أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

ما مصير الدولار بعد التعـميم 161؟

بعد طول تردّد، خَطت الحكومة أولى خطواتها في اتجاه توحيد سعر صرف الدولار وفق ما يطالب به صندوق النقد الدولي. لكنّ الخطوة الثانية، والتي يُفترض ان تؤدّي الى ارتفاع سعر الصرف الرسمي الى مستوى السعر الحقيقي الذي يعكسه واقع السوق والواقع الاقتصادي الحالي، دونها عقبات من العيار الثقيل.

لم يفهم، أو يتفهّم كثيرون خلفيات وتداعيات قرار رفع سعر صرف الدولار الرسمي الى 15 الف ليرة، خصوصاً انّ القرار جاء بشكل مفاجىء، وعلى لسان وزير المالية في حديث صحافي، من دون تقديم اية توضيحات اضافية. لكن التوضيحات توالت تباعاً، ولو بشكل متقطع وغير جازم، سواء في بيان وزارة المالية نفسها الذي صدر بعد ساعات على التصريح لتهدئة البلبلة التي تسبّب بها، او على لسان رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي الذي تحدث بتفصيل إضافي عن الاستثناءات، وهي بيت القصيد الذي شغل المواطنين وأقلقَهم.

 

وكان واضحاً منذ البداية ان قرار الـ15 الف ليرة يمكن ان يؤثر على ثلاث نواحٍ:

 

اولا – القيود المحاسبية للمصارف والشركات وميزانيات هذه المؤسسات التي كانت لا تزال تحتسب سعر الصرف الرسمي على 1500 ليرة، وتقيّم اصولها وتقيّد حساباتها على هذا الاساس.

 

ثانيا – الرسوم والضرائب التي تجبيها الدولة او مؤسساتها الرسمية، والمُقيَّمة على اساس سعر صرف الدولار.

 

ثالثا – القروض الشخصية لدى المصارف والتي يتمّ سدادها من قبل المواطنين، وبناء على قرار أصدره مصرف لبنان على 1500 ليرة للدولار.

 

واستناداً الى توضيحات ميقاتي يمكن استنتاج ما يلي:

اولاً – في القيود المحاسبية، سيتم استثناء اصول القطاع المصرفي من قرار سعر الـ15 الف ليرة. وهذا الامر يرتبط باحتساب توزيع الخسائر الذي سيتم بناء على الخطة الاقتصادية المتّفق عليها مع صندوق النقد الدولي. اذ إن رساميل المصارف والبالغة حوالى 22 مليار دولار، مقيّمة بالليرة، بما يعني انه اذا تمّ تغيير سعر الصرف الرسمي من 1500 الى 15 الف ليرة، فإنّ قيمة هذه الرساميل ستنخفض دفترياً من 22 ملياراً الى 2,2 مليار دولار. وهذا يعني زيادة تعقيدات البحث عن مصادر اخرى لسدّ فجوة الخسائر.

 

ثانياً – القروض الشخصية، بما فيها السكنية، سيتم استثناؤها ايضا، بحيث ان المواطن سيتمكّن من استكمال سداد قرضه على سعر الـ1500 ليرة. لكن الكلام عن مهلة زمنية محددة لهذا الاستثناء يعني انه قد يتم الضغط لتسريع سداد ما تبقى من هذه القروض. لكن ستبقى مسألة قروض الشركات مُعلّقة.

 

ثالثاً – بالنسبة الى الرسوم المقيّمة على سعر صرف الليرة مقابل الدولار، من الواضح ان الحكومة تعتبر انها تحتاج الى زيادة ايرادات الخزينة من خلال هذا القرار، بما يؤكد ان هذه الرسوم والضرائب سترتفع عشرة اضعاف مرة واحدة، وسيشعر المواطن بثقلها في تقليص قدراته الشرائية التي وصلت في الاساس الى الحضيض.

 

رابعاً – بالنسبة الى اسعار الصرف الاخرى، المرتبطة بتعاميم أصدرها مصرف لبنان، ويتم العمل بموجبها، في السحب (التعميم 151) او في اعادة الودائع (التعميم 158) فإنها لن تتبع بالضرورة سعر الصرف الرسمي. وهي في الاساس لم تكن مطابقة لهذا السعر. لكن ذلك لا يمنع انه، وبعد دراسة التأثيرات المتعلقة بالتضخّم وسوق الصرف، قد يتمّ تغيير اسعار سحب الودائع الدولارية بالليرة بالنسبة الى التعميمين المذكورين.

 

يبقى السؤال، متى قد تُقدم الحكومة، وبالتعاون مع مصرف لبنان على تنفيذ المرحلة الثانية من توحيد سعر الصرف الرسمي، وما هو السعر الموحّد الذي سيُعتمد في حينه؟

 

من خلال كلام ميقاتي، يُستدلّ على ان الحكومة لا ترغب في استكمال خطوة توحيد سعر الصرف قبل توقيع الاتفاق مع صندوق النقد، وبدء تنفيذ خطة التعافي. وهذا الربط يعود الى تهيُّب الحكومة الاقدام على مِثل هذه الخطوة قبل تغيير نسبي في المشهد المالي والاقتصادي، وربما السياسي أيضاً. اذ انّ اعتماد سعر منصة صيرفة لا يمكن ان يحصل من دون المجازفة ببقاء السوق السوداء قائمة. وأي محاولة لخفض سعر دولار السوق السوداء سيؤدّي الى خسائر مالية كبيرة لا قدرة لمصرف لبنان على تحمّلها. كما انّ ذلك يعني المزيد من التجميل الاصطناعي لسعر الصرف، وانه ما ان ينتهي مفعول الدولارات التي قد يتمّ ضخّها في السوق، حتى يعاود الدولار مسيرة الارتفاع وصولاً الى مرحلة التوازن في السوق. عندها يمكن تحديد السعر الحقيقي للدولار، والذي يمكن الدفاع عن إبقائه شبه مستقر (floating change) وليس ثابتاً بالطبع.

 

في النتيجة، هناك رأيان في هذه المرحلة: رأي يقول بتوحيد اصطناعي لسعر الصرف بحيث يمكن اعتماد سعر منخفض نسبياً، (سعر السوق السوداء الحالي)، ومن ثم التخلّي عن التدخّل المباشر، وإلغاء التعميم 161، وترك سعر الصرف يأخذ مداه قبل ان يستقر على سعر واقعي. ورأي آخر يقول بوجوب الانتظار ووقف التدخل في السوق وترك الدولار يستقر على سعره المرتبط بالعرض والطلب، ومن ثم الإقدام على توحيده ليكون سعراً حقيقياً وشبه مستقر منذ البداية.

 

لكن، وبصرف النظر عن النظريتين، ما هو ثابت انّ سعر الدولار الحالي في السوق السوداء منخفض بسبب دعمه عبر صيرفة. واستناداً الى مسار الدولار قبل لَجمه اصطناعياً بدءاً من منتصف كانون الاول 2021، فإن سعره، وقياساً بالمنحنى الذي اتّبعه بين 2020 (ارتفع 300 %) و2021 (ارتفع 200 %) يُفترض ان يختتم العام 2022 (على حسابات الارتفاع 150 %) على سعر 60 الف ليرة. لكنه قد لا يبلغ هذا السقف، بفضل تأثيرات التعميم 161. والسؤال هو: الى أين سيتجه الدولار بعد توحيد سعر الصرف ووقف العمل في التعميم 161؟

الدولار ينخفض بعد تقرير الوظائف الأمريكية

تراجع يوم الجمعة بعد أن أظهرت بيانات أن أكبر اقتصاد في العالم وفر وظائف جديدة بأكثر من المتوقع الشهر الماضي، لكنها أشارت إلى دلائل على التباطؤ مع ارتفاع معدل البطالة وتراجع زيادة الأجور.

وأظهر تقرير التوظيف الصادر عن وزارة العمل الأمريكية يوم الجمعة أن الوظائف غير الزراعية زادت بمقدار 261 ألف وظيفة الشهر الماضي. وتم تعديل بيانات سبتمبر أيلول بالزيادة لتظهر إضافة 315 ألف وظيفة بدلا من 263 ألفا كما ورد سابقا.

