«إقتصادات» العالم تتجه نحو الـ Stagflation

في ظل مشاكلنا المتزايدة في لبنان، وصراعنا اليومي كي نبقى على قيد الحياة، وتركيزنا المضاعف على أزماتنا المتراكمة الإقتصادية والإجتماعية والمالية والنقدية، من المهم ألاّ نغضّ النظر عن الأزمات الدولية، وبالأخص إعادة هيكلة كل اقتصادات العالم، والتغيّرات الجذرية، وأيضاً المعضلات حيال التضخم المفرط الحاصل بالتوازي مع ركود وانكماش الذي يجرّنا على الطريق الشائك نحو الـ Stagflation.

لم تكد الإقتصادات الدولية تبلسم جروحها التي سبّبتها جائحة كورونا بعد سنتين من تجميد كل عقارب النمو والتبادل التجاري الدولي، حتى فوجئت أوروبا والعالم ككل بالحرب الروسية – الأوكرانية، وأبعادها الدولية ونتائجها ليس بالأضرار البشرية والتخريبية فحسب، لكن أيضاً بالتضخم الدولي والركود الناتج عنه.

إن هذا التضخم أدّى مباشرة إلى ارتفاعٍ مخيف في سعر صرف الدولار الأميركي والضغوط على كل البلدان التي تتعامل بالعملة الخضراء. وقد أدّى إرتفاع سعر الصرف هذا، إلى التضخم في هذه البلدان مصحوباً بركود وانكماش.

من جهة أخرى، إن هذه الحرب أدت أيضاً إلى التوصل نحو آفاق دراماتيكية في كل أسعار الموارد الطبيعية، لا سيما النفطية والغازية، وأيضاً الموارد الزراعية ومشتقاتها، مما ساهم في ارتفاع التضخم أكثر في كل بلدان العالم.

هذا التضخّم المفرط الذي أصبح مستداماً ومتزايداً أدى إلى زيادة مباشرة وغير مباشرة في سائر تكاليف الإنتاج والتصدير والتخزين، والذي أدى بدوره إلى إرتفاع أسعار وثمن المبيع، وانعكس أيضاً ارتفاعاً في الكلفة المعيشية وكل تكاليف الحاجات الأساسية لا سيما الطعام والشراب لكل شعوب العالم.

من جهة أخرى، إنّ هذا التضخم أدى مباشرة إلى إرتفاع الفوائد المصرفية التي أدت إلى انخفاض الإستثمارات وانكماش وجمود أكبر دولياً. ومن بعض نتائج هذه الـ Stagflation إرتفاع 27 % من الإفلاسات في الشركات في أوروبا وحدها.
فهذا يعني أن التوترات الدولية الراهنة ستواصل دفع التضخم إلى قمم أعلى، في ظل انكماش وركود متواصل، ولبنان الذي أصبح مدولراً بامتياز ومتّكلاً أكثر فأكثر على العملة الخضراء سيواجه مشكلة إقتصادية دولية جديدة، ستضاف الى أزماتنا الإقتصادية والمالية والنقدية الكارثية.

أما الركود والإنكماش المتزامن مع هذا التضخم فسيوثران مباشرة على المغتربين اللبنانيين، وتدفقاتهم المالية، التي تقترب من 40% – 50% من الناتج المحلي الراهن.
في الخلاصة، لا شك في أن أزماتنا الداخلية تتزايد يوماً بعد يوم، لكن علينا أن يتكوّن لدينا رؤية إقتصادية، كلية وشاملة وماكرو-إقتصادية لرسم خطط واستراتيجيات لمواجهة هذه الأزمات الداخلية، الإقليمية والدولية، على المدى القصير والمتوسط والبعيد. العالم متجه نحو الـ Stagflation بينما لبنان يتابع إستراتيجيته التخريبية الداخلية، والتدمير الذاتي.

