مع تنوع الأزمات المتعاقبة والمستمرة منذ بداية هذا العقد بين جائحة صحية عالمية، وتدهور جيوسياسي شمل حرباً على أرض أوروبية، وأزمة مناخ بتداعيات مدمرة للطبيعة والبيئة وأسباب المعيشة، وتدني الأداء الاقتصادي العام مع ارتفاع حاد في معدلات التضخم، وتراجع معدلات النمو والوقوع تحت مهددات الركود التضخمي، وتعرض بلدان نامية لمعضلات كبرى في إدارة ديونها الخارجية. وباعتبار أن الأزمات لم تعد تأتي فرادى فأتت معها بصنف من الأزمات التي تكررت على مدار العقود الماضية، ألا وهي الأزمة المصرفية، وهي أزمة غير مفتقدة بحال بعد ما ألحقته بالعالم من نوائب كما حدث في عام 2008، ولكن إرهاصاتها أطلت بقوة خلال الأيام الماضية لتسهم في إرباك الأسواق، وتصيب مودعين ومساهمين في عدة بنوك بالذعر.
وتماماً كحال بنك ليمان براذرز عند سقوطه مشعلاً فتيل الأزمة المالية العالمية، لم يسمع كثيرون عن بنك سيليكون فالي «إس في بي» إلا بعد اضطراب أوضاعه المالية ثم تعرضه للإفلاس. عرف الناس بعد ذلك أن البنك المتهاوي، هو السادس عشر في ترتيب البنوك الأميركية، وأنه قد استمر في العمل لمدة 40 عاماً متخصصاً في تمويل الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا والتطبيقات الرقمية. وشهد البنك قفزة في أصوله المالية بنحو 3 مرات من 70 مليار دولار في عام 2019 إلى ما يقترب من 210 مليارات دولار في أقل من 3 سنوات. ويسيطر مودعو الجملة من المؤسسات والصناديق المالية على ودائعه بإجمالي 170 مليار دولار، منها 4 مليارات دولار لمودعين أفراد.
ومع انتشار أخبار تعرض الشركة الأم للبنك لخسارة مقدارها 1.8 مليار دولار في آخر عام 2022، وتعثر البنك في تعبئة 2.25 مليار دولار من خلال طرح أسهم لتعزيز رأسماله، تعرّض البنك لهجوم من مودعيه لسحب ما يزيد على 40 مليار دولار في خلال يوم واحد. واشتدت حدة الأزمة بإعلان تعثر بنك سغنيتشر بنيويورك ذي الأصول المالية البالغة 118 مليار دولار، والذي عانى مؤخراً من مشكلات في إدارته، منها زيادة نسبة الودائع غير المؤمنة، وزيادة نسبة الأصول المالية المشفرة في عملياته، وكذلك في التزاماته حتى بلغت 30 في المائة من إجمالي الودائع. وتعرّض البنك الذي تأسس منذ أكثر من عقدين لسحب مفاجئ من ودائعه بلغ 10 مليارات دولار في يوم واحد.
وفي هذه الأثناء تواترت الأنباء القادمة من أوروبا بتداعي أوضاع بنك كريدي سويس السويسري، وهو بنك قديم كبير الحجم بما جعله في قوائم البنوك المصنفة؛ وفقاً لاعتبارات المخاطر النظامية العالمية، أي أن سقوطه قد يؤدي إلى مخاطر على النظام المالي العالمي بتأثير قيمة تعاملاته وتشابك ارتباطاته الدولية. وقد تعرض بنك كريدي سويس مؤخراً لسلسلة من المشكلات مع توقعات باستمرار خسائره، مع رفض كبار المستثمرين فيه لتعزيز رأسماله بما خفض من تصنيفه الائتماني وتقييمه السوقي مع تقلب عنيف في أسعار أسهمه، وارتفاع حاد في تكاليف تمويل نشاطه من خلال إصدار سندات في الأسواق المالية.
