1 في المائة من أجل 1.5 درجة مئوية!

في الجلسة الافتتاحية رفيعة المستوى للعمل المناخي طرحت سؤالاً: «ما الأمر الذي يمكن وصفه بأنه غير كاف وغير كفء وغير عادل؟»؛ وأجبت بأنه النظام الراهن للتمويل الدولي للمناخ والتنمية. أما عن عدم كفاية التمويل فهكذا تخبرنا الأدلة بأن ما هو متاح لتمويل التنمية المستدامة من المصادر الموعودة من الدول المتقدمة بما يعادل 0.7 في المائة من إجمالي الدخل القومي للدول المتقدمة لم يصل بكامله أبداً إلى البلدان النامية رغم بلوغه 179 مليار دولار في عام 2021 وهو أعلى رقم تصل إليه المساعدات الإنمائية الرسمية، ولكنه لم يتجاوز نصف ما تم التعهد به، وبافتراض التزام التعهد بكامله، فإنه لن يجسِّر أكثر من 15 في المائة من متوسط فجوة تمويل التنمية، قبل أزمة جائحة كورونا البالغة 2.5 تريليون دولار.
أما عن فجوة تمويل العمل المناخي بالتركيز على احتياجات التحول إلى طاقة نظيفة، فتقدر بتريليون دولار سنوياً حتى عام 2030، وفقاً لتقرير تمويل العمل المناخي والتنمية الذي تم تدشينه في أثناء قمة المناخ من فريق عمل تم تكليفه من رئاستَي قمتَي غلاسكو وشرم الشيخ. والمبالغ الموعودة منذ مؤتمر كوبنهاغن كانت بحد أدنى 100 مليار دولار، وهو رقم متواضع قياساً بحجم التمويل المطلوب، ومع ذلك لم تفِ الدول الثلاث والعشرون المتعهدة بالتمويل بتعهداتها إلا سبعاً منها. ولا يوجد اتفاق على معيار احتساب تدفقاتها لذا تجد الرسمي الذي يدور حول 80 في المائة وفاءً بالتعهدات مقابَلاً بتحدٍّ من جهات لها اعتبارها مثل منظمة «أوكسفام» التي تقدِّر أن هذه التدفقات تقترب من 20 في المائة فقط.
وفي أي حال، فشأن تمويل العمل المناخي ليس أفضل حالاً من تمويل التنمية فكلاهما لا يجسِّر فجوة تمويل مشروعاته ولا يفي بمستلزمات التنمية أو حماية المناخ، وبذلك تستمر مشكلات الفقر المدقع والتعليم والصحة والبنية الأساسية، وتتفاقم أزمات التفاوت بين الدول وداخلها وتدهور المناخ والطبيعة دون حل يحقق أهداف 2030 للتنمية المستدامة التي تتضمن العمل المناخي في طياتها وهو الهدف الثالث عشر منها.
ولقد اجتهدتْ الدول النامية ومنظمات من المجتمع المدني ومراكز أبحاث في حث البلدان المتقدمة على الوفاء بالتزاماتها، من دون جدوى، إلا قليلاً. ومن المحاولات المبذولة من أجل تتبع الالتزامات، فصل تمويل التنمية عن تمويل العمل المناخي بدعوى ضمان الإضافة وليس ازدواج الحساب أو تعدده. ولكن في تقديري أن هذا الأمر قد أدى إلى فصل غير مبرر بين مسارات التنمية والعمل المناخي، وأدى كذلك إلى انعزال غير محمود بين جزر مصطنعة بعضها للعمل المناخي وبعضها الآخر للتنمية، وهو ما أدى إلى انشطار مفتعل