د. فؤاد زمكحل

قصة استيلاء الدولة على الودائع خلال 12 عاماً

بعد أكثر من ثلاث سنوات على بدء الانهيار المالي والاقتصادي، بات هناك قناعة مكوّنة من شقين: أولاً، انّ الاطراف الثلاثة المسؤولة عن الأزمة هي الدولة، مصرف لبنان والمصارف. وثانياً، انه اذا لم تشارك الدولة في تسديد ديونها، أو جزء منها، فإنّ مصير الودائع لن يكون واعداً.

في توزيع المسؤوليات، لا يزال هناك خلاف على التراتبية بين الاطراف الثلاثة، بمعنى ان البعض يعتبر ان المصارف مسؤولة أولاً، ومن ثم مصرف لبنان واخيراً الدولة. في حين يعكس آخرون هذه التراتبية، ويضع الدولة على رأس قائمة المسؤولية وبعدها المركزي ومن ثم المصارف. وفي موضوع تسديد الدولة لديونها، هناك وجهات نظر متضاربة، اذ يعتبر البعض انّ المسؤول ليس مَن اقترض وأنفَق، بل مَن وافق على الاقراض.

في النتيجة، تبدو المواجهة اليوم أبعد من مسألة تتعلق بالتشريعات ووحدة المعايير في القضاء، لتصل الى عمق الأزمة، أي الى الخاتمة التي ستنتهي إليها هذه الأزمة. وفي هذا السياق، تبرز نية السلطة في التنصّل من اية مسؤولية، بذريعة عدم القدرة على تنفيذ أية خطة إنقاذية، اذا لم يتم شطب ديونها، والبدء على بياض.

من هنا، ستكون المواجهة قاسية بين السلطة والمصارف، في حين انّ بعض جمعيات المودعين، ولأسباب غير مُقنعة، لا تتدخل في هذه المعركة الحاسمة، مع انّ نتيجتها ستقرّر مصير أموال المودعين. وما يؤكد على قساوة المواجهة، مضمون الدعوى التي تقدمت بها جمعية المصارف اللبنانية الى مجلس شورى الدولة لِوقف تنفيذ البند 3 من قرار مجلس الوزراء تاريخ 20/05/2022. والقرار المُستهدف بالدعوى يتناول ما أطلقت عليه الحكومة في جلستها الاخيرة قبل ان تتحول الى حكومة تصريف اعمال، تسمية «خطة الحكومة للتعافي المالي والاقتصادي»، وضَمّنتها وثيقة بعنوان «استراتيجية النهوض بالقطاع المالي» قضت في البند الثالث منها بـ»إلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف اللبنانية لخفض العجز في رأس مال المصرف المركزي».

وفي قراءة مضمون الشكوى التي تقدمت بها المصارف، هناك اتهام واضح للسلطة بمصادرة اموال المودعين ومحاولة تملّكها بالقوة، من خلال إصدار قرارات وزارية، كما هي حال القرار الصادر في 20 ايار 2022. وتصف المصارف في احد بنود الادّعاء، ما جرى على الشكل التالي: «بعد قيام الدولة اللبنانية بمصادرة ودائع المصارف لدى مصرف لبنان والتصرّف بها وتَملّكها ما بين 2010 و2021 من دون الإعلان عن ذلك في حينه، وبالتالي فإنّ القرار المَشكو منه لا يتعلق بعمل مستقبلي تنوي الحكومة القيام به، بمعنى أن القرار لا يعبّر عن رغبة الدولة اللبنانية في المستقبل ‏بالاستدانة من مصرف لبنان بما يوازي الودائع الخاصة لديه وتملّكها نهائياً، بل انّ القرار المشكو منه هو قرار استلحاقي أتى لإعلان a posteriori وبمفعول رجعي أن تملّك الودائع الذي نفذته الدولة اللبنانية وانتهت من تنفيذه من دون أن تسميه في حينه كذلك، أصبح بموجب القرار تملكاً نهائياً».

