3 سيناريوهات لنظام تحول الطاقة خلال 30 عاماً

يعدّ تقرير شركة «بي بي» السنوي من المصادر العالمية السنوية المهمة في أبحاث الطاقة، وذلك من خلال طرح كبار الاقتصاديين في الشركة التطورات الأساسية في قطاع الطاقة. عالج «تقرير (بي بي) لاستشراف الطاقة لعام 2023» 3 سيناريوهات لدراسة الآثار المترتبة على التحول في نظام الطاقة العالمي خلال العقود الثلاثة المقبلة. يكمن الهدف من الدراسة خلال السنوات الثلاثين المقبلة في تفهم آثار الاستراتيجيات المتبناة حالياً على مدى السرعة والطرق التي من الممكن أن يسلكها قطاع الطاقة في مرحلة تحوله هذه.
تتميز الفترة الحالية بمحورية النقاش حول أهمية تقليص الكربون والتوصل إلى تصفير الانبعاثات بحلول منتصف القرن. ويعلق الخبير الاقتصادي في شركة «بي بي»، سبنسر ديل، على هذه المرحلة قائلاً: «تلفت أحداث السنة الماضية أنظارنا إلى أهمية الأخذ في الحسبان أيضاً عوامل الأمن وفاتورة الطاقة للمستهلك. فمن الضروري لأي مرحلة من مراحل الطاقة أن تأخذ دائماً في الحسبان 3 عوامل أساسية لنظام الطاقة: أمن الإمدادات، وفاتورة الطاقة للمستهلك، والتخفيض الكربوني».
كان واضحاً خلال عام 2022 العلاقة العضوية والصعبة ما بين العوامل الأساسية الثلاثة أعلاه لنظام الطاقة هذا؛ فقد أدت حرب أوكرانيا إلى التركيز على أمن الطاقة نتيجة الحظر على البترول الروسي، مما أدى إلى مبادرة بعض الدول نحو الإسراع في التحول إلى الطاقات المستدامة من جهة؛ ودفع البعض الآخر إلى الاعتماد المتزايد على مصادر طاقة محلية معظمها من الوقود الأحفوري والقليل منها من مصادر أخرى.
لكن، وفي الوقت نفسه، دلت المتغيرات الطاقوية محدودة الحجم نسبياً؛ بسبب حرب أوكرانيا، بالنسبة إلى حجم قطاع الطاقة العالمي، على تأثيرها على نظام الطاقة العالمي من جهة؛ وعلى الآثار المترتبة على هذه التغييرات من التكاليف الاقتصادية والاجتماعية، مما أثار الانتباه إلى أهمية تقليص الاعتماد على الوقود الهيدروكربوني بطريقة منتظمة ومعتدلة، بحيث يتوجب الأخذ في الحسبان، ومن الضروري، عدّ الوقود الهيدروكربوني جزءاً من إمدادات الطاقة.
من الملاحظ في الوقت نفسه، أنه رغم ازدياد طموحات الحكومات إلى التخفيض الكربوني، فإن الانبعاثات الكربونية قد ارتفعت معدلاتها منذ «اتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ 2015» باستثناء إغلاقات الجائحة سنة 2020. وكما هو معروف؛ فإنه كلما طالت فترة استمرار الانحباس الحراري، زادت التكاليف الاجتماعية والاقتصادية.
لقد ازدادت المحاولات في بعض الدول لدعم مرحلة تحول الطاقة هذه، فقد جرت الموافقة في الولايات المتحدة على قانون تخفيض التضخم. لكن؛ من المهم الانتباه إلى أن تحدي تحول الطاقة هذا يتطلب إنجازات أكثر، مثلاً؛ تشريع القوانين والأنظمة لتشجيع تحول الطاقات ذات الانبعاثات الكربونية وإعادة تأهيل بناها التحتية.
لقد هيمنت الآثار المترتبة على الحرب الأوكرانية على ضرورة الاستمرار في الاهتمام المشترك بالعوامل الثلاثة للمحافظة على نظام طاقة مستقر وناجح: الأمن الطاقوي، وفواتير معتدلة للمستهلك، وتخفيض الكربون.
إن التحول في النظام الطاقوي يغير معه أنواع الطلب على الطاقة… فالتخفيض الكربوني يؤدي إلى زيادة التحول إلى الطاقات المستدامة. لكن هذا سيتطلب بدوره أيضاً زيادة استعمال الهيدروجين منخفض الانبعاثات، وأيضاً استعمال الطاقات الحيوية بطريقة معتدلة، وكذلك تطوير صناعة واقتصاد الكربون.
فرغم تغير وسائل النقل البري مستقبلاً؛ نظراً إلى الاعتماد الأوسع على المركبات الكهربائية، فإنه يُتوقع أن يستمر أن يلعب النفط دوراً مهماً خلال السنوات الـ15 إلى الـ20 المقبلة. وكذلك؛ اعتماداً على سرعة تحول الطاقة، أن يلعب أيضاً الغاز دوراً مهماً في دول الاقتصادات النامية مع توسع الصناعات فيها، ناهيك بالطلب على الغاز (الوقود منخفض الانبعاثات) في الدول الصناعية.
يعدّ تقرير «بي بي» صرخة أخرى للتحذير من انفلات وتخبط النظام الطاقوي في مرحلة التحول الحالية. والتحذير الواضح في التقرير ضرورة ديناميكية، للارتباط العضوي لكل من: ضمان أمن الطاقة في نزاعات العالم متعدد الأقطاب، والمحافظة على فواتير معقولة للمستهلك بدلاً من تحميله زيادات سعرية عالية وسريعة كما يحدث فعلاً، وتخفيض الانبعاثات الكربونية في ظل تبني سلة طاقة واسعة تشمل الطاقات منخفضة الانبعاثات إلى جانب الطاقات المستدامة.