وخادع بين العمل التنموي والمناخي. وقد كرس ذلك الانشطارَ نهجٌ بائسٌ اختزل العمل المناخي في تخفيض انبعاثات الكربون رغم أهميته، فضيَّع أهمية التعامل مع انبعاثات ضارة أخرى كغاز الميثان، وقلل من أهمية العمل المناخي في مجالات التكيف، وغضَّ الطرف عن ملف الخسائر والأضرار برمّته، وهو الذي نجحت قمة شرم الشيخ مؤخراً في وضعه على قائمة العمل الدولي، وتمويله من خلال صندوق جارٍ تأسيسه بما يعد انتصاراً تاريخياً محققاً. كما أكدت أعمال هذه القمة أهمية التحرك في إطار التنمية المستدامة الذي يجب أن يأتي العمل المناخي كأحد مكوناته، فالعمل المناخي في مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة وتدعيم البنية الأساسية ونظم المياه والزراعة وحماية الشواطئ والتصدي للتصحر… هي كلها مجالات للاستثمار من أجل التنمية المستدامة التي يجب ألا تغفل الاستثمار في البشر في المقام الأول. وبالتالي فإن التمويل للتنمية والعمل المناخي يجب أن يتحقق في إطار متكامل وشامل في نطاق الدولة وأولوياتها.
فإذا كانت هذه أسباباً كافية تبرر وصف التمويل الدولي بعدم الكفاية، فإن سبب وصفي إياه بعدم الكفاءة أيضاً هو ما تستغرقه عملية التمويل من فترات طوال منذ بدء الاتفاق بين الحكومات المعنية بالتمويل إلى اليوم الذي يصل فيه التمويل فعلاً على المشروعات والمجالات التي تترقب وصوله بعد طول انتظار يصل إلى عدة سنوات. وهناك حالات لبلدان نامية خصوصاً من الجزر الصغيرة طالت فيها فترات الانتظار إلى أربع سنوات منذ بداية طلب التمويل، وبعض طلبات التمويل كانت لاحتياجات عاجلة خصوصاً في مجالات تدعيم البنية الأساسية والتكيف مع آثار المناخ الخطرة على الحياة وأسباب المعيشة معاً.
ويرجع هذا بالأساس إلى قصور إداري وبيروقراطية نظم التمويل تتحملها مؤسسات التمويل بالأساس، وإن تعللت بضعف القدرة المؤسسية للبلدان المقترضة، فجانب من عمل هذه المؤسسات وسبب وجودها أصلاً هو تدعيم قدرات البلدان النامية.
ويبقى الوصف الثالث والأخير لنظام التمويل الدولي بعدم العدالة، ومرجع هذا الوصف هي تكلفة التمويل الباهظة التي يجب أن تتحملها البلدان النامية خصوصاً متوسطة الدخل منها في سبيل الحصول على التمويل المطلوب للعمل المناخي. وهنا أفرِّق بين تمويل إجراءات التخفيف من خلال مشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة التي يمكن قيام القطاع الخاص بها خصوصاً من خلال الاستثمارات في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين الأخضر، وما هو مطلوب من مؤسسات التنمية الدولية هو المشاركة لمساندة القطاع الخاص وتخفيف مخاطر المشروعات والتأمين ضد المخاطر السياسية المتعلقة بالذات بحقوق