الأرشيف الشهري: يناير 2024
9 ملايين فرصة عمل في أميركا مع استمرار قوة سوق العمل
النفط يرتفع مع تصاعد التوتر في الشرق الأوسط
لدعم اقتصادها المتعثر.. الصين تشدد قواعد البيع على المكشوف
رأس المال الجريء… 2024 سنة تحدٍّ
في العام الماضي – ولأول مرة – تجاوزت صفقات رأس المال الجريء في السعودية، تلك التي في الإمارات، لتكون بذلك السعودية الأولى في منطقة الشرق الأوسط، بحسب بيانات شركة «ماغنت».
وبطبيعة الحال كانت هناك حالة فرح في الأوساط الحكومية بهذه الأرقام، التي تم الحديث عنها بأنها إنجاز تاريخي، وهذه أحد عيوب لغة الأرقام؛ حيث في بعض الأحيان لا يمكن أن تعكس الأرقام الكبيرة الصورة الحقيقية.
إذا ما نظرنا لتقرير «ماغنت»، فإن ما جعل السعودية تتفوق في صفقات رأس المال الجريء العام الماضي، هو التمويل الضخم الذي حصلت عليه شركتا الدفع الآجل، تمارا وتابي؛ حيث حصلت الأولى على تمويل قدره 340 مليون دولار في ديسمبر (كانون الأول) في جولة التمويل «ج»، بينما حصلت الأخرى على تمويل قدره 250 مليون دولار في جولة التمويل «د» في الشهر نفسه.
أي أن ما يقارب من نصف التمويل من رأس المال الجريء في السعودية العام الماضي البالغ 1.3 مليار دولار ذهب لهاتين الشركتين. واستحوذت هاتان الشركتان على غالبية التمويل الذي ذهب لقطاع التقنية المالية البالغ قدره 708 ملايين دولار.
تركُّز التمويل في هاتين الشركتين هو ما يجعلني أفكر كثيراً في حقيقة المشهد وأتمهل قبل ألا أنضم إلى من ينادون بالإنجاز ويصفونه بالتاريخي.
في نظري نحتاج لعام آخر من الريادة حتى نعده إنجازاً تاريخياً، وكل ما يمكن أن يوصف به عام 2023 هو أنه شهد تمويلات غير مسبوقة.
من ناحية أخرى، أصبحت تابي مؤخراً «سعودية» بعدما وقعت اتفاقية نقل مقرها من الإمارات إلى السعودية العام الماضي، ولو أن هذا لم يحدث لما كان من الممكن عدّ تمويلات تابي جزءاً من استثمارات السعودية.
الأمر الآخر، هو أن تابي وصلت إلى نهاية الطريق للجولات الاستثمارية بعدما حصلت على تمويل من جولة «د»، بينما لم يتبق لتمارا العديد من الجولات بعد وصولها إلى «ج»، وبالتالي قد لا نرى كثيراً من الجولات في 2024.
وأخيراً، فإن غالبية التمويلات ذهبت لشركات ذات طبيعة مشابهة وشبه ناضجة، وعما قريب ستخرج من قائمة الشركات الناشئة وتدخل نادي الشركات الناضجة. ونشاط هذه الشركات يجعلنا نفكر في أن التمويل يذهب للاستثمار في الديون وليس في الملكية؛ حيث إن هذه الشركات تحتاج إلى تمويل لكي تقرض المستهلكين.
وبعيداً عن هذه التحديات، لا نزال نحتاج لمزيد من البيانات والمعلومات حول العوائد للمستثمرين، وحالات التخارج – من وجهة نظري – هي قدرة المستثمرين على التخارج من هذه الشركات وطرحها في سوق الأسهم، وما زلنا بعيدين عن هذا الإنجاز الحقيقي.
وكتابة شيكات لشركات لقرض أموال ليس إنجازاً في نظري إذا ما كنا نتحدث عن رأسمال جريء؛ بل القدرة على تحويل الشركات الناشئة لمساهمة عامة وتخارج المستثمرين الأصليين منها.
كما أن الإنجاز الحقيقي هو عندما نأخذ شركات تقنية ونحولها لمليارية ونطرحها في الاكتتاب. لا أعرف كثيراً عن شركات التقنية التي أصبحت مطمعاً للمستثمرين. وهناك القليل منها الذي خرج من رحم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، ومن أبرزها شركة مزارع البحر الأحمر.