وليد خدوري

إزدواجية العملة رسمياً… حتى الدولرة الشاملة

في علم النقد للبلدان المدولرة جداً، من المؤكد وغير القابل للنقاش ومن منطلق حقيقة علمية مُثبة وليس رأي قابل للتداول، أنه بعد ثبات الدولرة المرتفعة لسنوات طويلة على الرغم من تثبيت سعر الصرف وعدم إمكانية استعادة الثقة بالعملة الوطنية، يستحيل إعادة تعويم سعر الصرف كما يستحيل إعادة إقناع الاقتصاد باعتماد نظام صرف قائم على الربط المَرِن أو تثبيت سعر الصرف على أي مستوى جديد. الخيار الوحيد المتبقّي، والذي لا خيار فعّال ممكن سواه، هو بالانتقال المنظّم نحو الربط الصارم أي إمّا إنشاء مجلس نقد إذا حصل الوعي باكراً مطلع الأزمة وتَبنّته السلطات الرسمية سريعاً، وإلا لا يبقى سوى الدولرة الشاملة الرسمية وفق آلية تدريجية ناجحة كما في الكوادور مهما كانت الاحتياطات المتبقية بالدولار الأميركي هزيلة (وليس الدولرة الفوضوية التي يفرضها السوق بشكل عشوائي رهيب الكلفة على الموطنين كما حصل في زمبابوي وفنزويلا وسواهما، حيث لم يعد من هدف لطباعة العملة الوطنية لسوى لاستخدامها لشراء الدولار).

هناك ثلاثة أشكال من الدولرة الشاملة:

1) أحادية الجانب.

2) من خلال اتحاد نقدي كامل مع الولايات المتحدة

3) من خلال اتفاقية ثنائية أو معاهدة مع الولايات المتحدة.

يعكس الاتحاد النقدي الكامل الوضع في منطقة اليورو. تمثّل الدولرة أحادية الجانب سياسة تبني الدولار الأميركي من دون أي اعتراف رسمي أو التزامات ذات مغزى. الاحتمال الثالث هو اعتماد الدولار في إطار اتفاقية محدودة بين الدولة التي تقوم بالدولرة والولايات المتحدة. أو أقلّه صندوق النقد الدولي لدعم ومواكبة عملية الانتقال الى نظام الصرف الصارم الجديد.