الملكية. وهي كلها مشروعات ضرورية للحفاظ على درجة حرارة الأرض بما لا يتجاوز درجة مئوية فوق متوسطاتها قبل الثورة الصناعية الأولى. أما مجالات التكيف فتجد الاستثمارات الخاصة فيها محدودة لا تتجاوز 3 في المائة، إذ يقوم التمويل العام من موازنات الدول أو بالاقتراض من خلالها وتحميلها بأعبائها بمهمة تمويل حماية البنية الأساسية ومرافقها ونظم الري والزراعة والتعامل مع مخاطر التصحر ونحر الشواطئ، وهي جميعاً مهدَّدة بسبب تدهورٍ في المناخ سبّبته الدول الصناعية، وليس من باب العدل أن تستدين الدول النامية خصوصاً الأفقر منها لتصلح ما أفسدته الدول الأغنى.
أعلم أنه من المستحيل تطوير البناء المالي العالمي على النحو المنشود مع التشوه القائم في النظام الاقتصادي الذي يستند إليه ويموله، كما أن النظام الاقتصادي العالمي هو ظل النظام السياسي العالمي الأعوج، الجارية شؤونه بترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما رسمته البلدان المنتصرة في حرب لم يكن للبلدان النامية فيها ناقة أو جمل إلا بما تحملته وكان أغلبها مستعمراً ومستغَلاً من أطراف هذه الحرب. وحتى يعاد تشكيل النظام العالمي الجديد ليعكس تغير موازين القوى منذ الحرب العامية الثانية وتصاعد الدور الاقتصادي للبلدان ذات الأسواق الناشئة عالية النمو، وحتى يكتمل البناء على عُمُده الجديدة يمكن فقط اقتراح ترتيبات جديدة للتمويل تتسق مع مقترحات لإصلاح البناء المالي العالمي.
وبهذا أسوق مجدداً مقترح تمويل العمل المناخي في إطار التنمية المستدامة ليكون على أساس فترة سماح لا تقل عن عشر سنوات وفترة سداد بعدها تمتد لعشرين عاماً، وبتكلفة لهذا التمويل، الذي يمكن أن يصنَّف كقرض حسن، لا تزيد على 1 في المائة تشمل الإسهام في العون الفني. على أن يقدم هذا التمويل من خلال المؤسسات المالية وصناديق التمويل المتخصصة القائمة ومن خلال التعهدات المالية التي التزمت البلدان النامية بالوفاء بها في السابق يمكن تخفيض تكلفة التمويل، على أن يزاد رأسمال هذه المؤسسات التنموية الدولية بما يسهم في توفير تمويل إضافي للعمل المناخي يعادل التريليون دولار المطلوبة لتجسير فجوة التمويل كما تَقدم؛ وهذا المبلغ بالمناسبة يعادل 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
والسؤال البدهيّ: وما الذي سيدفع البلدان الغنية للإسهام في التمويل بعد عهود التقاعس؟ الدافع هو إدراك المصلحة القومية لهذه البلدان، فحتى إذا هي أغفلت فوائد التضامن الدولي، فإن خطر تدهور المناخ لا يفرّق بين غني وفقير من البلدان، كما أن تهديده للأمن الدولي غير خافٍ عن العيان بما في ذلك تداعيات النزوح الجماعي وتزايد ظاهرة اللجوء المناخي.

