تصريحات عديدة للبنوك المركزية الكبرى في ندوة جاكسون هول.. وجميعها متشابهة: خفض الأسعار هي الأولوية

تصريحات عديدة شهدناها خلال نهاية الأسبوع الماضي من قبل مسؤولي في البنوك المركزية الكبرى في ندوة جاكسون هول وسط وصول التضخم عالمياً إلى مستويات تاريخية.

ومن أبرز التصريحات كانت تلك التابعة لرئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول والذي قدم التزامًا صارمًا بوقف ارتفاع التضخم عبر استخدام جميع الأدوات المتاحة، محذرًا من أن رفع الفائدة قد تتسبب “ببعض الألم” للاقتصاد الأميركي بحسب قوله… موضحاً أن لارتفاع معدلات الاقتراض تداعيات مؤسفة للاقتصاد وأبرزها نمو بطيء للناتج المحلي الإجمالي وأيضا تراجع في سوق العمل.

ومع وصول التضخم في أميركا لأعلى مستوى في 4 عقود، أكدت لوريتا مستر رئيسة الاحتياطي الفدرالي في كليفلاند على تصريحات باول ولكنها قالت إن قرارها سيكون بناءً على بيانات التضخم الأميركية، وليس على تقرير الوظائف.

وانتقالاً إلى أوروبا، قال رئيس المركزي الفرنسي فرانسوا فيليروي دي جالو إن على المركزي الأوروبي رفع الفائدة بوتيرة سريعة في سبتمبر.

وأضاف أن إعادة التضخم والذي سجل أعلى مستويات تاريخياً إلى مستويات 2% هي مسؤولية المركزي مؤكداً أن أوروبا ستشهد ارتفاعات بمعدلات الاقتراض.

اللافت هي تصريحات عضو مجلس إدارة المركزي الأوروبي إيزابيل شنابل والتي كانت مشابهة لتصريحات باول حيث قالت إن على البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم التدخل لمكافحة التضخم، حتى لو أدى ذلك إلى دخول الاقتصاد في ركود.

أمل في آسيا، فقال محافظ بنك كوريا الجنوبية ري تشانغ يونغ في ندوة جاكسون هول إنه يتعين على البنك الاستمرار في رفع الفائدة حتى ينخفض التضخم، وتوقع أنه لن يوقف عملية تشديد السياسة النقدية قبل الفدرالي.

وقال ري أن كوريا الجنوبية تعتبر دولة مستقلة ولكنها ليست مستقلة عن الاحتياطي الفدرالي مشيراً إلى احتمالية تأثر العملة المحلية بحال استمر باول بزيادة الفائدة.

“عالم ما بعد الدولار قادم”؟

مع ارتفاع أسعار الدولار هذا الشهر إلى مستويات هي الأكبر منذ ما يقرب من 20 عاماً، استند محللون إلى حجة “تينا القديمة” بأنه لا يوجد بديل عن التنبؤ بمزيد من المكاسب المقبلة للدولار القوي.

وبحسب تحليل لفاينانشيال تايمز، فإن ما حدث قبل عقدين من الزمن يشير إلى أن الدولار أقرب إلى الذروة قبل مرحلة الهبوط، حيث هبط الدولار في عام 2002 مع انخفاض الأسهم الأميركية، وظل على هذا الحال لستة سنوات، في ظروف مماثلة لما يجري الآن، لكن هذه المرة قد يستمر انخفاض العملة الأميركية لفترة أطول.

وأضاف التحليل أنه سواء تم تعديل تلك الظروف لمراعاة التضخم أم لا، فإن قيمة الدولار مقابل العملات الرئيسية الأُخرى تزيد الآن بنسبة 20% عن اتجاهها طويل الأجل، وتتجاوز الذروة التي وصلت إليها في عام 2001.