وتستعين المصارف بكلام حاكم مصرف لبنان، والذي كشف فيه «انّ الدولة استدانت من مصرف لبنان ما بين العام 2010 والعام 2021 مبلغ 62 مليار دولار، وأنّ هذا المبلغ مساوٍ لديون مصرف لبنان تجاه المصارف اللبنانية من جهة، وموجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية من جهة أخرى. وبالتالي، مساوٍ لأموال المودعين لدى المصارف اللبنانية».

وهكذا تكون الدولة قد قررت، وبمفعول رجعي، الاستيلاء على اموال المودعين، بقرار يكرّس استيلائها ومصادرتها لأموالهم. وبذلك تحاول الدولة جَعل المودعين يحلّون مكانها في دفع الخسائر، «عبر تحويل المبالغ التي استدانتها الدولة وأنفقتها من ودائع المودعين من دين إلى ملكية نهائية».

هذه باختصار الروحية التي بَنت عليها المصارف مضمون الدعوى ضد الدولة اللبنانية. وهي تُظهر، بما لا يقبل الشك، في انّ المواجهة المثلّثة الأضلع، بين الدولة ومصرفها المركزي، والمصارف والمودعين ستكون مُحتدمة في المرحلة المقبلة. خصوصاً ان المشكلة ستبرز ايضاً على مستوى تحديد المسؤولية في موافقة المركزي على إقراض الدولة، وهل ان بنود قانون النقد والتسليف تغطي هذا الامر؟

يبقى انّ هذه الاشكالية ترتبط بديون أخذتها الدولة ولا تريد تسديدها، وتبيَّن انها اموال المودعين. ولكن السؤال الآخر المطروح، كيف سيتم التعاطي مع 20 الى 24 مليار دولار تمّ إنفاقها من اموال المودعين ايضاً، منذ اندلاع الأزمة، من خلال ما عُرف بسياسة الدعم؟ هل يمكن اعتبار هذه الاموال بمثابة ديون ام مجرد قرار بمصادرة اموال الناس، بذريعة انّ الضرورات تبيح المحظورات؟

التعقيدات كثيرة ومتشعّبة، لكن المعالجات العقلانية، وبصرف النظر عمّا يقوله القانون، تبدأ بمقاربة واقعية تسمح بالوصول الى نتائج مقبولة لكل الاطراف المعنية بالأزمة، وكل ما عَدا ذلك أشبَه بفقاقيع لملء الوقت الضائع، وزيادة الانهيار عمقاً وضرراً.

