صفقة كريدي سويس: المساهمون أوّل الخاسرين وآخر المتكلّمين

بحلول اليوم الثالث بعد فتح الأسواق الإثنين الماضي، ولأوّل مرّة بعد الإعلان عن صفقة إنقاذ مصرف كريدي سويس، بات بالإمكان تلمّس آخر ما جرى من مفاوضات وضغوط قبيل عقد صفقة الاستحواذ. كما بات بالإمكان تلمّس آثار ما جرى على فئات المستثمرين والمساهمين المختلفة، ونوعيّة الخسائر التي ستصيب هؤلاء، وآثار هذه الخسائر على سائر الاقتصادات العالميّة. أمّا أهم ما في الموضوع اليوم، فهو النقاش الدائر حول عدالة الصفقة والمعايير التي قامت على أساسها، خصوصًا أنّها ستؤسّس لنمط جديد في التعامل مع الأزمات المصرفيّة خلال الفترة المقبلة.

مفاوضات الأيّام الأخيرة
خلال اليومين الماضيين، وبعد أن قُضي الأمر وانتهت حكاية كريدي سويس، تسرّبت إلى الأسواق تفاصيل مفاوضات الأيّام الأخيرة قبل عقد صفقة الاستحواذ.

فبحلول يوم الأربعاء الماضي، 15 آذار، اشتدّت الضغوط على المصرف، إلى الحد الذي بات يُنذر بانهيار كريدي سويس فوق رؤوس مودعيه ومساهميه. أُبلغ المصرف البنك السويسري وFINMA (الهيئة الناظمة للقطاع في سويسرا) بحجم السحوبات اليوميّة، والتي كانت قد تخطّت 10 مليارات دولار في ذلك الوقت، ما يعني أنّ كريدي سويس بات في طريقه للإقفال خلال ساعات معدودة ما لم يحصل أي تدخّل رسمي.

إشكاليّة كريدي سويس، كانت في عجزه عن تأمين أي زيادة في رساميله، بل وعدم جدوى هذه الزيادة، بعد حالة الهلع التي ضربت السوق. ثمّة عروض تقدّم بها سابقًا كل من بلاك روك، صاحب الحصّة الوازنة في كريدي سويس، وUBS، المصرف السويسري الوحيد الذي يفوق كريدي سويس من حيث الحجم، إلا أنّ جميع هذه العروض لم تتسم بالواقعيّة، من ناحية قدرتها على معالجة كثافة حجم السحوبات أو إعطاء جرعة من الطمأنينة في السوق.

يوم الأربعاء الماضي، جرى اتصال جمع إدارة كريدي سويس بالبنك المركزي وFINMA ووزيرة الماليّة السويسريّة. وفي الخلاصة، كان من الواضح أن الجهات الرسميّة اختارت أن تلعب لعبة إرسال رسالتين متعارضتين:

– الرسالة الأولى التي تم توجيهها، كانت إلى الأسواق وعموم المودعين، عبر منح المصرف تسهيلات من البنك المركزي بقيمة 54 مليار دولار. كان الهدف هنا القول أن كل شيء عاد إلى ما يرام، بمجرّد منح هذه السيولة للمصرف. وطالما أن المصرف المركزي ورّط نفسه بهذه التسهيلات، بدل إقفال كريدي سويس والبحث في مصيره كما جرى مع مصرف سيليكون فالي، فهذا يعني أن الجهات الرسميّة في سويسرا مازالت على قناعة بإمكانيّة تجاوز الأزمة بسهولة.

– الرسالة الثانية، المعاكسة تمامًا في مضمونها، كانت إلى إدارة المصرف: قرض الـ54 مليار دولار لن يكفي لتمويل السحوبات لأكثر من بضعة أيّام. والمطلوب بت صفقة بيع المصرف بحلول عطلة نهاية الأسبوع، وقبل فتح الأسواق يوم الإثنين. باختصار، من غير المسموح أن يعمل كريدي سويس على هذه الحال لأكثر من يومي عمل، أي يومي الخميس والجمعة الماضيين. وكان الجميع يدرك أن الجهة المشترية، لن تكون سوى UBS، المصرف الوحيد القادر على إتمام صفقة من هذا النوع.

في اليوم نفسه، أي يوم الأربعاء الماضي، جاء الجواب من UBS: نحن مستعدون، ولكن… لن يقبل UBS بشراء كريدي سويس إلا بقيمة رمزيّة لا تتخطى المليار دولار، ومع ضمانات حكوميّة كاملة لصفقة الاستحواذ، وتسهيلات خياليّة من المصرف المركزي، وغيرها من الأحلام الورديّة التي فكّرت بفرضها إدارة UBS في ظل الأزمة القاسية. وكما كان متوقّعًا، ثارت ثائرة المساهمين في كريدي سويس، احتجاجًا على الابتزاز الذي تمارسه إدارة UBS. وبدأت بعض الصناديق الاستثماريّة الأجنبيّة، المساهمة بالمصرف، بالضغط على الحكومة السويسريّة لتفادي هذا السيناريو.

