تزداد أزمة الطاقة في أنحاء القارة الأوروبية سوءا، وقد يمتد تأثيرها لسنوات قادمة، إلا أن ألمانيا تعتبر أكثر الدول الأوروبية تأثرًا بالأزمة.
وباعتبارها واحدة من أهم الدول الصناعية في العالم، تواجه الصناعة الألمانية اليوم أسوأ أزماتها في جيل من الزمان.
وتأتي الأزمة الحالية كواحدة من تبعات الأزمة الأوكرانية، وما تبعها من عقوبات من قبل الاتحاد الأوروبي على الجانب الروسي، والتي شملت قطاع الطاقة في موسكو وصادراتها منه.
إلا أن لأزمة الطاقة جوانب أخرى، حيث تتجه أوروبا بشكل عام، وألمانيا بشكل خاص، لمواجهة أزمة في الطاقة قد تستمر لسنوات طويلة، بسبب السياسات التي اتبعتها ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي بشكل صارم للتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري واستبداله بوسائل الطاقة الخضراء.
وكانت أهداف الاتحاد الأوروبي تجاه أزمة المناخ صارمة للغاية، وفتحت الباب للاعتماد على بشكل كبير على الغاز الطبيعي، بسبب ابتعاد الدول الأعضاء عن استخدام الفحم والنفط.
أما ألمانيا، فكانت أكثر صرامة، إذ سعت الحكومة الألمانية منذ عام 2002 للتخلص التدريجي من الطاقة النووية على مراحل، وفق خطة محددة.
وفي عام 2000، أي قبل عامين من الخطة، كانت الطاقة النووية تشكل نحو 30 بالمئة من مزيج الطاقة في أكبر اقتصاد في القارة الأوروبية، والآن، تمثل الطاقة النووية 3.1 بالمئة فقط من الطاقة في ألمانيا بحسب الجدول التالي.
كما تسعى البلاد لإغلاق محطات الطاقة النووية المتبقية بحلول نهاية العام.
عندما بدأ الاتحاد الأوروبي في الابتعاد عن الفحم والوقود، أصبح أكثر اعتمادًا على الغاز الطبيعي، وبشكل خاص على الغاز الروسي.
وأظهرت العقوبات على الجانب الروسي عقب الأزمة الأوكرانية مدى اعتماد الاتحاد الأوروبي على الطاقة الروسية، فباتت دول الاتحاد أمام معضلة، فإما معاقبة الجانب الروسي، وإما تحقيق أهداف المناخ، فلا يمكن لأوروبا تحقيق الهدفين معًا.
وقد وافقت العديد من الدول في الاتحاد بالفعل على إعادة تشغيل محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، بما فيها ألمانيا والنمسا وإيطاليا وهولندا وفرنسا.
ما يعني أن الأهداف المناخية قد تم تعليقها للوقت الراهن.
والوضع في ألمانيا أسوأ من الدول المجاورة مثل فرنسا، والتي لا تخطط لإغلاق محطاتها النووية.
وتمتلك فرنسا سياسة طويلة الأمد حول أمن الطاقة لديها، وتقوم بتوليد نحو 70 بالمئة من طاقتها عبر المحطات النووية.
وعلى العكس، فإن السياسة التي اتبعتها ألمانيا وخططها لإغلاق المنشآت النووية، وانخفاض واردات الغاز بنسبة 15 بالمئة للعام الجاري، يترك لها الخيار الصعب، إما الحفاظ على القاعدة الصناعية القوية للبلاد، وإما الاستمرار في معاقبة الجانب الروسي والاستغناء عن واردات الطاقة منها.
ومن جهة أخرى، فقد ارتفعت تكاليف الطاقة بنحو أربعة أضعاف خلال العام، وتسبب في مشكلات بالتكلفة يعاني منها القطاع الصناعي، كما أعلنت الحكومة مؤخرًا عن خطة لترشيد الغاز الطبيعي، والتي ستؤثر على أكبر 2500 مستخدم في البلاد.
وفي وقت سابق من العام، اضطرت شركة “بي إيه إس إف” لوقف الإنتاج في واحد من أكبر وحدات الصناعة الكيماوية في العالم في مدينة لودفيغسهافن، بسبب نقص الطاقة الرخيصة.
كما أعلنت الشركة عن إنشاء مصنع في مدينة زانجيانغ الصينية.
وأعلنت شركة “ترينسيو” الألمانية، وهي شركة أخرى في قطاع الكيماويات، دراستها لإغلاق أو بيع بعض مصانعها في البلاد، كما خفضت شركة “شبايرا جي إم بي إتش”، وهي شركة لصناعة الألمنيوم، من إنتاجها بنسبة 50 بالمئة هذا العام، وتقوم شركة “أوروبيش إيه جي”، أكبر منتج للنحاس في البلاد، بوضع خطط للطوارئ، تشمل استخدام زيت الوقود لتجنب الإغلاق إذا توقفت إمدادات الغاز الطبيعي.
وأما شركات صناعة السيارات في ألمانيا، مثل مرسيدس بنز و”بي إم دابليو” وفولكسواجن، فقد أعلنوا جميعًا أن إمدادات الطاقة لديهم مضمونة وآمنة، إلا أن الموردين من جهة أخرى، والذي تبلغ أعدادهم الآلاف، يواجهون مصيرًا مختلفا، فهم لم يؤمنوا مصادرهم من الطاقة، وقد يواجهوا خطر الإغلاق مالم يتم التفاوض على تقديم أسعار ثابتة للطاقة بمساعدة الحكومة.
النظرة المستقبلية للاقتصاد الألماني سلبية، إذ يتوقع العديد من الاقتصاديين ركودًا في اقتصاد البلاد، كما أن القليل منهم يعتقدون أن الصناعة الألمانية تواجه تهديدًا طويل الأمد.
وقد بدأ الاتجاه بالفعل في تحويل عمليات التصنيع إلى دول أخرى ذات إمدادات طاقة مستقرة وعمالة أقل تكلفة.
وهناك نقاش حكومي حاليًا في ألمانيا لإبقاء إمدادات محطات الطاقة النووية مفتوحة في الوقت الحالي، ولكن لا توجد نية لتخفيف الالتزام تجاه الأهداف المناخية بهدف التحول السلس من الاعتماد على الطاقة الروسية إلى الاستغناء عنها والاعتماد على الطاقة المتجددة.
إن قصر النظر، سيكون له تأثير طول على الاقتصاد الألماني، وفي هذه الظروف، ربنا نشهد نهاية عصر الصناعة الألمانية.