بحلول اليوم الثالث بعد فتح الأسواق الإثنين الماضي، ولأوّل مرّة بعد الإعلان عن صفقة إنقاذ مصرف كريدي سويس، بات بالإمكان تلمّس آخر ما جرى من مفاوضات وضغوط قبيل عقد صفقة الاستحواذ. كما بات بالإمكان تلمّس آثار ما جرى على فئات المستثمرين والمساهمين المختلفة، ونوعيّة الخسائر التي ستصيب هؤلاء، وآثار هذه الخسائر على سائر الاقتصادات العالميّة. أمّا أهم ما في الموضوع اليوم، فهو النقاش الدائر حول عدالة الصفقة والمعايير التي قامت على أساسها، خصوصًا أنّها ستؤسّس لنمط جديد في التعامل مع الأزمات المصرفيّة خلال الفترة المقبلة.
مفاوضات الأيّام الأخيرة
خلال اليومين الماضيين، وبعد أن قُضي الأمر وانتهت حكاية كريدي سويس، تسرّبت إلى الأسواق تفاصيل مفاوضات الأيّام الأخيرة قبل عقد صفقة الاستحواذ.
فبحلول يوم الأربعاء الماضي، 15 آذار، اشتدّت الضغوط على المصرف، إلى الحد الذي بات يُنذر بانهيار كريدي سويس فوق رؤوس مودعيه ومساهميه. أُبلغ المصرف البنك السويسري وFINMA (الهيئة الناظمة للقطاع في سويسرا) بحجم السحوبات اليوميّة، والتي كانت قد تخطّت 10 مليارات دولار في ذلك الوقت، ما يعني أنّ كريدي سويس بات في طريقه للإقفال خلال ساعات معدودة ما لم يحصل أي تدخّل رسمي.
إشكاليّة كريدي سويس، كانت في عجزه عن تأمين أي زيادة في رساميله، بل وعدم جدوى هذه الزيادة، بعد حالة الهلع التي ضربت السوق. ثمّة عروض تقدّم بها سابقًا كل من بلاك روك، صاحب الحصّة الوازنة في كريدي سويس، وUBS، المصرف السويسري الوحيد الذي يفوق كريدي سويس من حيث الحجم، إلا أنّ جميع هذه العروض لم تتسم بالواقعيّة، من ناحية قدرتها على معالجة كثافة حجم السحوبات أو إعطاء جرعة من الطمأنينة في السوق.
يوم الأربعاء الماضي، جرى اتصال جمع إدارة كريدي سويس بالبنك المركزي وFINMA ووزيرة الماليّة السويسريّة. وفي الخلاصة، كان من الواضح أن الجهات الرسميّة اختارت أن تلعب لعبة إرسال رسالتين متعارضتين:
– الرسالة الأولى التي تم توجيهها، كانت إلى الأسواق وعموم المودعين، عبر منح المصرف تسهيلات من البنك المركزي بقيمة 54 مليار دولار. كان الهدف هنا القول أن كل شيء عاد إلى ما يرام، بمجرّد منح هذه السيولة للمصرف. وطالما أن المصرف المركزي ورّط نفسه بهذه التسهيلات، بدل إقفال كريدي سويس والبحث في مصيره كما جرى مع مصرف سيليكون فالي، فهذا يعني أن الجهات الرسميّة في سويسرا مازالت على قناعة بإمكانيّة تجاوز الأزمة بسهولة.
– الرسالة الثانية، المعاكسة تمامًا في مضمونها، كانت إلى إدارة المصرف: قرض الـ54 مليار دولار لن يكفي لتمويل السحوبات لأكثر من بضعة أيّام. والمطلوب بت صفقة بيع المصرف بحلول عطلة نهاية الأسبوع، وقبل فتح الأسواق يوم الإثنين. باختصار، من غير المسموح أن يعمل كريدي سويس على هذه الحال لأكثر من يومي عمل، أي يومي الخميس والجمعة الماضيين. وكان الجميع يدرك أن الجهة المشترية، لن تكون سوى UBS، المصرف الوحيد القادر على إتمام صفقة من هذا النوع.