لم يكن هناك أي مجال للعب أو العبث، وجاء الرد واضحًا من البنك المركزي وFINMA ووزارة الماليّة السويسريّة معًا، وفي يوم الأربعاء نفسه: على كل من كريدي سويس وUBS أن يسلّما بالوساطة التي ستقوم بها الجهات الرسميّة السويسريّة، وأن يسلما بصفقة الاستحواذ كما ستقررها هذه الجهات في عطلة نهاية الأسبوع، ومن دون الأخد بالاعتبار حسابات المستثمرين وحملة الأسهم. لن يُترك القرار لإدارة المصرفين، ولا حتّى للمساهمين فيهما. وأي تحدٍّ لهذا المسار، سيفرض إقرار قانون طارئ يجرّد إدارة كريدي سويس من صلاحيّاتها فورًا، ويجرّد المساهمين في المصرفين معًا من صلاحيّة عرقلة الصفقة. ولمزيد من الصرامة، تم إعداد مسودّة القانون على سبيل الاحتياط.

ببساطة، لم يتم الاكتفاء بوضع مساهمي كريدي سويس في طليعة قائمة الخاسرين، كما يفترض أن يكون الحال، بل تم وضعهم (مع مساهمي UBS) في آخر قائمة من يحق له الكلام أو إبداء الرأي. وكان على الجميع أن يرضى، إذ أن إفلاس كريدي سويس كان سيعني تلقائيًا إطلاق موجة من الإفلاسات التي ستطال UBS قبل أي مصرف آخر، بالنظر إلى نوعيّة الهلع الذي سينتج عن هذا السيناريو. ومن الأفضل أن يرضى المساهمون في المصرفين بهذه الصفقة، بدل أن يخسروا كل شيء.

خسائر المساهمين
في النتيجة، وبعد ثلاثة أيّام من المداولات مع المصرفين، بت البنك المركزي وFIMNA بصيغة الصفقة النهائيّة، التي لم يملك المصرفان إلّا الموافقة عليها:

– بلغت قيمة الاستحواذ 3.25 مليار دولار، وليس مليار دولار كما طلب USB. ومع ذلك، مثّلت الصفقة صفعة كبيرة للمساهمين في كريدي سويس، بعدما خسروا 60% من قيمة سهمهم كما كانت في آخر يوم تداول. وستُضاف هذه الخسارة إلى الخسائر السابقة التي مني بها السهم، والتي بلغت 25% من قيمته في آخر أسبوع من التداول، و75% من قيمة السهم في آخر 12 شهر من التداولات. بمعنى آخر، لم يحصّل المساهمون أكثر من 7.5% من قيمة السهم، كما كانت قبل سنة واحدة بالتمام والكمال.

– لن يتم تسديد قيمة أسهم كريدي سويس للمساهمين فيه نقدًا، بل على شكل أسهم في مصرف UBS. مع العلم أن أسهم UBS خسرت بدورها 8.8% من قيمتها، فور عقد الصفقة.

– اقتصرت قيمة الضمانات الحكوميّة على سقف لم يتجاوز حدود 6 مليارات دولار من قيمة موجودات كريدي سويس، ما يعني أن الحكومة السوسريّة لن تغطّي أي خسائر يتحمّلها UBS لاحقًا نتيجة الصفقة إلا ضمن هذا السقف. مع الإشارة إلى أنّ هذه الخسائر قد تنتج عن نوعيّة القروض التي منحها كريدي سويس في الماضي، أو نوعيّة الاستثمارات التي تورّط بها. وبذلك، لم ينجح UBS بفرض كفالة الحكومة للصفقة برمتها كما طلب في البداية.

– ستقتصر التسهيلات التي سيحصل عليها UBS بعد شراء كريدي سويس على 100 مليار دولار فقط، وهو ما سيسمح باستيعاب موجة محدودة من السحوبات، بعد إجراء الصفقة.

– تم شطب نحو 17 مليار دولار من إلتزامات كريدي سويس لحملة السندات القابلة للتحويل إلى أسهم. وهذا الإجراء، أثار حفيظة حملة هذه السندات، الذي اعتبروا أنّ شريحة المساهمين الحاليين يفترض أن تحمل أوّل شريحة من الخسائر حتّى استنفاد قيمة الأسهم، قبل تحميل أي خسائر لحملة السندات. وعلى هذا الأساس، رفضت هذه الشريحة من المستثمرين فكرة تجريدها من قيمة استثماراتها بالكامل، مقابل سداد قيمة الصفقة للمساهمين. ومع ذلك، جرت الصفقة من دون الأخذ بالاعتبار كل هذه الاعتراضات.

– سينتج عن صفقة الاستحواذ مصرف ضخم جدًا، بعد دمج ميزانيّات المصرفين. وستوازي قيمة موجودات هذا المصرف ضعفي حجم الناتج المحلّي السويسري بأسره، ما سيجعله أحد المصارف “الأكبر من أن تسقط” (بمعنى أن السلطات ستحتاج إلى إنقاذ المصرف في حال تعرّضه لأي هزّات في المستقبل).

خسائر المساهمين الأجانب
لن تقتصر تداعيات صفقة الاستحواذ على كريدي سويس على سويسرا أو أوروبا وحدهما، بل ستشمل كبرى المؤسسات والصناديق الاستثماريّة حول أنحاء العالم. فحتّى اللحظة، تم إحصاء ما يلي من خسائر تعرّض لها بعض المستثمرين الأجانب:

– البنك الأهلي السعودي، الذي كان يملك 9.8% من أسهم كريدي سويس، خسر ما يقارب 1.11 مليار دولار، نتيجة الفارق بين سعر شراء الأسهم وسعر بيعها.

