في ظلّ الانتظام السياسي، ومع وجود رئيسٍ للجمهورية، وحكومة مكتملة الأوصاف والصلاحيات، وفي منتصف الولاية الرئاسية، حين يكون العهد لا يزال قوياً، عجزت الدولة بكل سلطاتها التنفيذية والتشريعية عن إطلاق خطة للتعافي والبدء في الخروج من النفق. فهل يمكن ان تنجح اليوم، في غياب رئيسٍ للجمهورية، ومع حكومة تصريف أعمال منقسمة على نفسها، ومع سلطة تشريعية تتكوّن من القوى نفسها التي تتصارع داخل وخارج الحكومة؟
مع انتهاء العام 2022، يكون مرّ شهران ونيف من السنة الرابعة من عمر أزمة الانهيار المالي، من دون ان تبرز حتى الآن معطيات تسمح بالقول انّ مرحلة الخروج من النفق سوف تبدأ عمّا قريب. وقد بات واضحاً انّ ادارة الأزمة كانت أسوأ من الأزمة نفسها.
ماذا ينبغي ان نتوقع في المرحلة المقبلة؟ هل يمكن للوضع ان يسوء اكثر؟ وما هي فرص تغيير المشهد والانتقال إلى مرحلة التعافي التدريجي؟
في مقارنة بين الوضع المالي عشية 17 تشرين الاول 2019، والوضع اليوم، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
اولاً- كان البنك المركزي يمتلك في حساباته حوالى 32 مليار دولار، تراجعت اليوم إلى حوالى 10 مليار دولار، بما فيها حقوق السحب الخاصة (SDR) ومن دون احتساب المطلوبات، ومن ضمنها مستحقات فواتير ينبغي على مصرف لبنان تسديدها.
ثانياً- كانت المصارف التجارية تمتلك في حساباتها الخارجية والداخلية حوالى 6 إلى 7 مليار دولار، وفق التقديرات القائمة في حينه، وكانت سجلاتها تشير إلى موجودات تقترب من 210 مليار دولار، من ضمنها حوالى 177 مليار دولار كودائع. وكان هناك عدد منها، يعتمد بنسبة لا تقلّ عن 30% في تحقيق وحداته الخارجية الارباح. اليوم، تراجع حجم الودائع إلى اقل من 100 مليار دولار، وتراجعت محفظة القروض للقطاع الخاص من حوالى 50 مليار دولار إلى ما دون الـ20 ملياراً، وباعت المصارف في غالبيتها كل استثماراتها في الخارج، ولم يتبقَ من السيولة في الداخل والخارج سوى النذر اليسير. أما الرساميل التي بلغت 22 مليار دولار، فإنّها مهدّدة بالتراجع الى حوالى 3 مليار دولار، مع بدء احتساب سعر صرف الدولار الرسمي على 15 الف ليرة، بدءاً من الاول من شباط 2023.
ثالثاً- كان حجم موازنة الدولة حوالى 17 مليار دولار، أصبح اليوم أقل من مليار واحد.
رابعاً- كان حجم الاقتصاد يبلغ حوالى 55 مليار دولار، تراجع اليوم الى حوالى 18 مليار دولار، ولو انّه أعلى بقليل من الناحية الإسمية بسبب زيادة حجم الاستيراد اصطناعياً، ربطاً بالاحتياطات التي اتخذها المستوردون الكبار مع الاعلان المسبق عن النية في زيادة سعر الدولار الجمركي.
خامساً- كان معدّل الاجور في لبنان، في القطاعين العام والخاص، إعلى من 1000 دولار، أصبح اليوم حوالى 150 دولاراً.
هذه بعض من المعطيات المالية والاقتصادية التي تدل بوضوح إلى ما استهلكته السنوات الثلاث الماضية من دولارات، ومن فرص إنقاذية كان يمكن انجازها بأثمان مقبولة.
اليوم، لا تزال فرص الإنقاذ قائمة، ولو انّ الأثمان أصبحت باهظة اكثر، والوجع اكبر. وفي حسبة بسيطة، يتبيّن انّ مصرف لبنان لا يزال يحوز على حوالى 25 مليار دولار بين الاحتياطي من العملات والاحتياطي من الذهب. ولا تزال الدولة اللبنانية تمتلك كل اصولها العقارية ومؤسساتها العامة. ولا تزال المصارف قادرة على تلبية ما يُطلب منها في التعاميم التي يصدرها مصرف لبنان، ومن ضمنها التعميم 158 لإعادة الودائع حتى مبلغ 50 الف دولار، رغم انّ المركزي عاجز حتى الآن، عن إعادة ودائع المصارف لديه، والتي تقدّر بحوالى 82 مليار دولار.
هذه الوقائع تشي بإمكانية البدء في خطة للتعافي للخروج من الأزمة تدريجياَ. ومع ارتفاع حجم تحويلات المغتربين إلى لبنان، والتي وصلت إلى 6,8 مليار دولار، من دون احتساب الاموال التي دخلت من يد إلى يد. ومع الأخذ في الاعتبار وجود مليارات الدولارات في المنازل، يمكن القول انّ لبنان قادر على الخروج من الأزمة في فترة قياسية نسبياً، رغم انّ أزمته عميقة وحادة ومُصنّفة ثالث أسوأ أزمة شهدتها الدول في تاريخها الحديث.
المطلوب في هذه الحالة، عودة الانتظام السياسي اولاً، ومن ثمّ تخلّي السلطة عن فكرة ابتلاع الودائع، ورفض المشاركة في تمويل الإنقاذ من خلال الاختباء وراء صندوق النقد الدولي، بذريعة انّ الصندوق يرفض المس بأصول الدولة او عائداتها خلال السنوات المقبلة. ينبغي تغيير العقلية التي تقارب فيها السلطة المفاوضات مع الصندوق، وستكتشف انّ امكانيات التفاهم مع صندوق النقد على خطة تُنقذ الاقتصاد، وتعيد الانتظام المالي إلى البلد من دون ابتلاع حقوق المودعين، او التسبّب بإفلاس القطاع المالي، موجودة وكبيرة، وكل المطلوب التحلّي بالعقلانية والواقعية في المفاوضات، والأهم وجود نية حقيقية للوصول الى هذا الهدف. وأخيراً، من المعيب والمشين ان نصل إلى مرحلة أصبحت فيها السلطة التي أهدرت وسرقت الاموال، تضغط على المصارف اليوم لدفعها إلى القبول بمشروع شطب الودائع!
انطوان فرح