صناعة الطاقة العالمية قبل عام 2023 وبعده

تشكل الفترة الزمنية الحالية مرحلة تغيير مهمة في تاريخ صناعة الطاقة العالمية. وقد بدأت بالفعل تتغير هذه الصناعة تدريجياً وبطيئاً منذ قرارات «مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة تغير المناخ (كوب)» في باريس عام 2015.

انعقد «مؤتمر باريس» في ظل حملة عالمية ضخمة لا تدعو فقط لمكافحة تغير المناخ؛ بل ضمت أيضاً حملة لوقف استهلاك الوقود الأحفوري (النفط الخام والغاز الطبيعي والفحم الحجري) دون إعارة اهتمام كافٍ لمصادر الطاقة الأخرى؛ إذ جرى اعتبار الوقود الأحفوري السبب الرئيسي والأساسي للتلوث العالمي، مما أدى إلى تبني معايير غير متوازنة لمعالجة مكافحة تغير المناخ. فقد استثنيت مصادر طاقوية أخرى من مسؤولية التلوث، أو همشت تأثيراتها على تغير المناخ، مما أدى إلى تمييزها عن الوقود الأحفوري بعدم شمولها بإجراءات منع استعمالها في عصر «تصفير الانبعاثات».

تغيرت وجهات النظر نحو الوقود الأحفوري تدريجياً منذ «مؤتمر باريس» عام 2015، نتيجة التجارب العالمية الصعبة مع جائحة «كورونا»، ثم نشوب حرب أوكرانيا، والآن معركة غزة. والتغيير الأول الذي حدث هو الزيادة المستمرة في الطلب والإحساس العالمي المادي بضرورة استعمال البترول (النفط والغاز) بالذات لتلبية الارتفاع المستمر في الطلب العالمي السنوي على الطاقة، وأن الطاقات المستدامة (مثل طاقتي الشمس والرياح) مفيدة ومساعدة، لكن غير وافية أو مرنة لتلبية الطلب العالمي المزداد على الطاقة، خصوصاً خلال الأزمات والتقلبات الجوية. لكن هذا الشعور بالحاجة الماسة للبترول لم يكن وحده كافياً للإقرار بالحقائق الجديدة الصعبة إثر جائحة «كورونا» وإغلاقاتها أو ارتباك الأسواق إثر نشوب حرب مدمرة في أوروبا. ولم يكن سهلاً على الدول الصناعية الغربية الاعتراف علناً بتقصيرها في محاولة إيقاف استعمال البترول، بل استمرت هذه المجموعة من الدول، مستغلة شعار مكافحة التغير المناخي، في محاولتها «تصفير الانبعاثات بحلول عام 2050 من دون البترول».

على أثر ذلك، تحملت الدول المنتجة والشركات المسؤولية في توفير الدليل بأنه «بالإمكان إنتاج بترول منخفض الانبعاثات» ويجري هذا حالياً وبالفعل عبر تشييد وتطوير صناعة «تدوير الكربون». من ثم؛ يستنتج أنه من الممكن استمرار الاعتماد على البترول مع انبعاثات منخفضة لثاني أكسيد الكربون من خلال التقاط الكربون من البترول المنتج، فتخزينه في الآبار والكهوف الفارغة، وهي الوسيلة التي تبنتها بعض كبرى الدول النفطية والشركات، التي عبدت الطريق المتعثرة سابقاً أمام التوصل إلى قرار مؤتمر «كوب28» في دبي لاستمرار استعمال البترول منخفض الانبعاثات.

وهذا سيعني أننا أمام مرحلة طاقة جديدة؛ فبعد هيمنة الفحم الحجري خلال القرن التاسع عشر والبترول في القرن العشرين، فإن العالم اليوم سيبدأ التنافس بين البترول منخفض الانبعاثات والطاقات المستدامة (الرياح والشمس) من خلال المجال السعري، عبر الاحتياطات المتوفرة لكل مصدر طاقوي والتفوق العلمي بالذات لتطوير صناعة تدوير الكربون وتخفيض تكلفتها، بالإضافة إلى إمكانية الدول المنتجة في توفير الإمدادات بطرق مستمرة دون انقطاعات.

كما أن هذا سيعني أيضاً أنه سيتوجب على أكبر عدد من الدول المنتجة للبترول تبني صناعة «تدوير الكربون» لاستعماله لاحقاً دون انطلاق الانبعاثات جواً. وهذه عملية صناعية حديثة العهد؛ لكن تحت التشييد والتطوير. وهي ضرورية نظراً إلى ضخامة الاحتياطات البترولية التي لا تزال كامنة تحت الأرض، وإلى المنشآت التي قد جرى استثمار مليارات الدولارات فيها عالمياً.