وفق «خارطة الطريق نحو الدولرة الشاملة» التي سبق ونشرتها في مقالات علمية دولية مع ملخّص في جريدة «الجمهورية» في 11 أيار 2022 لتوعية الرأي العام عمّا نحو واصلون إليه تباعاً، لقد أصبح لبنان اليوم في محطة استراتيجية وهي ما يعرف علمياً بـ«إزدواجية العملة»، أي أنه بات مقبولاً التعامل مع العملتين الليرة اللبنانية والدولار الأميركي على نفس المستوى من المقبولية العلنية الرسمية. بعد تخطي الدولرة عتبة الـ 90 % للمرة الثانية اليوم (المرة الأولى كانت عام 1987) والذهاب أبعد من غرفة مقاصّة للدولار في مصرف لبنان الى درجة تبنّيه تحويل تلقائي للرواتب من الليرة اللبنانية الى الدولار الأميركي لا سيما لموظفي الدولة اللبنانية بالفرعين المدني والعسكري! وبعد «تجربة» فتح منصة الصيرفة من دون سقف للجميع، كإشارة الى أن المصرف المركزي يمكنه تجفيف السيولة بالليرة اللبنانية من السوق واستبدالها كلها بالدولار الأميركي بأي لحظة يتم فيها اتخاذ وتغطية هكذا قرار مصيري في تاريخ لبنان، وبعد قبول حصرية عقود التأمين الصحي والطبابة وغيرها بالدولار الأميركي والاضطرار لازدواجية الرواتب بين قسم بالليرة وقسم بالدولار للحفاظ على حد أدنى من القدرة الشرائية، بلغت الأمور حدّ تسعير جميع المنتوجات بالدولار الأميركي وصولاً الى المواد الغذائية… اليوم لبنان بانتظار الخطوات والشروط العديدة للدولرة الشاملة على النحو التالي:

1 – تطوير إجماع وطني حول الدولرة الشاملة.

2 – إستكشاف إمكانية عقد معاهدة ارتباط نقدي مع الإدارة الأميركية أو أقلّه دعم صندوق النقد الدولي للنظام الربط الصارم الجديد.

3 – الإعلان عن برنامج دولرة مسبوق باعتماد سياسات تضمن نجاحه.

4 – إعتماد برنامج إصلاح السياسات ضمان الملاءة والسيولة للقطاع المالي وقدرة سوق العمل على مواجهة الصدمات الحقيقية.

5 – وضع جدولة، لمدة سنتين أو ثلاث سنوات للوصول إلى الدولرة الشاملة.

6 – التأكد من أن البنك المركزي سيكون لديه دولارات كافية لتحويل جميع العملات المتداولة وكذلك مخزون السندات، ولو تدريجاً، كَون معظم البلدان التي تصل الى هذا الخيار لا يكون لديها الاحتياطي الكافي لتغطية كامل القاعدة النقدية بالدولار، ولكن الآلية العلمية الصحيحة للدولرة الشاملة الرسمية تسمح لها بتحقيق عملية الانتقال التدريجي بنجاح…

7 – تنفيذ إصلاح النظام المصرفي قبل الدولرة الرسمية الشاملة وضمان الملاءة والسيولة للنظام.

8 – البحث عن بديل لمقرض الملاذ الأخير، وهو نوع من التمويل، لتجنّب تحويل المخاطر إلى دول أخرى.

تستفيد الدولة المدولرة من حصة من المعروض من العملات الأجنبية التي حلّت مكان عملتها الوطنية كما لو كانت منطقة إضافية في البلد «الوصي» الذي ينشئ هذه العملة، في حالة الدولار الأميريكي، الولايات المتحدة. لا يحتاج البلد المعتمد على الدولار إلى وجود فائض في الحساب الجاري لتجميع الدولارات؛ يمكن أن يؤدي تدفق الاستثمار الأجنبي إلى تعويض عجز الحساب الجاري.

في بلد يعتمد على الدولار، تميل أسعار السلع والخدمات إلى الحفاظ على مستوى أسعارها في الولايات المتحدة. قد يختلف تضخم أسعار المستهلك بين الدولة المُدولرة والبلد «الوصي» تمامًا كما يختلف بين منطقتين في الولايات المتحدة نفسها.