– جهاز قطر للاستثمار سجّل خسارة قُدرت بـ3.69 مليار دولار، نظرًا لامتلاكه نحو 6.8% من أسهم كريدي سويس. مع الإشارة إلى أنّ حجم خسائر جهاز قطر للاستثمار تجاوزت حجم خسائر البنك الأهلي السعودي، رغم امتلاكه لحصّة أصغر، كون جهاز قطر للاستثمار اشترى أسهمه بتواريخ قديمة وبأسعار أعلى.

– مجموعة العليان السعوديّة، خسرت 4 مليار دولار في هذه الصفقة، فيما كانت تملك 3.2% من أسهم المصرف.

– شركة بلاك روك الاستثماريّة الأميركيّة، خسرت 2.23 مليار دولار، فيما كانت تملك 4% من قيمة أسهم المصرف.

– نورغس بنك النرويجي خسر 1.22 مليار دولار، بعدما امتلك في السابق 3.1% من قيمة أسهم المصرف.

– صندوق دودج آند كوكس الاستثماري الأميركي، خسر 1.82 مليار دولار، بعدما امتلك 3.3%.

في النتيجة، سيكون على جميع هذه الأطراف أن تتحسّب لخساراتها الناتجة عن الاستثمار في كريدي سويس، وأن تكوّن المؤونات المطلوبة للتعامل مع هذه الخسائر خلال الفترة المقبلة. أمّا الأهم، فهو أن صفقة بيع المصرف ثبّتت أصولاً مستجدّة للتعامل مع الأزمات المصرفيّة، لناحية طريقة التعامل مع مفاوضات الساعة الأخيرة مع مساهمي وإدارات المصارف، وطريقة فرض الحلول السريعة التي تلائم المصلحة العامّة، بمعزل عن مصالح المستثمرين الضيّقة.

علي نور الدين

وظلَّ البنك يربح حتى أفلس!