وكان خبراء استطلعت رويترز آراءهم توقعوا زيادة 200 ألف وظيفة. وتراوحت التقديرات بين 120 ألفا و300 ألف وظيفة.

غير أن معدل البطالة ارتفع إلى 3.7 بالمئة مقارنة مع 3.5 بالمئة في سبتمبر أيلول. كما زاد متوسط الأجر في الساعة 0.4 بالمئة مقارنة مع 0.3 بالمئة في سبتمبر أيلول، لكن زيادة الأجور تراجعت إلى 4.7 بالمئة على أساس سنوي في أكتوبر تشرين الأول مقارنة مع خمسة بالمئة في سبتمبر أيلول.

وقال نعيم أسلم، كبير محللي السوق في شركة أفاتريد بلندن “سوق العمل الأمريكية قوية والبيانات مثيرة”.

وتابع “ومع ذلك، يكمن الشيطان في التفاصيل فارتفاع معدل البطالة ربما يكبح صعود الدولار. لكن في الوقت الحالي، هناك شيء واحد واضح: وهو أن مجلس الاحتياطي الاتحادي لديه مسار واضح صوب مواصلة موقفه من سياسة التشديد النقدي”.

وانخفض الدولار 0.8 بالمئة إلى 147.11 ين ياباني، بينما ارتفع 1.3 بالمئة إلى 0.9870 دولار.

تفاهم الترسيم والتفاؤل الحذر

لا شك أنّ كل اللبنانيين رحّبوا بالإتفاق الأخير الذي تمّ بين لبنان وإسرائيل على ترسيم الحدود البحرية، ونتمنى بدء التنقيب قريباً للاستفادة من ثروتنا الغازية. لكن الشيطان يكمن في التفاصيل، ومشكلتنا لم تكن يوماً بالمشاريع والخطط، بل بالتنفيذ والملاحقة. ونتمنى ألاّ يضيّع لبنان هذه الفرصة الذهبية الأخيرة لإعادة النهوض.

إنّ الإتفاق أفضل بكثير من الإختلاف، والسلام منتج أكثر بكثير من الحروب المدمّرة. ومن إيجابيات هذا التفاهم أن كل الأفرقاء يعتبرون أنفسهم منتصرين أمام جمهورهم، ويهتفون بالبطولات، كلّ من جهته، وبعض المراقبين يُعوّل على أنه لا غالب ولا مغلوب، لكن مصالح مشتركة.

 

النقطة الأهم في هذه الشعارات هي أننا تجاوزنا هواجس الخوف وشبح الحروب التي كانت تعصف بنا عقوداً من الزمن، فشبه السلام والإستقرار على الحدود الجنوبية سيكون له تداعيات إيجابية على لبنان.

 

لكن من جهة أخرى، ندرك تماماً أن الذين في الحكم اليوم هم المسؤولون المباشرون وغير المباشرين عن أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية في تاريخ العالم، وأكبر عملية نهب وفساد وتدمير شعب ومؤسساته وإقتصاده، هؤلاء اليوم هم الذين سيراقبون عمليات التنقيب ومن ثم إستثمار المدخول الناتج.

 

تفاؤلنا حَذِر لأنه قبل الموارد الطبيعية الموعودة، هَرّب هؤلاء ودمّروا أهم الموارد البشرية والكفوءة التي كانت لدينا في لبنان، وأجبرت الأدمغة على الإغتراب وطَي صفحة بلدهم الأم. فكيف يمكن أن نثق بالذين دمّروا ثروتنا البشرية بأن يكونوا منتجينا لثروتنا الطبيعية؟

 

تفاؤلنا حذِر لأنه قبل المداخيل الموعودة من ثروتنا الغازية، إن إدارتنا أهدرت وفسدت وسرقت أكثر من 150 مليار دولار من الودائع والإستثمارات التي كانت على الأراضي اللبنانية، فكيف يمكن أن نثق بإدارتهم لأي مدخول جديد يقع بين أياديهم؟

 

تفاؤلنا حذِر لأن المنظومة نفسها أهدرت وسرقت وأفسدت عشرات المليارات من الدولارات للمساعدات الناجمة عن مؤتمرات باريس (1 و2 و3)، وبروكسل، وستوكهولم، ولندن وغيرها من دون أي إستثمار للبنى التحتية أو للإقتصاد، فكيف يمكن أن نثق بأنهم سيستثمرون هذه المرة لمصلحة الشعب والإقتصاد وهم لا يعرفون غير المصالح الخاصة والإستثمار السياسي والخلافي والتجاذبي؟

 

علينا ألاّ ننسى أو نتناسى أن لبنان قبل الموارد الطبيعية كان لؤلؤة الشرق ومنصة التبادل التجاري، «مغناطيس الإستثمار» وجنّة المنطقة، وقد حوّلوه إلى صحراء جرداء ومنصة اليأس والذل والحرمان.

 

في الخلاصة، نرحّب مرة أخرى بطي صفحة الحروب والدماء وفتح صفحة التفاهم والإتفاق. طَي صفحة الإستثمار بالعدوانية، من أجل الإستثمار بالتفاهم والتنقيب والإستقرار المالي والنقدي وإعادة النمو. لكن تفاؤلنا حذِر لأن مَن دمّر بلادنا وإقتصادنا وثروتنا البشرية وودائعنا ونسبة عيشنا وإستقرارنا الإقتصادي والإجتماعي، يُمكن بسهولة أن يُدمر مرة أخرى ويُهدر ثروتنا النفطية والغازية والبحرية بالأيادي السود عينها والأهداف الغامضة. إنّ هذه الثروة المقبلة ملك الشعب، وأتمنى أن يُحافظ عليها.

 

د. فؤاد زمكحل

رئيس الإتحاد الدولي لرجال وسيدات الأعمال اللبنانيين MIDEL وعميد كلية إدارة الأعمال في جامعة القديس يوسف USJ

مفاوضات شاقة… والصندوق مُصرٌّ على شطب الودائع

بعيداً من الأضواء، شهدت العاصمة الأميركية في الاسبوع المنصرم، مفاوضات حثيثة بين جهات لبنانية ومسؤولين في صندوق النقد الدولي، من اجل التوافق على خطة تُنقذ الاقتصاد، من دون أن تقضي على المودعين. وحتى الآن، المفاوضات متعثّرة، والصندوق متمسّك بسياسة شطب الودائع.

بصرف النظر عن تقييم مضمون المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير المالية يوسف الخليل، وبدا أشبه بخطاب وداعي، ما هو لافت في هذا المؤتمر، انّ الكلام الذي قيل لم يكن محصوراً بتعداد الإنجازات، أو تبرير الإخفاقات، بل الأهم انّه تضمّن نوعاً من التوصيات، التي تصلح كخارطة طريق في مرحلة إعداد خطط التعافي، وتوزيع الخسائر، وتقرير مصير الناس.

 

هناك ملف يستحق التمحيص لأنّ مقاربته وُضعت على نار ساخنة، والطريقة التي ستُعتمد في معالجته سوف تطبع المرحلة المقبلة لعقدين أو ثلاثة الى الامام. إذ أصبح معروفاً، انّ خطة الإنقاذ تُناقش حالياً مع صندوق النقد الدولي، وهي مرتبطة بطبيعة الحال بقانون اعادة هيكلة المصارف، وصار معروفاً ايضاً، انّ مصير المودعين، الصغار والكبار منهم، سيتقرّر وفقاً لفلسفة توزيع الخسائر، أو تقاسُّم التعويضات.