انطوان فرح

تعافي قطاع الطيران

لو عُبّر عن جائحة «كورونا» بمجموعة من المظاهر لكان الانقطاع عن السفر من أبرزها، ولكانت المطارات المهجورة من أشد هذه المظاهر غرابة، تلك المشاهد التي لم يكن أحد يتخيلها إلا في الأفلام الخيالية كانت واقعاً مخيفاً حينها. مع خلو المطارات من المسافرين شهد قطاع الطيران أزمة عصفت به، ودفعت كثيراً من شركات الطيران إلى الإفلاس، وتغيرت بعدها خريطة قطاع الطيران بشكل ملحوظ. خسائر قطاع الطيران خلال عامي الجائحة 2020 و2021 تعدّت 40 مليار دولار، حتى مع محاولاته لتجاوز الخسائر بتسريح نسبة من موظفيه، كونه من أكثر القطاعات تسريحاً للموظفين، حيث وصلت النسبة إلى نحو 15 في المائة في بعض الشركات.
جاء بعد ذلك عام 2022 برتم مختلف، وأخبار مبشّرة، ونتائج مالية مخالفة تماماً لعامي الجائحة، حيث زادت أرباح أكبر شركات الطيران في العالم على 6 مليارات دولار، وتعدت مبيعات هذه الشركات لعام 2022 مثيلاتها لما قبل الجائحة. فحققت شركة «لوفتهانزا» أرباحاً تشغيلية بنحو 1.5 مليار دولار مقارنة بخسائر تجاوزت 1.7 مليار دولار لعام 2021، بعد أن تضاعفت أعداد المسافرين مقارنة بين العامين. كما أعلنت المجموعة الدولية لخطوط الطيران (وهي المالكة للخطوط الجوية البريطانية) عودتها للربحية لأول مرة منذ الجائحة، ووصلت أرباحها التشغيلية إلى 1.3 مليار دولار مقارنة بخسائر تجاوزت 10 مليارات دولار خلال عامي الجائحة. هذه الأرباح هي نتيجة مباشرة لعودة المسافرين، حيث وصلت حركة المسافرين إلى نحو 91 في المائة من مستويات ما قبل الجائحة، ويتوقع أن تتراوح هذه النسبة بين 95 في المائة و105 في المائة لهذا العام. وهو ما يعني أن قطاع الطيران قد تعافى بالفعل، وقد يبدأ في التوسع في هذا العام. وبالفعل بدأت بعض خطوط الطيران في الإعلان عن خطط للتوظيف خلال الأعوام القادمة، منها الخطوط الأسترالية التي أعلنت عن نيتها توظيف نحو 8000 موظف خلال العقد القادم.
تعافي قطاع الطيران له معانٍ عدة في هذا الوقت، منها أن العالم يحتاج إلى أخبار اقتصادية إيجابية، لا سيما مع التضخم الذي يواجهه، وانتعاش قطاع الطيران يعطي مؤشرات إيجابية تجاه الوضع الاقتصادي. كما أن القطاعات المرتبطة بالطيران ستشهد بكل تأكيد انتعاشاً مشابهاً، سواء منظومات المطارات بما فيها من فنادق ووسائل مواصلات ومتاجر، والقطاعات الأخرى مثل قطاع السياحة والفندقة وغير ذلك. كما أن صناعة الطائرات ستنتعش كذلك مع بداية التوسع في قطاع الطيران، أكبر دليل على هذا الانتعاش كان من الخطوط الهندية التي طلبت دفعة واحدة نحو 470 طائرة من شركتي «بوينغ» و«إيرباص». ويعد هذا الطلب الأكبر من نوعه في تاريخ الطيران على الإطلاق، حيث لم يتجاوز أكبر طلب في التاريخ المائتي طائرة. وتطمح الخطوط الهندية (برؤية من الحكومة نفسها) إلى جعل الهند أحد أكبر محاور الطيران في العالم، لتكون ثالث أكبر سوق للطيران بعد الصين والولايات المتحدة.
لكن قطاع الطيران لا يزال يواجه كثيراً من الصعوبات، منها تلبية الطلب على الطائرات على المدى المتوسط بسبب شح في سلاسل الإمدادات. أما على المدى القصير، فما زال العالم يتذكر فوضى المطارات في الصيف الماضي، حيث تعطلت حركة الركاب في كثير من مطارات العالم بسبب بطء مواكبة المطارات لرتم تعافي قطاع الطيران. وتسببت قلة التوظيف بالمطارات في إلغاء بعض الرحلات، وضياع أمتعة المسافرين، وازدحام المطارات بالمسافرين الذين اصطفوا في طوابير الانتظار لساعات طوال. وقد طالبت شركات الطيران المطارات بالاستعداد لموسم الذروة المتوقع في الصيف، وفيما وعدت المطارات – ومنها مطار هيثرو في لندن – أنها ستكون على أتم الاستعداد بحلول الصيف، أظهر تقرير لصحيفة «فاينانشيال تايمز» أن المطار حدّ من قدرة شركات الطيران على إضافة رحلات إلى جداولها في فصل الصيف بسبب محدودية الطاقة الاستيعابية.
خلال أقل من عام، انتقل قطاع الطيران من قطاع يعاني من أزمة عاصفة، إلى قطاع تبدو فرص التوسع فيه سانحة للأعوام القادمة، على الرغم من كل التحديات المحيطة به. ومثال الهند أكبر شاهد على ذلك، حيث توقعت «بوينغ» أن ينمو هذا القطاع في الهند بنسبة 7 في المائة سنويا حتى عام 2041. هذا التوسع قد يكون عن طريق زيادة حصتها السوقية، ولكنه كذلك نتيجة لنمو الاقتصاد العالمي، وبالتالي زيادة عدد المسافرين. ويوازي هذا التوسع فرصاً في الخدمات المرتبطة بقطاع الطيران، ومنها المطارات التي لا تبدو أن الطاقة الاستيعابية الحالية لكثير منها يلبي الطلب المتنامي في المستقبل.