مع تنوع الأزمات المتعاقبة والمستمرة منذ بداية هذا العقد بين جائحة صحية عالمية، وتدهور جيوسياسي شمل حرباً على أرض أوروبية، وأزمة مناخ بتداعيات مدمرة للطبيعة والبيئة وأسباب المعيشة، وتدني الأداء الاقتصادي العام مع ارتفاع حاد في معدلات التضخم، وتراجع معدلات النمو والوقوع تحت مهددات الركود التضخمي، وتعرض بلدان نامية لمعضلات كبرى في إدارة ديونها الخارجية. وباعتبار أن الأزمات لم تعد تأتي فرادى فأتت معها بصنف من الأزمات التي تكررت على مدار العقود الماضية، ألا وهي الأزمة المصرفية، وهي أزمة غير مفتقدة بحال بعد ما ألحقته بالعالم من نوائب كما حدث في عام 2008، ولكن إرهاصاتها أطلت بقوة خلال الأيام الماضية لتسهم في إرباك الأسواق، وتصيب مودعين ومساهمين في عدة بنوك بالذعر.
وتماماً كحال بنك ليمان براذرز عند سقوطه مشعلاً فتيل الأزمة المالية العالمية، لم يسمع كثيرون عن بنك سيليكون فالي «إس في بي» إلا بعد اضطراب أوضاعه المالية ثم تعرضه للإفلاس. عرف الناس بعد ذلك أن البنك المتهاوي، هو السادس عشر في ترتيب البنوك الأميركية، وأنه قد استمر في العمل لمدة 40 عاماً متخصصاً في تمويل الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا والتطبيقات الرقمية. وشهد البنك قفزة في أصوله المالية بنحو 3 مرات من 70 مليار دولار في عام 2019 إلى ما يقترب من 210 مليارات دولار في أقل من 3 سنوات. ويسيطر مودعو الجملة من المؤسسات والصناديق المالية على ودائعه بإجمالي 170 مليار دولار، منها 4 مليارات دولار لمودعين أفراد.
ومع انتشار أخبار تعرض الشركة الأم للبنك لخسارة مقدارها 1.8 مليار دولار في آخر عام 2022، وتعثر البنك في تعبئة 2.25 مليار دولار من خلال طرح أسهم لتعزيز رأسماله، تعرّض البنك لهجوم من مودعيه لسحب ما يزيد على 40 مليار دولار في خلال يوم واحد. واشتدت حدة الأزمة بإعلان تعثر بنك سغنيتشر بنيويورك ذي الأصول المالية البالغة 118 مليار دولار، والذي عانى مؤخراً من مشكلات في إدارته، منها زيادة نسبة الودائع غير المؤمنة، وزيادة نسبة الأصول المالية المشفرة في عملياته، وكذلك في التزاماته حتى بلغت 30 في المائة من إجمالي الودائع. وتعرّض البنك الذي تأسس منذ أكثر من عقدين لسحب مفاجئ من ودائعه بلغ 10 مليارات دولار في يوم واحد.
وفي هذه الأثناء تواترت الأنباء القادمة من أوروبا بتداعي أوضاع بنك كريدي سويس السويسري، وهو بنك قديم كبير الحجم بما جعله في قوائم البنوك المصنفة؛ وفقاً لاعتبارات المخاطر النظامية العالمية، أي أن سقوطه قد يؤدي إلى مخاطر على النظام المالي العالمي بتأثير قيمة تعاملاته وتشابك ارتباطاته الدولية. وقد تعرض بنك كريدي سويس مؤخراً لسلسلة من المشكلات مع توقعات باستمرار خسائره، مع رفض كبار المستثمرين فيه لتعزيز رأسماله بما خفض من تصنيفه الائتماني وتقييمه السوقي مع تقلب عنيف في أسعار أسهمه، وارتفاع حاد في تكاليف تمويل نشاطه من خلال إصدار سندات في الأسواق المالية.
تذكرني هذه الوقائع بعبارة رددها بعض أساتذة علم النقود والبنوك العتيدين في وصفهم لتطور أحد البنوك بقولهم: «وظل البنك يعمل بنجاح حتى أفلس». وإذا كانت «حتى» قد حيّرت علماء النحو لاختلاف معناها مع ما يأتي بعدها مجروراً أو منصوباً أو مرفوعاً، لكن في موضوعنا هذا فالتعرف على ما سبق «حتى» من ملابسات شديد الأهمية لفهم تطور عمل البنك المعني، وكيفية تحوله من الربح إلى الخسارة، وتعرضه إلى أزمات سيولة، فساءت لتصبح أزمة ملاءة مالية والعجز عن الوفاء بالحقوق ومن ثم الإفلاس. أما ما سيؤول إليه وضع البنك المفلس فيختلف من حيث طريقة المعالجة، وإن كان هناك اتفاق في الحالتين الأميركية والسويسرية على حماية المودعين بالكامل دون ضرر.
تداعيات التأخر في التقييد النقدي ثم الرفع المتسارع لأسعار الفائدة: بعد فترة من التيسير المالي المفرط إبان التعامل مع الجائحة أصابت زيادات أسعار الفائدة المتعاقبة الأسواق النقدية والمالية باضطرابات وردود أفعال عنيفة في حركة المحافظ المالية، وانتقال الأموال من وعاء إلى آخر بسرعات تجاوزت قدرة بعض المؤسسات المالية على إدارة السيولة ومخاطر الاستثمار، حيث تعرضت بعض المحافظ لانخفاض حاد في قيم السندات طويلة الأجل المحتفظ بها مع رفع أسعار الفائدة، وتعرّضَ مستثمرون وعدة مؤسسات مالية لخسائر، خصوصاً مع هروب إيداعات إلى العوائد الأعلى بأوعية مالية جديدة.
أثر العدوى وهلع الأسواق:
في أجواء مختلفة أكثر استقراراً لم تكن لتبالي السلطات النقدية والمالية فتبادر بنجدة مودعي بنك سيليكون فالي أو بنك سغنيتشر، ولتركوا للتعامل مع الآليات الموجودة بتغطية جزئية للودائع حتى 250 ألف دولار، ثم انتظار قسمة أصحاب الحقوق بعد تصفية البنك إن تبقى من أصوله ومقوماته ما يستحق. ولكن عوامل ثلاثة تدور حول أثر العدوى عجلت بتدخل السلطات الاقتصادية الأميركية: أولها دروس الأزمة المالية العالمية والخبرة التعيسة مع ترك بنك ليمان براذرز ليسقط في عام 2008 مخلفاً وراءه مدمرات للثقة أسهمت في اشتعال الأزمة المالية العالمية من خلال أثر العدوى وهلع الأسواق. ثاني العوامل ما يرتبط بالوضع الحرج للاقتصاد الذي يعاني من التضخم ويصارع احتمالات تراجع النمو والوقوع في براثن الركود التضخمي، فضلاً عن تحديات سياسية واقتصادية أخرى تأتي على أعتاب انتخابات جديدة في الولايات المتحدة جعلت الحكومة تؤثر السلامة باحتواء أزمة جديدة قبل استفحالها. ثالثاً أهمية التجاوب مع سرعة تداول الأخبار والتحليلات المصحوبة بمطالب الحسم السريع قبل انتشار العدوى فعلاً.
طرافة وتساؤلات حول الرقم 250:
بعد الأزمة المالية العالمية حددت القوانين 250 مليار دولار من الأصول المالية لتعريف البنوك الكبيرة التي قد يترتب على الخلل فيها مخاطر «نظامية» على سائر القطاع المالي، وتخضع هذه البنوك لإشراف مدقق واختبارات دورية إضافية على سلامتها وتوفر السيولة بها وقدرتها على مواجهة الصدمات. ولكن بنك سيليكون فالي سعى في عام 2018 مع جهات أخرى لتعديل القانون لإعفائه من هذه القيود بتعديل يستثني البنوك التي تقل أصولها عن 250 مليار من هذه القيود الرقابية، باعتبار أنه لا يشكل مخاطر نظامية. ورغم ذلك بعد سقوط البنك اعتبر هو وبنك سغنيتشر من هذا التصنيف للبنوك الكبيرة، حتى يمكن إنقاذ مودعيهما. والطرفة الأخرى للرقم 250 هي ما تحدده قواعد التأمين على الودائع، بأن تضمن ما لا يتجاوز 250 ألف دولار كحد أقصى للمودع. ولكن في وقت الأزمة اضطرت السلطات النقدية لضمان كافة المودعين والإيداعات من دون حد أقصى.
تدخل غير مسبوق من السلطات النقدية والمالية للتعامل مع أزمة المصارف:
في مواجهة المشكلات الاقتصادية والمالية الحادة ينبغي التدخل السريع الفعال وإلا تحولت لأزمة، أما إذا كان التدخل الحكومي فاشلاً فسوف تتحول المشكلات لكوارث ممتدة الأذى. وفي هذه المرة كان التدخل حاسماً لتهدئة الأسواق، وبث الثقة في مودعي البنوك، ومنع تدهور الأوضاع بما يحاكي أزمة 2008 أو ما هو أسوأ. فتم الإعلان عن حماية كافة الودائع لبنك سيليكون فالي وكذلك بنك سغنيتشر، والتكلفة ستتحملها الهيئة الفيدرالية للتأمين على الودائع، وإتاحة آلية مالية بالبنك الفيدرالي بالتنسيق مع وزارة الخزانة؛ لتوفير السيولة العاجلة المطلوبة في حالة زيادة الطلب على الودائع بما لا تضطر البنوك لبيع أصولها المالية فجأة. كما تدخلت السلطات الرقابية السويسرية لتنسيق استحواذ بنك يو بي إس على بنك كريدي سويس مقابل 3.23 مليار دولار مع إتاحة مائة مليار دولار من البنك المركزي السويسري للبنك المستحوذ وفقاً لما أوردته صحيفة «فاينانشيال تايمز» لتيسير عملية الاستحواذ والوفاء بالالتزامات. واتفق البنك الفيدرالي مع البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية في المملكة المتحدة واليابان وكندا وسويسرا لإتاحة خط مبادلة يومي لإتاحة السيولة الدولارية للأسواق المالية حال الحاجة إليها، على أن يعمل بذلك فوراً حتى نهاية شهر أبريل (نيسان).
هناك استفادة من بعض دروس الأزمة المالية العالمية بسرعة التدخل لحماية النظام المالي الذي يعد في مجمله أكثر متانة وملاءة مما كان عليه الوضع قبل الأزمة، لكن سيظل النظام المالي محل اختبار لقياس صلابته في التعامل مع الصدمات. وستكون هناك مراجعات لأسباب ما حدث في البنوك المذكورة هل لقصور في نظم الرقابة أم لتقصير في تطبيقها؟ وسيكون هناك نقاش حول الحد الذي يمكن الاتفاق عليه لاعتبار البنك المعني مؤثرا على سلامة النظام المالي ومخاطره، وحول فاعلية نظم التأمين على الودائع. أما بالنسبة لاتجاهات أسعار الفائدة ففي تقديري أن البنك الفيدرالي سيستمر في اتجاه الرفع المتوقع في حدود ربع نقطة مئوية لتأكيد عزمه على السيطرة على التضخم، وإرسال إشارة بأن الوضع المالي مستقر ولا يستدعي تغييراً في السياسة النقدية المرسومة. أما أثر هذا كله على الاقتصاد الحقيقي فأميل إلى أنه سيكون ذا أثر انكماشي بتراجع الطلب من خلال تقييد الائتمان مرة من خلال سعر الفائدة ومرة أخرى باتباع البنوك والرقباء عليها إجراءات أكثر تمحيصاً وحرصاً في استثماراتها، وتوجيه أصولها المالية وإدارة محافظها. أما عن تأثير ذلك كله على البلدان النامية فهو مرتبط بمدى متانة اقتصاداتها، وبمرونة سياساتها في التعامل مع الصدمات المتواترة، وفي ذلك سيناريوهات نتناولها في مقال قادم.