 

ما قاله وزير المالية، وهو بطبيعة الحال، مُطّلع تماماً على سير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ويعرف الوضع في مصرف لبنان، والوضع الحقيقي للقطاع المصرفي ايضاً. والأهم انّه يعرف كيف تبدّدت الاموال في المركزي، ومن هي الجهة المسؤولة عن ذلك. وقد سمّاها الخليل بلا مواربة: انّها الدولة أولاً، أو «ما تبقّى منها»، وفق تعبيره. وهو بذلك، أراد إعادة تسليط الضوء على تحديد المسؤوليات، للانطلاق منها في عملية إعادة الودائع. الدولة، المركزي، المصارف، والمودعون الكبار…

 

عندما طالب الخليل بأن يرتّب لبنان الرسمي أوراقه في المفاوضات مع صندوق النقد، انما كان واضحاً لجهة القول، إذا «قمنا بواجباتنا كما يجب، ستكون خطتنا هي مادة التفاوض مع صندوق النقد. وإلّا، أخشى ان تقتصر مساهمتنا على مناقشة افكاره وعلى انتظار اهتمامه بنا كلبنانيين».

 

هذا الموقف يأتي بالتزامن مع المفاوضات التي تُخاض مع صندوق النقد، ويبدو انّها مفاوضات صعبة وقاسية، لأنّ الصندوق، وفي إطار سياسته الكلاسيكية، يفضّل سياسة شطب الديون، او تقليصها إلى الحدّ الأدنى، لضمان نجاح خطط التعافي، بصرف النظر عن الأضرار الجانبية التي قد يتسبّب بها هذا الأمر. والصندوق بات يعتبر الودائع بمثابة ديون ينبغي التخلّص منها.

 

ويبدو الرئيس نجيب ميقاتي محشوراً في موقف لا يُحسد عليه، إذ أنّه مرّر الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد بطريقة سريعة إرضاءً للفرنسيين الذين ضغطوا عليه من اجل توقيع الاتفاق قبل الانتخابات النيابية في ايار. وكان يعتقد، في عقله الباطني، انّه يشتري الوقت بانتظار الظروف المناسبة لتغيير الخطة، والتي أشرف عليها نائبه سعادة الشامي. ولاحقاً، أطلق ميقاتي الوعود بتغيير الخطة للحفاظ على اموال المودعين، ونفّذ وعوده جزئياً من خلال الافكار الجديدة التي بقيت غامضة، وكأنّها تخشى مقاربة الحقائق. وبما أنّ الشامي، بات عاجزاً عن إقناع صندوق النقد بضرورة تغيير الخطة، وبما أنّ البعض بات مقتنعاً بأنّ الشامي أقرب إلى الصندوق منه إلى الموقف اللبناني، قرّر ميقاتي اللجوء الى حاكم مصرف لبنان علّ وعسى. وهكذا أُسندت مهمة محاولة إقناع الصندوق إلى مصرف لبنان، الذي أرسل موفديه للاجتماع مع مسؤولي الصندوق في واشنطن.

 

حتى الآن، ورغم الجهود التي يبذلها المفاوضون من قِبل البنك المركزي، والذين زاروا واشنطن لإقناع مسؤولي صندوق النقد باعتماد نهج يتيح إعادة الودائع تدريجياً إلى أصحابها، من خلال مساهمة الدولة في التعويض، من دون ان تتأثر ايراداتها، ومن دون بيع أيٍ من أصولها، إلّا أنّ المفاوضات لم تصل إلى نتيجة بعد. ويبدو انّ المسؤولين في الصندوق لا يزالون متعنتين، ويريدون الإبقاء على الخطة السابقة، التي تعتمد مبدأ شطب الودائع، والاكتفاء بإعادة جزئية مُقسّطة للودائع الصغيرة (مئة الف دولار وما دون). وهم يرفضون مبدأ إنشاء صندوق سيادي أو استثماري يتيح إشراك القطاع الخاص في ادارة أصول الدولة، بهدف تجويد الأداء وزيادة الإيرادات.

 

هذا التعنّت، وإذا لم يتبدّل، سيؤدّي الى ضياع الودائع، ولن يكون مضموناً انّ المودعين الصغار سيحصلون على أموالهم، لأنّ مسألة المصارف التي ستتوقف بسبب الإفلاس، لم تتمّ معالجتها بعد، ولم يتمّ الاتفاق على الطريقة التي ستُعتمد لدفع ودائع زبائن هذه المصارف. والأخطر، انّ النهج الذي يريده صندوق النقد، سيؤدّي إلى افلاس عدد كبير من المصارف. ولمن يقول انّ افلاس المصرف لا يؤدّي بالضرورة إلى خسارة المودع لأمواله، يُطلق وزير المالية المعادلة التالية: «الاكتفاء بإفلاس المصارف، لن يعني أكثر من إفلاس المودعين، كبارهم وصغارهم».

 

المفاوضات مع صندوق النقد لا تزال قائمة، ويمكن كسب الجولة من خلال توحيد المواقف والاتفاق على خطة واضحة لإعادة الودائع، من دون تحميل المواطن وزر هذا الحل، لأنّ الجميع يتفق على أنّ أصول الدولة ليست للبيع، وإيرادات الدولة هي للجميع، وينبغي العمل على زيادتها، لتحسين المالية العامة. ولكن ذلك لا يمنع اتخاذ قرار صون حقوق المودعين، على أمل ان يساعد من يدّعي النطق باسم المودعين، في إنجاز المهمة، من خلال الابتعاد عن الشعبوية في متابعة قضيتهم المحقة.

أنطوان فرح

بين سعر الصرف الوهمي والدولرة الحقيقية: الليرة اللبنانية من التثبيت De Facto إلى التعويم De Jure

ملفتة الحملة الإعلامية التي سعت أخيراً إلى تسليط الضوء على أنّ نظام سعر الصرف الرسمي في لبنان لم يكن يوماً «ينص على تثبيت سعر الليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي»، وأنّه يمكن بأي لحظة اعتماد سعر السوق رسمياً كما كانت الحال قبل التسعينات، دون الحاجة لإعلان الانتقال إلى نظام التعويم. لا شك أنّ هكذا حملة لا تصبّ سوى في إطار التمهيد لتحرير سعر الصرف، الذي على الرغم من بقائه عائماً في النصوص إلّا أنّه شهد فترة تثبيت واضحة في التطبيق منذ العام 1997، كونه الأنسب علمياً في ظلّ الدولرة، التي تلت أزمة الثمانينات، مما كلّف المصرف المركزي استنزافاً كبيراً لاحتياطاته بالعملات الأجنبية، حتى جاء قرار «دعم المنتجات» ليقضي على ما تبقّى منها منذ مطلع الانهيار عام 2019.. علمياً من المعروف أنّ ثمة فرقاً بين نظام سعر الصرف المنصوص رسمياً ونظام سعر الصرف الفعلي المطبّق، والذي يعتمده صندوق النقد الدولي في كل دراساته عن بلدان العالم.. ما الفرق بين De Facto و De Jure؟ وكيف ترافق سعر الصرف الوهمي مع الدولرة الفعلية؟

من المعروف في علم السياسة النقدية، خصوصاً في البلدان النامية وبشكل أخص في البلدان المدولرة، أن ثمّة فرقاً بين ما يتمّ إعلانه في النصوص أي De Jure، وما يتمّ تطبيقه فعلياً في الواقع أي De Facto.

 

ولذلك تحديداً، نرى في جميع تقارير صندوق النقد الدولي التمييز بين الحالتين والتركيز على ما يتمّ تطبيقه من أنظمة سعر صرف وسياسات نقدية تقليدية وغير تقليدية من قِبل المصارف المركزية، وليس ما يكون مكتوباً أو غير مكتوب في نصوص قوانين النقد والتسليف أو ما يشابهها فيها…

 

في ما يخصّ لبنان، لا بدّ من الإشارة الى أنّه قبل الحرب اللبنانية (1975-1990) كان المصرف المركزي يعتمد تطبيقياً نظام سعر الصرف المعلن رسمياً، أي النظام العائم، والذي كان مناسباً طبعاً لطبيعة نظام الإقتصاد الحر وقوة الاقتصاد اللبناني الذي لم يكن يعرف أي عجز مالي في الموازنة ولا أي حاجة للاستدانة لا بالعملة الوطنية ولا بالعملات الأجنبية، ولا يشهد أي أزمة ميزان مدفوعات، لا بل يسجّل فيها فوائض متتالية، تعزز قوة الليرة اللبنانية التي لم يكن يستخدم سواها، لا بل كانت من أقوى العملات ويحسب لها حساباً دولياً!

