحراف السياسي، يجري تقليص حجم البلاد. فقد انتهى وهم وخيال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المتمثل في إنعاش بريطانيا، وتحررها من قيود أوروبا وقدرتها على تأكيد نفسها بثقة في الداخل والخارج.
على الرغم من إفساح المجال الآن لكابوس مألوف، بدا هذا الخيال لفترة من الوقت يسود البلاد. فقد جرى التقاط الشعور الثقافي والعاطفي الغريب لمذهب جونسون من خلال اثنين من أكثر البرامج الإذاعية مشاهدة في التاريخ البريطاني، وكلاهما حدث خلال فترة ولايته. الأول كان خطاب جونسون للأمة في 23 مارس (آذار) 2020، حيث أعلنت حالة الإغلاق الوطني. والثاني كان نهائي يورو 2020، حيث حظيت إنجلترا بفرصة واقعية للفوز على إيطاليا، في 11 يوليو (تموز) 2021. كلا الحدثان شهده عشرات الملايين من الناس وكانا سببا في ظهور لحظات من الحس الوطني. كلاهما أنذر بتعليق الحياة الطبيعية باسم النضال الوطني، وهي تجربة ارتبطت بشكل غامض بالذكريات الشعبية للحرب العالمية الثانية.
الهدوء المخيف للإغلاق – بشوارعه الفارغة، والرحلات للاستمتاع بالحياة البرية – كان يقابله هوس الحشود المكسوة بالأعلام والسكر والهذيان التي تتجول في الشوارع التجارية الفارغة وتردد بحماس، «عدنا إلى البيت» (عودة الجنود إلى ديارهم) كانت لحظات قومية واضحة، لكن الحدثين غير متطابقين. كان أحدهما يمثل القومية من أعلى إلى أسفل، والآخر على مستوى القواعد الشعبية. أحدهما كان «بريطانيا» القومية المؤسسية، والآخر «إنجليزيا» بلهجات أكثر بروليتارية. ومع ذلك فقد صنعا معا لفترة وجيزة شعورا بالأمة.
كانت بالطبع لحظات قومية شهدت وفاة عشرات الآلاف من كبار السن البريطانيين في المستشفيات جراء الوباء الذي اجتاح البلاد بسبب التأخير في إعلان الإغلاق. ارتفع استخدام بنوك الطعام إلى أعلى مستوياته، حيث تلقى أكثر من 2.5 مليون شخص طرودا تحوي طعاما. وبحلول نهاية عام 2020، شهدت تسع من كل 10 أسر متدنية الدخل تدهورا خطيرا في دخلها، وتضاعفت نسبة الأشخاص الذين أبلغوا عن اكتئاب وقلق كبير إكلينيكيا ثلاث مرات، حيث ارتفعت من 17 في المائة إلى 52 في المائة. ومع ذلك، نجح مشروع الوحدة الوطنية غير المستقر، المدعوم بالإنفاق العام الهائل لإدارة الوباء، لفترة وجيزة: تقدم المحافظون في استطلاعات الرأي وكانوا بمنأى عن الفضائح والاستياء.
في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، بدأ الاستقرار يتزعزع. بدأ نقص الوقود، الناجم عن ندرة سائقي شاحنات الوقود، ليساهم في تراجع شعبية ودعم جونسون. في ديسمبر (كانون الأول)، طفت على السطح أولى روايات عن إقامة حفلات غير قانونية في 10 داونينغ ستريت، المقر الرسمي لرئيس الوزراء. وبحلول فبراير (شباط)، أدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى الضغط على مستويات المعيشة، وزاد الطلب المتزايد على بنوك الطعام. عانت المستشفيات – التي تعاني من ضغوط ونقص في التمويل في الأساس – في ظل تراكم أعداد المرضى لتبلغ حوالي ستة ملايين مريض، وألغت المطارات التي تعاني من نقص الموظفين الرحلات الجوية. في «وستمنستر»، تحولت الأزمة التي عمت البلاد إلى صخب متزايد يرغب في إزاحة جونسون، الذي تشبث بمكانه لبعض الوقت، لكن بحلول منتصف الصيف، انتهى الأمر.
يتجه الاقتصاد الآن صوب فترة سيئة: فأسعار الطاقة المرتفعة، والتضخم الجامح، والصادرات المتعثرة، وارتفاع أسعار الفائدة، بحسب تعبير الخبير الاقتصادي دنكان ويلدون، شكلت في النهاية «عاصفة رعدية». وردا على ذلك، وعدت السيدة تروس، المرشحة لتحل مكان جونسون، بخفض الضرائب – التي يتعين دفعها عن طريق تأجيل سداد الديون بدلا من خفض الإنفاق. وعلى النقيض من ذلك، سيستمر السيد سوناك على المدى القصير في سياسته الحالية المتمثلة في زيادة الضرائب مع الإشارة إلى أن تخفيضات الإنفاق تسير على الطريق الصحيح. لا يمكن لأي من المقاربتين، من اليمين المحافظ أو الخزانة، معالجة الأسباب الكامنة وراء أزمة تكلفة المعيشة بسبب الافتقار إلى الأفكار.
قد يكون الرضا عن النفس هنا أمرا قاتلا. فالتيارات المعارضة، التي احتوتها تعويذة جونسون، عاودت الظهور تدريجيا حيث تستعد اسكوتلندا مرة أخرى لإجراء استفتاء على الاستقلال، ومن المفترض أن يجري ذلك في أكتوبر (تشرين الأول) القادم. وفي إيرلندا الشمالية، أصبح الحزب الجمهوري الحزب الأكبر، مما أضعف المؤسسة الوحدوية. وفي إنجلترا، اندلعت موجة من الإضرابات ذات المغزى الرمزي – في السكك الحديدية ومراكز الاتصال والمطارات – مما أعطى الأمل للعمال الذين شهدوا انخفاض مستويات معيشتهم لأكثر من عقد من الزمان. وبلغ مستوى الرضا عن الحكومة أدنى مستوياته منذ ثلاث سنوات، ولم يعد هناك زعيم محتمل قادر على إلهاب حماس الجماهير، وأخذ حزب المحافظين البريطاني في التفكك.
لكن ما هي بريطانيا؟ يقول المؤرخ ديفيد إدجيرتون إن الأمة البريطانية لم تكن موجودة إلا لبضعة عقود بعد الحرب العالمية الثانية. حتى ذلك الحين، كانت الهوية البريطانية عالمية، مرتبطة بإمبراطوريتها. وقد أصبحت أمة فقط في سنوات ما بعد الحرب، عندما جرى تنظيم الرأسمالية من قبل الدولة وحظي المواطنون بالرفاهية «من المهد إلى اللحد». منذ ذلك الحين، مع مبيعات الصناعات الوطنية وتبوؤ لندن مركز الصدارة، أصبحت بريطانيا مجرد مركز الشركات متعددة الجنسيات، مجردة من أي صدى اجتماعي أو مدني واسع. كانت الأمة البريطانية النائمة في حقبة ما بعد الحرب هي التي كان من المفترض أن تعيد إحياء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يمثل خروج جونسون، المشجع الأكثر سحرا لبريكست، نهاية لهذا الخيال. وها هي قد جاءت الأزمة التي لا لبس فيها ولا حدود لها.