د. محمود محيي الدين

ماذا كشفت ميزانية المركزي الأخيرة؟

تظهر أرقام ميزانية مصرف لبنان الاخيرة تراجعاً كبيراً للنقد بالتداول، أي السيولة بالليرة اللبنانية من 83 تريليون ليرة الى 68 تريليون ليرة، لتمثّل فقط ثلث حاجة السوق من متوسط السيولة. في المقابل وبدلاً من ان يتراجع الدولار، فإنه ما زال يحقق مستويات قياسية. فما الاسباب؟ وما كانت تداعيات قرار المركزي الاخير بشراء الليرة من السوق؟

تعكس ميزانية مصرف لبنان نصف الشهرية للفترة الممتدة بين 28 شباط 2023 و15 آذار، والتي صدرت مؤخراً، نتائج تداعيات قرار المصرف المركزي الصادر في الاول من آذار بالتدخل في السوق بائعاً للدولار وشارياً لليرة وفق سعر منصة صيرفة 70 الفاً.

وفي السياق، يشرح الخبير الاقتصادي بيار الخوري انّ الميزانية نصف الشهرية للمصرف المركزي كشفت عن ارتفاع طفيف في الاصول من 442 مليار ليرة الى 443 مليار ليرة، عازياً ذلك الى تقليص المصرف المركزي خلال هذه الفترة النقد بالتداول من 83 تريليون ليرة اي ما يساوي تقريباً حوالى مليار دولار وفقاً لسعر الصرف في السوق السوداء الى 68 تريليون ليرة بما يوازي حوالى 680 مليون دولار وفقاً لسعر السوق السوداء، متراجعة بذلك حوالى 15 الف مليار ليرة اي نحو 200 مليون دولار وفقاً لسعر صيرفة التي اشترى الدولار على اساسه.