د. عبد الله الردادي

الليرة تنهار… شطب أصفار أم ورقة المليون؟

إستغرقت رحلة انهيار الليرة وصولاً إلى دولار الـ 100 الف حوالى 3 سنوات ونصف من التخبّط في إدارة الأزمة المالية، إنهارت خلالها الليرة 98.5%، أي 60 مرة أكثر مما كانت عليه عشية 17 تشرين الاول 2019، يومها كان حجم احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة نحو 32 مليار دولار، وحجم الودائع في المصارف نحو 110 مليارات دولار. مبالغ كانت كافية لبناء دولة واقتصاد من الصفر، لولا الطريقة الملتوية التي أُديرت بها الأزمة.

لا يمكن اعتبار وصول الدولار إلى 100 الف ليرة هو الانهيار في عينه، وتناسي انّ مشوار الانهيار بدأ منذ 3 سنوات ونصف، عندما ارتفع من 1500 ليرة للدولار إلى أكثر من 100 الف ليرة اليوم. فوضع الدولار اليوم لا يختلف ابداً عن الاتجاه العام، لا بل هو تطور طبيعي لمسار الامور ومتوقع، خصوصاً بعدما تكشّف فقدان مصرف لبنان قدرته على السيطرة على دولار السوق السوداء، وذلك منذ تدخّله ما قبل الأخير في السوق، اي نهاية العام 2022 شارياً لليرة. وللتذكير، فقد ضخّ في حينه أكثر من مليار دولار من دون ان يتمكن من تهدئة السوق.

كذلك سجّل تدخّل مصرف لبنان الاخير في منصة صيرفة فشلاً ذريعاً، نتج منه التحاق المنصة بشكل يومي بالسوق السوداء، بدليل ارتفاع دولار صيرفة من 70 الفاً الى 78 الفاً ليرة، وذلك في غضون ايام، اي بتناغم واضح مع السوق السوداء، ما يعني انّ هذه السوق الرديفة هي التي باتت تقود وليس مصرف لبنان الذي لم يعد اللاعب رقم واحد في السوق.

وبناءً عليه، من المتوقع ان تصبح نسبة التدهور اليومي في سعر الصرف أكبر. على سبيل المثال، بارتفاع الدولار من 40 الفاً إلى 48 الفاً، تكون نسبة الزيادة 20%، في حين انّ انعكاس النسبة ذاتها على دولار الـ 100 الف سترفعه إلى 120 الفاً، لذا الاحتساب اليوم يجب ان يتركّز على نسبة الزيادة وليس على الارقام. هذا الامر يستدعي من مالكي الدولار الراغبين التصريف على قدر الحاجة، حتى لو اضطروا إلى ذلك بشكل يومي او مرات عدة في اليوم، وذلك حفاظاً على قيمة ما يملكون، ولعدم التخوّف من انخفاصه قليلاً، لأنّ في ذلك لعبة سوق يهدف من خلالها المضاربون إلى شراء الدولار بسعر اقل لبيعه بسعر أعلى لتحقيق أرباح أكبر.

وقت شطب الأصفار؟

في ظلّ استمرار التدهور وارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة إلى 100 الف ليرة، وهي أكبر عملة لبنانية مطبوعة، هل حان الوقت لشطب الاصفار من العملة او ربما طبع ورقة المليون ليرة؟

في السياق، يؤكّد الخبير الاقتصادي باسم البواب لـ»الجمهورية»، انّ مسار الانهيار سيُستكمل في الفترة المقبلة، طالما لم يتمّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ولم تُشكّل حكومة ولم يتمّ الاتفاق على مشروع اصلاحي مع صندوق النقد. وإلى ذلك الحين، فمن الواضح انّ الدولار سيواصل ارتفاعه، وقد يصل قريباً إلى 150 الفاً وربما إلى 200 الف او 300 الف، قبل ان ننتقل إلى مرحلة انتقالية يبدأ معها الحل الشامل.