بعض الاقتصاديين (Hanke and Schuler، 1999) الذين نادوا دولياً لإنشاء مجلس نقد للحالات لمماثلة لوضع لبنان، باتوا أنفسهم يدافعون الآن عن الدولرة الشاملة الرسمية. تقضي الدولرة الشاملة الرسمية على سعر الصرف بسبب إلغاء الاحتياطي المنفرد، وقد يظهر مُقرض الملاذ الأخير في شكل الخزانة أو غرفة المقاصّة بغياب إمكانية طباعة العملة…

العيب الأكثر وضوحاً للدولرة الرسمية هو فقدان إيرادات طباعة العملة، وهي في الوقت عينه فضيلة لأن البلدان التي تصل للدولرة الشاملة تكون غالباً قد استنفدت بشكل مبالغ به بطباعة العملة الى حد التدني الكلي لقيمة عملتها وباتت تطبعها بالكميات لشراء الدولار بها من السوق لتعزيز احتياطي بالدولار لا يلبث أن يُستهلك… ترتبط هذه الخسارة بنوعين من التكاليف: من ناحية، تكلفة المخزون، والتي تتوافق مع التكلفة المباشرة للحصول على الأوراق النقدية من المؤسسة الأجنبية التي تصدر العملة الأجنبية التي ستحل مكان العملة الوطنية؛ من ناحية أخرى، تكلفة التدفق، والتي تتوافق مع خسارة الفائدة السنوية للمقابل من القاعدة النقدية.

يفقد الاقتصاد القائم على الدولرة بالشامل سيطرته، أي الإيرادات التي يمكن للبنك المركزي أن يستمدّها من امتيازه في إصدار الأموال. تُقسم هذه الخسارة إلى فئتين. فمن ناحية، إن «التكلفة الإجمالية للتدفق» أو «تكلفة المخزون» تعادل النفقات المتولدة لشراء عملات معدنية جديدة وأوراق نقدية جديدة من البنك المركزي الأجنبي لاستبدال العملة المحلية التي تحتفظ بها البنوك والعملاء الاقتصاديون الآخرون. من ناحية أخرى، إن «صافي تكلفة الملكية» أو «تكلفة التدفق» تمثل خسارة الإيرادات الناتجة عن استبعاد الدخل من الفوائد المكتسبة على احتياطيات النقد الأجنبي.

إذا اختار بلد ما الدولرة الشاملة للتحكم في معدل التضخم، فإنه يقدر أن فوائد خفض التضخم تتجاوز الخسائر في الدخل من طباعة النقدي (مكاسب السيولة) والتضخم المستدام.

تُظهر الأدبيات الاقتصادية أن عائدات الحكومة لا تختلف كثيرًا من بلد إلى آخر. وتظهر الدراسات التجريبية أن متوسط الدخل من طباعة النقد في المجموعات المختلفة للاقتصادات المدولرة يتراوح من 1 إلى 2 % من الناتج المحلي الإجمالي.

إن عائدات الدولة من طباعة العملة هي أعلى باستمرار في البلدان ذات الدرجات العالية من الدولرة أكثر منها في البلدان ذات الدولرة المنخفضة أو المعتدلة، مما يعكس أداء تضخّمها المختلف. وهكذا، بلغ الناتج المحلي الإجمالي في لبنان، الذي يعتمد على الدولرة بشكل كبير، 23.13 مليار دولار في عام 2021، بحسب البنك الدولي، وانكمش بنسبة 5.4 % في عام 2022 ليصبح حوالى 21.88 مليار دولار. وبالتالي يجب ألا يتجاوز دخل السندات 0.328 و0.438 مليار دولار أميركي، وتُقاس إيرادات طباعة النقد في الفرق بين قيمة إنتاج العملة والقيمة الاسمية للأوراق النقدية. مثلاً، إذا كانت تكلفة طباعة ورقة 100000 ليرة لبنانية هي 0.06 دولار أميركي وعلى أساس مثلاً سعر صرف الدولار الأميركي / الليرة اللبنانية البالغ 50000، فإنّ كل 100000 ورقة تكلّف 3000 ليرة لبنانية، وبالتالي توفّر ما يقرب من 97000 ليرة لبنانية أو 1.94 دولار أميركي… يستمر هذا الفائض من طباعة النقد من قبل مصرف لبنان في زيادة التضخم وانخفاض قيمة الليرة. في الجولة التالية، يضطر المصرف المركزي إلى طباعة المزيد من الليرات لشراء المليار دولار…

