السيولة موجودة… أين نستثمرها؟

على عكس ما كان متوقعاً، نجحت الحكومات ومؤسسات التمويل الدولية وصناديق التنمية في استقطاب فائض من السيولة لمواجهة تداعيات وباء كورونا على الاقتصاد. فقد تجاوَزَ ما تم جمعه من الأسواق كل التقديرات، وبأسعار فائدة منخفضة. وليست «سندات كورونا» الأوروبية إلا نموذجاً على هذا. ويُتوقع أن تتجاوز الاستثمارات الاقتصادية في خطط التعافي الوطنية حول العالم حدود 20 تريليون دولار للأشهر الـ18 المقبلة.
المشكلة إذاً ليست في السيولة، لا بل هناك فائض منها، بعدما تم امتصاصها من الأسواق. ولا تقتصر السيولة الجديدة المتاحة على الأسواق في الدول الغنية، بل هي متوافرة أيضاً في الأسواق الناشئة. وما نواجهه اليوم هو كيفية صرفها في الاتجاه الصحيح مع ضمان استدامة التمويل، وتحديد حصة الاستثمارات الاجتماعية والبيئية منها.
سمعنا كثيراً من الوعود خلال الشهور الأخيرة أن «المشاريع الخضراء» الصديقة للبيئة ستحظى بحصة وافرة من السيولة المخصصة للتعافي الاقتصادي من الجائحة. وهذا ما أكدته دول متعددة وصناديق تنمية ومؤسسات تمويل حول العالم، خاصة دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة البنك الدولي. وإذا كان من الطبيعي أن يذهب جزء من التمويل لمعالجة المضاعفات الصحية للوباء، فالجزء الأكبر سيكون لتفعيل الدورة الاقتصادية. لكن رغم «الوعود الخضراء»، يتخوف البعض من أن تدفع الرغبة في زيادة حجم الطلب ورفع أرقام الدخل القومي سريعاً إلى ضخ جزء كبير من الأموال الجديدة في مشاريع غير مستدامة تؤدي إلى زيادة الاستهلاك، بدلاً من استثمارات تخلق فوائد اجتماعية طويلة الأجل.
الاستثمارات الكبرى في البنى التحتية، كالمياه والطاقة والمواصلات، تكون تحت مظلة الحكومات، ولو شارك فيها القطاع الخاص كمالك أساسي أو جزئي أو مشغل. ولكي يمول القطاع الخاص مشاريع ذات مضمون بيئي واجتماعي، مثل طاقة الشمس والرياح وكفاءة الطاقة وإدارة النفايات والزراعة المستدامة، فهو ينتظر ضمانات تقلل من المخاطر. وهذه عادة تكون على شكل كفالات من مؤسسات التمويل الدولية وصناديق التنمية وإعفاءات ضريبية من الحكومات. وما يدعم تخصيص القسم الأكبر من السيولة إلى مشاريع تحافظ على سلامة البيئة أن هذا يساعد أيضاً في مجابهة ظهور الفيروسات وانتشارها، بعدما أصبح من المؤكد أن هذه تعود، في جزء كبير منها، لأسباب بيئية.
قبل الجائحة، قدر تقرير أصدره المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) أن تبلغ احتياجات الدول العربية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة 230 مليار دولار سنوياً حتى سنة 2030. وتوقع أن ترتفع الكلفة أكثر بسبب آثار عدم الاستقرار السياسي والأمني، إذ بينت التقديرات أن الخسائر في النشاط الاقتصادي بسبب الحروب والنزاعات منذ عام 2011 وصلت إلى نحو تريليون (ألف مليار) دولار. كما أنه لا بد أن تتسع هذه الفجوة التمويلية على نحو ملحوظ بسبب الآثار الكارثية للجائحة، مع استمرار الحروب والنزاعات المدمرة في أكثر من مكان.