 

أما بعد الأزمة النقدية في الثمانينات وتجربة التضخّم المفرط الذي تخطّى عام 1987 حدود 487% وانهيار الليرة اللبنانية والصعود الصاروخي لقيمة الدولار الأميركي إزاء الليرة اللبنانية، إختار القطاع الخاص اللبناني عفوياً، الهروب من العملة الوطنية واستبدالها بالدولار الأميركي بشكل تلقائي، دون انتظار أي قرار رسمي لذلك.. حتى لامس معدّل الدولرة الجزئية غير الرسمية في لبنان حدود 90%، وفرض الدولار نفسه في التسعير وفي التداول التجاري الكبير الحجم وفي الإدخار المصرفي للمودعين.

 

رسمياً بقيت الليرة اللبنانية العملة الوحيدة لدولرة لبنان. أما تطبيقياً فالحقيقة أنّ الدولرة انتشرت منذ ذلك الحين ولم تتراجع سوى بشكل طفيف، حتى بعد التراجع التدريجي لسعر الصرف وتثبيته عملياً عام 1997 ولأكثر من 22 عاماً، إذا احتسبنا حتى الانهيار الكبير الذي وقع في تشرين الأول 2019.

 

النظام الرسمي لسعر الصرف بقي عائماً طيلة فترة الحرب اللبنانية، أي حتى عام 1990، مما جعل كل تقلّبات سعر الصرف تُسجّل رسمياً لدى المصرف المركزي، ويتمّ على أساسها بيع وشراء الدولار مقابل الليرة، دون الحاجة لتعدّد أسعار سعر الصرف كما هي الحال في الأزمة الحالية…

 

لكن بدءاً من عام 1990، أي بعد توقّف الحرب في لبنان، وعودة انتظام عمل المؤسسات والعمل بالمحاسبة العامة وضرورة إعادة إقرار الموازنات العامة والتعامل مع سوق مدولر بشكل شبه كلّي، لم يعد بالإمكان الاستمرار عملياً مع تقلّبات هائلة بسعر صرف الدولار الأميركي المستخدم بموازاة الليرة اللبنانية لا بل أكثر بكثير منها في السوق اللبناني وكل حساباته…

 

من هنا، كان خيار نظام الربط الزاحف لسعر الصرف الذي تمّ تطبيقه بين عام 1992 و 1997 بغية تحقيق تخفيض تدريجي لسعر الليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي، الى أن تمّ تطبيق نظام الربط الثابت لليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي على أساس هامش 1501-1514 وسعر وسطي 1507.5 ابتداءً من أواخر عام 1997 كما أشار اليه صندوق النقد الدولي في جميع منشوراته، وذلك بغض النظر عمّا هو مكتوب في النصوص الرسمية بشأن طبيعة نظام الصرف في لبنان.

 

اعتماد ربط سعر الصرف كان حاجة ضرورية بسبب الدولرة المرتفعة، والتي كانت بدورها تعكس حقيقة قلة الثقة بالعملة الوطنية، بغض النظر عن كون الليرة اللبنانية هي العملة الوطنية المعترف بها رسمياً.. إلّا أنّ الدولرة تطوّرت أيضاً لتكتسب تدريجياً صفة شبه رسمية، مع إنشاء غرفة مقاصة لدى المصرف المركزي للشيكات المصرفية بالدولار الأميركي.. ومن ثم مع بداية اعتماد الصرّافات الآلية التي باتت تتمّ تعبئتها بالدولار الأميركي الورقي الى جانب الليرة اللبنانية! لا بل السماح بالتحويل التلقائي بين الودائع بالليرة والدولار، والسحب الورقي بإحدى العملتين، أياً تكن عملة الوديعة التي يتمّ السحب منها! فكيف بالحري اليوم، بعد أن سمحت منصة “صيرفة” حتى لموظفي القطاع العام، إمكانية سحب رواتبهم بالدولار الأميركي عبر تحويلها مباشرة عبر الصرّافات الآلية، فيما هي بالأساس بالليرة اللبنانية، وهي كانت الشاهد الأخير على أنّ الدولرة غير رسمية حتى لو انتشر تطبيقها على أوسع نطاق في الأسواق…

 

ومع تثبيت سعر الصرف منذ 1997، انتظر الجميع أن تتراجع الدولرة في تلك الفترة، بعد تثبيت سعر الصرف بحدود 1507.5 طيلة 22 عاماً، إلّا أنّ الدولرة الجزئية غير الرسمية بقيت مرتفعة بحدود 70%، ومع انفجار الأزمة المالية-النقدية-المصرفية في الربع الأخير من العام 2019 ارتفعت أكثر لتلامس 80% من الودائع اليوم، بعد أن خرج ربط سعر الصرف عن السيطرة.

 

أكثر من ذلك، منذ عام 1993 بدأت تتنامى الفجوة المتزايدة بين الودائع بالعملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي بالعملات الأجنبية. إلّا أنّ اشتداد عمقها برز مع بدء تسجيل عجوزات متراكمة في ميزان المدفوعات منذ عام 2011، حيث بدأت تتراجع الموجودات بالعملات الأجنبية، فيما استمرت دولرة الودائع بالتزايد. ولم تشفع فيها سياسة تثبيت سعر الصرف منذ العام 1997 التي كان يفترض أن تطمئن الناس إلى استقرار سعر العملة الوطنية،.. لا بل ترافق معدل دولرة الودائع المرتفع مع ارتفاع دولرة التسليفات المصرفية، وأكثر من ذلك دولرة جزء كبير من الدين العام (اليوروبوند) وتزايد إصدار شهادات إيداع بالعملات الأجنبية من المصرف المركزي والمشاركة في “الهندسات المالية” لاجتذاب الدولار وتحقيق فوائض في ميزان المدفوعات كوسيلة لشراء الوقت “اصطناعياً”، على أمل تحقيق إصلاحات مالية واقتصادية جذرية، ما جعل “ثبات سعر الصرف” وهمياً والدولرة حقيقة ثابتة…

 

وبما أنّ “العملة النقدية” ليست مخصّصة فقط لدفع الواردات، فإنّ مبلغ الودائع بالعملات الأجنبية لم يعد مساوياً بشكل صارم مع الموجودات بالعملات الأجنبية للنظام المصرفي. لأنّ عاملين آخرين يتدخّلان لتوسيع الفجوة بين الودائع والموجودات بالعملة الأجنبية. الأول هو تحويل العملات من الليرة اللبنانية الى الدولار الأميركي، والثاني هو أنّ استخدام العملة كأداة، زاد من منح المصارف قروض للقطاع الخاص بالدولار للسوق الداخلية. لذلك، إذا تمّ استخدام هذه الإئتمانات في المعاملات المحلية، تصبح بدورها أيضاً مصدر خلق المزيد من النقد. هذا ما يُعرَف بمؤشر “مضاعف الائتمان” الشهير multiplicateur de credit.

 

ومع ذلك، طالما كان ميزان المدفوعات في مسار فائض تصاعدي، ظلّت هذه الفجوة محدودة. وهكذا انخفضت نسبة الودائع إلى الموجودات الخارجية من 1.7 في نهاية عام 1997 إلى 2.0 في نهاية عام 2011. في ذلك العام، مع بداية تداعيات الأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني، وظهور عجز في ميزان المدفوعات، وزيادة غير طبيعية في الودائع بالعملات الأجنبية، ارتفعت هذه النسبة بشكل كبير لتصل إلى 3.5 في نهاية عام 2016، وأخيراً 7.3 في نهاية عام 2019. من هنا، لم تعد الموجودات الخارجية للجهاز المصرفي كافية لتلبية طلبات سحب الودائع بالدولار، خصوصاً أنّ مصرف لبنان غير قادر على طباعة دولارات لإمداد المصارف.