وقال البواب: «بعد مستوى الانهيار الذي وصلنا اليه بات لزاماً على المسؤولين اتخاذ إجراء تجاه العملة، إما طبع عملة بقيمة أكبر، وإما الغاء الأصفار من العملة، وهو الحل الأمثل، لأنّ الارقام باتت كبيرة جداً، بحيث يصعب استيعابها»، لافتاً إلى انّ كلا الحلين يحتاجان إلى مجلس نواب لإقرارهما، الامر الغير وارد راهناً.

وأوضح، انّ طبع عملة المليون سيخفّف من حمل الاوراق النقدية، لافتاً إلى أنّ كلفة طباعة العملات التي هي ما دون الدولار أي ما دون الـ100الف، باتت اكبر من قيمتها، مثل طباعة ورقة الـ1000 او الـ5 آلاف، حتى كلفة طباعة الـ100 الف تتجاوز الدولار ما بين طباعة وشحن. لذا لا مصلحة للمركزي حتى من طباعة الـ 100 الف. مشيراً إلى انّه في غالبية الدولة كل عملة تساوي قيمتها أقل من دولار تكون على شكل coin. واشار البواب الى انّه من إحدى مساوئ طباعة عملة جديدة بقيمة أكبر انّه يؤكّد انّ مسار الانهيار متواصل على عكس إلغاء الأصفار.

وقال: «انّ إلغاء الأصفار لن يؤثر لا سلباً ولا ايجاباً على نسبة التضخم، ولا على الوضع الاقتصادي، ولن يوقف الانهيار، انما يسهّل قراءة الاسعار فقط لا غير، ويسهّل تقبّلها نفسياً، ويعني انّ مرحلة انتهت ومساراً جديداً بدأ». لافتاً إلى انّه كلما كبرت العملة كلما زادت الرواتب وزادت الاسعار وكلما باتت الليرة منبوذة وغير مقبولة من أحد.

واقترح البواب ان يتمّ إلغاء صفرين من العملة في المرحلة الاولى، فيصبح الدولار بـ1000 ليرة، وإذا ما وصل الدولار الى 150 الفاً مع الغاء صفرين، يعود الدولار إلى 1500 ليرة، كما كان الوضع منذ ما قبل الأزمة. بهذه الطريقة يعود كل شيء كما كان في العام 2019، وتعود الاسعار كما كانت عليه وستتراجع الرواتب والاسعار كما كانت في السابق.

وأوضح رداً على سؤال، انّه لا يمكن تصغير العملة اللبنانية إلى ليرة، فهذا يدل إلى انّ العملة قوية جداً حتى أقوى من الدولار، وتصبح غالية الثمن، اي لا تسعّر بالرخيص. لافتاً الى انّ العملات تسعّر عادة بين الصفر والـ 100 ليرة، وقلّة هي العملات التي تُسعّر بالآلاف. والأفضل اليوم إعادة العملة الى اقرب مستوى كانت عليه قبل الأزمة.

ايفا ابي حيدر

أربعة أطراف تتوزّع مسؤولية ضياع الودائع: الدولة، مصرف لبنان، المصارف والقضاء

تتوزّع مسؤولية تبديد الودائع بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف. ولكن للقضاء ايضاً حصته في المسؤولية، «لأنه أباحَ للمدينين المقترضين من المصارف بالعملة الصعبة أن يسدّدوا ديونهم بالعملة الوطنية على سعر صرفها الأساسي (1507 ل. ل./د.أ.)». الأمر الذي أوقَعَ تلك المصارف في خسائر ارتدّت شحّاً في سيولتها بتلك العملة الصعبة تجاه المودعين لديها.

