إسترجاع الودائع… وهم وكذب أو حقيقة وواقع؟

يكون استرجاع الودائع كاذباً ووهماً عندما يُجرّ الشعب بوحول السياسة، وتتبارى بعض المجموعات السياسية والحزبية لتحريك الشارع لأهداف شخصية، ومن دون أي نية حقيقية لحماية الشعب الكادح والمذلول. فالهدف الواضح جرّ البلاد إلى الفوضى الشاملة والإنهيار الكامل لضرب ما تبقّى من الأمن وطمر جرائمهم.

يكون استرجاع الودائع وهماً وكاذباً عندما تكون الإستراتيجية الأساسية المتبعة، سياسة التجميد والشلل والمقاطعة، والتدمير الذاتي لكل مؤسسات الدولة، لطعن العدالة وما تبقى من الحقوق والحقيقة.

يكون استرجاع الودائع وهمياً وكاذباً عندما يتحوّل هذا المشروع إلى خطة إفلاسية وتصفية عوضاً من أن تكون إصلاحية ولإعادة الهيكلية. فإذا نُفذت هذه الخطة لن يصل للمودعين أي قرش من ودائعهم حتى على المدى الطويل.

يكون استرجاع الودائع وهمياً وكاذباً عندما تنشأ بسحر ساحر يوماً بعد يوم، شركات وهمية، وسوق موازية أو السوق السوداء الموازية، ليستفيد منها مَن سرق ودائع المودعين، أو مَن يدّعي أنهم يُخلّصون الودائع بأثمان بخسة، وهم المسؤولون وسارقو الودائع الأساسي، فيُبنى اقتصاد أسود ليُدمّر ما تبقى من الإقتصاد الأبيض، كي يُهرّب المستثمر والريادي والمبتكر، ويُستقطب المروّج والمهرّب والمبيّض.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً، عندما نبدأ تحديد قيمة الودائع في تاريخ معين، بعد شطب بعض الفوائد الفادحة وبعض التحويلات غير المنطقية، فحسب مرصد صندوق النقد الدولي إن الودائع الرسمية والمفترضة تُراوح بين 70 و75 مليار دولار. فنقطة الإنطلاق تبدأ عندما تعترف الدولة بمسؤوليتها وتلتزم استرجاع جزء منها، على المدى القصير، المتوسط والبعيد، حينئذ تُجبر المصارف على تحديد نسبة مسؤوليتها وتلتزم دورها باسترجاع جزء من هذه الودائع المتراكمة على المدى القصير والمتوسط والبعيد.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً عندما تبدأ فعلياً جدولة هذه الديون وتنفيذ الإسترجاع بطريقة دقيقة وشفافة.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً عندما تُحدد المسؤوليات ويوضع جدول الإسترجاع على المدى القصير، المتوسط والبعيد. وحينئذ يُعاد تنشيط مؤسسات الدولة، والقطاع المصرفي ليكون منتجاً وقادراً على تحقيق الأرباح كي يستطيع تنفيذ إعادة الجدولة.

يكون استرجاع الودائع واقعياً وحقيقياً، عندما تبدأ الدولة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتعطي جزءاً من الملكية للمودعين المغدورين والمطعونين.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً عندما نُعيد الدورة الإقتصادية وبناء النمو وجذب الإستثمار، فنعيد بناء الثقة الداخلية والخارجية، ونبرهن نية حقيقية لإعادة الهيكلية وإعادة الجدولة بطريقة منتظمة ومستمرة.

في المحصّلة، إن الوعود التي نشهدها اليوم ليس فيها شيء من الحقيقة والواقعية، لكنها وعود وهمية وكاذبة وتكملة لكابوس النهب الجماعي والتدمير الذاتي المُستدام. لا عتب على الذين يقدمون وعوداً وهمية وشعارات كاذبة على الشاشات والمنصات، لكن العتب على الذين يصدقونهم ويصفقون مرة أخرى لجلاّديهم الذين ينهبونهم أكثر وأكثر.