يأتي الاعتراف في «كوب28» بتقليص الانبعاثات الكربونية للبترول بفاتورة بالغة التكاليف للدول المنتجة، لكنها مهمة لاستقرار الصناعة والاعتراف بها وبمستقبلها رسمياً، بعيداً عن استمرار الاحتجاجات والضغوط.

كما تأتي هذه المرحلة الجديدة مع مسؤوليات جمة على الدول الأخرى أيضاً؛ خصوصاً الصناعية منها، التي انطلق التلوث المناخي منها مع بدء الحرق الواسع للفحم الحجري مع نشوء الثورة الصناعية في أوروبا والولايات المتحدة قبل قرنين من الزمن.

لكن، في الوقت نفسه، ستستمر الصعوبات للفترة المستقبلية، فهناك اختلالات في موازين القوى العالمية، مع تعدد الدول الكبرى الطامحة لاحتلال المركز الأول اقتصادياً وسياسياً عالمياً، ومع تقدم اقتصادات عدد من الدول النامية.

وكذلك في الدول الأوروبية، التي لا تجد ضرورة إلى التحول نحو الاستثمار في الطاقات المستدامة قبل أن تحصل على الوقود التقليدي للكهرباء، ومن ثم تطالب بزيادة فرصها في استكشاف وإنتاج البترول محلياً لمساندتها في التمويل، هذا بالإضافة طبعاً إلى عدم كفاية المساعدات والقروض الميسرة من الدول الصناعية لتمويل برامجها للطاقات المستدامة، في حال إقرار تشييدها عندها.

وفي مجال مكافحة التغير المناخي، تكمن مسؤولية كبرى على الدول ذات الغابات الشاسعة في العناية بهذه الغابات التي تساعد أشجارها في توفير الأكسجين واحتواء ثاني أكسيد الكربون. أما بالنسبة إلى الدول العربية، فإن هذا التحول في صناعة الطاقة يوفر فرصة مهمة للدول النفطية، وغير النفطية منها، لما لعبه البترول من دور في التنمية العربية خلال القرن الماضي، رغم الفرص الضائعة الكثيرة بسبب الحروب الدولية والإقليمية والداخلية التي نكلت بشعوب المنطقة دون هوادة حتى يومنا هذا. وعليه؛ فإن الاعتراف الجماعي الدولي بإمكانية استعمال البترول منخفض الانبعاثات هو مناسبة وفرصة يتوجب انتهازها في الدول العربية.

وليد خدوري

كيف سيكون أداء الأسواق في 2024؟

لقد تحدى عام 2023 العديد من التوقعات، إذ أن الركود في أميركا لم يتحقق، بل سجلت البلاد معدل نمو بلغ 4.9% في الربع الثالث. فالنمو الممتاز دفع أسواق الأسهم لأداء إيجابي وأفشل الارتباط السلبي بين الأسهم والسندات.

كما أن إعادة فتح الصين في مرحلة ما بعد كوفيد-19 لم يحفز النمو أو التضخم العالمي، وأنهى اقتصاد الصين العام مع انكماش وأزمة عقارية متفاقمة.

الأسهم

كان التطور البارز هذا العام هو ظهور ChatGPT، الذي دفع الذكاء الاصطناعي إلى واجهة حياتنا اليومية. وأنهى مؤشر ناسداك 100 العام عند أعلى مستوى له على الإطلاق، مدفوعًا بشكل كبير بقطاع الذكاء الاصطناعي، مع ظهور إنفيديا كأفضل أداء لهذا العام. حيث ارتفعت أسهم الشركة بنسبة تزيد عن 350%، متفوقة حتى على أداء البتكوين.

وكان أداء 72٪ من الأسهم في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 أقل من أداء المؤشر هذا العام. وهذه هي أعلى نسبة لمكونات المؤشر التي كان أداؤها أقل من أداء المؤشر منذ عام 1980، وحتى في ذروة فقاعة الدوت كوم لم يتجاوز هذا المقياس نسبة 70%.

يأتي هذا مع ارتفاع مؤشر “ماجنيفيسنت 7” (مايكروسوفت وأبل وأمازون وميتا وجوجل وتيسلا وانفيديا) بأكثر من 20 مرة مقارنة بمؤشر ستاندرد آند بورز 493 في عام 2023.