 

الخلاصة، بعد مرور حوالى 3 سنوات على سقوط نظام ربط سعر الصرف، من المستحيل أن يتلاءم تعويم سعر الصرف مع الدولرة المرتفعة التي تخطّت اليوم 80% في لبنان. فمن جهة لا أحد يطلب الليرة في السوق، بل الجميع يطلب فقط الدولار، ويحتسب قيمة السلع والخدمات وفق حركته. وبالتالي لا طلب على الليرة يحدّ من سقف تدهورها.. ومن جهة أخرى مستوى التسعير والمضاربة في الأسواق لم يعد يسمح بتحمّل تقلّبات كلفة السلع والخدمات وتغيّر موازنات المؤسسات لحظة بلحظة…فهل يتمّ تأكيد تعويم سعر صرف الليرة نصاً وتطبيقاً أياً يكن مسار الدولار وتداعياته على الاقتصاد؟ أم نعود للتمييز بين النص والواقع، فيتمّ الاتجاه من جديد نحو ما كان يُعرف بنظام ربط سعر الصرف تطبيقاً على مستوى أقل وهمية مما كان عليه؟ أم يعترَف بحقيقة الدولرة رسمياً للحدّ من ازدواجية التعامل بعملتين؟

د. سهام رزق الله

من يحاول قلب الطاولة على صندوق النقد؟

لا يختلف إثنان، أو هكذا يُفترض، على أنّ إنجاز ترسيم الحدود البحرية تمّ في لحظة تقاطع مصالح دولية نادرة، ساهمت في الوصول إلى الاتفاق. لكن، ما هو مُقلق، انّ أصواتاً بدأت ترتفع، وغالبيتها من خط سياسي يصبّ في مكان واحد، تروّج لفكرة انّ لبنان، ومع وجود الثروة الغازية، لم يعد يحتاج إلى الاتفاق مع صندوق النقد للحصول على 3 مليارات دولار في فترة 4 سنوات.

لا شك في انّ الثروة الغازية، وبصرف النظر عن حجمها المالي، (التقديرات تختلف بشكل كبير وتتراوح بين 100 مليار وصولاً الى تريليون دولار) وعن توقيت بدء الانتاج والإفادة من المداخيل، فإنّها تشكّل في حدّ ذاتها ورقة رابحة للبنانيين. وهي تأتي، في ظروف استثنائية أصبحت معها مادة الغاز سلعة استراتيجية حيوية، وستبقى كذلك، وفق الدراسات، لسنوات طويلة إلى الامام، تمتد على مدى عقدين أو ثلاثة. وقد ارتفعت اسعار الغاز، والتي يوجد مؤشرات عالمية خاصة لقياسها، ترتبط بما يُعرف بالوحدات الحرارية، الى مستويات قياسية. ولإعطاء فكرة عن نسبة الارتفاع، كانت اسعار الغاز الطبيعي الأوروبية قبل حوالى سنتين، تتراوح حول الـ 10 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، لكن في العام 2022، وصلت إلى 100 دولار لكل مليون وحدة حرارية، أي ما يعادل 580 دولاراً لبرميل النفط الخام.

 

هذا الواقع لا يعني انّ البلد يستطيع ان ينهض اقتصادياً من دون التعاون مع صندوق النقد، لاعتبارات عدة، ليس أقلّها الرقابة التي يمارسها الصندوق في موضوع تنفيذ الاصلاحات المطلوبة. والثقة التي يساهم في إعادتها بالنسبة إلى نظرة الاسواق العالمية إلى الوضع اللبناني، بالاضافة طبعاً الى الضمانات القادر على اعطائها والتي تساعد في تسريع عودة لبنان إلى الاسواق العالمية. ومن دون هذه العودة، لا نجاح لأية خطط إنقاذ.

 

هذه الحقائق التي يُفترض انّ الاطراف السياسية باتت تعرفها، تطرح علامات استفهام حول الاسباب التي تدفع البعض الى القفز فوق هذا الواقع، والمناداة بالإنقاذ من دون صندوق النقد. فما هي الاسباب الحقيقية التي تدفع هؤلاء الى محاولة عرقلة التعاون مع الصندوق؟

 

في الاعتبارات السابقة، كان يجري الحديث عن معارضة سياسية سببها عدم الرغبة في الخضوع لشروط اصلاحية موجعة شعبياً. مثال على ذلك، رفع تعرفة الخدمات مثل الكهرباء وسواها، خفض حجم القطاع العام، وقف تثبيت سعر الليرة على الدولار، مكافحة التهرّب الضريبي والتهريب…

 

هذه الشروط الاصلاحية يُفترض انّها لم تعد مرعبة إلى هذا الحدّ، على اعتبار انّها صارت وراءنا. تعرفة الكهرباء جرى رفعها، ولو انّ بدء التنفيذ قد يتأخّر قليلاً، القطاع العام، وبسبب انهيار قيمة الليرة، لم يعد يشكّل عائقاً حقيقياً امام التوازن في المالية العامة. الليرة انهارت، والكل يعترف بأنّ سعر الليرة الحقيقي قائم في السوق الحرة، وموضوع التهرّب الضريبي، لا يُفترض ان يكون موضع اعتراض.

 

إذا اعتبرنا انّ البنود الاصلاحية لم تعد تشكّل سبباً صالحاً لتبرير الاعتراض، فما هي الاعتبارات المتبقية؟

 

في الأساس، كان يُقال انّ بعض الاطراف السياسية لا تحبّذ صندوق النقد حرصاً على السيادة. ولأنّ هذه الاطراف، تعتبر انّ الولايات المتحدة هي المسيطر الرئيسي على الصندوق، وبالتالي، قد تُمسّ السيادة ضمن هذه المعادلة. لكن هذه النقطة ايضاً، صارت غير ذي شأن، بدليل الدور الوسيط والراعي والضامن الذي لعبته واشنطن، في إنجاز اتفاقية الترسيم البحري.

 

ماذا يبقى اذاً من أسباب حقيقية لمحاولات البعض الترويج لعدم ضرورة الاتفاق مع الصندوق، والادعاء انّ الثروة الغازية التي سيتمّ استخراجها هي البديل؟

 

في الواقع، يبدو انّ المشكلة الحقيقية لا تتعلق بوصاية صندوق النقد، ولا بالدور الأميركي المحتمل من خلال الصندوق، بل بالدور المطلوب ان تقوم به دول الخليج العربي في مواكبة الاتفاق مع الصندوق، وفي تمويل المشاريع ما بعد الاتفاق. إذ انّ الاطراف اللبنانية المعارضة ضمناً أو علناً للتعامل مع المؤسسات المالية الدولية، كانت تراقب عن كثب المعلومات التي كان يجري بثها لجهة حجم الاموال الخليجية التي قد يتمّ استثمارها في لبنان، في حال تمّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ولم يكن الأمر سراً، إذ انّ مسؤولي الصندوق كانوا يؤكّدون انّ الاعتماد ليس على الـ3 مليارات دولار التي سيقدّمونها خلال 4 سنوات، بل على حوالى 12 مليار دولار قد يتم ضخّها في الاقتصاد اللبناني من قِبل الدول المانحة الداعمة للبنان. وكان معروفاً انّ الجزء الاكبر من هذه الأموال سيأتي من الخليج، ومن المملكة العربية السعودية بشكل خاص. وبالتالي، كان معروفاً انّ هذه «العودة» الخليجية القوية إلى لبنان، هي ما يُقلق المعترضين على صندوق النقد. لكنهم خفّفوا معارضتهم العلنية قليلاً، خوفاً من النقمة الشعبية في فترة ما بعد الانهيار. اليوم، استفادوا من الترسيم، ومن قرب بدء التنقيب، لمحاولة الانقضاض مجدداً على نهج التعاون مع صندوق النقد، قطعاً للطريق امام العودة العربية إلى الساحة اللبنانية.