وهناك شركة أخرى تابعة لقطاع التقنية، وهي شركة تطوير البحث والمنتجات (آر بي دي سي) التي لم تتمكن من تحويل عدد كبير من براءات الاختراع إلى شركات، والأسباب لا تبدو واضحة لأنها شركة حكومية وبالتالي لا تشارك معلوماتها.
في نظري أن نجاح قطاع رأس المال الجريء يتطلب العديد من المؤشرات وليس عدد الصفقات أو حجمها، ويتطلب أن نفهم انعكاس كل هذا على النظام الآيكولوجي للشركات الناشئة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، ونحتاج لاستمرارية في التمويلات وتنوعها وقدرة المستثمرين على التخارج ووضوح حول طرح الشركات للاكتتاب العام. ولا يمكن النظر لعام كان صعباً على صناعة رأس المال الجريء في المنطقة على أنه سنة طبيعية. وهذا يذكرني بالعام الذي شهد بيع أصول لأرامكو وكيف تسببت تلك الصفقة المستقلة في رفع أرقام الاستثمار الأجنبي لمستوى قياسي.
كما أن هناك العديد من الشركات التي لم تعبر مرحلة «وادي الموت» لسبب أو لآخر، وهناك مشروعات واعدة لم تحصل على تمويل كاف وماتت من دون أن يعرف أحد عنها. حياة هذه المشروعات يجب أن تكون جزءاً من الإنجاز.
في النهاية ما لم أر العديد من المؤشرات المستدامة، فسأعد كل أرقام «ماغنت» مجرد أرقام غير مسبوقة أو ارتفاعات تاريخية، ولكن لن أضع عليها شعار «الإنجاز».
أسعار النفط في ظل حروب الشرق الأوسط العشر
نشبت نحو 10 معارك في الشرق الأوسط منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فانطلقت معركة غزة في اليوم التالي، واندلعت منذ 8 أكتوبر حرب ما بين «حزب الله» والجيش الإسرائيلي، معظمها على طرفي حدود البلدين. وأطلقت حركة «حماس» عشرات الصواريخ على تل أبيب. كما قصفت الميليشيات الموالية لإيران قواعد عسكرية أميركية في العراق وشرق سوريا، بالإضافة إلى هجمات أميركية على قواعد الميليشيات الموالية لإيران في شرق سوريا، في الوقت نفسه الذي تهاجم فيه إسرائيل مطاري دمشق وحلب باستمرار. وأطلق «الحرس الثوري» الإيراني صواريخ باليستية على منازل في إربيل، وبلوشستان، وباكستان، في يوم واحد ولأسباب «أمنية» داخلية أو خارجية. وهناك حروب أخرى سبقت «طوفان الأقصى» ولا تزال جارية: الاحتلال التركي لشمال سوريا، والصراع في ليبيا، والحرب الداخلية في السودان.
وقد جرى منذ أول قصف للحوثيين في البحر الأحمر في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تسجيل أكثر من 30 هجوماً على البواخر التجارية والبوارج العسكرية والناقلات النفطية، مهددين فيها الملاحة التجارية والنفطية في مضيق باب المندب وجنوب البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب. وقد شكلت هذه الهجمات تحدياً كبيراً للأسطولين الأميركي والبريطاني في المنطقة. ورغم أن البيانات الحوثية الأولى ذكرت أنها تستهدف سفناً إسرائيلية أو تلك المتجهة والقادمة من وإلى إسرائيل، فقد جرى اعتراض ناقلة عراقية تحمل نفطاً عراقياً في بحر العرب، ما يعني توسيع أهداف الحملة رداً على الحرب في غزة. هذا بالإضافة إلى توسيع رقعة التهديدات لتشمل بحر العرب، ولاحقاً مهاجمة سفينة تجارية تبحر في المحيط الهندي.
ردت الطائرات الأميركية والبريطانية على هذه الهجمات، مستهدفة مواقع محددة للحوثيين، متجنبة إصابة أعداد كبيرة من المدنيين في محافظات اليمن الخمس التي قُصفت. وقد شكّلت هذه الهجمات توجيه رسالة إلى إيران وحلفائها في المنطقة حول «قواعد الحرب» هذه.