تذكرني هذه الوقائع بعبارة رددها بعض أساتذة علم النقود والبنوك العتيدين في وصفهم لتطور أحد البنوك بقولهم: «وظل البنك يعمل بنجاح حتى أفلس». وإذا كانت «حتى» قد حيّرت علماء النحو لاختلاف معناها مع ما يأتي بعدها مجروراً أو منصوباً أو مرفوعاً، لكن في موضوعنا هذا فالتعرف على ما سبق «حتى» من ملابسات شديد الأهمية لفهم تطور عمل البنك المعني، وكيفية تحوله من الربح إلى الخسارة، وتعرضه إلى أزمات سيولة، فساءت لتصبح أزمة ملاءة مالية والعجز عن الوفاء بالحقوق ومن ثم الإفلاس. أما ما سيؤول إليه وضع البنك المفلس فيختلف من حيث طريقة المعالجة، وإن كان هناك اتفاق في الحالتين الأميركية والسويسرية على حماية المودعين بالكامل دون ضرر.
تداعيات التأخر في التقييد النقدي ثم الرفع المتسارع لأسعار الفائدة: بعد فترة من التيسير المالي المفرط إبان التعامل مع الجائحة أصابت زيادات أسعار الفائدة المتعاقبة الأسواق النقدية والمالية باضطرابات وردود أفعال عنيفة في حركة المحافظ المالية، وانتقال الأموال من وعاء إلى آخر بسرعات تجاوزت قدرة بعض المؤسسات المالية على إدارة السيولة ومخاطر الاستثمار، حيث تعرضت بعض المحافظ لانخفاض حاد في قيم السندات طويلة الأجل المحتفظ بها مع رفع أسعار الفائدة، وتعرّضَ مستثمرون وعدة مؤسسات مالية لخسائر، خصوصاً مع هروب إيداعات إلى العوائد الأعلى بأوعية مالية جديدة.
أثر العدوى وهلع الأسواق:
في أجواء مختلفة أكثر استقراراً لم تكن لتبالي السلطات النقدية والمالية فتبادر بنجدة مودعي بنك سيليكون فالي أو بنك سغنيتشر، ولتركوا للتعامل مع الآليات الموجودة بتغطية جزئية للودائع حتى 250 ألف دولار، ثم انتظار قسمة أصحاب الحقوق بعد تصفية البنك إن تبقى من أصوله ومقوماته ما يستحق. ولكن عوامل ثلاثة تدور حول أثر العدوى عجلت بتدخل السلطات الاقتصادية الأميركية: أولها دروس الأزمة المالية العالمية والخبرة التعيسة مع ترك بنك ليمان براذرز ليسقط في عام 2008 مخلفاً وراءه مدمرات للثقة أسهمت في اشتعال الأزمة المالية العالمية من خلال أثر العدوى وهلع الأسواق. ثاني العوامل ما يرتبط بالوضع الحرج للاقتصاد الذي يعاني من التضخم ويصارع احتمالات تراجع النمو والوقوع في براثن الركود التضخمي، فضلاً عن تحديات سياسية واقتصادية أخرى تأتي على أعتاب انتخابات جديدة في الولايات المتحدة جعلت الحكومة تؤثر السلامة باحتواء أزمة جديدة قبل استفحالها. ثالثاً أهمية التجاوب مع سرعة تداول الأخبار والتحليلات المصحوبة بمطالب الحسم السريع قبل انتشار العدوى فعلاً.
طرافة وتساؤلات حول الرقم 250:
بعد الأزمة المالية العالمية حددت القوانين 250 مليار دولار من الأصول المالية لتعريف البنوك الكبيرة التي قد يترتب على الخلل فيها مخاطر «نظامية» على سائر القطاع المالي، وتخضع هذه البنوك لإشراف مدقق واختبارات دورية إضافية على سلامتها وتوفر السيولة بها وقدرتها على مواجهة الصدمات. ولكن بنك سيليكون فالي سعى في عام 2018 مع جهات أخرى لتعديل القانون لإعفائه من هذه القيود بتعديل يستثني البنوك التي تقل أصولها عن 250 مليار من هذه القيود الرقابية، باعتبار أنه لا يشكل مخاطر نظامية. ورغم ذلك بعد سقوط البنك اعتبر هو وبنك سغنيتشر من هذا التصنيف للبنوك الكبيرة، حتى يمكن إنقاذ مودعيهما. والطرفة الأخرى للرقم 250 هي ما تحدده قواعد التأمين على الودائع، بأن تضمن ما لا يتجاوز 250 ألف دولار كحد أقصى للمودع. ولكن في وقت الأزمة اضطرت السلطات النقدية لضمان كافة المودعين والإيداعات من دون حد أقصى.