 

هل تنجح هذه الاعتراضات في وقف مسار الاتفاق مع صندوق النقد؟

تصعب الاجابة عن السؤال، لكن مراقبة التطورات قد تعطي مؤشراً إلى ذلك. إذ انّ المسؤولين، تعهّدوا بعيداً من الإعلام لمسؤولي صندوق النقد بتنفيذ البنود الاربعة المطلوبة لإنجاز الاتفاق النهائي قبل نهاية تشرين الثاني المقبل. وهذا يعني انّ مجلس النواب سيستمر في التشريع بعد انقضاء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية في 31 تشرين الاول الجاري. فهل سيحصل هذا الامر؟ وهل سيتمّ اقرار قانوني الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف قبل الموعد المحدّد؟ في ضوء ما سيجري على هذا الصعيد، يمكن التكهّن بصورة أوضح في شأن مصير اتفاق الإنقاذ مع صندوق النقد الدولي.

أنطوان فرح

البنوك اللبنانيّة … الإغلاق “تلتين” المراجل

في الأيام المنصرمة، وجدنا لبنان يتحوّل إلى مسرحٍ «روبن هوديّ»، إذ دخل بعض المواطنين إلى مصارف عدّة ومناطق متنوّعة، وتحت التهديد، من أجل الحصول على مدّخراتهم الّتي حُجز عليها منذ ثلاث سنوات من دون حقّ ولا قانون واضح. هكذا، ولّدت هذه التصرّفات ردّات فعل مختلفة، فقسّمت الشارع بين المواطن صاحب الحقّ من جهة، والسلطة والمصارف ومدَّعي الحفاظ على الأمن من جهة أُخرى. بالطبع، تبقى خلفيّة الحياة المعيشيّة البائسة هي محرّك هؤلاء المواطنين للإقدام على مثل هذه التصرّفات، لدى وصولهم إلى مفترق طُرق، يختارون فيه بين موت أحد أحبّائهم، أو موتهم وتعرّضهم لخطر الملاحقة القانونيّة والسجن.

 

لن نخوض في تحليل هذه السيناريوهات الأمنيّة-المصرفيّة. فالمراقب للوضع اللبنانيّ لن يتفاجأ بما يحصل الآن، لا بل قد يستغرب طول أناة المواطن الّذي صبر ثلاث سنوات، خصوصًا أنّ المحاولات جاءت فرديّة، لا جماعيّة. كذلك، لن يستغرب استقواء السلطة على شريحة مستضعفة من الشعب، فإزاء تضاعف هذه الحوادث، اتّخذ وزير الداخليّة الإجراءات الأمنيّة اللازمة، فأوقف أغلبهم، كي يُخلى بعدها سبيلهم مقابل كفالة ماليّة. كما دعت جمعية مصارف لبنان إلى اجتماع طارئ وأصدرت قرارًا بإغلاق عامّ ومفتوح لجميع الفروع، مع الإبقاء على منصّة صيرفة الّتي تستهدف في تعاملها أصحاب رؤوس الأموال، من دون الاكتراث لعامّة الشعب الّذي يعتمد على سحب فُتات مدّخراته، ليؤمِّن قوته اليوميّ «إن كفاه ذلك». من جهتها، أعربت جمعيّة المودعين اللبنانيّين عن دعمها لمرتكبي هذه «الانتهاكات الأمنيّة»، فاعتبرتهم في حكم من يواجه الظلم.

 

هكذا، بِتنا نتابع مسلسل قد طالت حلقاته، أبطاله المودعون والمصرفيّون، وقضيّة كلّ جهة تتلخّص في الحفاظ على الحقوق، وفي هذه الحبكة المعقّدة، نرى المودعين يطالبون بحقّهم في دولة هي الأولى عربيًّا في إنشائها نظامًا قانونيًّا لحماية مدّخرات المواطن، والدولة نفسها تلوِّح بإمكانيّة اللجوء إلى أموالهم لاحتواء أزمتها الماليّة، بالاتّفاق مع المصارف…!!! ولا تنسى هذه الحكومة التعهِّد للبنك الدوليّ «بالسير قدمًا بكلّ الاصلاحات الضروريّة للخروج من محنتنا»، كما لم تغفل عن تذكير الأصدقاء الدوليّين والدول العربيّة الشقيقة خصوصًا، كما جرت العادة في كلّ أزمة.

 

وفي ظلّ هذه الكوميديا الساخرة، لا ننسى الكومبارس الثانويّين، الّذين يملؤون المشاهد بحضورهم، لكن لا أحد يكترث بانسحابهم أو اختفائهم على حساب «ربّ العمل»، ونعني هنا موظّفي البنوك، الّذين يعانون إلى جانب الفرق اللوجستيّة والأمنيّة للمصارف «الأمرّين»، ويجدون أنفسهم خاسرين في كلّ السيناريوهات المطروحة.

 

في هذه الظروف، ثمّة من يُغلق الستار أمام حقيقة لا يراها كثيرون… والسؤال المطروح، لماذا الآن؟ ألم يلجأ كثيرون إلى دعاوى قانونيّة، وخصوصًا أصحاب الجنسيّات الأجنبيّة لاستحصال أموالهم؟ ولماذا تتعنّت المصارف برفض إعطاء بعض آلاف الدولارات للمواطنين في ظروف إنسانيّة مُحِقّة؟ ثمّة «قطبة» لا يفهمها أحد!

 

إنّ السلطات اللبنانيّة أهدرت، وفق البنك الدوليّ، ودائع المدَّخرين على مدار الثلاثين عامًا الماضية من خلال مخطّط «بونزي»، كما يرجّح كثيرون. أي عبر عمليّة احتيال كبيرة تقوم على مكافأة المستثمرين الحاليّين بأموال يجلبها المودعون الجدد، سبق أن استفاد منها الفاعلون السياسيّون والاقتصاديّون الرئيسيّون على حساب الأسر اللبنانيّة، الّتي بدورها تندّد بـ «الكساد المتعمّد». ففي آخر زيارة لوفد صندوق النقد الدوليّ الأسبوع المنصرم، ندّد الأخير ببطء تنفيذ الإصلاحات المتّفق عليها، وأكّد البيان الصادر عنه على الخطوط الحمر: «حماية المودعين الصغار، والاعتراف بخسائر القطاع المصرفيّ، وعدم الاعتماد على عائدات الدولة المستقبليّة لسدّ تلك الخسائر».

 

كما نعلم، فقد تسبّبت الأزمة الّتي يمرّ فيها لبنان في أضرار لا يمكن إصلاحها على الأرجح في القطاع المصرفيّ الّذي نجا من آثار الحرب الأهليّة (1975-1990). فمنذ تشرين الأوّل 2019، رأينا البنوك اللبنانيّة الّتي يقارب عددها الـ 60، قد خفّضت بالفعل نطاق خدماتها، ولم تعد تمنح القروض، وحَدَّت من وصول عملائها إلى ودائعهم بالعملات الأجنبيّة، وتمّ «تجميدها» بقيود غير القانونيّة وضعت منذ بداية الأزمة، وجعلت من شبه الاستحالة فتح حساباتٍ جديدة، من دون الحاجة إلى أن نذكّر بأنّ معظم البطاقات الائتمانيّة لم تعُد صالحة للاستخدام الدوليّ، وهي محدودة بمبالغ سحب يوميّة وشهريّة على نطاقٍ داخليّ. كما أنّ التمييز، الّذي أكّده مصرف لبنان، بين الدولارات «الفريش» (نقدًا أو محوَّلة من الخارج) والدولار «اللبنانيّ» (اللولار المحجوز في البنوك) هو أحد أبرز سمات هذا الانهيار الذي يتنكّر في صورة إجراءات وقائيّة لمنع انهيار «صديق الشعب»، المصرف اللبنانيّ.