أما بشأن أثر الدولرة الشاملة الرسمية على استقلالية المصرف المركزي، فالمعروف أنّه في ظلّ حرية حركة الرساميل التي كان يضمنها نظام الاقتصاد الحر المنفتح في لبنان، من الضروري الاختيار بين التضحية بثبات سعر الصرف والإبقاء على مرونته، لترك هامش تحرّك للمصرف المركزي لاعتماد الاستقلالية في تحديد وتنفيذ سياسته النقدية الهادفة الى المحافظة على القدرة الشرائية للعملة الوطنية ومكافحة التضخّم وإدارة السيولة في السوق، أو القيام بالعكس تماماً، أي التضحية باسقلالية المصرف المركزي عبر توجيه خياراته للحفاظ على تثبيت سعر الصرف عبر ربط سعر صرف العملة الوطنية بالعملة الأجنبية الأكثر تداولاً واستقراراً وتعاملاً دولياً وهي الدولار الأميركي، خصوصاً بعد اعتماده كعملة ثانية إلى جانب الليرة اللبنانية منذ الأزمة النقدية التي عرفها لبنان في الثمانينات، والتي أطلق على أثرها مسار دولرة مرتفعة غير رسمية ولكنها «مفروضة» من قِبل القطاع الخاص كأمرٍ واقع منذ ذلك الحين، بغَرض الهروب من خطر تقلّبات سعر الصرف وافتقاد العملة الوطنية لمهامها الأساسية في الثمانينات كأداة تسعير وتسديد للعمليات الشرائية الكبرى والمحافظة على القدرة الشرائية على المدى البعيد وصعوبة استعادة الثقة منذ ذلك الحين، على الرغم من جهود وكلفة تثبيت سعر الصرف على مدى 22 عاماً. علماً أنّه الخيار الأكثر فعالية لتحقيق الاستقرار النقدي في ظل اقتصاد مدولر كما هي الحال في لبنان، حيث لا نفع من الاكتفاء بإدارة السيولة بالليرة اللبنانية طالما الحصة الأكبر من السيولة المتداولة في السوق هي بالدولار الأميركي.

يبقى القول انّ الدولرة الشاملة لم تعد خياراً بل مسألة مسار، والتقدّم واضح خطوة خطوة وفق خارطة الطريق التي تعكس الآلية الدولية للتجارب المشابهة… المهم أن تتمّ بلورة المسار والاعتراف الرسمي بكل خطوة منه تدريجاً لضبط مخاطر فوضى الأسواق وعشوائية التعامل بين العملاء الاقتصاديين… عندما يصبح المسار أمراً واقعاً ينحصر البحث في تنظيمه بأقلّ كلفة على الناس وأفضل نتائج ضمن الممكن.