تدخل غير مسبوق من السلطات النقدية والمالية للتعامل مع أزمة المصارف:
في مواجهة المشكلات الاقتصادية والمالية الحادة ينبغي التدخل السريع الفعال وإلا تحولت لأزمة، أما إذا كان التدخل الحكومي فاشلاً فسوف تتحول المشكلات لكوارث ممتدة الأذى. وفي هذه المرة كان التدخل حاسماً لتهدئة الأسواق، وبث الثقة في مودعي البنوك، ومنع تدهور الأوضاع بما يحاكي أزمة 2008 أو ما هو أسوأ. فتم الإعلان عن حماية كافة الودائع لبنك سيليكون فالي وكذلك بنك سغنيتشر، والتكلفة ستتحملها الهيئة الفيدرالية للتأمين على الودائع، وإتاحة آلية مالية بالبنك الفيدرالي بالتنسيق مع وزارة الخزانة؛ لتوفير السيولة العاجلة المطلوبة في حالة زيادة الطلب على الودائع بما لا تضطر البنوك لبيع أصولها المالية فجأة. كما تدخلت السلطات الرقابية السويسرية لتنسيق استحواذ بنك يو بي إس على بنك كريدي سويس مقابل 3.23 مليار دولار مع إتاحة مائة مليار دولار من البنك المركزي السويسري للبنك المستحوذ وفقاً لما أوردته صحيفة «فاينانشيال تايمز» لتيسير عملية الاستحواذ والوفاء بالالتزامات. واتفق البنك الفيدرالي مع البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية في المملكة المتحدة واليابان وكندا وسويسرا لإتاحة خط مبادلة يومي لإتاحة السيولة الدولارية للأسواق المالية حال الحاجة إليها، على أن يعمل بذلك فوراً حتى نهاية شهر أبريل (نيسان).
هناك استفادة من بعض دروس الأزمة المالية العالمية بسرعة التدخل لحماية النظام المالي الذي يعد في مجمله أكثر متانة وملاءة مما كان عليه الوضع قبل الأزمة، لكن سيظل النظام المالي محل اختبار لقياس صلابته في التعامل مع الصدمات. وستكون هناك مراجعات لأسباب ما حدث في البنوك المذكورة هل لقصور في نظم الرقابة أم لتقصير في تطبيقها؟ وسيكون هناك نقاش حول الحد الذي يمكن الاتفاق عليه لاعتبار البنك المعني مؤثرا على سلامة النظام المالي ومخاطره، وحول فاعلية نظم التأمين على الودائع. أما بالنسبة لاتجاهات أسعار الفائدة ففي تقديري أن البنك الفيدرالي سيستمر في اتجاه الرفع المتوقع في حدود ربع نقطة مئوية لتأكيد عزمه على السيطرة على التضخم، وإرسال إشارة بأن الوضع المالي مستقر ولا يستدعي تغييراً في السياسة النقدية المرسومة. أما أثر هذا كله على الاقتصاد الحقيقي فأميل إلى أنه سيكون ذا أثر انكماشي بتراجع الطلب من خلال تقييد الائتمان مرة من خلال سعر الفائدة ومرة أخرى باتباع البنوك والرقباء عليها إجراءات أكثر تمحيصاً وحرصاً في استثماراتها، وتوجيه أصولها المالية وإدارة محافظها. أما عن تأثير ذلك كله على البلدان النامية فهو مرتبط بمدى متانة اقتصاداتها، وبمرونة سياساتها في التعامل مع الصدمات المتواترة، وفي ذلك سيناريوهات نتناولها في مقال قادم.
د. محمود محيي الدين