من الاحتياجات الأساسية إلى الترفيهية، يؤثر على كل شيء في حياتنا اليومية، إنه ملتهم العملات، ومحطم الاقتصادات، والقابع على صدر الأسر والحكومات.. إنه التضخم.
منذ أشهر ليست بالقليلة، أصبح التضخم ولا يزال الشغل الشاغل في العديد من دول العالم من آسيا إلى الولايات المتحدة ومن أوروبا إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فما الذي يسبب التضخم؟ وكيف يمكن قياسه والتصدي له؟
بداية، التضخم عبارة عن زيادة في أسعار السلع والخدمات، وبمرور الوقت يؤدي إلى تآكل القوة الشرائية، أي أن العملة مثلاً كالدولار الأميركي التي تشتري سلعة ما منذ سنوات، لا يمكنها شراء نفس السلعة الآن.
وهناك قصة قصيرة طريفة تلخص التضخم في معنى أن الكثير من النقود تطارد القليل من السلع والخدمات.
كيف يمكن قياس التضخم؟
لعلنا نتابع من شهر لآخر بيانات اقتصادية في دول كأميركا وأوروبا، وأبرزها مؤشر أسعار المستهلكين (CPI) الذي يعد أحد معايير قياس التضخم.
ومن أجل قياس التضخم، تدرس جهات الإحصاء “سلة السوق” للسلع والخدمات، وتقيس متوسط أسعارها من شهر لآخر، ومن هذه السلة التي تتضمن جزءا من السلع والخدمات التي تستهلكها الأسر في المدن على الأغلب، يتم حساب قراءة مؤشر أسعار المستهلكين.
بعد ذلك، يتم وضع قراءة بالنقاط للمؤشر في كل شهر ثم مقارنة تكلفة سلة عناصر السوق الحالية مع نفس التكلفة في الفترة السابقة. على سبيل المثال: إذا كان مؤشر أسعار المستهلكين سجل 255 نقطة في مارس آذار عام 2021 وارتفع إلى 260 نقطة في مارس آذار عام 2022، فإن هذا يعني أن التضخم سجل نسبة 1.9% خلال فترة الـ 12 شهراً.
وبالطبع، لا يعد مؤشر أسعار المستهلكين الوحيد الذي تعتمد عليه جهات الإحصاء في قياس التضخم، بل هناك مثلاً في الولايات المتحدة مؤشر أسعار المنتجين (PPI) الذي يتعقب أسعار مدخلات الإنتاج من قبل الشركات، وكذلك مؤشر الإنفاق الاستهلاكي الشخصي (PCE) الذي يقيس أسعار السلع والخدمات التي يشتريها المستهلكون، ويختلف عن مؤشر CPI في استثناء بعض السلع المقارنة.
ما الذي يسبب التضخم؟
يمكن للتضخم يمكن أن يحدث بسبب عوامل متعددة، ومع ذلك هناك بعض الأسباب المعقدة مثل ما حدث في عام 2022 حيث نتج بشكل جزئي عن استجابة الحكومات حول العالم لجائحة كوفيد-19 فضلاً عن الزيادات المفاجئة في الطلب مع تلاشي قيود الإغلاق المرتبطة بالجائحة ونقص العمالة.
وفيما يلي الأسباب الرئيسية لحدوث التضخم:
1. التضخم المدفوع بالطلب
يحدث هذا النوع من التضخم من خلال اندفاع المستهلكين في الطلب على سلع وخدمة بعينها بما يفوق قدرة الاقتصاد على تلبية هذا الطلب.. أي باختصار عندما يفوق الطلب العرض، ومن ثم، يضغط ذلك بشدة على الأسعار مما يؤدي إلى التضخم.
ومن الأمثلة العملية على ذلك تذاكر لمشاهدة Hamilton live في برودواي، فبعد ارتفاع الطلب، ووجود عدد محدود من المقاعد، ارتفع سعر التذكرة الواحدة إلى 2000 دولار لدى وسطاء، وهو أعلى بكثير من سعر التذكرة الأساسي البالغ 139 دولاراً فقط وسعر التذكرة المميزة البالغ 549 دولاراً في ذلك الوقت.
2. التضخم المدفوع بالتكلفة
التضخم المدفوع بالتكلفة عبارة عن زيادة الأسعار عندما ترتفع تكلفة الأجور ومواد الإنتاج، وغالباً ما يتم تمرير هذه التكاليف إلى المستهلكين في شكل أسعار أعلى لتلك السلع والخدمات.
مثال على ذلك، عندما ترتفع أسعار الأخشاب المستخدمة في المنازل، فإن ذلك ينعكس على أسعار الإسكان، والتي ترتفع هي الأخرى مما يؤدي إلى التضخم.
3. زيادة المعروض النقدي
المعروض النقدي هو إجمالي المبالغ المالية المتداولة في الأسواق، والتي تشمل النقد والعملات المعدنية والأرصدة والحسابات المصرفية. وحال زيادة المعروض من النقد بشكل أسرع من معدل الإنتاج، فقد يؤدي ذلك إلى التضخم، وخاصة تضخم الطلب لأنه سيكون هناك الكثير من الأموال التي تطارد منتجات قليلة جداً.
4. انخفاض قيمة العملة
تخفيض قيمة العملة يحدث عندما يتم تعديل سعر صرف عملة في بلد ما بالخفض، وتلجأ بعض الدول لتخفيض قيمة عملتها لكي تجعل صادراتها أقل تكلفة للدول الأخرى، ممي يعني تعزيز تنافسيتها.