ريتشارد سيمور

إقرار قوانين مرجوّة مفرّغة من مضامينها

تابعنا أخيراً الجلسة التشريعية الأولى لمجلس النواب المنتخب الجديد، لإقرار القوانين المرجوة، داخلياً، إقليمياً ودولياً، من قِبل المجتمعات الدولية. وشهدنا «نكهة» التعاطي في المجلس النيابي الجديد وتوقعاتنا عن أدائه للسنوات الأربع المقبلة.

علينا ألاّ ننسى أو نتناسى أنّ هذه الجلسة الأولى التشريعية للمجلس النيابي المنتخب أخيراً، جاءت من بعد أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخ العالم، والتي يشهدها لبنان راهناً. وجاءت من بعد أكبر ثالث إنفجار في العالم، حيث نمرُّ في ذكراه السنوية الثانية، وجاءت بعد هذا التفجير الإرهابي الكارثي الذي دمّر العاصمة اللبنانية بيروت ومحيطها.

 

هذا الإجتماع التشريعي، جاء أيضاً من بعد أكبر أزمة صحية عالمية وهي جائحة كورونا، والتي ضربت معظم إقتصادات المنطقة والعالم، وغيّرت كل المعايير والتوازنات. فيما نشهده اليوم أنّ العالم من حولنا، والمنطقة، والبلدان والاقتصادات والشركات، وحتى الأشخاص، يتغيّرون كي يُواكبوا هذا التغيير الإقليمي والدولي، ولا سيما حيال الشق الاقتصادي والانمائي، والمالي والنقدي.