د. سهام رزق الله

التكنولوجيا والاستسلام لعالم جديد

وادي السيليكون كما نعرفه وبشركاته التي تتبنى ثقافة الشفافية الوظيفية وتمنح موظفيها صلاحيات كبيرة وتسلسلات هرمية وامتيازات ضخمة، في طريقه إلى التلاشي بسرعة ومن غير المرجح أن يعود.
منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، بشرت شركات التكنولوجيا بنهج يركز على جعل العمال سعداء بالمزايا التي كانت تهدف إلى دمج العمل والحياة في سلاسة. وصممت هذه الشركات برامج غير محدودة للرفاهية، والعطلات، وطرحت مبادرات أعطت الأولوية للموظفين ومنحتهم مزايا قياسية. فمع حزمة الرواتب المرتفعة والأسهم، كانت الامتيازات المقدمة وسيلة ليس لكسب صراع المواهب في السوق فحسب، بل أيضاً للسيطرة على السوق. فالنمو السريع ونجاح شركات «وادي السيليكون»، الذي يرجع بعض الفضل فيه إلى الممارسات الفريدة لموظفيها، أعادا تشكيل ثقافة مكان العمل لهذا الجيل.
لكن الزمن تغير، وصناعة التكنولوجيا تواجه اقتصاداً كلياً غير متكافئ وسوق أسهم متعثرة تضع ضغوطاً على شركات التكنولوجيا العامة وتخلق بيئة أقل من مثالية للطرح للاكتتاب العام بالنسبة لشركات القطاع الخاص. ويعمل الرؤساء التنفيذيون للتكنولوجيا الآن على تحسين الربحية أكثر من النمو بأي ثمن، وأحياناً على حساب القيم التنظيمية الراسخة.
هذا التحول بات بالغ الوضوح خلال الطفرة الأخيرة لتسريح العمال في قطاع التكنولوجيا. وقد أثير الكثير من الجدل العام حول الاستبعاد التخريبي لنصف موظفي «تويتر» البالغ عددهم 7500 موظف، وهي خطوة جرت تحت قيادة مالكها الجديد، إيلون ماسك. كان التسريح عشوائياً، وكان من المؤلم مشاهدة ذلك. كان على الموظفين الذين بقوا تحمل أعباء عمل أكبر يصعب على فرق أقل عدداً القيام بها. ولكن في حين أن الغرباء قد ينظرون إلى عمليات التسريح هذه على أنها اندفاعية، فقد بدت وكأنها تهيئ البيئة لشركات التكنولوجيا الأخرى لتتبعها. ففي عام 2022، قامت شركات التكنولوجيا بتسريح أكثر من 150.000 شخص، وفي الأسابيع القليلة الأولى من عام 2023، أعلنت شركة «مايكروسوفت» الاستغناء عن 10 آلاف موظف. واستغنت «أمازون» عن ثمانية آلاف موظف فوق العدد الذي أعلنته في السابق.
وفقاً لوسائل إعلام كثيرة، تجري شركتا «ميتا» و«أمازون» تقييماً لموظفيها، وهو نهج مثير للجدل في تقييم المواهب. ففي عام 1980، ومن خلال شركة «جنرال إلكتريك» التي نشرت هذه الثقافة (على الرغم من أن الشركة تخلت عن ذلك لاحقاً)، جعلت العملية، المديرين يقيمون موظفيهم مقارنة بنظرائهم. وبشكل عام، يصنف 20 في المائة فقط من العمالة بأنهم من المواهب المميزين، فيما يصنف 10 إلى 15 في المائة بأنهم أصحاب أداء متدنٍّ. وعلى الرغم من وجود فوائد، فإن هذه الممارسة قد تخلق بيئة عمل تنافسية (تسودها الضغائن) تؤثر سلباً على جهود تحسين الموظفين. فمع تسريح العمال الوشيك، عادة ما يكون الأشخاص أصحاب التصنيف الأدنى هم أول من يرحل.
تسريح العمال جزء من عصر جديد من هيمنة المديرين، فكرة أن الإدارة هي المهيمنة وأنه يتعين عليها انتزاع السيطرة من الموظفين. فبعد عقدين من القتال من أجل المواهب، يستغل الرؤساء التنفيذيون هذه الفترة للتكيف مع سنوات من التساهل الإداري الذي تركهم مع جيل من العاملين أصحاب الصلاحيات.
في عام 2012، ولتحفيز الابتكار والمشاركة، بدأت شركة «ينكدين» برنامج حاضنة أعمال، الذي كان الميزة التي شجعت الموظفين على التوصل إلى أفكار معتمدة يمكنهم العمل عليها بدوام كامل لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر سخية حتى وفقاً لمعايير «وادي السيليكون». وأقيم الكثير من الفعاليات المهمة بغرض عرض ثقافة الشركة، وكان الموظفون يحضرون حفلات خلال العطلات يعرضون خلالها تجارب «إنستغرام» الجديدة المقبلة. ويكفي أن نعلم أن بعض سائقي شركة «أوبر» الذين حضروا لقاءات شركتهم الرسمية في عام 2015 قد حضروا عرضاً خاصاً للمطربة الأميركية بيونسيه.