المسؤولون عن تبدّد ودائع المودعين بالعملة الصعبة المودعة في المصارف، هم كالتالي:
الأول: الدولة اللبنانية، لأنها استباحت لنفسها اقتراض أموال المودعين بالعملات الأجنبية وهي تعلم أن لا مداخيل لها بتلك العملات من مواردها الطبيعية، وهي ليست بدولة مُنتجة بل مُنفقة ومُبذّرة وفاسدة. وقد استخدمت هذه الأموال المستدانة في مهارب رئيسة ثلاثة:

-1 الكلفة التشغيلية لمؤسسة كهرباء لبنان ولمؤسسات الدولة عامةً وصناديقها الثلاثة وما رافَقها من سمسرات وفساد وغشّ وتجاوزات في عقود الصيانة والتلزيم والتعهدات وغيرها.
-2 سياسة الدعم العشوائي واللامحدود للسلع الإستهلاكية والمحروقات.
-3 سياسة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية، دونما الأخذ في الاعتبار معدلات التضخّم السنوية، مما فاقمَ من كلفة عملية التثبيت. 

الثاني: مصرف لبنان، لأنه مَوّل الدولة اللبنانية بالعملة الصعبة ليس فقط من احتياطاته الخاصة كشخص معنوي، بل خصوصاً من ودائع المودعين المودعة من المصارف لديه. وذلك بدون أية سقوف وبدون أية ضمانات لردّ تلك المديونية. مع علمه بأنه ليس للدولة اللبنانية أية موارد طبيعية لردّها، كما أسلفنا، وأن طبيعة مديونيتها ولو السياديّة لا تشكّل بذاتها ضمانةً لعملية الردود تلك.
كما ان تَلطّيه وراء قوانين الإقتراض التي كان يقرّها المجلس النيابي ويجيز بموجبها للحكومة بواسطة وزير المالية الإقتراض (من مصرف لبنان وسواه) لتسديد عجوزات الموازنة السنوية على مدى عقود، لا يُبرّر له، وفق أحكام قانون النقد والتسليف، وَضع يده، عنوةً او حتى رضاءً، على ودائع المودعين في المصارف، المودعة لديه، ليستجرّ منها السيولة التي تموّل تلك القروض.
بل كان يتعيّن عليه أن يرفض تمويل تلك القروض من ودائع المودعين حتى تُحمل الدولة على الإقتراض بمقدار احتياجاتها من خارج تلك الودائع

الثالث: المصارف، لأنها عمدت الى توظيف ودائع المودعين بالعملة الصعبة المودعة لديها، إمّا لدى مصرف لبنان وامّا لدى الدولة اللبنانية ممثّلةً بوزير المالية، خلافاً لأحكام قانون النقد والتسليف، بدون أية سقوف وبدون أية ضمانة فعلية للردود، مُستسهلةً لنفسها هذه التوظيفات كونها كانت تدرّ عليها فوائد بالمليارات الدولاريّة تستوفيها سيولةً نقدية من صناديقها وتوزّعها على مساهميها وكبار إداريّيها، أرباحاً صافية، فيقوموا بإخراجها الى خارج البلاد.
وما يُضاعف مسؤولية تلك المصارف حتى القول بخطئها الجسيم وتواطئها على مصير ودائع المودعين لديها، بالتنسيق والتفاهم مع أركان الدولة ومصرف لبنان، هو أنها كانت تعلم تمام العلم أنّ تلك القروض تحمل أقصى درجات المخاطر حول المؤونات المتوافرة لها وحول إمكانية إيفائها. لأنّ الدولة ومصرف لبنان هما في حالة عجز تراكميّة وتصاعديّة منذ عقود ومن دون أي أفق للمعالجة. وإن قولها، انّ ديونها لهما هي سياديّة ومبرّرة من هذه الزاوية، فإنه لا يستقيم إطلاقاً لعِلم تلك المصارف تمام المعرفة بأنّ الدولة اللبنانية ومصرف لبنان قد امتهَنا على مدى عقود الإقتراض من المؤسسات الدولية من دون أن يتمكّنا يوماً من الإيفاء بالتزاماتهما تجاهها (باريس 1 و2 و3).