ومنذ السبعينيات، استمر الارتفاع المعتاد في دورة الدولار لنحو سبعة سنوات؛ لكن الارتفاع الحالي يدخل عامه الحادي عشر، علاوة على ذلك، فإن الاختلالات الأساسية تبشّر بالخير للدولار. عندما يتجاوز عجز الحساب الجاري باستمرار 5% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن ذلك يُعدُّ إشارة موثوقة على حدوث مشكلة مالية. ويقترب عجز الحساب الجاري للولايات المتحدة الآن من عتبة الـ5%، التي تم اختراقها مرة واحدة فقط منذ عام 1960، وكان ذلك أثناء تراجع الدولار بعد عام 2001.

وترى الدول أن عملاتها تضعف عندما لا يثق بقية العالم في قدرتها على دفع فواتيرها. وتدين الولايات المتحدة للعالم حالياً بمبلغ صاف قدره 18 تريليون دولار، أو 73% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وهو ما يتجاوز بكثير عتبة 50% التي تنبأت غالباً بأزمات العملة السابقة.

ويميل المستثمرون إلى الابتعاد عن الدولار عندما يتباطأ الاقتصاد الأميركي مقارنة ببقية العالم. وفي السنوات الأخيرة، كانت الولايات المتحدة تنمو بشكل أسرع من المعدل المتوسط ​​للاقتصادات المتقدمة الأُخرى، لكنها تستعد للنمو بشكل أبطأ من نظيراتها في السنوات القادمة.

وتساءلت الصحيفة: إذا كان الدولار على وشك الدخول في اتجاه هبوطي، فهل تستمر تلك الفتر طويلاً، وتتعمق بما يكفي لتهديد مكانة الدولار باعتباره العملة الأكثر ثقة في العالم؟

ومنذ القرن الخامس عشر، أصدرت الإمبراطوريات العالمية الخمس الأخيرة العملة الاحتياطية العالمية – وهي العملة الأكثر استخداماً من قبل البلدان الأُخرى – لمدة 94 عاماً في المتوسط. واحتفظ الدولار بوضع الاحتياطي لأكثر من 100 عام، لذا فإن عهده أقدم بالفعل من معظم الدول. وتعزز الدولار بسبب ضعف منافسيه، وتعرض اليورو للتقويض مراراً وتكراراً بسبب الأزمات المالية.

وإلى جانب العملات الأربع الكُبرى – للولايات المتحدة وأوروبا واليابان والمملكة المتحدة – تكمن فئة «العملات الأُخرى» التي تشمل الدولار الكندي والأسترالي والفرنك السويسري والرنمينبي. وهي تمثل الآن 10% من الاحتياطيات العالمية، بعد أن كانت 2% في عام 2001.

وجاءت مكاسب تلك العملات، التي تسارعت خلال الوباء، بشكل أساسي على حساب الدولار الأميركي. وتبلغ حصة الدولار من احتياطيات النقد الأجنبي حالياً 59%، وهي أدنى مستوى له منذ عام 1995، وقد تبدو العملات الرقمية متضررة الآن، لكنها تظل أيضاً بديلاً طويل المدى.

وفي غضون ذلك، يُظهر تأثير العقوبات الأميركية على روسيا مدى تأثير الولايات المتحدة على عالم يحركه الدولار، ما يلهم العديد من البلدان للإسراع في البحث عن خيارات. ومن الممكن ألا تكون الخطوة التالية نحو عملة احتياطية واحدة، ولكن لتكتلات العملات.

وتعمل أكبر اقتصادات جنوب شرق آسيا على تسوية المدفوعات لبعضها البعض بشكل مباشر، متجنبة الدولار. وتُعدُّ ماليزيا وسنغافورة من بين الدول التي تقوم بترتيبات مماثلة مع الصين، التي تقدم أيضاً عروض دعم الرنمينبي للدول التي تعاني من ضائقة مالية. وتقوم البنوك المركزية من آسيا إلى الشرق الأوسط بإنشاء خطوط ثنائية لمبادلة العملات، أيضاً بهدف تقليل الاعتماد على الدولار.

