تبدو أزمة الديون الأميركية التي تلوح في الأفق في جوهرها أزمة سياسية، خاصة أن وزارة الخزانة باستطاعتها اقتراض كل ما تحتاجه إذا تصرفت الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب على نحو مسؤول، ورفعت سقف الديون.
ومع ذلك، جرى ببساطة قبول الفكرة القائلة بأنه إذا أخفق مجلس النواب في التوصل إلى اتفاق، فإن الولايات المتحدة تواجه احتمال التخلف عن سداد ديونها، الأمر الذي يعود لأسباب منها أن حديث وزيرة الخزانة جانيت يلين، كان مبهماً بخصوص ما إذا كان سيجري الإبقاء على مدفوعات الفائدة.
في الواقع، إذا كانت الحكومة تعاني من نقص في السيولة النقدية، يتعين على وزارة الخزانة إدارة هذا النقص عبر إعطاء الأولوية لمدفوعات الفوائد، وتقليص تمويل بنود الموازنة العادية، مثل المتنزهات الوطنية والمؤسسة العسكرية والتعليم. ومع أن هذه الإجراءات ستكون مؤلمة، بل وربما خارج نطاق القانون، فإنها تبقى أفضل الخيارات الرديئة المتاحة. المؤكد أن الدول المسؤولة تحترم مسؤولياتها تجاه سداد ديونها.
علاوة على ذلك، ثمة سابقة تاريخية في هذا الصدد، فقد واجه الكونغرس أثناء فترة الحرب الأهلية خياراً مشابهاً. حينذاك، أدرك الرئيس أبراهام لينكولن والجمهوريون داخل الكونغرس أن الحفاظ على الائتمان الأميركي يمثل المفتاح لتمويل الحرب الأهلية. وعليه، فإنه الضامن لاستمرار قوة الحكومة، بل ووجودها. واليوم، ينبغي للرئيس بايدن والوزيرة يلين الاحتذاء بحذوهم.
بطبيعة الحال، طرأت الكثير من التغييرات منذ عهد لينكولن. والأهم من ذلك، واجهت الولايات المتحدة، أوائل عام 1862، أزمة مالية حقيقية، فعندما أصبح واضحاً أن الحرب ستكون أطول (وأكثر دموية) مما كان متوقعاً، تصاعدت تكلفتها بسرعة إلى مليون دولار، ثم مليوني دولار يومياً ـ مستوى من شأنه استنزاف قاعدة الإيرادات السنوية الحكومية في غضون شهر واحد فقط.
بدا الحل الوحيد الواضح حينها الاقتراض، إلا أن الائتمان الأميركي لم يكن يحظى بتقدير كبير. وافقت الولايات المتحدة مؤخراً على فائدة بنسبة 12 في المائة (معدل مرتفع يعكس عدم ثقة المستثمرين) ـ وحتى بهذا المعدل، ظلت عروض القروض نادرة. عام 1861، من جهته، أرسل وزير الخزانة في إدارة لينكولن، سالمون بي. تشيس، مبعوثاً إلى إنجلترا وأوروبا لتحديد الفائدة على القروض، لكن جاءت الاستجابة سيئة.
على سبيل المثال، ذكرت مجلة «الإيكونوميست» بنبرة متعجرفة: «إنه أمر غير وارد على الإطلاق، من وجهة نظرنا، أن يتمكن الأميركيون، سواء في الداخل أو في أوروبا، من الحصول على أي شيء قريب من المبالغ الباهظة التي يطلبونها، لأن أوروبا لن تقرضهم…».
على النقيض من الحال اليوم، عندما يجري التعامل مع الدولار كعملة احتياطية، لم يكن باستطاعة الولايات المتحدة ببساطة طباعة الورق، وتوقع أن يقبله العالم.
إلا أنه في ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام، عندما نفد الذهب من البنوك الأميركية لإقراض الخزانة (التي كانت تدعم الحرب خلال أشهرها الأولى)، اقترح الكونغرس القيام بذلك تماماً: طباعة ورق العملة. ومع عدم امتلاك البنوك الخاصة أو الحكومية ما يكفي من الذهب لتمويل الحرب، اقترح الكونغرس وسيلة ثورية: طباعة النقود الورقية، بدعم فقط من الثقة الكاملة في الحكومة الأميركية، وليس الذهب. وبذلك، سيصبح المال بضمان حكومي، وهو المعيار اليوم، لكنه كان أمراً جديداً عام 1862.