يميل المديرون في مختلف القطاعات إلى ممارسة سلطتهم المكتشفة حديثاً، وذلك بإغلاق صفحة ترتيبات العمل والحوافز المتعلقة بالوباء. كان ريد هاستينغز، المؤسس المشارك لشركة «نيتفليكس» والمدير التنفيذي المشارك، قد صرح قرب بداية الوباء بأنه «لم يرَ أي إيجابيات» في العمل من المنزل، ويبدو أن الشركة لا تسمح إلا ببعض الأعمال عن بعد. وبحسب ما ورد من معلومات، فقد أخبرت شركة «تيك توك» موظفيها أنها قلصت عضوية الصالات الرياضية وسداد فواتير «واي فاي» وبدلات وجبة الغداء اليومية البالغة قيمتها 45 دولاراً للعمال الذين لا يعملون من خلال مقار الشركة، وذلك في محاولة لإعادة الانضباط إلى الشركة.
لكن لا يرى جميع الموظفين التقنيين هذه التحولات كإشارات. فقد تحدثت مؤخراً مع مديرة تسويق المنتجات بشركة «ميتا» التي تعرضت للتسريح، وكنت أتوقع أن تكون قلقة بشأن فرص عملها المستقبلي. لكن مع أجر ثلاثة أشهر حصلت عليها قبل تسريحها، واحتفاظها بمدخرات معقولة، كانت لا تزال متفائلة. ومع ما يقرب من 79 في المائة من مهندسي البرمجيات و76 في المائة من المسوقين الذين جرى تسريحهم في قطاع التكنولوجيا ونجاحهم في العثور على وظائف في غضون ثلاثة أشهر، فقد كانت على حق في أن تتفاءل.
ومع ذلك، فإن بعض الأشياء تبدو صحيحة الآن وتجعل التحول في ثقافة موظفي التكنولوجيا ليس مجرد لحظة وقتية ولكنها إعادة تعريف لكيفية إدارة شركات التكنولوجيا.
خسرت شركتا «ميتا» و«سيلزفورس» مجتمعتين أكثر من 700 مليار دولار من قيمهما السوقية العام الماضي. وتتعامل كلتا الشركتين الآن مع مستثمرين ناشطين اتخذوا مواقف بارزة في تعاملهم مع أسهمهم. ودعا النشطاء الشركات إلى خفض التكاليف، والحد من الاستثمارات غير الاستراتيجية، ولا سيما في حالة «ميتا»، وتقليص عمالتها بدرجة كبيرة. فالمديرون الآن باتت لديهم قدرة أقل في الإفراط في التعيينات أو الاستثمار في مبادرات الموظفين غير المرتبطين مباشرة بتنفيذ أعمالهم.
بالنسبة للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا ومديريها التنفيذيين، كانت السنوات العشر الماضية أشبه بـ«سباق الثيران» (مصطلح اقتصادي يعني السوق الصاعدة، على أنها فترة زمنية يشتري فيها غالبية المستثمرين، ويفوق الطلب العرض، وتكون ثقة السوق مرتفعة، والأسعار آخذة في الارتفاع). كانت أسعار الفائدة منخفضة، وبدا تمويل المشروعات بلا حدود وارتفعت التقييمات بشكل كبير. ومع كون المال متاحاً، مضى المديرون التنفيذيون قدماً بأن تابعوا الإيرادات، وزادوا من قواعد العملاء والاستثمار في عدد لا يحصى من الأشخاص (التوظيف) والمشروعات.
ومع ذلك، مع ارتفاع أسعار الفائدة الأخير منذ أواخر عام 2007 واستمرار عدم اليقين في حالة السوق، يفكر المستثمرون في المزيد من الاستثمارات في الشركات ذات القواعد القوية والتدفقات النقدية. وبالنسبة للمديرين المؤسسين، هذا يعني أنه سيكون من الصعب جمع التمويل، وسيكون لدى المستثمرين توقعات أكبر للعائد على أموالهم. وبالنسبة لشركات التكنولوجيا الكبيرة والشركات الناشئة على حد سواء، لم يعد النقد متاحاً مجاناً، ويجب أن تؤتي استثمارات الموظفين ثمارها.
نحن بصدد حقبة من ضغوط المستثمرين الخارجيين، وارتفاع عقبات التمويل وتقلبات السوق بشكل عام. وهذه البيئة تتطلب من الإدارة إجراء تغييرات هيكلية في طريقة تجربة ثقافة مكان العمل مع العمل ورأس المال على حد سواء.
تُستخدم قوة التكنولوجيا حالياً مع كل صوت انتخابي، وسيتعين عليها الآن الاستسلام لعالم جديد – عالم بتوقعات عالية واستثمارات منضبطة. إن عدم التفكير في رياح التغيير سيعرض وظائف الكثير من العمال أصحاب الصلاحيات للخطر.