تابع: كان يتوقع ان يؤدي تقلّص السيولة بالعملة اللبنانية من السوق الى تراجع في سعر الدولار في السوق السوداء، لكن ما حصل هو العكس تماماً حتى تخطى الدولار الواحد المئة الف ليرة رغم ان المركزي ضخّ خلال الفترة الممتدة من الاول من آذار الى 15 منه نحو 200 مليون دولار في السوق. فلماذا لم يتراجع الدولار؟

ويشرح الخوري ان النقطة الابرز التي يجب التوقف عندها في ارقام ميزانية المركزي هي حركة «النقد بالتداول» لأنه في اقتصاد يعتمد على الكاش، ويغيب اي دور للمصارف فيه، تشكل كل السيولة الموجودة اليوم بالليرة في السوق حجم «النقد بالتداول»، وبدل ان ترتفع مع ارتفاع الدولار ومع الحاجة المتزايدة لليرة بنتيجة الارتفاع اليومي والمتواصل لاسعار السلع، وارتفاع الضرائب والرسوم والدولار الجمركي الى 45 الفاً مؤخّراً تقلّصت، عازياً ذلك الى تدخّل المركزي الاخير شارياً لليرة، بحيث ما عاد حجم الكتلة النقدية او السيولة المتوفرة في السوق يكفي لتلبية الاكلاف المرتفعة المطلوب تسديدها نقداً.

وتابع الخوري: انّ كل السيولة الموجودة اليوم في السوق لا تعادل قيمتها الحقيقية الـ 650 مليون دولار وفقاً لدولار السوق السوداء. في المقابل ومع بداية الأزمة في اواخر العام 2019 كان حجم الكتلة النقدية في السوق حوالى 9000 مليار اي 6 مليارات دولار، وبينما كان يتوقع ان يتقلص حجم السيولة كنتيجة طبيعية لتقلص حجم الاقتصاد الى حوالي الملياري دولار كي تكفي حاجة الناس نلاحظ انها تراجعت الى 650 مليون دولار، اي بما يوازي ثلث الكمية التي كان يجب ان تكون في السوق لتكفي حاجة اللبنانين وتحريك شريان الاقتصاد.

وعن الاسباب، يشرح الخوري ان المركزي ما عاد قادراً على ضخ دولارات لتكبير حجم النقد بالتداول تخوّفاً من انهيار أكبر واسرع بالليرة. والواضح ان المصرف المركزي في مأزق اليوم، اذ انه في السابق كان كلما زاد التضخم عمدَ الى ضخ ليرة لبنانية في السوق، وكانت ترتفع السيولة لتوازي نسبة التضخم، لكن ما حصل مؤخراً ان التضخم استمر بالارتفاع مسجّلاً زيادات شهرية مخيفة، ورغم ذلك عَمد المركزي في تدبيره الاخير الى امتصاص مزيد من السيولة بالليرة لأنه يعلم انّ ثمن ضَخ سيولة بالسوق هذه المرة سيكون باهظاً جداً. الا انّ هذا التدبير أدخلَ الاقتصاد بمأزق، فمن جهة ضَخ السيولة سيسرّع أكثر بانهيار الليرة أما سحبها من السوق فيكربج الاقتصاد. وبالتالي، نحن امام طريق مسدود، والمركزي مُجبر على ضخ مزيد من السيولة في السوق لأن مستوى الاسعار ما عاد يتوافق مع حجم النقد بالتداول الذي هو أصغر رقم اليوم من ضمن بقية البنود الكبرى الواردة في جدول ميزانية المركزي.

ورداً على سؤال، أوضح الخوري ان المواطن لم يشعر بضيقة السيولة لأنه بات يدفع اغلبية مصاريفه بالدولار مباشرة ما يرفع من حجم الدولرة بالاقتصاد، لافتاً الى انّ تدبير المركزي دفع باللبناني الى إخراج دولاراته للدفع، وهذا جزء من مسار الدولرة الشاملة.

وتابع: انّ استمرار قبول الدفع بالليرة اللبنانية في مرافق الدولة يؤكد انّ هذه العملة ورغم انهيارها لا تزال عملة اساسية بالتداول. وهذا الأمر يجعلنا ايضا امام خطرين: الاول: دولرة تسويات المدفوعات كنتيجة طبيعية لتقلص حجم الكتلة النقدية. والثاني: انّ اي تكبير للكتلة النقدية يجعلنا امام انهيار اكبر واسرع لليرة.

اما كيف يرتفع الدولار في السوق السوداء في مقابل تقلّص الكتلة النقدية في السوق؟ يؤكد الخوري انّ هذا اكبر دليل على ان سعر الدولار هو في جزء منه لعبة سياسية للمسيطرين على السوق الذين يستعملون السوق كورقة ضغط سياسية.

إسترجاع الودائع… وهم وكذب أو حقيقة وواقع؟

يكون استرجاع الودائع كاذباً ووهماً عندما يُجرّ الشعب بوحول السياسة، وتتبارى بعض المجموعات السياسية والحزبية لتحريك الشارع لأهداف شخصية، ومن دون أي نية حقيقية لحماية الشعب الكادح والمذلول. فالهدف الواضح جرّ البلاد إلى الفوضى الشاملة والإنهيار الكامل لضرب ما تبقّى من الأمن وطمر جرائمهم.

يكون استرجاع الودائع وهماً وكاذباً عندما تكون الإستراتيجية الأساسية المتبعة، سياسة التجميد والشلل والمقاطعة، والتدمير الذاتي لكل مؤسسات الدولة، لطعن العدالة وما تبقى من الحقوق والحقيقة.

يكون استرجاع الودائع وهمياً وكاذباً عندما يتحوّل هذا المشروع إلى خطة إفلاسية وتصفية عوضاً من أن تكون إصلاحية ولإعادة الهيكلية. فإذا نُفذت هذه الخطة لن يصل للمودعين أي قرش من ودائعهم حتى على المدى الطويل.