د. محمود محيي الدين

مأزق الشركات التقنية

ماذا يحدث للشركات التقنية في عام 2022؟ فالخسائر تتوالى عليها، وتخفيض التكاليف مستمر، ما بين فصل للموظفين وإيقاف للمشروعات. فمنذ عام 2008، وأرباح هذه الشركات مستمرة، ونموّها قياسي مقارنة بنمو الشركات التقليدية، حتى إن شركة «تيسلا» خلال أقل من 15 عاماً تفوقت بقيمتها السوقية على «فورد» ذات المائة عام! ولكن ما يحدث الآن أمر مختلف، فالشركات التقنية تعاني، وقد تكالبت عليها ظروف كثيرة، بدأ بعدها البعض بالتفكير فيما لم يكن متوقعاً على الإطلاق من قبل، وهو أن هذه الشركات يمكن بالفعل أن تفشل وتسقط.
وما يحدث للشركات التقنية ليس بالأمر البسيط، ففي الشهر الماضي، أصدرت «فوربس» تقريراً وضّحت فيه أن مجموع خسائر 7 شركات تقنية في السوق الأميركية بلغ أكثر من 4 تريليون دولار، هذه خسائر القيمة السوقية لشركات «ميتا» و«نتفليكس» و«مايكروسوفت» و«أبل» و«تيسلا» و«أمازون» و«ألفابت». كانت «ميتا» هي أكبر الخاسرين خلال هذا العام، حيث خسرت نحو 70 في المائة من قيمتها السوقية، وجاءت بعدها «نتفليكس» بخسارة نصف قيمتها السوقية، وكان أقل الخاسرين «من ناحية النسبة» هي «أبل» بنحو 15 في المائة من قيمتها السوقية، وهو رقم ضخم لشركة هي الأكبر في العالم من ناحية القيمة السوقية!
أبرز ما حدث للشركات التقنية هذا العام هو انخفاض الإعلانات، وهو مدفوع بعدة عوامل، أولها ما حدث من تنظيم القطاع التقني في أوروبا وغيرها، مثل نظام الخدمات الرقمية، وهي أنظمة تهدف إلى زيادة حماية بيانات المستهلكين. بسبب هذه الأنظمة، خسر كثير من الشركات إعلاناتها الموجّهة التي كانت تستهدف مستهلكين ذوي سلوكيات محددة. وفي صيف العام الماضي، بدأت شركة «أبل» تقييد قدرة المعلنين على تتبع سلوك المستخدمين بتقديم ميزات خصوصية جديدة لمستخدمي نظامها التشغيلي. وقد تأثرت شركتا «ميتا» و«سناب» بشكل كبير بسبب اعتمادهما هذه الأدوات، وقد أعلنت «ميتا» أن العوائد في الربع الرابع من نفس العام انخفضت بنحو 10 مليارات دولار بسبب هذه التغييرات! وقد بدأت «غوغل» بعدها بتغيير نظامها الإعلاني، المعتمد على ملفات الارتباط، حتى لا تتأثر هي في المستقبل.
كذلك تأثرت الشركات التقنية بدخول المنافسين في السوق، ولعل أكبر هؤلاء المنافسين «تيك توك»؛ حيث بدأت الشركات الأميركية بتقليد أنظمة الفيديو التي يتبعها «تيك توك» بسبب ما لاقته من رواج هائل بين المستخدمين، مثل فيديو «الإنستغرام» و«يوتيوب شورتس» حتى «تويتر» بدأت في تقليد هذا النموذج مؤخراً. ولكن هذه النماذج تحتاج إلى وقت حتى تنضج ويلتفت لها المستخدمون بشكل يجعلها جذابة للمعلنين، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
والإعلانات هي قوت الشركات التقنية؛ حيث تشكل الإعلانات 81 في المائة من دخل «ألفابت» وحدها، أي أن أي انخفاض في الإعلانات قد يؤثر عليها. وما حدث أن خيارات المعلنين أصبحت متعددة، وكثير من الشركات التي كانت تعلن لدى الشركات التقنية أنشأت قنوات خاصة بها للإعلانات. ويتوقع أن يكون الإنفاق على الإعلانات على شبكات التواصل الاجتماعي نحو 65 مليار دولار، بزيادة سنوية قدرها 3.6 في المائة، وهو نمو أقل 10 مرات على الأقل من نمو العام الماضي، بل إنه نمو يقارب نمو الإعلانات في وسائل الإعلام التقليدية مثل التلفاز والإذاعة، ولا يبدو أن الشركات التقنية تحبذ أن توصم بأنها شبيهة بوسائل الإعلام التقليدية.
ولا يخفى أن الشركات تأثرت بالعوامل الاقتصادية خلال الفترة الماضية؛ حيث توقعت الشركات أثناء الجائحة أن الجميع سيهجر العالم الحقيقي إلى العالم الافتراضي، فاستثمرت كثيراً بناء على هذا التوقع، لكن العالم لم يتصرف كما كان متوقعاً، فعاد إلى العالم الحقيقي. كما أن الشركات التقنية تعودت خلال العقد الماضي على الديون منخفضة التكلفة، ومع زيادة الفائدة لم يعد بمقدورها الاعتماد على النقد الرخيص كما كان الوضع بالسابق.
إن الشركات التقنية، التي بُنيت أصلاً على الابتكار، تبدو مستكينة لنموذج الأعمال الذي وصلت إليه دون ابتكارات جديدة، ما جعل شركات أخرى تتفوق عليها. فأصبحت الشركات تعتمد بشكل كبير على الإعلانات التي تستند إلى ضعف في حماية المستخدمين، وهو أمر لم يكن غائباً عن أحد طيلة السنوات الماضية، والجميع كان على علم أن الحكومات تحاول تنظيم هذه الصناعة، بما فيه مصلحة للمستخدمين، سواء من حماية الخصوصية، أو منع خطابات الكراهية والمحتويات المسمومة المؤذية نفسياً. وحلّ هذه الشركات هو الابتكار نفسه، إن نظرت هذه الشركات إلى مشكلاتها الحالية على أنها فرصة لتغيير نماذج أعمالها، التي اتضح جدياً أنها لن تؤدى بنفس «رتمها» خلال العقد الماضي.