واختتم تحليل فاينانشيال تايمز بالتأكيد على أنه اليوم، كما في عصر الدوت كوم، يبدو أن الدولار يستفيد من وضعه كملاذ آمن، مع بيع معظم أسواق العالم. لكن المستثمرين لا يسارعون إلى شراء الأصول الأميركية، حيث يقللون من مخاطرهم في كل مكان ويحتفظون بالنقد الناتج بالدولار، مؤكداً أنه “يحب ألّا ننخدع بالدولار القوي، فعالم ما بعد الدولار قادم”.

العملات المشفرة تفشل حيث قد ينجح اليوان الرقمي

هل تدوي صافرات الإنذار من الحجم الكبير، مع تباهي المؤيدين بقدرة العملات المشفرة على التهرب من عقوبات الحكومة الأميركية؟
في مارس (آذار) الماضي، أبلغ أحد مؤسسي شركة «تورنادو كاش» – ما يُسمى خدمة «ميكسر» المعنية بإخفاء معاملات العملات المشفرة، عن طريق مزجها مع غيرها – وكالة «بلومبرغ» أنه سيكون من «المُحال تقنياً» فرض عقوبات ضد البروتوكولات غير المركزية. والمفاجأة؛ فرض العقوبات على شركة «تورنادو» من قبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، التابع لوزارة الخزانة الأميركية، ويرجع ذلك جزئياً إلى استخدام الشركة من قبل قراصنة، يُقال إنهم على صلة بغسل الأموال في كوريا الشمالية.
مع انخفاض أسهم «تورنادو» بنسبة 95 في المائة عن أعلى مستوى لها على الإطلاق، وإزالة «كود المصدر» الخاص بها من على «غيت هَب» (الشركة التابعة لمايكروسوفت والمعنية بتوفير الاستضافة لتطوير البرامج والتحكم في الإصدارات)، فإنها تعتبر آخر الضربات الموجهة لنظرية «عدم خضوع العملات المشفرة للعقوبات». وهي الكلمات التي استخدمها فيرغيل غريفيث، العالم الأسبق لدى مؤسسة «إيثريوم» عام 2019 عندما أخبر مؤتمراً لسلاسل الكتل في كوريا الشمالية حول كيفية تفادي العقوبات عبر تحويل الأموال النقدية إلى عملات مشفرة، تلك النصائح المُكلفة التي أسفرت عن إقراره بالذنب وصدور حكم بالسجن الفيدرالي لمدة 63 شهراً.
من الزاوية التقنية، تبين أن أكثر الخدمات غير المركزية لا يمكنها تجنب تطبيق القانون. وتتعرض البورصات لضغوط لمراقبة الروابط بالعملات العادية، شأنها في ذلك شأن مقدمي الخدمات الآخرين، ويمكن فحص سلاسل الكتل ذات المسميات المستعارة لرصد المعاملات المشبوهة، مثل مكاسب مجرمي الإنترنت من كوريا الشمالية الذين مروا عبر شركة «تورنادو». كما لاحظت الزميلة إيميلي نيكول من «بلومبرغ» أنه لم تتمكن صناعة العملات المشفرة من بناء كافة أصول بنيتها التحتية بعد.
ومن الزاوية الجيوسياسية، تعاني العملات المشفرة أيضاً – إذ لا تشهد ارتفاعاً – في خضم الحرب الاقتصادية الباردة. بعد جائحة «كوفيد 19» والاجتياح الروسي لأوكرانيا، كانت واشنطن تستعرض عضلاتها المالية، حتى وسط القلق الناشئ عن نوع من الارتداد السلبي الذي قد يجلبه التضخم أو العملات البديلة. إن إبقاء العملات المشفرة قيد الرصد والسيطرة يتلاءم مع تاريخ التنظيم الأميركي للتكنولوجيا المشفرة، مثل «مازجات» البريد الإلكتروني في تسعينات القرن العشرين، ولكنه أمر أساسي بالنسبة إلى مفاتيح القوة الناعمة للولايات المتحدة في زمن الحرب.