وتمثل أكبر 10 أسهم في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 الآن 35% من المؤشر بأكمله، وهو ما يعني أن هناك عدد قليل من الأسهم تقود السوق بأكمله. كما أدى أداء هذه المجموعة إلى تحقيق مؤشر ناسداك 100 أنجح عام له منذ عام 1999، مسجلاً زيادة قدرها 7 تريليونات دولار. بينما مؤشر ستاندرد آند بوروز 500 فسجل مكاسبه للأسبوع التاسع على التوالي – وهي أطول سلسلة منذ 20 عامًا.

وارتفع سهم أمازون بنسبة 83% في عام 2023 بعد أن خسر نصف قيمته في عام 2022.

من المقرر أن يكون أداء الأسهم  مرتبطاً تماماً في عام 2024 بتحركات الفيدرالي، إذ تتوقع الأسواق أن يبدأ البنك خفض أسعار الفائدة في وقت مبكر مع احتمال يزيد عن 85٪.

ويعطي تخفيض الفائدة الإيجابية عادةً لأداء المؤشرات، خاصةً بعد التخفيض الأول لسعر الفائدة، لكن استدامة المكاسب ستعتمد على الأساسيات الاقتصادية الأساسية.

وتعد المعدلات المنخفضة أمرًا جيدًا لتقييمات المؤشرات باستثناء عندما يدخل الاقتصاد في حالة ركود خلال الـ 12 شهرًا القادمة. أي أن انخفاض عائدات الولايات المتحدة سيكون داعمًا لتقييمات المؤشرات طالما بقى الاقتصاد قويًا، وصمدت توقعات الأرباح.

العملات

وفي سوق العملات، شهد الدولار الأميركي عامه الأسوأ منذ عام 2020، فيما أنهى الذهب العام بالقرب من أرقامه التاريخية.

ووصل اليورو مقابل الدولار الأميركي فوق 1.10، فيما اختبر الدولار مقابل الين الياباني ولكنه لم يتمكن من تجاوز مستوى الدعم 140.

ومن المقرر أن يكون عام 2024 متأرجحاً بالنسبة للعملات. إذ أن الأسواق تبدأ تسعير تخفيض أسعار الفائدة، لكن يبقى السؤال من سيخفض الفائدة أولاً وكم ستصل أسعارها؟

يبقى الطرح مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً مع أرقام التضخم من ناحية والنمو من ناحية آخرى. إذ أن النمو الاقتصادي السلبي في بريطانيا وأوروبا قد يضغط على سياسة البنوك المركزية خوفاً من دخول الركود. بينما قد يمتلك الفدرالي الأميركي الوقت لمتابعة حالة الاقتصاد خاصة وأنه على ضفاف الأرقام الإيجابية.

فقد تكون كلمة السر في عام 2024 هي الركود لتحريك السياسات النقدية نحو التيسيرية، وستكون بريطانيا والاتحاد الأوروبي تحت المجهر أولاً.

من ناحية آخرى، فورقة الصين الرابحة هي الاعتماد على دورة تسهيلية في السياسة النقدية، إذ أن كل ما يحيط بالاقتصاد سلبياً حالياً، لذلك فإن تخفيض الفائدة هو الحل الأمثل.

أما في اليابان، فقد يخرج بنك اليابان من الفائدة السلبية ويعتمد رفع الفائدة بعد وجود التضخم أعلى من مستهدفات البنك لأكثر من عام. ففي حال اعتماد رفع الفائدة سيكون هو البنك الوحيد بين الاقتصادات الكبرى الذي يعتمد التشديد في الوقت الذي ستتجه فيه البنوك للتيسير، لذلك قد يكون الين الياباني هو الحصان الأسود في عام 2024.

النفط

وفي مجال الطاقة، سجل النفط الخام أول انخفاض سنوي له منذ عام 2020؛ إذ استمرت جهود أوبك للحد من الإنتاج والتوترات الجيوسياسية المتزايدة في الشرق الأوسط غير فعالة لتعزيز الشهية للنفط هذا العام.

وتبقى إمدادات الخام العالمية والطلب في 2024 هما المحركان الأساسيان للنفط، إذ أن اختناق الإمدادات جراء التوترات في البحر الأحمر ونمو الطلب والتزام أوبك+ بالتخفيض الطوعي قد يكونون دافعاً إيجابياً لتحركات النفط المستقبلية.

أحمد عزام
محلل أول لأسواق المال في مجموعة إكويتي