وقد استطاعت إيران، مصدر الصواريخ والمعدات اللوجيستية للحوثيين، تحديد مواقع البواخر والناقلات المستهدفة، وأن تستدرج الولايات المتحدة إلى معركة مهمة مع فصيل عربي موالٍ لها يعمل على أرض عربية، بعيداً عن الأراضي الإيرانية.
هذا ما يشكل جزءاً من المحاولة الإيرانية في تغيير ميزان القوى بين طهران وواشنطن في معاركها هذه، قوى كبرى وقوى إقليمية مهمة، دون المنازلة المباشرة بينهما، وخصوصاً بعيداً عن أراضي الثانية، تمهيداً لخلق وضع جيواستراتيجي جديد مستقبلاً تستطيع من خلاله إيران بعد استعادة قوتها اقتصادياً وعسكرياً في بسط نفوذها في شرق أوسط جديد.
أدت أزمة البحر الأحمر إلى تهديد أسواق الطاقة العالمية، وتهديد استقرار تجارة النفط العالمية، وازدادت المخاوف من الآثار السلبية المترتبة على اضطرار استعمال الطريق البحرية عبر رأس الرجاء الصالح المحاذي لجنوب أفريقيا إلى إثارة مخاوف أخرى من عدم توافر الإمكانات اللازمة في موانئ شرق وغرب أفريقيا في تزويد الأعداد الكبيرة من البواخر بالوقود، ناهيك عن توفير الخدمات الفنية اللازمة في هذه الرحلة الطويلة التي تزيد ملاحة هذه السفن أسبوعين تقريباً على الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس.
والمتوقع أن تزداد تكاليف هذه الرحلات الأطول، بإضافة زيادة قيمة بوالص تأمين الشحن البحري، حيث زادت قيمة إحدى البوالص 300 في المائة بوصفها بوليصة تأمين في ساحة حرب، الأمر الذي ستترتب عليه زيادة في أسعار البضائع والوقود لاحقاً، ما سيؤدي بدوره إلى ارتفاع معدلات التضخم، وإلحاق أضرار بسلسلة الإمدادات الاقتصادية العالمية تدريجياً.
ومن اللافت للنظر، أن أسعار النفط الخام قد حافظت على استقرارها طوال هذه الفترة؛ فقد تراوحت أسعار خام «برنت» في نطاق ضيق ما بين 75 – 79 دولاراً، متراوحاً نحو 2 في المائة. ويعود السبب الرئيسي لذلك إلى توافر إمدادات وتخزينات وافية، دون أي ظاهرة لنقص في الإمدادات.
والمهم في هذا المجال أيضاً، هو أن التأخير الحاصل في الشحن البحري عبر رأس الرجاء الصالح، لن تتبين انعكاساته إلا بعد أسابيع معدودة من الأزمة، وذلك عندما تنزل البضاعة الجديدة في الأسواق.
في الحالة النفطية، تلجأ الدول المنتجة والشركات النفطية إلى تبني خطط الطوارئ المتوافرة لهذه الحالات، كاللجوء إلى السحب من المخازن، أو زيادة الصادرات.
ومن الملاحظ أنه مع ازدياد أهمية الأسواق النفطية الآسيوية وعدم تأثر شحناتها بالإبحار عبر مضيق باب المندب، فإن أسعار النفط في آسيا قد حافظت على معدلاتها، بل انخفضت خلال الأسابيع الأخيرة. فأسعار الغاز المسال في الأسواق الآسيوية قد انخفضت إلى مستوى متدنٍّ لها، أقل من 10 دولارات لمليون وحدة حرارية بريطانية، وهو أقل سعر للغاز المسال في الأسواق الآسيوية منذ 8 شهور. الأمر الذي يعني أن المناخ المعتدل في آسيا والمخزون الوافي هناك للغاز قد لعبا دوراً مهماً للتغطية على الأزمات البحرية الأخيرة.