د. فؤاد زمكحل

أزمة مصرفية عالميّة؟ لا يؤخذ بكلام المسؤولين؟

لا شكّ أنّ وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين قرأت كتاب سلفها هانك بولسون الذي كان يجلس في مكتبها حين وقعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، أثناء ولاية جورج بوش الابن الثانية.

في كتابه “On The Brink” (على شفير الهاوية)، يروي بولسون مذكّرات تلك الليلة العصيبة حين انهار بنك “ليمان براذرز”، وأوشكت على الانهيار بعده أكبر بنوك وول ستريت وكبريات شركات صناعة السيارات. المذهل أنّ ذلك الوزير أتى إلى البيت الأبيض عام 2006 من خلفيّة مصرفية وماليّة بحتة، إذ كان قبل ذلك رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمصرف “غولدمان ساكس”، ومع ذلك لم يتمكّن من تفادي وقوع الأزمة المالية، على الرغم من وضوح مقدّماتها ومؤشّرات توقّعها حين تُستعرض بأثر رجعي.

يقول بولسون إنّه كان يتوقّع الأزمة، وإنّه أسرّ بذلك للرئيس، لكنّه لم يكن يتوقّع أن تكون بهذه الحدّة وبهذا المدى الشامل. من صفحات ذلك الكتاب يمكن استخلاص قاعدة تصلح كلّما ظهرت مقدّمات لأزمات كبرى: لا تطمئن لما يقوله المسؤول، ليس فقط لأنّه لا يفصح عن كلّ ما يتوقّعه، بل لأنّه في الغالب لا يملك التوقّع الصائب.

قال جانيت يلين أمس إنّ السحوبات من البنوك “الإقليمية” (المتوسّطة الحجم والصغيرة) في بلادها بدأت تهدأ، وإنّ القطاع المصرفي يتّجه إلى الاستقرار بعد الإفلاسين الأخيرين لبنكَي “سيليكون فالي” و”سيغنيتشر”. ذاك هو توقّعها، إلا أنّ الأزمات المصرفية بالذات لها ديناميّتها الخاصة، فالحقائق ليست ما يملكه المسؤولون من أرقام، بل ما تصنعه وقائع السوق لحظة بلحظة.

انهيار “كريدي سويس”

هذا ما ينطبق تماماً على انهيار قصّة المصرف السويسري العريق “كريدي سويس” بعد 166 سنة من تأسيسه. فإذا كانت الحكمة السائدة تقول إنّ “البنك لا تقتله رصاصة، بل تقتله شائعة”، فإنّ النمط الجديد من الأزمات يشير إلى أنّ البنك لا تقتله صحّته المالية، بل تقتله وسائل التواصل الاجتماعي.

في مطلع تشرين الأول الماضي، كان “كريدي سويس” على الورق من أفضل البنوك الأوروبية من حيث المتانة الرأسمالية وفق المعايير الرقابية، ولو أنّه كان في حاجة إلى زيادة رأس المال لإعادة هيكلة أعماله ودعم وحدته الاستثمارية التي كانت تعاني من قلّة النشاط. من دون سابق إنذار، انتشرت شائعات على “تويتر” ومنتديات موقع Reddit في شأن سلامته المالية، وغرّد صحافي أسترالي بأنّ بنكاً كبيراً على وشك السقوط، فاتّجهت الأنظار إلى البنك السويسري ليكون المشتبه به الوحيد، وبعد ذلك انهار سهم البنك.

إثر ذلك تمكّن ثاني أكبر بنك في سويسرا من تخطّي تلك الأزمة، وكان يسير على الطريق الصحيح لإعادة الهيكلة بعدما جمع رأس مالٍ جديداً من أربعة مليارات دولار أواخر العام الماضي، أتى أكثر من ثلثها من البنك الأهلي السعودي، أكبر بنوك المملكة.

شرارة الأزمة الأخيرة القاتلة أتت من الولايات المتحدة. فبعد انهيار بنك “سيليكون فالي” وبنكين آخرين، عادت الشائعات لتضرب “كريدي سويس”، فواجه حملة سحوبات غير مسبوقة للودائع بوتيرة وصلت إلى عشرة مليارات دولار يومياً. مرّة أخرى، لعب “تويتر” دوراً قاتلاً في نشر الأجواء السلبية حول البنك.