 

وبعد أن قاطعها جزء كبير من اللبنانيّين منذ العام 2019 وتعرّضت لهجمات متزايدة في الساحات القضائيّة، تواجه البنوك الآن موعدًا نهائيًا جديدًا حاسمًا، وقد ينتهي بضربة قاضية تُعلن رسميًّا إفلاسها، ونقصد هنا مواجهتها لمجموعة العمل الماليّ (FATF-GAFI)، الّتي تقوم حاليًّا بتقييم درجة امتثال القطاع المصرفيّ اللبنانيّ للمعايير العالميّة، بما في ذلك مكافحة تبييض الأموال.

 

فهذه المجموعة تأسّست في العام 1989، وتضمّ 199 دولة، وتتمثّل مهمّتها في تحديد إجراءات «مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فضلًا عن تمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل». ووفقًا لشروط المنظّمة، نراها تصنّف البلدان في ثلاث قوائم اعتمادًا على درجة امتثالها لتوصياتها: قائمة البلدان الممتثلة للقوانين، والقائمة الرماديّة (تحت المراقبة)، والقائمة السوداء (المعرَّضة للحظر وغير المتعاونة). حتّى الآن، توجد دولتان فقط في الفئة الأخيرة، هي كوريا الشماليّة وإيران.

 

يعود آخر تحديث للقائمة الرماديّة إلى شهر كانون الثاني 2022، وتشمل 23 دولة، بما في ذلك 7 دول من المنطقة: الأردن، والمغرب، وجنوب السودان، وسوريا، وتركيا، والإمارات العربيّة المتّحدة، واليمن. دولة أوروبيّة واحدة فقط، هي ألبانيا، مدرجة في هذه القائمة. فهل ينجو لبنان من الانضمام إلى القائمة الرماديّة مرّة ثانية، وبذلك يفقد الأمل الأخير في الحفاظ على قطاعه المصرفيّ؟ وكيف يهرب من تلك الضربة المؤلمة؟

 

يمكن القول إنّ لبنان «لديه سوابق»: فقبل العام 2002، تمّ وضع لبنان على القائمة الرماديّة، كما شارف وضعه على القائمة السوداء، ممّا دفع حينها مجلس النوّاب في العام نفسه إلى تمرير القانون رقم 318 لمكافحة تبييض الأموال، وتلاه إنشاء هيئة التحقيق الخاصّة، وهي هيئة مستقلّة «من حيث المبدأ»، ولكن يرأسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة «إلى هذه اللحظة». وبذلك، يمكن للهيئة رفع السرّيّة المصرفيّة المعمول بها منذ العام 1956 في عدد من القضايا الّتي تمّ توسيعها بموجب القانون رقم 44 للعام 2015، بما في ذلك الفساد، واستغلال النفوذ، والاختلاس، والتهرّب الضريبيّ، والإثراء غير المشروع… لكن، هل من نوايا عند أصحاب القرار للكشف عن المستور؟

 

حينها، أدّى تمرير هذا القانون إلى إبقاء لبنان على قائمة البلدان الملتزمة في العام 2017. وفي تقييمها الأخير، وضعت مجموعة العمل الماليّ لبنانَ على قائمة البلدان الممتثلة، بينما أشارت إلى بعض المجالات الّتي تحتاج إلى التحسين، مثل توسيع نطاق الجرائم لتشمل تزييف المنتجات، واللصوصيّة، والاتّجار غير المشروع بالسلع المسروقة. لكن، هيهات أن ينجو لبنان بحكوماته ومصارفه من هذه الإجراءات، فما أشبه اليوم بالأمس، يوم انتفض الشارع على السلطة، فأطبقت المصارف على «أنفاس» المواطن، وأغلقت أبوابها، متذرّعة بقانون «الكابيتال كونترول»، قانونًا لم يُبصر النور بعد. واليوم، قد تكون أحداث الإغلاق والاضرابات، الحلقة الأخيرة قبل إعلان «البطل» إفلاسه، فيجد الشعب نفسه كمن يُلاطم الريح، بعد أن لاذ وفاز المصرف، فهو الّذي «ضرب» وهو الّذي «هرب».

 

إنّ هذا الهرب، هو هربٌ مطلق، من المواطن، ومن الموظّف العامل، ومن المسؤوليّة، ومن المحاسبة، ومن الحفاظ على صورة لبنان «الوجهة المصرفيّة الآمنة» في الشرق. إذ كان من المفترض أن يتمّ تقييم مجموعة العمل الماليّ للوضع اللبنانيّ مجدّدًا في العام 2020، لكن تمّ تأجيله رسميًّا لمدّة عام بناءً على طلب السلطات اللبنانيّة بسبب جائحة كورونا. كما تمّ منح تأجيل جديد في العام 2021، بسبب الظروف الاستثنائيّة للبلاد: الأزمة الاقتصاديّة، وخصوصًا إدارة الأضرار الناجمة عن كارثة مرفأ بيروت في 4 آب 2020. فهل يبتكر الهارب وسيلة تشويش أُخرى، قد تكون بابتداع خصم وهميّ، هو المواطن نفسه، كي يُمهل أصحاب النفوذ «نفسًا آخر؟».

بالطبع، سيكون من الصعب على لبنان أن يبقى في فئة البلدان «الخالية من العيوب»، ومع ذلك ثمّة ثلاثة سيناريوهات محتملة: فإمّا أن يتمّ الاحتفاظ بلبنان في قائمة البلدان الممتثلة للقوانين، وفي هذه الحالة سنسمع أبواق المصارف الإعلاميّة تتبجّح بنزاهة البنوك، وأنّها تعافت من طعنة الصديق في الظهر، «ويالله نرجع نحطّ أيد بأيد»، لأنّ الأموال ليس لها قيمة بين «الحبايب».

أو يتمّ وضع لبنان في القائمة الرماديّة مجدّدًا، مع تصنيفه كدولة متعاونة، ثم تقدّم فرقة العمل المعنيّة بالإجراءات الماليّة قائمة بالالتزامات الّتي يجب الوفاء بها ضمن جدول زمنيّ لا يمكن تجاوزه، وهنا سنسمع أبواقًا تندّد بالمؤامرة الدوليّة الكونيّة على لبنان ومصارفه لصالح «نظام مصرفيّ جديد»، أو أنّها تنسج كعادتها على منوال «متل ما قدرنا… رح منقدَر»، أيّ أنّ القيادة الحكيمة الّتي أخرجت لبنان من القائمة الرماديّة سابقًا، هي قادرة على إعادته إلى المنطقة «النظيفة» بحنكتها المعهودة.

أمّا السيناريو الأسوأ، فهو إدراج لبنان في القائمة الرماديّة، ولكن تصنيفه كدولة غير متعاونة، وبالتالي يقترب من القائمة السوداء، وللحكَم الحُكم النهائيّ… علمًا أنّه قبل العام 2019، كانت وكالات التصنيف الأميركيّة الكبرى قد منحت لبنان تصنيف (B-). لكن مع التخلّف عن سداد الحكومة ديونها بالعملات الأجنبيّة في آذار 2020، تمّ تهميش لبنان تلقائيًّا في النظام المصرفيّ التجاريّ الدوليّ، وكأنّه غير موجود.

أخيرًا، ولطمأنة الشعب «المنهوب»، نجد أنّه وإن تمّ تخفيض التصنيف الائتمانيّ للبنان، لا ينبغي أن تكون العواقب وخيمة للغاية في الوقت الحاليّ واقعيًّا، لأنّ البنوك المراسلة لن تتوقّف تلقائيًّا عن التعامل مع نظيرتها اللبنانيّة، لكن هذا التصنيف يرفع المؤشّرات السلبيّة بوجهٍ كبير. علاوة على ذلك، تأخذ البنوك المراسلة في عين الاعتبار التصنيف السياديّ للدولة… فهل يحافظ لبنان على ما بقي له من سيادة؟ أم يُطيح بها هي الأُخرى كرمى عيون من يتحيّنون سقوطه؟ علمًا، أنّه إذا لم تُغيّر البنوك اللبنانيّة السياسات المتّبعة، وتنفيذ القوانين المتعلّقة بمكافحة تبييض الأموال، وتمويل الإرهاب، فقد يتعرّض لبنان لخطر العقوبات الأميركيّة «كفانا الله من شرّها». من دون أن ننسى أنّه في حال ضعف الملاءة الماليّة، ستواجه جميعها خطر استبعادها من شبكة «سويفت» العالميّة للعمليّات الماليّة والمصرفيّة، وعندها يمكن المصارف أن تقول: «على الدنيا السلام».