بدت فكرة معيار النقود الورقية صادمة للكثيرين، بما فيهم الكثير من الجمهوريين داخل الكونغرس. ومثلما قال أحدهم، فإنه لا يمكن أن يصبح الورق نقوداً، تماماً مثلما أن عقداً لتوصيل الدقيق لا يمكن أن يجري العامل معه باعتباره دقيقاً في حد ذاته. إنه مجرد وعد بتقديم الشيء الحقيقي.
ومع ذلك، طغت حالة الطوارئ على هذه الشكوك الفلسفية، ذلك أن المال كان ينفد من الخزانة. ومع ذلك، أقر الكونغرس بأن معظم نفقات الحرب يجب أن تأتي من طريق الاقتراض. لو كانت الدولة أقدمت ببساطة على طباعة النقود لتغطية الميزانية بأكملها، لكانت قد خاطرت بخلق تضخم كارثي. ولذلك، حرص الكونغرس على قصر إصدار سندات العملة القانونية على 150 مليون دولار (لاحقاً سيجيز نوبتي إصدار أخريين) ورغم ذلك، بقيت هناك معضلة: كيف تطبع العملة القانونية وتحافظ على الائتمان الهش للأمة؟ من جهته، أعرب ويليام بيت فيسيندين، جمهوري من ماين ورئيس اللجنة المالية بمجلس الشيوخ، عن صدمته بفكرة النقود الورقية (وقال إنها أرقته ليلاً ونهاراً)، وعبّر عن قلقه البالغ بخصوص تداعياتها على قدرة البلاد على الاقتراض، خاصة من الخارج. وعليه، اقترح فيسيندين تعديلاً جوهرياً. في مشروع القانون الأصلي، فإن العملة القانونية تكون متاحة «لسداد جميع الديون». جرى التعديل لتصبح الديون الحكومية وحدها ما يمكن سداده بالذهب.
أثار الاستثناء عاصفة من الاعتراضات. على سبيل المثال، اعترض ثاديوس ستيفينز، رئيس اللجنة المعنية بالضرائب داخل مجلس النواب، بأن التعديل سيخلق فئتين من المواطنين هما: المستثمرون (الذين سيحصلون على الذهب) والجنود والعاملون الآخرون لدى الحكومة، الذين سيحصلون على ورق. وأضاف: «هذا الأمر يخلق فئتين من العملة، واحدة للمصرفين والوسطاء، وأخرى للناس».
ومع ذلك، ظلت الحقيقة أن وزارة الخزانة بحاجة للمال. وبالفعل، جرى تمرير مشروع القانون الخاص بالعملة القانونية ووقع لينكولن عليه ـ بعد التعديل ـ وتراجعت الأزمة المالية التي كانت تواجهها الحكومة، على الأقل على نحو موقت.
وأثبتت الأيام أن التعديل الذي اقترحه فيسيندين لعب دوراً محورياً في الفوز بالحرب، فرغم أن التضخم في العملة الأميركية بلغ مستويات خطيرة قاربت 80 في المائة، لم تواجه واشنطن صعوبة تذكر في الاقتراض، لأن حاملي السندات (منهم الكثيرون كانوا من الخارج) علموا أن مدفوعات الفائدة ستكون محددة.
بحلول نهاية الحرب، قفز الدين العام إلى 2.68 مليار دولار، ما يزيد بمقدار 41 ضعفا على ما كان عليه عند بداية انفصال الجنوب. ورغم ذلك، خرجت الولايات المتحدة من الحرب وقد تحسن مستوى الائتمان لديها، وتمكنت من اقتراض المزيد بفائدة منخفضة.
اليوم، في وقت أصبحت السوق المالية أكبر بكثير وأكثر أهمية للاقتصاد العالمي، فإن الحفاظ على الائتمان الأميركي يكتسب أهمية أكبر. ونأمل أن يجري رفع سقف الدين، وتجنب هذه الأزمة.
روجر لوينستاين