ومن المفارقات العجيبة هنا أن معارضي الاقتصاد العالمي القائم على الدولار كانوا متناقضين في أفضل تقدير حول العملات المشفرة. أما بالنسبة إلى الدول التي تشبه إيران مثلاً، وهي دول تعد منبوذة عالمياً، فإن تهديدات العملات المشفرة تقوض إمكاناتها، بينما من الناحية النظرية، تكون قادرة على الاستعانة بالعملات المشفرة في تسهيل التجارة وتجاوز الرصد الأميركي، وذلك يفوق توقعات هروب رؤوس الأموال وعدم الاستقرار وتقلب الأسعار. أيضاً تأرجحت روسيا مهتزة بين حظر الأصول الرقمية وتشجيعها، وأدركت بلا أدنى شك أنها قادرة على مساعدة النخب الخاضعة للعقوبات عند مستوى ما. لكن الروبل لا يزال صامداً، كما أظهرت السجالات الأخيرة مع الاتحاد الأوروبي بشأن مدفوعات الغاز.
وفي حين أعلنت طهران هذا الأسبوع عن أول طلب استيراد رسمي لها باستخدام عملة مشفرة لم تسمِها، بحسب «رويترز»، فإنها ليست سوى تجربة واحدة في سلسلة طويلة من اختبارات العملات المشفرة التي فشلت في اكتساب الثقل. كما كانت القيود الرقابية غير منتظمة، وهو ما اكتشفه المشتغلون بالعملات المشفرة في إيران مؤخراً.
لذا، يبدو الآن أن العالم الذي تهيمن عليه العقوبات، والصراعات، والتضخم غير المسبوق، لن يعطي دفعة كبيرة للعملات المشفرة. وكما كتب الخبير الاقتصادي إيسوار براساد مؤخراً فإن هيمنة الدولار الأميركي قد تدوم لفترة أطول كثيراً من المتوقع.
لكن هناك احتمالاً واحداً للتحول في الأمر؛ العملات الرقمية للبنوك المركزية، ولا سيما اليوان الإلكتروني الصيني. هذه الأنماط من النقود الرقمية قد تلعب دوراً جيوسياسياً كبيراً اعتماداً على كيفية تطبيقها ومن يتعامل بها أولاً.
يتصور كتاب جديد من تأليف خبيري العقوبات، أستريد فيو، وبول آرثر لوزو، عالماً جديداً، تكتسب فيه الصين ميزة المحرك الأول بعملة رقمية قابلة للتشغيل البيني مع غيرها من العملات، مع فرض معايير على بلدان أخرى تسعى إلى تجنب ممارسات التجارة بالدولار الأميركي.
يتلخص أحد السيناريوهات التي خاض مسؤولو الولايات المتحدة في مناقشتها – وفقاً لموقع «كوين ديسك» المعني بأخبار العملات المشفرة – في إنشاء يوان رقمي «قابل للانتقال بصورة كاملة»، ويعتبر البلدان الأخرى التي تستخدم البنوك ومزودي خدمات المدفوعات كنقاط تقاطع موصولة بشكل فعال مع البنية التحتية للصين. قد يؤدي ذلك إلى قيام كوريا الشمالية أو روسيا بشراء المواد بلا انتقام. وتسعى إيران كذلك إلى الحصول على عملة رقمية رسمية خاصة بها.
هذا مستقبل واحد فقط بين كثير من البلدان، ربما يمثل انطلاق العملات الرقمية للولايات المتحدة ومنطقة اليورو أولاً، أو أن مثل هذه المشروعات تنتهي إلى تفتيت الأنظمة القائمة بدلاً من تعزيزها. وفي كلتا الحالتين، كل ذلك بعيد المنال، غير أنه يشير إلى أنه على الرغم من أن مدفوعات الحرب الاقتصادية الباردة لا يزال الطريق أمامها طويلاً قبل ظهور التهديدات التي يتعرض لها الدولار الأميركي، فإنها تفتح مجالاً جديداً من الصراع يضمن عدم بقاء عبارة «عدم الخضوع للعقوبات» أكثر من مجرد شعار.