يكون استرجاع الودائع وهمياً وكاذباً عندما تنشأ بسحر ساحر يوماً بعد يوم، شركات وهمية، وسوق موازية أو السوق السوداء الموازية، ليستفيد منها مَن سرق ودائع المودعين، أو مَن يدّعي أنهم يُخلّصون الودائع بأثمان بخسة، وهم المسؤولون وسارقو الودائع الأساسي، فيُبنى اقتصاد أسود ليُدمّر ما تبقى من الإقتصاد الأبيض، كي يُهرّب المستثمر والريادي والمبتكر، ويُستقطب المروّج والمهرّب والمبيّض.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً، عندما نبدأ تحديد قيمة الودائع في تاريخ معين، بعد شطب بعض الفوائد الفادحة وبعض التحويلات غير المنطقية، فحسب مرصد صندوق النقد الدولي إن الودائع الرسمية والمفترضة تُراوح بين 70 و75 مليار دولار. فنقطة الإنطلاق تبدأ عندما تعترف الدولة بمسؤوليتها وتلتزم استرجاع جزء منها، على المدى القصير، المتوسط والبعيد، حينئذ تُجبر المصارف على تحديد نسبة مسؤوليتها وتلتزم دورها باسترجاع جزء من هذه الودائع المتراكمة على المدى القصير والمتوسط والبعيد.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً عندما تبدأ فعلياً جدولة هذه الديون وتنفيذ الإسترجاع بطريقة دقيقة وشفافة.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً عندما تُحدد المسؤوليات ويوضع جدول الإسترجاع على المدى القصير، المتوسط والبعيد. وحينئذ يُعاد تنشيط مؤسسات الدولة، والقطاع المصرفي ليكون منتجاً وقادراً على تحقيق الأرباح كي يستطيع تنفيذ إعادة الجدولة.

يكون استرجاع الودائع واقعياً وحقيقياً، عندما تبدأ الدولة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتعطي جزءاً من الملكية للمودعين المغدورين والمطعونين.

يكون استرجاع الودائع حقيقياً وواقعياً عندما نُعيد الدورة الإقتصادية وبناء النمو وجذب الإستثمار، فنعيد بناء الثقة الداخلية والخارجية، ونبرهن نية حقيقية لإعادة الهيكلية وإعادة الجدولة بطريقة منتظمة ومستمرة.

في المحصّلة، إن الوعود التي نشهدها اليوم ليس فيها شيء من الحقيقة والواقعية، لكنها وعود وهمية وكاذبة وتكملة لكابوس النهب الجماعي والتدمير الذاتي المُستدام. لا عتب على الذين يقدمون وعوداً وهمية وشعارات كاذبة على الشاشات والمنصات، لكن العتب على الذين يصدقونهم ويصفقون مرة أخرى لجلاّديهم الذين ينهبونهم أكثر وأكثر.

د. فؤاد زمكحل

أزمة مصرفية عالميّة؟ لا يؤخذ بكلام المسؤولين؟

لا شكّ أنّ وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين قرأت كتاب سلفها هانك بولسون الذي كان يجلس في مكتبها حين وقعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، أثناء ولاية جورج بوش الابن الثانية.

في كتابه “On The Brink” (على شفير الهاوية)، يروي بولسون مذكّرات تلك الليلة العصيبة حين انهار بنك “ليمان براذرز”، وأوشكت على الانهيار بعده أكبر بنوك وول ستريت وكبريات شركات صناعة السيارات. المذهل أنّ ذلك الوزير أتى إلى البيت الأبيض عام 2006 من خلفيّة مصرفية وماليّة بحتة، إذ كان قبل ذلك رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمصرف “غولدمان ساكس”، ومع ذلك لم يتمكّن من تفادي وقوع الأزمة المالية، على الرغم من وضوح مقدّماتها ومؤشّرات توقّعها حين تُستعرض بأثر رجعي.

يقول بولسون إنّه كان يتوقّع الأزمة، وإنّه أسرّ بذلك للرئيس، لكنّه لم يكن يتوقّع أن تكون بهذه الحدّة وبهذا المدى الشامل. من صفحات ذلك الكتاب يمكن استخلاص قاعدة تصلح كلّما ظهرت مقدّمات لأزمات كبرى: لا تطمئن لما يقوله المسؤول، ليس فقط لأنّه لا يفصح عن كلّ ما يتوقّعه، بل لأنّه في الغالب لا يملك التوقّع الصائب.

قال جانيت يلين أمس إنّ السحوبات من البنوك “الإقليمية” (المتوسّطة الحجم والصغيرة) في بلادها بدأت تهدأ، وإنّ القطاع المصرفي يتّجه إلى الاستقرار بعد الإفلاسين الأخيرين لبنكَي “سيليكون فالي” و”سيغنيتشر”. ذاك هو توقّعها، إلا أنّ الأزمات المصرفية بالذات لها ديناميّتها الخاصة، فالحقائق ليست ما يملكه المسؤولون من أرقام، بل ما تصنعه وقائع السوق لحظة بلحظة.

انهيار “كريدي سويس”

هذا ما ينطبق تماماً على انهيار قصّة المصرف السويسري العريق “كريدي سويس” بعد 166 سنة من تأسيسه. فإذا كانت الحكمة السائدة تقول إنّ “البنك لا تقتله رصاصة، بل تقتله شائعة”، فإنّ النمط الجديد من الأزمات يشير إلى أنّ البنك لا تقتله صحّته المالية، بل تقتله وسائل التواصل الاجتماعي.