في اليوم نفسه، أي يوم الأربعاء الماضي، جاء الجواب من UBS: نحن مستعدون، ولكن… لن يقبل UBS بشراء كريدي سويس إلا بقيمة رمزيّة لا تتخطى المليار دولار، ومع ضمانات حكوميّة كاملة لصفقة الاستحواذ، وتسهيلات خياليّة من المصرف المركزي، وغيرها من الأحلام الورديّة التي فكّرت بفرضها إدارة UBS في ظل الأزمة القاسية. وكما كان متوقّعًا، ثارت ثائرة المساهمين في كريدي سويس، احتجاجًا على الابتزاز الذي تمارسه إدارة UBS. وبدأت بعض الصناديق الاستثماريّة الأجنبيّة، المساهمة بالمصرف، بالضغط على الحكومة السويسريّة لتفادي هذا السيناريو.
لم يكن هناك أي مجال للعب أو العبث، وجاء الرد واضحًا من البنك المركزي وFINMA ووزارة الماليّة السويسريّة معًا، وفي يوم الأربعاء نفسه: على كل من كريدي سويس وUBS أن يسلّما بالوساطة التي ستقوم بها الجهات الرسميّة السويسريّة، وأن يسلما بصفقة الاستحواذ كما ستقررها هذه الجهات في عطلة نهاية الأسبوع، ومن دون الأخد بالاعتبار حسابات المستثمرين وحملة الأسهم. لن يُترك القرار لإدارة المصرفين، ولا حتّى للمساهمين فيهما. وأي تحدٍّ لهذا المسار، سيفرض إقرار قانون طارئ يجرّد إدارة كريدي سويس من صلاحيّاتها فورًا، ويجرّد المساهمين في المصرفين معًا من صلاحيّة عرقلة الصفقة. ولمزيد من الصرامة، تم إعداد مسودّة القانون على سبيل الاحتياط.
ببساطة، لم يتم الاكتفاء بوضع مساهمي كريدي سويس في طليعة قائمة الخاسرين، كما يفترض أن يكون الحال، بل تم وضعهم (مع مساهمي UBS) في آخر قائمة من يحق له الكلام أو إبداء الرأي. وكان على الجميع أن يرضى، إذ أن إفلاس كريدي سويس كان سيعني تلقائيًا إطلاق موجة من الإفلاسات التي ستطال UBS قبل أي مصرف آخر، بالنظر إلى نوعيّة الهلع الذي سينتج عن هذا السيناريو. ومن الأفضل أن يرضى المساهمون في المصرفين بهذه الصفقة، بدل أن يخسروا كل شيء.
خسائر المساهمين
في النتيجة، وبعد ثلاثة أيّام من المداولات مع المصرفين، بت البنك المركزي وFIMNA بصيغة الصفقة النهائيّة، التي لم يملك المصرفان إلّا الموافقة عليها:
– بلغت قيمة الاستحواذ 3.25 مليار دولار، وليس مليار دولار كما طلب USB. ومع ذلك، مثّلت الصفقة صفعة كبيرة للمساهمين في كريدي سويس، بعدما خسروا 60% من قيمة سهمهم كما كانت في آخر يوم تداول. وستُضاف هذه الخسارة إلى الخسائر السابقة التي مني بها السهم، والتي بلغت 25% من قيمته في آخر أسبوع من التداول، و75% من قيمة السهم في آخر 12 شهر من التداولات. بمعنى آخر، لم يحصّل المساهمون أكثر من 7.5% من قيمة السهم، كما كانت قبل سنة واحدة بالتمام والكمال.
– لن يتم تسديد قيمة أسهم كريدي سويس للمساهمين فيه نقدًا، بل على شكل أسهم في مصرف UBS. مع العلم أن أسهم UBS خسرت بدورها 8.8% من قيمتها، فور عقد الصفقة.
– اقتصرت قيمة الضمانات الحكوميّة على سقف لم يتجاوز حدود 6 مليارات دولار من قيمة موجودات كريدي سويس، ما يعني أن الحكومة السوسريّة لن تغطّي أي خسائر يتحمّلها UBS لاحقًا نتيجة الصفقة إلا ضمن هذا السقف. مع الإشارة إلى أنّ هذه الخسائر قد تنتج عن نوعيّة القروض التي منحها كريدي سويس في الماضي، أو نوعيّة الاستثمارات التي تورّط بها. وبذلك، لم ينجح UBS بفرض كفالة الحكومة للصفقة برمتها كما طلب في البداية.