ما تؤمنه الحكومات وصناديق التنمية التابعة لها والبنوك المركزية ومؤسسات التمويل الدولية لا يكفي لسد الفجوة التمويلية، التي يجب أن يأتي جزء كبير منها من القطاع الخاص. وهناك مجموعة متزايدة من حلول التمويل المثيرة للاهتمام في السوق، من السندات الخضراء إلى أدوات التمويل المختلطة. على الصعيد العالمي، حصلت زيادة سنوية مقدارها 23 ضعفاً في إصدار السندات الخضراء، من 11 مليار دولار عام 2013 إلى نحو 250 مليار دولار عام 2019. لكن رغم نموها السريع، لا تزال بعيدة عن المساهمة الحاسمة في تمويل كلفة التنمية المستدامة، وبالتأكيد بعيدة جداً عن سوق السندات العالمية، التي تتجاوز 100 تريليون دولار. ورغم أن السندات الخضراء في الدول العربية لا تزال في مهدها، إلا أنها بدأت بالظهور. ففي عام 2013 أصدر بنك التنمية الأفريقي سندات صديقة للبيئة استخدمت عائداتها جزئياً لتمويل مشروعين في تونس ومصر. وفي عام 2017 أطلق بنك أبوظبي الوطني أول إصدار لسندات صديقة للبيئة في المنطقة العربية بقيمة 587 مليون دولار تستحق في 2022.
يحتاج استقطاب التمويل من القطاع الخاص في مشاريع التنمية المستدامة إلى جهود أكبر، سواءٌ في البنى التحتية أو المشاريع الاستثمارية، الكبيرة والمتوسطة والصغيرة. ومن هذا تشجيع استثمار المدخرات، عبر أدوات مالية تستطيع اجتذاب تحويلات المهاجرين، وتطوير الأسواق المالية، واستقطاب الاستثمارات الخارجية المباشرة من طريق سياسات وحوافز تمنح الثقة للمستثمرين. وعلى الدول تطوير آليات تشجع المشاركات بين القطاعين الخاص والعام، مثل صناديق التمويل المختلط، واستخدام السيولة من المؤسسات المانحة وصناديق التنمية كضمانات للحصول على قروض إضافية من القطاع الخاص.
وعلينا أن نتذكر أن تمويل مشاريع التنمية المستدامة لا ينحصر في المشاريع الكبرى للبنى التحتية. فالتوزيع العادل لفوائد التنمية يتطلب دعم الاستثمار في المشاريع الصغرى والمتوسطة، أكان في مجال الطاقة أو المياه أو الإنتاج الغذائي أو الصناعة النظيفة أو السياحة الصديقة للبيئة، على سبيل المثال. ولأن القطاع المالي الخاص يبقى المصدر الأفضل والأجدى لتمويل هذه المشاريع على نحو مستدام، فمن الضروري دعمه من الحكومات وصناديق التنمية ومؤسسات التمويل الدولية، وتوفير شروط البقاء له.
ما يحصل الآن في مناطق عدة من العالم هو أن المصارف المركزية ومؤسسات التمويل الدولية وصناديق التنمية بدأت تزيد من ضخ السيولة مباشرة لتمويل المشاريع والشركات، بفوائد متدنية جداً، وذلك لتشغيل فائض السيولة الرخيصة الذي جمعته لخطط التعافي الاقتصادي من كورونا. هذه الممارسة، التي ترقى إلى حدود المنافسة غير المشروعة، تهدد بوضع المصارف والمؤسسات المالية التجارية، التي أدخلت التمويل الأخضر في برامجها، خارج الخدمة. وهذه خسارة كبيرة لا يمكن تعويضها، إذ إن فائض الأموال اليوم حالة مؤقتة، والاستدامة تتطلب الالتزام بمعايير اقتصاد السوق، مما يضمن الاستمرار في اجتذاب الأموال في المستقبل.
وظيفة مؤسسات التمويل العامة سد الفجوات التمويلية حيث يعجز القطاع المالي الخاص، كما في تمويل مشاريع البنى التحتية. فبدلاً من منافسة القطاع المالي الخاص في التمويل الاستثماري، على الحكومات والمصارف المركزية ومؤسسات التمويل الدولية وصناديق التنمية أن تدعمه وتشغل الأموال الاستثمارية من خلاله، بينما تركز عملها في تنفيذ مهمتها الأساسية.

نجيب صعب.