في مطلع تشرين الأول الماضي، كان “كريدي سويس” على الورق من أفضل البنوك الأوروبية من حيث المتانة الرأسمالية وفق المعايير الرقابية، ولو أنّه كان في حاجة إلى زيادة رأس المال لإعادة هيكلة أعماله ودعم وحدته الاستثمارية التي كانت تعاني من قلّة النشاط. من دون سابق إنذار، انتشرت شائعات على “تويتر” ومنتديات موقع Reddit في شأن سلامته المالية، وغرّد صحافي أسترالي بأنّ بنكاً كبيراً على وشك السقوط، فاتّجهت الأنظار إلى البنك السويسري ليكون المشتبه به الوحيد، وبعد ذلك انهار سهم البنك.

إثر ذلك تمكّن ثاني أكبر بنك في سويسرا من تخطّي تلك الأزمة، وكان يسير على الطريق الصحيح لإعادة الهيكلة بعدما جمع رأس مالٍ جديداً من أربعة مليارات دولار أواخر العام الماضي، أتى أكثر من ثلثها من البنك الأهلي السعودي، أكبر بنوك المملكة.

شرارة الأزمة الأخيرة القاتلة أتت من الولايات المتحدة. فبعد انهيار بنك “سيليكون فالي” وبنكين آخرين، عادت الشائعات لتضرب “كريدي سويس”، فواجه حملة سحوبات غير مسبوقة للودائع بوتيرة وصلت إلى عشرة مليارات دولار يومياً. مرّة أخرى، لعب “تويتر” دوراً قاتلاً في نشر الأجواء السلبية حول البنك.

قد يبقى الأمر مفهوماً حين يتعلّق الأمر بـ”كريدي سويس”، ففي تاريخ البنك الكثير من الأزمات على مدى العقود الثلاثة الماضية، من استحواذات فاشلة وفضائح في ذراعه الاستثمارية، وصراعات داخلية في مستويات الإدارة العليا، وسوء إدارة ائتمانية، ولو أنّ كلّ ذلك لم يكن السبب المباشر لانهياره. لكنّ أزمة البنوك الأميركية المستجدّة فيها مفارقات أكبر.

الأزمة في أميركا

ما يستوقف في انهيار بنك “سيليكون فالي” أنّ البنك لم يستثمر أموال مودعيه في أصول مسمومة أو عالية المخاطر، على النحو الذي أدّى إلى الأزمة المصرفية العالمية في 2008، والتي نُسبت إلى سوق مشتقّات الرهن العقاري، بل كانت الضربة القاضية للبنك استثماره في سندات الخزينة الأميركية، التي تعدّ عالمياً أكثر الأصول المالية أماناً على وجه الأرض وأعلاها تصنيفاً. لكنّ ما جرى أنّ القيمة السوقية لتلك السندات انخفضت نتيجة سلسلة قرارات رفع الفائدة الأميركية بسرعة غير مسبوقة في التاريخ، من الصفر إلى 4.75% خلال فترة لم تتجاوز 13 شهراً.

وفي لحظة ما اضطرّ بنك سيليكون فالي إلى توفير السيولة، فباع جزءاً من محفظة السندات لديه بخسارة قاربت مليار دولار، فاضطرّ إلى طلب زيادة رأسماله بـ 2.25 مليار دولار، لكن فشلت العملية وحدث ما حدث.

يقول كثير من المحلّلين هذه الأيام إنّ الأزمة الراهنة كان من السهل توقّعها. فحين يرفع الاحتياطي الفدرالي الفائدة لا بدّ أن ينكسر شيء ما في نهاية الأمر، وقد انكسر سوق الرهن العقاري في 2008، وها هو سوق البنوك المتوسّطة الحجم ينكسر الآن.

لكنّ الملاحظة المهمّة أنّ رئيس الاحتياطي الفدرالي كان يتحدّث أمام الكونغرس قبل أيام قليلة من أزمة بنك “سيليكون فالي”، ويمكن الجزم أنّه لم يكن يتوقّع شيئاً ممّا جرى. بل إنّه كان يقول إنّ البيانات الاقتصادية “أقوى من توقّعاتنا السابقة”، وإنّ ذلك قد يستدعي “رفع الفائدة إلى ذروة أعلى ممّا كنّا نتوقّعه في السابق”. وفهمت الأسواق من كلامه أنّ وتيرة رفع الفائدة ستشتدّ. تترقّب الأسواق الآن اختتام اجتماع الاحتياطي الفدرالي مساء اليوم الأربعاء، ويراهن كثيرون على أنّه قد يتخلّى عن رفع الفائدة هذا الشهر لاحتواء التطوّرات.

الخيارات صعبة أمام الاحتياطي الفدرالي، فمعركته مع التضخّم لا يمكن تجميدها أو إيقافها، لكنّ الانتصار فيها سيصبح عديم المعنى إذا تحطّم الاستقرار المالي.

الأزمة الآن ملك الأسواق إلى حدّ بعيد، ووقائع الأيام المقبلة وحدها كفيلة بتحديد كيفية تصرّف المودعين: هل تعود إليهم الثقة، أم تنتقل عدوى السحوبات من بنك إلى آخر؟ يمكن لجيروم باول وجانيت يلين اتّخاذ إجراءات لمنع انهيار بنك أو ضخّ السيولة، لكنّ التحكّم بما يفكّر به الناس مهمّة أصعب في هذا الزمن.

عبادة اللدن