وانخفضت أيضاً أسعار النفط الخام في الأسواق الآسيوية متأرجحة ما بين ضغوط الاضطرابات الملاحية من جهة وتحسن النمو الاقتصادي في الصين ودول أخرى. كما أخذت الأسواق في الحسبان أن الحوادث الأمنية الأخيرة لم ينجم عنها أي إغلاق للإنتاج في المنطقة؛ فالانقطاعان الرئيسيان للإنتاج في العالم مؤخراً هما في ليبيا، وحقول ولاية «نورث داكوتا» الأميركية، هذه الولاية التي تشكل ثالث أكبر إنتاج نفطي في الولايات المتحدة، حيث توقف إنتاج نحو 700 ألف برميل يومياً جله من النفط الصخري، أو أكثر من نصف إنتاج الولاية.
وليد خدوري
عن التوقعات والانطباعات وتنبؤات الاقتصاد
مع نهاية عام وبداية آخر تكثر التقارير المتنبئة بتغيرات الاقتصاد، وتتبارى الجهات المصدرة لها في استعراض نتائج توقعاتها، فتستعين بخبراء متخصصين وتجري مسوحاً للرأي واستقصاءات للانطباعات. ونعلم أن التوقعات تصيب وتخطيء، كما أن الانطباعات أسيرة ما يراه أصحابها. فنماذج التوقعات لا تخلو من انحياز وتعاني أوجه قصور في استيعاب الماضي وإدراك مستجدات الحاضر. وفي عالم سريع التغير يزيد اختلاف التوقعات عما ترصده في الواقع، وبعقد مقارنة سريعة لتوقعات الأمس عن حاضر اليوم يتأكد هذا دون عناء، إلا ما كان من قبيل المصادفة أو في حالات محددة لاستشراف ظواهر أو خصائص أو متغيرات معينة لا تتعرض لصدمات تعيد تشكيلها، أو تتمتع بمتانة تعينها على احتواء هذه الصدمات. أما الانطباعات بداهة فهي مزيج من خبرة الشخص ومحيطه، ومدى إتاحة المعلومات والقدرة على التحليل الموضوعي.
ولا تنتشر هذه التقارير والإقبال عليها من باب الاعتياد فحسب، ولكن لتأثيرها في اتخاذ القرارات على مستوى الحكومات والمؤسسات العامة والخاصة والأفراد، كما يتزايد اللجوء إليها مع زيادة المخاطر. وقد تستخدمها جهات بعينها للتأثير على الأسواق أو لتشكيل الرأي العام لتحقيق مصالحها. كما أن من النبوءات ما يصنف، وفقاً لعالم الاجتماع روبرت ميرتون، بأنها ذاتية التحقق من خلال التأثير على السلوك الدافع لتحقيقها فعلاً. كأن يُروج مثلاً لإفلاس مؤسسة، أو تزايد التضخم بالمبالغة في تصوير تأثير أحداث أو تغيرات معينة ذات دلالة، ومع غياب المعلومات الموثوقة لعموم الناس ينتهي الأمر لما كانت تُخشى عواقبه.
وعودة لأمثلة من التقارير الرائجة، فقد استعان المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس، بخبراء بلغ عددهم 1490 ينتمون إلى مؤسسات أكاديمية وخاصة وحكومية ومنظمات غير حكومية في تصنيف المخاطر العالمية، فجاء التصنيف على النحو الآتي من حيث الأهمية في الأجل القصير: 1) التضليل المعلوماتي، 2) التغيرات العنيفة في الطقس، 3) الاستقطاب المجتمعي، 4) مخاطر الأمن السيبراني، 5) الصراعات المسلحة، 6) محدودية الفرص الاقتصادية، 7) التضخم، 8) الهجرة الاضطرارية، 9) الانكماش الاقتصادي، 10) التلوث.