ليونيل لورانت

تداعيات أزمة الغاز في ألمانيا

انخفض الطلب على الغاز في ألمانيا خلال النصف الأول من هذا العام نحو 47 مليار متر مكعب (نحو 14.7 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي)، ويعود السبب الرئيس لتدهور الطلب للارتفاع العالي في أسعار الغاز.
وقد أعرب وزير المالية الألماني، كريستين لندنير، عن مخاوفه من الآثار المترتبة على ارتفاع أسعار الغاز في أهم اقتصاد أوروبي، فالوضع الاقتصادي «هش» والتنبؤات الاقتصادية تخفض من معدلات النمو المستقبلية. كما حذر لندنير من ارتفاع مستوى التضخم إلى معدلات عالية، بحيث لا يستطيع الكثير من الناس تحمل الأسعار العالية للغاز والطاقة والطعام.
وبما أن ألمانيا، بصناعاتها الضخمة، تعد قاطرة الاقتصاد الأوروبي، فقد تغيّرت الصورة الآن، إذ تحول الاقتصاد الألماني ليصبح اليوم المركز الأضعف أوروبياً. إذ انخفضت معدلات النمو الاقتصادي في ألمانيا خلال الربعين الأول والثاني من عام 2022، في الوقت نفسه الذي ارتفع فيه النمو الاقتصادي في دول اليورو. كما قلّص صندوق النقد الدولي في الشهر الماضي توقعه للنمو الألماني لعام 2023 بنحو 1.9 في المائة إلى 0.8 في المائة، ليجعل منه أعلى نسبة تخفيض متوقعة لدول أوروبا في العام المقبل.
لعبت عوامل عدة دوراً في الانتكاسة الاقتصادية الألمانية، أبرزها فواتير الطاقة العالية، التي أدت إلى تقليص الاستهلاك والطلب المحلي. كما تأثرت سلباً حركة التجارة الخارجية؛ حيث تعتمد الكثير من المصانع على الشحن عبر نهر الراين المجاور لعديد من المصانع. لكن انخفاض مستوى النهر قلّص من حجم الصادرات، ناهيك عن الانخفاض الذي طرأ على التجارة الخارجية بسبب إغلاقات الجائحة، بالذات في أسواق الصين.
اعتمدت ألمانيا على روسيا لاستيراد 50 في المائة من حاجتها للغاز المستورد عبر شبكة الأنابيب بين البلدين. وآخر أنبوب هو خط «نورد ستريم – 2»، لذا فمقاطعة الغاز الروسي بسبب الحرب الأوكرانية وضع ألمانيا في وضع صعب جداً للحصول على إمدادات غازية بديلة بسرعة. وكان الأمر سيصبح أسهل لو استوردت ألمانيا الغاز المسال الذي يشحن بالناقلات المتخصصة، كما في جنوب أوروبا.
ذكرت صحيفة «فايننشال تايمز»، الأسبوع الماضي، أن «أسعار الغاز في أوروبا قفزت نحو 251 يورو لميغاوات/ساعة، أو ما يعادل أكثر من 400 دولار لبرميل النفط، نظراً للمنافسة الحادة لتأمين إمدادات غازية قبل حلول فصل الشتاء». وتضيف الصحيفة البريطانية أن «الأسعار قد تضاعفت مقارنة بالمستوى السعري العالي ليونيو (حزيران) الماضي». والأسباب هي نقص الإمدادات الروسية بسبب الحرب الأوكرانية، والمنافسة الحادة بين الأسواق الأوروبية والآسيوية لشراء الغاز قبل حلول فصل الشتاء المقبل.
الحال أن الحكومة الألمانية تعمل حالياً في المرحلة الثانية من برنامجها لتخفيض الطلب على الغاز نحو 20 في المائة، بالإضافة إلى الحصول على 4 ناقلات لتخزين الغاز ومراجعة الضرائب المفروضة على استهلاك الغاز، ناهيك عن إعادة العمل في مناجم الفحم التي تم إغلاقها، برغم الأضرار البيئية الناتجة عن ذلك، لتعويض استخدام الغاز لتوليد الكهرباء في بعض المحطات. هذا، بالإضافة للجوء للطاقات المستدامة، كالرياح، لتوليد الكهرباء.