من اقتصاد مُراقب إلى اقتصاد كاش عشوائي وخطر

 

تحوّل الإقتصاد اللبناني منذ نحو ثلاث سنوات ونصف السنة، من اقتصاد مُراقب ومُنظّم دولياً يلحق القواعد العالمية، إلى اقتصاد “الكاش” العشوائي والخطر على المدى المتوسط والبعيد.

إقتصاد الكاش هو أخطر إقتصاد في العالم، لأنه من المستحيل تنظيمه أو مراقبته، داخلياً، إقليمياً أو حتى دولياً. لذا، تهرب أكثرية الإقتصادات المتقدمة من التبادل عبر النقد، وتخفّف قدر المستطاع اقتصاد الكاش، الذي ليس له رقابة، ويمكن إستعماله لأهداف غامضة.

في لبنان، تحولنا إلى إقتصاد الكاش، عندما بدأت الأزمة الإقتصادية والإجتماعية في أواخر العام 2019، وانعدمت الثقة بالقطاع المصرفي، وأيضاً الثقة بين الأفراد والشركات، وبين بعضهم البعض، وأصبح الكاش الآمر الأول والأخير، وقد مُحيت الديون المتراكمة القديمة، الحالية وحتى المستقبلية من الدورة الإقتصادية.

إنّ هذا التحوّل وردّة الفعل هذه، منطقية على المدى القصير ويُمكن تفهمها، لكن عندما تصبح من ضمن الإقتصاد على المدى المتوسط والبعيد، تصبح خطرة جداً، ليس فقط في بلدنا لكن أيضاً في البلدان المجاورة وحتى الدولية. لأنّ إقتصاد الكاش يُستعمل لتبييض الأموال والتهريب وتمويل الإرهاب.

كنّا نفخر بمنصتنا التجارية والدولية التي كانت تجذب الإستثمارات والمستثمرين ورؤوس الأموال والرياديين، لِخلق النمو والتطور. للأسف، إنّ تحولنا الى اقتصاد الكاش يُهرّب المستثمرين الشفافين ويجذب غاسلي الأموال، ومموّلي الإرهاب، والمهربين والمروجين، في اقتصادنا الأسود الطاغي الجديد.

كان اقتصادنا يخلق وينمّي رواد الأعمال والمبتكرين والرياديين وقد أصبح إقتصاد الكاش يطور المهربين والمروجين والصرافين الفاسدين.

لذا علينا أن نكون حذرين جداً، لأنّ اقتصادنا الكاش الجديد أصبح تحت مجهر الدول المنظمة والمراقبة وراداراتها، ويمكن في أي وقت فرض عقوبات علينا، ومنع التحويلات، وحتى ما تبقّى من المصارف المراسلة، قد توقف التعاون مع لبنان والشركات اللبنانية واللبنانيين. فهذا يمكن أن يوجّه رصاصة الرحمة على ما تبقّى من أملنا ونيتنا بإعادة النهوض.

في الخلاصة، لا نزال نحفر في النفق السوداوي عينه، وتزداد المخاطر والضغوط، والهجوم المتتالي، على الإقتصاد الأبيض، ضد الإقتصاد الأسود المتمثّل باقتصاد الكاش الذي يكسب الأرض يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة.

د. فؤاد زمكحل