 

المؤسف المبكي، أنّه بعد هذه الكوارث الداخلية والدولية، والتغيّرات المُوجبة، تغيّر العالم لكن لم يتغيّر شيء في لبنان، لا بالأشخاص ولا بالتعاطي، ولا بالاستراتيجيات المدمّرة ذاتياً. لا بل بالعكس، تراجع أشواطاً إلى الوراء، كأنّه لم يحصل شيء. فهذا الحوار القديم الجديد ضرب مرة أخرى آمالنا ورؤيتنا ونيتنا باستعادة الإنماء والتنمية.

 

فكل الأنظار الدولية كانت مركّزة على هذا الإجتماع التشريعي الأول، وإقرار القوانين المطلوبة، والمشروطة من صندوق النقد الدولي. اليوم شئنا أم أبينا، كنّا مع أو ضد، لا حلّ مالياً ونقدياً في لبنان من دون مشروع إعادة الهيكلة مع صندوق النقد.

 

إننا ندرك جميعاً أنّ شروطه صعبة جداً، والمفاوضات عقيمة والطريق ستكون طويلة وشائكة. لكن الكل يُدرك تماماً أننا محكومون بهذا الممر الإلزامي المتاح الوحيد للدولة اللبنانية، والذي يستطيع ضخ بعض السيولة ولا سيما إعادة لبنان على السكة الدولية واستقطاب إستثمارات أخرى لإعادة النهوض.

 

فكل ممثلي الشعب والسلطات التشريعية والتنفيذية أصبحوا مقتنعين بإقرار المشاريع والإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد، الذي طالب بصراحة بأربعة مشاريع قوانين ضرورية كأولوية:

 

فالمشروع الأول يتعلق برفع السرية المصرفية، والذي كان مدرجاً أساساً في جدول أعمال هذه الجلسة الأولى، وكان هناك شبه اتفاق بإقرار هذا المشروع بسهولة تامة، من جهة لتلبية مطالب الصندوق، وأيضاً المجتمع الدولي، ومن جهة أخرى، كل هؤلاء النواب المنتخبين كان العنوان الأول لحملاتهم الإنتخابية، محاربة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة وغيرها.

 

هنا ابتدأ الفشل الذريع وخيبة الأمل غير المتوقعة، عندما فُنّد وفُرّغ هذا المشروع القانون من مضمونه، رفع السرية المصرفية 1956، حيث أُقر من دون مفعول رجعي كأنّه عُفي عمّا مضى، وطُويت الصفحة حيال كل الفساد وتبييض الأموال والتهرّب الضريبي ما قبل هذا القانون.

 

التجربة الأولى للإصلاح والتشريع كانت مخيّبة للآمال، وأعطتنا الرؤية الضبابية لمتابعة وإقرار ما تبقّى من الإصلاحات المطلوبة.

 

أما مشاريع القوانين المشروطة والأساسية المتبقية لصندوق النقد فهي: مشروع قانون الـ Capital Control، المتعثر منذ سنة 2019، ومشروع قانون موازنة العام 2022 الضرائبي بامتياز، ومشروع قانون إعادة الهيكلية المالية وتوزيع الخسائر، حيث الحَكم هو المسؤول الأبرز لهذه التفليسة والإنهيار.

 

بعد تجربة القانون الأول المتعلق برفع السرية المصرفية، الذي كان الكل متفقاً عليه قبل الجلسة، فإننا متشائمون حيال إقرار هذه القوانين الشائكة والصعبة، والتي من المستحيل الإتفاق عليها، إلاّ لو اتفق السياسيون على حساب الشعب مرة أخرى.

 

في الخلاصة، الجلسة الأولى التشريعية لمجلس النواب الجديد كانت مخيبة للأمل، وضربة قاسية جديدة للثقة الداخلية والدولية. فالتعاطي والسلوك ما زالا غارقين في الوحول السياسية عينها، والنقاشات باتت في المستوى العقيم ذاته، ولا جنس الوعي لمواجهة الأزمة المالية، الاقتصادية والنقدية والاجتماعية الكارثية. وفي النهاية، لا يزالون في الدوامة ذاتها، يسخرون من الشعب، وحتى أنّهم يستهزئون بالمجتمع الدولي، فيُقرّون العناوين المطلوبة ويُفنّدونها ويُفرّغنوها من كل الأساس والمضمون والإصلاح.

د. فؤاد زمكحل