قد يبقى الأمر مفهوماً حين يتعلّق الأمر بـ”كريدي سويس”، ففي تاريخ البنك الكثير من الأزمات على مدى العقود الثلاثة الماضية، من استحواذات فاشلة وفضائح في ذراعه الاستثمارية، وصراعات داخلية في مستويات الإدارة العليا، وسوء إدارة ائتمانية، ولو أنّ كلّ ذلك لم يكن السبب المباشر لانهياره. لكنّ أزمة البنوك الأميركية المستجدّة فيها مفارقات أكبر.

الأزمة في أميركا

ما يستوقف في انهيار بنك “سيليكون فالي” أنّ البنك لم يستثمر أموال مودعيه في أصول مسمومة أو عالية المخاطر، على النحو الذي أدّى إلى الأزمة المصرفية العالمية في 2008، والتي نُسبت إلى سوق مشتقّات الرهن العقاري، بل كانت الضربة القاضية للبنك استثماره في سندات الخزينة الأميركية، التي تعدّ عالمياً أكثر الأصول المالية أماناً على وجه الأرض وأعلاها تصنيفاً. لكنّ ما جرى أنّ القيمة السوقية لتلك السندات انخفضت نتيجة سلسلة قرارات رفع الفائدة الأميركية بسرعة غير مسبوقة في التاريخ، من الصفر إلى 4.75% خلال فترة لم تتجاوز 13 شهراً.

وفي لحظة ما اضطرّ بنك سيليكون فالي إلى توفير السيولة، فباع جزءاً من محفظة السندات لديه بخسارة قاربت مليار دولار، فاضطرّ إلى طلب زيادة رأسماله بـ 2.25 مليار دولار، لكن فشلت العملية وحدث ما حدث.

يقول كثير من المحلّلين هذه الأيام إنّ الأزمة الراهنة كان من السهل توقّعها. فحين يرفع الاحتياطي الفدرالي الفائدة لا بدّ أن ينكسر شيء ما في نهاية الأمر، وقد انكسر سوق الرهن العقاري في 2008، وها هو سوق البنوك المتوسّطة الحجم ينكسر الآن.

لكنّ الملاحظة المهمّة أنّ رئيس الاحتياطي الفدرالي كان يتحدّث أمام الكونغرس قبل أيام قليلة من أزمة بنك “سيليكون فالي”، ويمكن الجزم أنّه لم يكن يتوقّع شيئاً ممّا جرى. بل إنّه كان يقول إنّ البيانات الاقتصادية “أقوى من توقّعاتنا السابقة”، وإنّ ذلك قد يستدعي “رفع الفائدة إلى ذروة أعلى ممّا كنّا نتوقّعه في السابق”. وفهمت الأسواق من كلامه أنّ وتيرة رفع الفائدة ستشتدّ. تترقّب الأسواق الآن اختتام اجتماع الاحتياطي الفدرالي مساء اليوم الأربعاء، ويراهن كثيرون على أنّه قد يتخلّى عن رفع الفائدة هذا الشهر لاحتواء التطوّرات.

الخيارات صعبة أمام الاحتياطي الفدرالي، فمعركته مع التضخّم لا يمكن تجميدها أو إيقافها، لكنّ الانتصار فيها سيصبح عديم المعنى إذا تحطّم الاستقرار المالي.

الأزمة الآن ملك الأسواق إلى حدّ بعيد، ووقائع الأيام المقبلة وحدها كفيلة بتحديد كيفية تصرّف المودعين: هل تعود إليهم الثقة، أم تنتقل عدوى السحوبات من بنك إلى آخر؟ يمكن لجيروم باول وجانيت يلين اتّخاذ إجراءات لمنع انهيار بنك أو ضخّ السيولة، لكنّ التحكّم بما يفكّر به الناس مهمّة أصعب في هذا الزمن.

عبادة اللدن