وليد خدوري

الاقتصاد الذي أثبت صعوبته البالغة للخبراء

«الضوضاء» هي أحدث كلمة رنانة يجري استخدامها بين العديد من خبراء الاقتصاد والمستثمرين، حيث يجري استخدامها للإشارة إلى أي نوع من البيانات الاقتصادية التي لا تتناسب مع الرواية السائدة، وهو ما يحدث كثيراً هذه الأيام. لا تفهموني خطأ، فقد ثبت أن هذا النوع من الاقتصاد صعب الفهم. فهو قوي جداً في بعض النواحي وضعيف جداً في جوانب أخرى. فالبيانات الحكومية الرسمية تظهر أن الناتج المحلي الإجمالي انكمش لربعين متتاليين، بما يتوافق مع التعريف الفني للركود، لكنه لا يبدو وكأنه ركود حقيقي.
لم تكد وزارة العمل تذكر في وقت سابق من الشهر الحالي أن الاقتصاد أضاف 528 ألف وظيفة في يوليو (تموز)، أي أكثر من ضعف التوقعات، وتجاوز جميع تقارير واستطلاعات وكالة «بلومبرغ» للأنباء، حتى رفض خبراء الاقتصاد النتائج باعتبارها مجرد «ضوضاء». فقد تحدثوا مرة أخرى عندما قالت الحكومة في 10 أغسطس (آب) إن مؤشر أسعار المستهلك لم يتغير في يوليو عن الشهر السابق، وهي نتيجة توقعها جميع خبراء الاقتصاد البالغ عددهم 63 باستثناء أربعة توقعوا الزيادة.
الأسبوع الحالي فقط، سمعنا الكثير من خبراء الاقتصاد، وقد استجابوا بعمل «ضجيج» عندما قالت وزارة التجارة الأسبوع الحالي إن مبيعات التجزئة لشهر يوليو بين المجموعة الضابطة التي تُستخدم لحساب الناتج المحلي الإجمالي قد ارتفعت أكثر من المتوقع.
كان كل ذلك محيراً للغاية للكثيرين، وأنا أتفهم ذلك. لكن لمجرد أن البيانات لا تتناسب مع نماذج «وول ستريت» القديمة التي عملت في حقبة ما قبل الجائحة لا يعني أنها «ضوضاء». ربما يعني ذلك أن النماذج في حاجة ماسة إلى التحديث.
خذ بيانات التضخم كمثال. كان عدم وجود تغيير في مؤشر أسعار المستهلكين الشهري مفاجئاً، ولكن ربما لم يكن استثناء، حيث يقوم مكتب إحصاءات العمل بعمل رائع في جمع البيانات وتحليلها. إذا أظهر أن التضخم لم يتغير، فهذا يعني حقاً أن التضخم قد تباطأ، ويعني هذا أيضاً أنه لا يزال بإمكاننا النقاش حول سبب تباطؤ التضخم. نظريتي المفضلة هي أن التضخم الأسرع كان نتيجة للتأثيرات المتأخرة للحافز المالي استجابة لإغلاق الأيام الأولى للوباء، والآن بعد أن تحرك الحافز بعيداً في مرآة الرؤية الخلفية، فإن مكاسب الأسعار ستتباطأ. فالبيانات على ما هي عليه، ولكن لا يزال من الممكن أن تخضع للتفسير.