ولا يأتي تقدير «أكسا»، كإحدى شركات التأمين العالمية التي تقوم بالتنبؤ بالمخاطر العالمية ومحاولة تسعيرها، بعيداً في مجملها عن تنبؤاتها السابقة في العامين الماضيين مع تفاوتات بين الأقاليم الجغرافية. وتقوم المؤسسة المالية بتقدير المخاطر من خلال تقديرات مجمعة من 3500 من خبراء إدارة المخاطر من 50 دولة، فضلاً عن استطلاعات رأي تجاوب معها ما يتراوح بين 24 ألفاً و26 ألفاً من 15 دولة لتسمح بمقارنات إقليمية ودولية. وجاء ترتيب المخاطر من حيث الأهمية على النحو الآتي: 1) تغيرات المناخ، 2) مخاطر الأمن السيبراني، 3) اضطراب جيو – سياسي، 4) مخاطر الذكاء الاصطناعي وقواعد البيانات الكبيرة، 5) مخاطر الطاقة، 6) مخاطر متعلقة بالموارد الطبيعية والتنوع الطبيعي، 7) مخاطر مالية، 8) توترات اجتماعية، 9) أوبئة وأمراض معدية، 10) مخاطر الاقتصاد الكلي.
وبمحاولة التعرف على ما يحدق بالعالم العربي من مخاطر، تجده متفرقاً في التصنيفات الدولية بين أفريقيا وآسيا، تأتي تغيرات المناخ في التصنيفات الجغرافية كافة يليها الأمن السيبراني متراوحاً بين المرتبة الثانية آسيوياً والثالثة أفريقياً؛ إذ تسبقه في دول القارة السمراء من حيث الأهمية مخاطر الاستقرار المالي، ثم تأتي المخاطر الاقتصادية الكلية وتلك المتعلقة بالسياسات النقدية والمالية في المرتبتين الرابعة والخامسة. وتتمم قائمة المخاطر الخمس الكبرى في آسيا مخاطر الذكاء الاصطناعي وأمن البيانات؛ والمخاطر التي تعترض الاستقرار المالي.
جدير بالذكر، أنه إلى جانب آراء الخبراء يستخدم تقرير المنتدى الاقتصادي مسحاً لآراء وانطباعات أكثر من 11 ألفاً من قيادات الأعمال في 113 دولة لتوضيح الأولويات والتحديات المحلية في هذه الدول ومدى توافقها مع الانطباعات عن المخاطر العالمية. وضم المسح 12 دولة عربية شملت كل الدول الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، والأردن، والجزائر، والعراق، ومصر، والمغرب واليمن. وفي ترتيب المخاطر الخمسة الأولى جاءت انطباعات قيادات الأعمال في البلدان العربية مشتركة في مخاوفها من التضخم والبطالة وتراجع النمو مع اختلاف من حيث ترتيب الأهمية بين دولة وأخرى. واشتركت انطباعات قيادات الأعمال في البلدان العربية الأكثر دخلاً مع ما ورد من انطباعات لبعض دول منظمة الاقتصادي والتنمية والدول ذات الأسواق الناشئة الكبيرة مثل اكتراثهم بمخاطر الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والأمراض المعدية. أما البلدان العربية متوسطة الدخل والأقل دخلاً فقد تقدمت في قوائمها التحديات الاقتصادية المتمثلة في الديون وتفاوت الدخول والثروات وتقلب أسعار الطاقة، فضلاً عن شح المياه وتأثير الصراعات المسلحة عبر الحدود على المجتمع والاقتصاد.
ويأتي تقرير البنك الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي، الصادر في مطلع هذا العام، معززاً للانطباعات المتحسبة من تراجع النمو وعدم اكتمال التعافي الاقتصادي، رغم تزايد احتمالات ما يطلق عليه «الهبوط الناعم» في الدول ذات الاقتصادات المتقدمة والأسواق الناشئة بمعنى السيطرة على التضخم دون زيادة البطالة بركود اقتصادي. أما البلدان النامية، فهي تعاني تراجع معدل نمو الناتج المحلي وانخفاض معدل الاستثمار عن نصف متوسطاتها في العقدين الماضيين. ومع انخفاض صافي التدفقات المالية إلى البلدان الأقل دخلاً إلى الصفر السنة الماضية، مع زيادة تحديات المديونية الخارجية في البلدان النامية وترواحها بين مشكلات سيولة وأزمات تعثر وعدم قدرة على السداد تتسع الهوة بين تحقيق أهداف التنمية المستدامة مع نهاية هذا العقد وما هو متاح فعلياً للبلدان النامية من موارد. وحتى تأتي قمة المستقبل للأمم المتحدة، التي ستعقد في سبتمبر (أيلول) المقبل، بالنتائج المرجوة واستعادة مسيرة التنمية المستدامة، يجب أن ينتشل التعاون الدولي بداية من القاع المتدني الذي صار إليه بالتفتيت الاقتصادي وزيادة حدة الاستقطاب جراء تنامي الصراعات الجيو – سياسية.
