علينا أن نتوقف ونحاول أن نُحلّل الزيارة الأخيرة للرئيس الصيني «شي جي بينغ»، للمملكة العربية السعودية، منذ نحو أسبوع، والتي استمرت ثلاثة أيام، وقد أدّت إلى توقيع إتفاقات عدة، بمبالغ هائلة، والتي كانت تُمثل الخطوة الأولى لإعادة التحالفات والإتفاقات والتبادلات الدولية.
جاءت هذه الزيارة بعد سنوات من التقارب الخجول، وقد بلغت قيمة هذه الإتفاقات الموقعة بين الجانبين بنحو 30 مليار يورو، مع أكثر من 36 إتفاقاً في مجالات الطاقة والتكنولوجيا، والإعمار، والذكاء الإصطناعي، والنفط، وتبادل الخبرات، والزراعة وغيرها. بالإضافة إلى أنه سينجم عن هذا التبادل والتحالف، إتفاقات أخرى.
تضمّنت المحادثات بين الوفدين الصيني والسعودي، سُبل تحضير العالم الإقتصادي الجديد نحو الإقتصاد الرقمي في أوسع مفاهيمه. لا شك في أن وراء هذه الإتفاقات الإقتصادية والتجارية أبعاداً سياسية، تقع في صلب التنافس لقيادة العالم الإقتصادي الجديد، والإستعداد لأي عزلة أو ضغوط جديدة.
فهذا يُذكّرنا ببناء ورسم طريق الحرير القديمة، التي أُبرمت منذ قرون عدة. فطريق الحرير الشهيرة كان مصدرها ولولبها الصين، وقد كان أساس بنائها الخلافات والحروب، وخشية العزل التجاري والإقتصادي والإنمائي. فهذه الطريق كانت لمواجهة العمالقة الدولية، والبناء بعد الإكتفاء التجاري والإقتصادي والصناعي، بين بعض الدول والقارات المعزولة أو التي كانت تبحث عن إستقلال إقتصادي وتجاري وتبادلي.
من هنا يُمكن التحليل، أنّ هناك إستراتيجية غير معلنة وهدفا واضحا لإعادة رسم طريق حرير جديدة «موديل» القرن الحادي والعشرين، من بعد كل التغيّرات العالمية، ومواجهة الوباء الذي أعاد كل العقارب إلى الصفر، وإعادة النظر في كل الإتفاقات والتحالفات والسباق والتنافس لقيادة العالم الجديد، وخصوصاً الإقتصاد الذي عليه إعادة البناء من جديد على أسس حديثة.
فالصين تُعتبر العملاق الصناعي والتصديري إلى العالم، ولا سيما المستورد الأول للنفط وكل المشتقات النفطية في العالم. أما السعودية فهي اليوم عملاق التصدير النفطي، في ظل إرتفاع أسعار المواد الأولية، والتضخّم العالمي القائم والذي يتفاقم.
فالمملكة العربية السعودية لديها، وسيكون بين يديها، سيولة هائلة عائدة إلى تصدير النفط بأسعار متزايدة. أما الصين فسيزداد الطلب على إرتفاعها، والنمو في صناعتها وإقتصادها. هذا الإتفاق بين العرض والطلب، والعارض والطالب، سيبني تآزراً وتكاملاً بنّاء، لكن أيضاً قيادياً للعالم.
من جهة أخرى، لا شك في أن الولايات المتحدة لم ولن تُبارك هذا التقارب الذي يُمكن أن يهزّ عرشها، فلقد إستبق الأمور الرئيس جو بادين، وقام بزيارة المملكة العربية السعودية، في آب 2020، لكن لم تكن النتائج مرجوة وفق المنتظر منها. إضافة إلى ذلك، فقد وقع خلاف بين العملاقين، عندما ضغطت الولايات المتحدة وطالبت بزيادة إستخراج وتصدير النفط، ولم تلبّ «الأوبك» هذا الطلب.
فيُمكن أن نقرأ بين السطور والأهداف المختبئة والإستراتيجيات التي تُحضّر وراء الستار، بأن ثمة رغبة ببناء ورسم طريق حرير جديدة، التي يُمكن أن تؤدي إلى حرب باردة جديدة. فالتنافس على قيادة العالم الجديد قائم في أعلى الحدود، وسيكون مبنياً على تحالفات وإتفاقات وتقارب جديد، وأيضاً خلافات وحروب باردة، ويُمكن حتى حروب ساخنة، في بعض البلدان التي ستُستعمل كصندوق بريد برسائل مباشرة وغير مباشرة.
فعلى لبنان أن يكون حيادياً في ظل هذه الخلافات والتحالفات الجديدة. إننا كبلد صغير، علينا أن نكون على مسافة واحدة من الجميع، وألاّ نقع في فخ أن نكون صندوق بريد لخلافات ليس لدينا فيها مصالح كما حصل سابقاً. فعلينا أن نستقطب الفرص من خلال إرتفاع أسعار النفط في الخليج، ونستقطب جزءاً من هذه الإستثمارات لإعادة بناء اقتصادنا.
في الوقت عينه، علينا أن نبني تحالفات مع البلدان المجاورة لتحضير عمليات تنقيب الغاز، واستخراجه وتصديره عبر الأنابيب الموصولة وبناء تحالفات جديدة.
أما علاقتنا مع الصين، فنريدها ممتازة، لأننا نحتاج إلى سلعها، وسوقها الكبيرة، حتى إستثماراتها.
في موضوع الولايات المتحدة، لا شك في أننا نريد أفضل العلاقات ولا سيما في القطاع المالي والنقدي، لإعادة بناء قطاع مصرفي متين، تحت المراقبة الدولية.
فبالنسبة إلى الدول ولا سيما العملاقة منها، فكلمة رئيس وزراء بريطانيا الراحل ونستون تشرشل تُطبّق تماماً في هذا العالم الجديد: «لا يوجد أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، إنما مصالح دائمة». أما بالنسبة إلى لبنان، فلا نريد أعداء، بل أن نكون أصدقاء مع الجميع، وهذه مصلحة بلادنا وشعبنا واقتصادنا.
د. فؤاد زمكحل