كما أن تخفيض قيمة العملة المحلية يدفع المستهلكين لشراء سلع أنتجتها بلدهم لأنهم وقتها لا يستطيعون شراء السلع الأجنبية ذات السعر الأعلى بسبب تراجع قيمة ما بحوزنهم من عملات محلية.
واشتهرت الصين بهذا الأمر خاصة بعد توجيه الولايات المتحدة ودول أخرى اتهامات لبكين في مناسبات عدة بأنها تخفض قيمة اليوان.
5. زيادة الأجور
تدخل الأجور في تكلفة الإنتاج بميزانيات الشركات، وعندما ترتفع أجور العمالة، يتعين على الشركات إما تمرير التكلفة إلى المستهلكين من خلال سلع أعلى ثمنًا، أو محاولة التكيف ومحاولة تعويض نمو الأجور بإنتاجية أعلى.
ومع ذلك، لا يزال خبراء الاقتصاد مختلفين في آرائهم بشأن تأثير الزيادات التدريجية في الأجور، مثل رفع الحد الأدنى للأجور، مقارنة بنمو الأجور الأسرع والأكثر مفاجأة في أماكن مثل وادي السيليكون.
ويعتقد البعض أن الزيادة في الأجور يمكن أن تؤدي إلى تضخم مدفوع بالتكلفة بسبب ارتفاع تكلفة العمالة، بينما يعتقد البعض الآخر أن ارتفاع الأجور في جميع المجالات (وليس فقط التركيز في قطاعات معينة) سيزيد الطلب بما يكفي لتعويضه.
6. السياسات واللوائح التنظيمية
يمكن أن تؤدي بعض السياسات الحكومية إلى تضخم مدفوع بالتكلفة أو تضخم مدفوع بالطلب.
يحدث ذلك عندما تصدر الحكومة مزايا ضريبية لمنتجات معينة حيث يؤدي ذلك إلى زيادة الطلب، وفي حالة ارتفاع الطلب بما يفوق العرض، يزيد التضخم.
ما هي أدوات التصدي للتضخم؟
في بيئة التضخم الحالية حول العالم، الوسيلة الأبرز للتصدي له تكمن في قيام البنوك المركزية برفع معدلات الفائدة من أجل تقليل المعروض النقدي وخفض الإنفاق، مما يؤدي إلى تقليص الطلب على السلع والخدمات، ومن ثم، انخفاض التضخم.
وتعد السيطرة على التضخم من الناحية النظرية مختلفة عن محاربته بوسائل عملية أخرى مثل زيادة الإنتاج وأيضاً الادخار وتقليل الإنفاق من جانب الأسر والشركات.
وهناك عدة وسائل أخرى نستعرضها فيما يلي:
ضوابط الأسعار
ضوابط الأسعار يمكن أن فرضها عن طريق وضع حدود للأسعار من جانب الحكومات وتطبيقها على سلع بعينها، ويمكن أن يحدث ذلك بالتوازي مع ضوابط الأجور.
في عام 1971، طبق الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ضوابط بعيدة المدى على الأسعار في محاولة لمواجهة ارتفاع التضخم. على الرغم من أن ضوابط الأسعار كانت شائعة في البداية واعتبرت فعالة، إلا أنها لم تتمكن من التحكم في الأسعار عندما ارتفع التضخم في عام 1973 إلى أعلى مستوياته منذ الحرب العالمية الثانية.
السياسات النقدية الانكماشية
تعد حالياً الطريقة الأكثر شيوعاً للسيطرة على التضخم والهدف منها تقليل المعروض النقدي داخل الاقتصاد عن طريق زيادة أسعار الفائدة.
لكن هذا يساعد على إبطاء النمو الاقتصادي من خلال جعل الائتمان أكثر تكلفة، مما يقلل من إنفاق المستهلكين الأفراد والشركات.
معدل الأموال الفدرالية
معدل الأموال الفدرالية هو المعدل الذي تقرض به البنوك بعضها البعض على مدار الليلة، ولا يتم تحديد معدل الأموال الفدرالية مباشرة من قبل الاحتياطي الفدرالي.
مثلا، من خلال رفع هذه المعدلات، يشجع الاحتياطي الفدرالي البنوك والمقرضين الآخرين على رفع أسعار الفائدة على القروض ذات المخاطر العالية وسحب المزيد من أموالهم إلى الفدرالي، وبالتالي تقليل المعروض النقدي، مما يؤدي إلى تقليل التضخم.
عمليات السوق المفتوحة
تعد اتفاقيات إعادة الشراء العكسية (الريبو والريبو العكسي) مثالاً على عمليات السوق المفتوحة، والتي تشير إلى شراء وبيع سندات الخزينة، وهي أداة يزيد بها الفدرالي الأميركي أو يقلل المعروض النقدي ويعدل أسعار الفائدة.
متطلبات الاحتياطي النقدي
حتى 26 مارس آذار عام 2020، كان الاحتياطي الفدرالي يدير المعروض النقدي من خلال متطلبات الاحتياطي الإلزامي على البنوك، وهو مقدار الأموال التي يجب على البنوك أن تحتفظ بها في خزائنها لتغطية عمليات السحب، وكلما زاد الاحتياطي الإلزامي لدى البنوك، كلما قلت السيولة المتاحة لديها لإقراض المستهلكين، وهو ما يسهم أيضاً في انخفاض المعروض النقدي، ومن ثم السيطرة على التضخم.