في غياب أي مبادرة حكومية: مصير الودائع بيد المودعين
من الواضح أنّه لا يمكن إنجاز أي إصلاح بمبادرة حكومية. والعقبة مصدرها الحكومة وموقف صندوق النقد، لإصرارهما على شطب الودائع الدولارية، وتحويل جزء منها الى أسهم مصرفية، وإلى ودائع بالليرة بسعر مخفّض أقل من سعر السوق الموازي (صندوق النقد، مشاورات المادة الرابعة- حزيران 2023- المادة 17). أي انّ طرح الصندوق لا يقدّم أي حماية للمودع بخاصة لكبار المودعين. خبرة الصندوق تقتصر في معظم الحالات على حلّ أزمات الديون الثنائية والمتعددة الأطراف من خلال نادي باريس، وليس من المستغرب إصدار طروحات غير واقعية لحل الديون السيادية اللبنانية بيد القطاع الخاص.
فهل يتصور أي من الداعين لشطب الودائع ما سيكون مصير المواطن اللبناني؟ انّ الممارسة الحالية كحسم الوديعة بالدولار بنسبة 80% او 85% هي أفضل بكثير من طرح الحكومة، طرح صندوق النقد، والطروحات الأخرى الداعية لشطب الودائع.
انّ الحل المقترح من قِبل الصندوق بإلغاء الودائع الدولارية الخاصة لم يُطبّق في اي دولة من العالم سابقاً، مع العلم انّ المودع هو الضحية. كما اعترض عدد من أعضاء المجلس التنفيذي لصندوق النقد في اجتماعه الأخير بشأن لبنان في حزيران 2023، على مدى الإجحاف الملحق بحق المودعين لتحميلهم معظم تكلفة الأزمة المزعومة. يجب ان تتراجع عنه الحكومة وكل من يُروّج لهكذا حل تحت شعار انّه الوحيد وسُيعوّض عن الودائع من خلال صناديق او اصدار تعهدات او شهادات وهمية لاسترداد الودائع (على سبيل المثال: اقتراح دراسة ريكاردو هوسمان وزملائه في مركز التنمية الدولي لجامعة هارفارد، استبدال الودائع بشهادات حكومية ليس لها أي قيمة فعلية، او اقتراحات اخرى من محللين لبنانيين بإستبدال الودائع بسندات اجنبية مخصومة، تستحق بعد 30 سنة ببضعة مليارات بكوبون صفر قيمتها الحالية توازي فقط 6% من الودائع من دون معرفة مصدر التمويل). فهي طروحات غير مجدية على الإطلاق.
بند العمل الجماعي
لا يمكن التوصل إلى حل لديون المصارف للمودعين وحَمَلة الأسهم والسندات (أجانب ومواطنين) من دون الاتفاق مع المودعين والمستثمرين حسب بند العمل الجماعي المتبع في الممارسات الدولية (القانون الأميركي لليوروبوند والبريطاني المماثل). فكما اقترح صندوق النقد إعادة هيكلة الدين الخارجي بمشاركة الدائنين الاجانب، يتوجب إشراك الدائنين اللبنانيين (حملة اليوروبوند او السندات والودائع) على المبدأ ذاته، لاحترام مبدأ المساواة في المعاملة.
يجب الاستناد حسب الممارسات الدولية الى بند العمل الجماعي في حالة الدين بالعملات الأجنبية (اليوروبوند والودائع) لمعالجة الديون السيادية في حوزة القطاع الخاص الأجنبي والوطني. ويسري تطبيقه حسب الاتفاق مع أكثرية الدائنين (75%) على أساس الحجم وليس العدد لمعالجة الدين السيادي (بما فيه دين مصرف لبنان للمصارف). وقد يشمل الاتفاق إلغاء جزء من الدين، الاتفاق على فترة السماح، وعلى تكلفة خدمة الدين. بالاتفاق مع الاكثرية يتوجب قبول الأقلية بالاتفاق النهائي.