– ستقتصر التسهيلات التي سيحصل عليها UBS بعد شراء كريدي سويس على 100 مليار دولار فقط، وهو ما سيسمح باستيعاب موجة محدودة من السحوبات، بعد إجراء الصفقة.
– تم شطب نحو 17 مليار دولار من إلتزامات كريدي سويس لحملة السندات القابلة للتحويل إلى أسهم. وهذا الإجراء، أثار حفيظة حملة هذه السندات، الذي اعتبروا أنّ شريحة المساهمين الحاليين يفترض أن تحمل أوّل شريحة من الخسائر حتّى استنفاد قيمة الأسهم، قبل تحميل أي خسائر لحملة السندات. وعلى هذا الأساس، رفضت هذه الشريحة من المستثمرين فكرة تجريدها من قيمة استثماراتها بالكامل، مقابل سداد قيمة الصفقة للمساهمين. ومع ذلك، جرت الصفقة من دون الأخذ بالاعتبار كل هذه الاعتراضات.
– سينتج عن صفقة الاستحواذ مصرف ضخم جدًا، بعد دمج ميزانيّات المصرفين. وستوازي قيمة موجودات هذا المصرف ضعفي حجم الناتج المحلّي السويسري بأسره، ما سيجعله أحد المصارف “الأكبر من أن تسقط” (بمعنى أن السلطات ستحتاج إلى إنقاذ المصرف في حال تعرّضه لأي هزّات في المستقبل).
خسائر المساهمين الأجانب
لن تقتصر تداعيات صفقة الاستحواذ على كريدي سويس على سويسرا أو أوروبا وحدهما، بل ستشمل كبرى المؤسسات والصناديق الاستثماريّة حول أنحاء العالم. فحتّى اللحظة، تم إحصاء ما يلي من خسائر تعرّض لها بعض المستثمرين الأجانب:
– البنك الأهلي السعودي، الذي كان يملك 9.8% من أسهم كريدي سويس، خسر ما يقارب 1.11 مليار دولار، نتيجة الفارق بين سعر شراء الأسهم وسعر بيعها.
– جهاز قطر للاستثمار سجّل خسارة قُدرت بـ3.69 مليار دولار، نظرًا لامتلاكه نحو 6.8% من أسهم كريدي سويس. مع الإشارة إلى أنّ حجم خسائر جهاز قطر للاستثمار تجاوزت حجم خسائر البنك الأهلي السعودي، رغم امتلاكه لحصّة أصغر، كون جهاز قطر للاستثمار اشترى أسهمه بتواريخ قديمة وبأسعار أعلى.
– مجموعة العليان السعوديّة، خسرت 4 مليار دولار في هذه الصفقة، فيما كانت تملك 3.2% من أسهم المصرف.
– شركة بلاك روك الاستثماريّة الأميركيّة، خسرت 2.23 مليار دولار، فيما كانت تملك 4% من قيمة أسهم المصرف.
– نورغس بنك النرويجي خسر 1.22 مليار دولار، بعدما امتلك في السابق 3.1% من قيمة أسهم المصرف.
– صندوق دودج آند كوكس الاستثماري الأميركي، خسر 1.82 مليار دولار، بعدما امتلك 3.3%.
في النتيجة، سيكون على جميع هذه الأطراف أن تتحسّب لخساراتها الناتجة عن الاستثمار في كريدي سويس، وأن تكوّن المؤونات المطلوبة للتعامل مع هذه الخسائر خلال الفترة المقبلة. أمّا الأهم، فهو أن صفقة بيع المصرف ثبّتت أصولاً مستجدّة للتعامل مع الأزمات المصرفيّة، لناحية طريقة التعامل مع مفاوضات الساعة الأخيرة مع مساهمي وإدارات المصارف، وطريقة فرض الحلول السريعة التي تلائم المصلحة العامّة، بمعزل عن مصالح المستثمرين الضيّقة.
علي نور الدين