قد يتم أيضاً تجاهل رقم مبيعات التجزئة القوي باعتباره «ضوضاء». فقد ارتفعت مبيعات التجزئة باستثناء شراء السيارات بنسبة 0.4 في المائة في يوليو، مقابل انكماش متوقع بنسبة 0.1 في المائة في استطلاع «بلومبرغ». وارتفعت المبيعات بين المجموعة الضابطة 0.8 في المائة، أعلى بكثير من المتوسط الشهري لما قبل الوباء البالغ 0.3 في المائة. النتائج الأخيرة لا تتناسب مطلقاً مع الرواية القائلة إن الاقتصاد في حالة ركود.
لذلك فإن الخيارات هي إما رفض البيانات التي لا تتوافق مع الأرقام التي تبثها النماذج أو استخدام بعض القدرات العقلية لمعرفة السبب الذي يجعل النماذج تبدو خاطئة بدرجة كبيرة في الآونة الأخيرة. ربما لا يؤثر التضخم على المستهلكين بهذه الدرجة الكبيرة. وربما لا يزال المبلغ الهائل من المال موجوداً في حسابات المدخرات المنزلية بفضل التحفيز المالي غير المسبوق عندما يقترن بمعدل بطالة يبلغ 3.5 في المائة يعتبر أدنى مستوى له منذ 53 عاماً، مما يعني أن المستهلكين لا يعرقلهم ارتفاع الأسعار.
هذا لا يعني عدم وجود تقلب في البيانات الاقتصادية. فهناك حالات شاذة عرضية. ففي بعض الأحيان، يتم إيقاف الحسابات الموسمية بسبب حدث غير عادي، مثل إغلاق حكومي غير متوقع بسبب بلوغ سقف الديون أو حدوث كارثة طبيعية. وهذا هو السبب في أن العديد من خبراء الاقتصاد ينظرون إلى المتوسطات المتحركة وسلسلة البيانات على مدى فترة زمنية للحصول على صورة أكثر صدقاً للاتجاهات.
كل ما يحدث في الاقتصاد الآن يحدث لسبب – وهو سبب يكافح العديد من الاقتصاديين والمستثمرين لفهمه. وكما كتبت من قبل، لا تفيد أي من النماذج التي يستخدمها خبراء الاقتصاد في التنبؤ بآثار الاقتصاد الذي يتوقف عند عشرة سنتات، ويتخلص من حوالي 17 مليون شخص من القوى العاملة على مدار أسبوعين ويبرم تعاقدات بنسبة 31 في المائة لينتعش بالسرعة نفسها في عودة البرامج الحكومية ذات الأموال المجانية التي ضخت تريليونات الدولارات مباشرة في جيوب المستهلكين لتتماشى مع أسعار الفائدة الحقيقية السلبية وسياسات التيسير الكمي من البنك المركزي. علاوة على ذلك، تعطلت سلاسل التوريد العالمية بشكل كبير، مما أدى إلى نقص في السلع، مما أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار السلع المتوفرة.
سوف يستغرق الأمر بضع سنوات قبل أن يتم حل كل هذا ونعود إلى شيء يشبه دورة العمل العادية. ومن المحتمل ألا يكون التباطؤ الاقتصادي الواسع الذي نشهده أكثر من تراجع عن الانتعاش الحاد المصطنع من عمليات الإغلاق. قد لا يتناسب مع نموذج دورة الأعمال التقليدية، ولكن بمجرد قبولك أن هذه ليست دورة عمل عادية وعرض البيانات من خلال عدسة مختلفة، فإن ما هو غير متوقع سيبدأ في أن يكون منطقياً وليس شيئاً يمكن تجاهله باعتباره مجرد «ضوضاء».