يتولّى نادي لندن معالجة الدين السيادي بحوزة القطاع الخاص، ولا يتطلّب بالضرورة مشاركة صندوق النقد، بل مشاركة الدائنين اصحاب الحق، للتوصل الى اتفاق بين الدولة المدينة والمصارف الخاصة الدائنة والمؤسسات المالية وممثلين عن المودعين. اذاً، لا يجوز للدولة اللبنانية اقتراح حل مخالف للممارسات الدولية الجيدة ومخالف للدستور(المادة 15).
انّ عدم اعتبار أهمية مشاركة المودعين والدائنين بمعالجة الودائع قد يُعَرّض الحكومة لإجراءات قانونية من قِبل المواطنين والمودعين الأجانب، ما قد يعرقل التوصل الى حل عادل في فترة وجيزة.
توصيات بنك التسويات الدولية
من الافضل اقتراح حلول تلتزم بالممارسات الدولية الجيدة لمعالجة الديون حسب توصيات بنك التسويات الدولي ايضاً. فتوصياته لا تشير إلى أفضلية اعتبار الأموال الخاصة او احتياطي المصارف كخسارة بإسلوب استنسابي يُخوّل للبنوك المركزية شطبها. بل على العكس من ذلك، برهن انّ المصارف المركزية تستطيع ان تمارس سياستها النقدية بفعالية، على الرغم من حيازتها على خسارات (النشرة 68 لبنك التسويات الدولي). لذا فهو يثني المصارف المركزية عن اعتبار الأموال الخاصة كخسارات معرّضة للشطب. وهي أهم نقاط الخلاف بين الكتل النيابية والمودعين من جانب وصندوق النقد والحكومة من الجانب الآخر.
هل يوجد بدائل عن شطب الودائع؟ بالطبع يوجد. من خلال توفير السيولة والثقة. وتشمل الاولوية الإجراءات الضرورية التالية:
*إلغاء مشروع قانون اعادة الانتظام المالي وإصلاح وضع المصارف الصادرين عن الحكومة اللذين يدعوان لإلغاء الودائع الدولارية بالكامل، ولا يخدمان اعادة انتظام القطاع المالي، وانما يؤديان الى تراجعه وانعدام الثقة فيه. يجب إعادة صياغة هذين القانونين مع الحفاظ على الودائع.
*الغاء التعميم 151 كلياً وكذلك 158 اللذين يحدّدان السحب والسعر الاستنسابي.
* تحرير سعر الصرف بالاستناد الى سوق مقاصة يتبع المزادات الدولية (وليس فقط لمعاملات التجارة الخارجية – الواردات) بإشراك جميع المؤسسات المالية في المناقصات. ولا بدّ من التذكير، انّ تثبيت سعر الصرف بأي وسيلة، كان احد اهم أسباب الأزمة. ومع تحرير سعر الصرف تنتهي ضرورة حجز أموال المصارف بالدولار كاحتياط إلزامي، مما يوفر السيولة الكافية للمصارف.
* الاستقرار في سعر الصرف واستعادة الثقة يتطلبان سياسات شفافة مع تحقيق توازن مالي ونقدي.
* جدولة الودائع المصرفية لفئات: حسابات جارية وحسابات آجلة تتناسق مع سيولة المصارف. ويُخوّل استعمال الشيكات لجميع فئات الودائع حسب اجل الحساب. ويُحدّد سعر شيكات الحسابات الآجلة حسب السوق التابع.
* جدولة الدين العام بالتنسيق مع الدائنين اللبنانيين والاجانب (بالاستناد الى التمثيل الجماعي لحلّ الاستحقاقات المالية للقطاع العام).
انّ الحل بديهي لمعالجة الوضع المالي، فيجب ان يُصَوّب الجهد نحو اعادة الثقة بالقطاع المصرفي، ومنها التخلّي عن طروحات شطب الودائع. وعندما تتوفر السيولة والثقة من خلال تحرير الأسواق وتحقيق التوازن المالي، سيعود العمل المصرفي الى وضعه السليم. فمعالجة الديون لا تُمارس حسب رغبة السلطة الاستنسابية فقط، بل بإشراك الدائنين (والمودعون أهمهم).
البروفيسور منير راشد