د. عبدالله الردادي

لماذا تُصرّ الحكومة على ابتلاع الودائع؟

في ظلّ الانتظام السياسي، ومع وجود رئيسٍ للجمهورية، وحكومة مكتملة الأوصاف والصلاحيات، وفي منتصف الولاية الرئاسية، حين يكون العهد لا يزال قوياً، عجزت الدولة بكل سلطاتها التنفيذية والتشريعية عن إطلاق خطة للتعافي والبدء في الخروج من النفق. فهل يمكن ان تنجح اليوم، في غياب رئيسٍ للجمهورية، ومع حكومة تصريف أعمال منقسمة على نفسها، ومع سلطة تشريعية تتكوّن من القوى نفسها التي تتصارع داخل وخارج الحكومة؟

مع انتهاء العام 2022، يكون مرّ شهران ونيف من السنة الرابعة من عمر أزمة الانهيار المالي، من دون ان تبرز حتى الآن معطيات تسمح بالقول انّ مرحلة الخروج من النفق سوف تبدأ عمّا قريب. وقد بات واضحاً انّ ادارة الأزمة كانت أسوأ من الأزمة نفسها.

 

ماذا ينبغي ان نتوقع في المرحلة المقبلة؟ هل يمكن للوضع ان يسوء اكثر؟ وما هي فرص تغيير المشهد والانتقال إلى مرحلة التعافي التدريجي؟

 

في مقارنة بين الوضع المالي عشية 17 تشرين الاول 2019، والوضع اليوم، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

 

اولاً- كان البنك المركزي يمتلك في حساباته حوالى 32 مليار دولار، تراجعت اليوم إلى حوالى 10 مليار دولار، بما فيها حقوق السحب الخاصة (SDR) ومن دون احتساب المطلوبات، ومن ضمنها مستحقات فواتير ينبغي على مصرف لبنان تسديدها.

 

ثانياً- كانت المصارف التجارية تمتلك في حساباتها الخارجية والداخلية حوالى 6 إلى 7 مليار دولار، وفق التقديرات القائمة في حينه، وكانت سجلاتها تشير إلى موجودات تقترب من 210 مليار دولار، من ضمنها حوالى 177 مليار دولار كودائع. وكان هناك عدد منها، يعتمد بنسبة لا تقلّ عن 30% في تحقيق وحداته الخارجية الارباح. اليوم، تراجع حجم الودائع إلى اقل من 100 مليار دولار، وتراجعت محفظة القروض للقطاع الخاص من حوالى 50 مليار دولار إلى ما دون الـ20 ملياراً، وباعت المصارف في غالبيتها كل استثماراتها في الخارج، ولم يتبقَ من السيولة في الداخل والخارج سوى النذر اليسير. أما الرساميل التي بلغت 22 مليار دولار، فإنّها مهدّدة بالتراجع الى حوالى 3 مليار دولار، مع بدء احتساب سعر صرف الدولار الرسمي على 15 الف ليرة، بدءاً من الاول من شباط 2023.