جاريد ديليان

مَن المستفيد الأول من أكبر جريمة مالية في التاريخ؟

عندما تحصل أي جريمة، فإنّ أولوية المحققين ونقطة الإنطلاق في التحقيق بالجريمة، هما النظر إلى مَن هو المستفيد الأول والأكبر من هذه الجريمة بغية استقطاب بعض الخيوط والأدلة لبدء التحقيق المعمّق.

نحن اليوم في لبنان، نُواجه أكبر جريمة اقتصادية، اجتماعية، مالية ونقدية لنهب الشعب أجمع، وكل المؤسسات العامة والخاصة. سنُحاول التركيز الموضوعي على مَن هو المستفيد الأول من هذا الإنفجار الكارثي، وهذه الجريمة الفريدة والتاريخية؟

 

نذكّر بأن الدولة اللبنانية ما قبل الأزمة الإقتصادية الراهنة، كان دينها العالم يُقارب الـ 90 مليار دولار، وكان يَتزايد نحو الأعلى. الدين العام اليوم ما بعد الإنهيار أصبح نحو أقل من 10 مليارات دولار. وحتى هذه الديون المتبقية تخلّفت عن تسديدها عندما أعلنت رسمياً التعثّر المالي في آذار 2020. وهذا يعني أيضاً أن قيمة الدين العام المتراكمة والمتوجبة على الدولة قد انخفضت بطرفة عين إلى أقل من 90% من قيمته.

 

من جهة أخرى، نذكّر بأنه ما قبل الأزمة، كان حجم الدولة أضعافاً، وعلى نحو أكثر من إمكاناتها، وزيادة عن هذا العجز، تراكمت سلسلة الرتب والرواتب، وتلك الوعود الوهمية والتي كانت شيكاً بلا رصيد لموظفي القطاع العام. فبضربة عصا سحرية إنخفضت الكلفة التشغيلية وحجم الدولة الباهظ إلى أقل من 95% من قيمتها الأساسية.

 

نذكّر أيضاً بأن الدولة اللبنانية، حتى هذه اللحظة، لا تزال تملك كل أصولها، من مؤسساتها العامة، من كهرباء، مياه، إتصالات، ومرافىء برية وبحرية وجوية. وتملك أيضاً أكثر من 50% من مجموع العقارات في لبنان، كما تملك كل احتياطات الذهب الذي تزيد قيمته عن 15 مليار دولار، بحسب آخر تقرير وتدقيق.

 

هذا يعني أنه حتى هذه الساعة لم تتخلّ الدولة عن شبر أو سنت واحد من أصولها، لسدّ عجزها أو خسارتها الفادحة، على عكس الشعب المرهق والمنهوب الذي أُجبر على بيع بعض أصوله وممتلكاته وجنى عمره، لتأمين بعض لقمة العيش في ظل هذه الأزمة غير المسبوقة.

 

أخيراً، نذكّر بحزن وأسف أنّ الدولة اللبنانية، المسؤولة الأكبر عن هذا الإنهيار الإقتصادي في العالم، والمسؤولة عن ثالث أكبر انفجار في مرفأ بيروت، والمسؤولة عن أكبر جريمة مالية ونقدية دولياً، لا تزال تسيطر على الحُكم، وتلعب دور الحكَم في توزيع الخسائر والمسؤوليات، وهي التي تُحاسب الآخرين عن الجريمة التي ارتكبتها. هذا يعني أن القيّمين في الدولة لا يزالون يحكمون عوضاً من أن يُحاكموا، وهم يُحاسبون عوضاً من أن يُحاسَبوا، فتقنياً وعملياً ليس سراً مَن هو المستفيد الأول في أكبر جريمة مالية في التاريخ.

د. فؤاد زمكحل

متابعة قراءة مَن المستفيد الأول من أكبر جريمة مالية في التاريخ؟