الرابع: القضاء، لأنه أباح للمدينين المقترضين من المصارف بالعملة الصعبة أن يسدّدوا ديونهم بالعملة الوطنية على سعر صرفها الأساسي (1507 ل.ل./ د.أ.). الأمر الذي أوقعَ تلك المصارف في خسائر ارتدّت شحّاً في سيولتها بتلك العملة الصعبة تجاه المودعين لديها. ذلك أن الأموال التي تقوم المصارف بإقراضها هي تلك التي يكون قد تمّ إيداعها لديها. وإنه إذا كانت تتحمّل هي الخسائر بين عمليتيْ الإيداع والإقتراض، غير أن تلك الخسائر تتحوّل بحدّ ذاتها الى شحٍّ في سيولتها تجاه مودعيها وتعثّرٍ في الإيفاء بالتزاماتها تجاههم.

في حين أن هذا المنحى الإجتهادي يكتنز أخطاءً جسيمة في علم القانون، لا سيما مخالفة لإحكام قانون الموجبات والعقود وقانون النقد والتسليف وقانون التجارة وشرعة المتعاقدين، كذلك لمرتكزات الإجتهاد السابق. وهو يجافي قواعد الإنصاف، إذ يُثري المدين السيئ النية بصورة غير مشروعة على حساب الدائن الذي يُلحق به غبناً فاحشاً، كما ويضرب مرتكزات الإقتصاد الوطني ويعيق إعادة التوظيفات المالية في البلاد. 

الخامس: أما المودعون، فلم يتلمّسوا بعد الإستراتيجية المتكاملة الواجب اتّباعها حتى يعزّزوا حظوظ ردّ ودائعهم إليهم. فحصروا مواجهتهم بالمصارف وبالإدعاء عليها، الخاوية من النتائج المثمرة الفعلية. لأنّ سيولتها النقدية المتبقية والقيم المالية الناتجة عن تصفية أصولها، والتي قد تستغرق سنوات طويلة بل عقود لإنجازها، من خلال المؤسسة الوطنية لضمان الودائع (كما هو حاصل نسبةً الى عدد من المصارف التي وُضعت قيد التصفية منذ سنة 1990 والتي لم تنجز تصفيتها بعد)، لن توازي، في أحسن حال، أكثر من خمسة بالمئة (5%) من قيمة ودائعهم لديها.
وقد أغفلوا مداعاة مصرف لبنان أمام القضاء العدلي لإبطال تعاميم مصرف لبنان، التي تناولت أحجام وسقوف وكيفية احتساب سحوباتهم النقدية من ودائعهم (لا سيما التعاميم رقم 151 و158 و161)، وتناولت أيضاً كيفية تسديد القروض المصرفية المدينة، لمخالفتها، على حدٍّ سواء، قانون النقد والتسليف وقانون التجارة وشرعة المتعاقدين وقواعد الإنتظام العام المالي.

 

كما أغفلوا، حتى تاريخه، التصدّي لمشاريع القوانين التي أعدّها المجلس النيابي والتي ترمي الى تصفير ودائعهم، كما الى تنصّل الدولة من مديونيتها العامة وتبرّوئها منها ورفضها المشاركة في أي صندوق سياديّ لإيفائها.

حتى بات يصحّ القول انّ حقوق المودعين لن تكون مصانة أو محمية أو مؤهّلة للردود والإيفاء، حتى بالحدّ المقبول، إلاّ إذا وسّع المودعون رقعة تحرّكهم ومداعاتهم لتشمل مصرف لبنان والدولة اللبنانية، على حدٍّ سواء، حتى يضمنوا يإيرادات أصولهما ردّ ودائعهم المشروعة، وفق برنامج زمني يوازن بين احتياجاتهم وتدفق تلك الإيرادات.

فرانسوا ضاهر