 

ثالثاً- كان حجم موازنة الدولة حوالى 17 مليار دولار، أصبح اليوم أقل من مليار واحد.

 

رابعاً- كان حجم الاقتصاد يبلغ حوالى 55 مليار دولار، تراجع اليوم الى حوالى 18 مليار دولار، ولو انّه أعلى بقليل من الناحية الإسمية بسبب زيادة حجم الاستيراد اصطناعياً، ربطاً بالاحتياطات التي اتخذها المستوردون الكبار مع الاعلان المسبق عن النية في زيادة سعر الدولار الجمركي.

 

خامساً- كان معدّل الاجور في لبنان، في القطاعين العام والخاص، إعلى من 1000 دولار، أصبح اليوم حوالى 150 دولاراً.

 

هذه بعض من المعطيات المالية والاقتصادية التي تدل بوضوح إلى ما استهلكته السنوات الثلاث الماضية من دولارات، ومن فرص إنقاذية كان يمكن انجازها بأثمان مقبولة.

 

اليوم، لا تزال فرص الإنقاذ قائمة، ولو انّ الأثمان أصبحت باهظة اكثر، والوجع اكبر. وفي حسبة بسيطة، يتبيّن انّ مصرف لبنان لا يزال يحوز على حوالى 25 مليار دولار بين الاحتياطي من العملات والاحتياطي من الذهب. ولا تزال الدولة اللبنانية تمتلك كل اصولها العقارية ومؤسساتها العامة. ولا تزال المصارف قادرة على تلبية ما يُطلب منها في التعاميم التي يصدرها مصرف لبنان، ومن ضمنها التعميم 158 لإعادة الودائع حتى مبلغ 50 الف دولار، رغم انّ المركزي عاجز حتى الآن، عن إعادة ودائع المصارف لديه، والتي تقدّر بحوالى 82 مليار دولار.

 

هذه الوقائع تشي بإمكانية البدء في خطة للتعافي للخروج من الأزمة تدريجياَ. ومع ارتفاع حجم تحويلات المغتربين إلى لبنان، والتي وصلت إلى 6,8 مليار دولار، من دون احتساب الاموال التي دخلت من يد إلى يد. ومع الأخذ في الاعتبار وجود مليارات الدولارات في المنازل، يمكن القول انّ لبنان قادر على الخروج من الأزمة في فترة قياسية نسبياً، رغم انّ أزمته عميقة وحادة ومُصنّفة ثالث أسوأ أزمة شهدتها الدول في تاريخها الحديث.

 

المطلوب في هذه الحالة، عودة الانتظام السياسي اولاً، ومن ثمّ تخلّي السلطة عن فكرة ابتلاع الودائع، ورفض المشاركة في تمويل الإنقاذ من خلال الاختباء وراء صندوق النقد الدولي، بذريعة انّ الصندوق يرفض المس بأصول الدولة او عائداتها خلال السنوات المقبلة. ينبغي تغيير العقلية التي تقارب فيها السلطة المفاوضات مع الصندوق، وستكتشف انّ امكانيات التفاهم مع صندوق النقد على خطة تُنقذ الاقتصاد، وتعيد الانتظام المالي إلى البلد من دون ابتلاع حقوق المودعين، او التسبّب بإفلاس القطاع المالي، موجودة وكبيرة، وكل المطلوب التحلّي بالعقلانية والواقعية في المفاوضات، والأهم وجود نية حقيقية للوصول الى هذا الهدف. وأخيراً، من المعيب والمشين ان نصل إلى مرحلة أصبحت فيها السلطة التي أهدرت وسرقت الاموال، تضغط على المصارف اليوم لدفعها إلى القبول بمشروع شطب الودائع!

انطوان فرح