وإلى حين إعادة فتح أبوابها (خلف الأسوار الحديديّة)، نطرح السؤال على المصارف اللبنانيّة: هل ما زالت قادرة على الامتثال للمعايير المصرفيّة المنسَّقة دوليًّا الّتي حددّتها اتّفاقيّات «بازل 3»، مع تفاقم الأزمة الاقتصاديّة؟ وبشكل أكثر تحديدًا: هل يمكن الكشف عن نسب رؤوس أموالها، وملاءتها الماليّة؟ إلى حين تُكشَف الحقائق، ستبقى المصارف بحكم العاملة ولو شكليًّا، فالحالة تقول: «المفلس مليء حتّى يُثبت إفلاسه». أم أنّ الاغلاق «تلتين المراجل».

البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ

بروفيسور في جامعة القديس يوسف

الإتفاق على عدم الاتفاق

أصبح اليوم واقعاً وواضحاً، أنّ كل الجهات السياسية والأحزاب بدأت تُهيّئ محرّكاتها ومعدّاتها واستراتيجياتها للفراغ الرئاسي المتوقّع والمنظّم، والذي سيحصل بعد أسابيع عدة. لكن المضحك المبكي، أنّه بعد الجلسة التشريعية الأخيرة والمسرحية الجارية، كان واضحاً ويُمكن قراءته بين السطور، أنّ كل الجهات المعنية إتفقت من وراء الستار على عدم الاتفاق. وبدأ العدّ العكسي، ليس لعهد جديد لكن لفراغ رئاسي جديد.

بعد الجلسة الإنتخابية الأولى، كان واضحاً أنّ المعارضة منقسمة، وكانت الأكثرية الواضحة والساحقة لمن جمع وأقنع 63 صوتاً ورقة بيضاء، هذا يعني أنّ الساحر نفسه إذا جمع صوتين إضافيين يُمكن أن يفرض الرئيس العتيد للجمهورية، حيثما يشاء.

 

نذكّر وبفخر، أننا بلد دستوري وديموقراطي، وهذا يعني أنّ «الديموقراطية التوافقية»، هي تناقض لن يُطبّق، بمعنى آخر لا يجوز الإتفاق بين الـ 128 نائباً لإدارة البلاد واختيار الشخصيات المناسبة للمناصب.

 

كما كان واضحاً أيضاً، أنّ كل الجهات السياسية إتفقت في هذه الجلسة الشهيرة على تمرير العديد من الاتفاقات المالية والنقدية والاقتصادية، لأنّ الكل يعلم أنّه خلال الأشهر المقبلة، لا يُمكن مناقشة أو إقرار أي مشروع إقتصادي واجتماعي، وستكون الأولوية المطلقة للسياسة.

 

في السياق نفسه، الإتفاق الذي حصل حول الموازنة، كان اتفاقاً سياسياً بامتياز، وليس فيه أي نكهة مالية ولا نقدية، ولا رؤية ولا استراتيجية واضحة. حتى أنّ وزير المال المعني الأول بهذا المشروع، لم يستطع أن يُقدّمه بالتفاصيل، ولم يجد آذاناً صاغية للاستماع إلى مشروعه، لأنّ الكل كان يتلقّى التعليمات للتصويت على هذا المشروع المدمّر، وطُويت هذه الصفحة التقنية للتركيز على أولوياتهم والصفحات السياسية.

 

من ثم رُشق من السماء (باراشوت) قرار سعر الصرف الرسمي الجديد 15 ألف ليرة للدولار الواحد، بعد نحو 30 عاماً، كبالون تجريبي، سياسي بعيداً من التشريع المالي والنقدي، ومنفصل عن الموازنة.

 

من الآن وصاعداً، كل الجلسات التشريعية، ستُركّز على موضوع الرئاسة، وسيتركون اللبنانيين يتخبّطون بين بعضهم البعض، لتأمين لقمة العيش، ويتركون الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، يزداد يوماً بعد يوم، من دون أي مسؤولية أو قلق.

 

في السياق عينه، لقد وُضعت في الجوارير بقية الإصلاحات المرجوة، مثل «الكابيتال كونترول»، و»خطة التعافي»، وبقيت فقط الشعارات الوهمية، لحماية ما تبقّى من أموال المودعين، بينما في الحقيقة يُتابع إستنزافُها يومياً لما تبقّى منها.

 

فالشق الأول من الجلسة التشريعية، ومناقشة الموضوع الاقتصادي وخصوصاً إقرار الموازنة، كانت فقط لـ (رفع العتب) بغية إرضاء بعض متطلبات صندوق النقد الدولي شكلياً، واختبار بعض الخطط، وإلهاء الشعب مرة أخرى، بينما يُركّزون على مصالحهم وأولوياتهم السياسية.

 

إنّه لواضح، أن ليس هناك جدّية وإرادة حقيقية لأي خطة إنقاذية، لكن ما نشهده اليوم هو قرارات عشوائية وتوافقية ورضائية بعيدة عن خطة متكاملة، متجانسة ومتماسكة، لمواجهة أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخ العالم. فالسياسيون في كوكب الاستحقاقات والخلافات والتحالفات السياسية للمرحلة المقبلة، والاقتصاد والشعب في كوكب الذل والعذاب والإنهيار.

د. فؤاد زمكحل

لماذا عدم استدراج مساهمات من الخارج؟

وم السبت المنصرم أي نهاية أسبوع إغلاق #المصارف اتقاءً للأضرار التي قد يواجهها الموظفون كان عدد هؤلاء على مختلف مسؤولياتهم نحو 17000 موظف بعدما هاجر ربما 6000 الى 8000 الى الخارج سعياً وراء تحقيق موارد تكفي عائلاتهم.

المودعون في #لبنان من اللبنانيين يتجاوز عددهم 1.5 مليون، وهؤلاء سواء منهم صغار المودعين أو أصحاب الادخارات الملحوظة والثروات الكبيرة معرّضة أموالهم المدّخرة بعرق الجبين والعمل في الخارج للتبخر بسبب سياسات المصارف غير القانونية، وتمنع القضاء عن الحكم في الدعاوى المقامة من أصحاب الودائع، وبالتالي إلغاء كل ثقة بالقطاع المصرفي.
قبل المسارعة للقول إننا نتعرّض لأهم قطاع في الاقتصاد، نسارع الى القول إن دور قطاع المصارف انحسر وأصبح مرتكزاً على أعمال الصيرفة لا غير، فليس هنالك مصارف تأخذ على عاتقها فتح اعتمادات للتجّار، وليس هنالك مصارف للاستثمار توظف مبالغ ملحوظة في توسيع مؤسسات قائمة أو ينوي بعض المؤمنين بالمستقبل من أصحاب ادخارات مقبولة فتح مجال المشاركة لمصارف الأعمال، ولم نشهد عملية من هذا النوع، وهذا النشاط هو المحرك الأساسي لأي اقتصاد في العالم.

 

بعد كل ذلك نقول إن المصارف لم تركز على استهلاك أموال المدخرين، وإن المصارف العالمية حينما واجهت مشاكل تمويلية عام 2008/2009 بسبب الإفراط في الاستثمار في شركات المضاربات المالية والمشاريع الخيالية تعرّضت لخسائر كبيرة وبالفعل أفلست لمدة قصيرة انقضت قبل إقبال البنوك المركزية في الاتحاد الاوروبي، وسويسرا، وبريطانيا، والولايات المتحدة على إنقاذها.

هنالك شبه قناعة عامة بأن البنوك السويسرية هي الأكثر محافظة على أموال المودعين، والواقع أن أكبر بنكين في سويسرا حتى اليوم أي الكريدي سويس والـUnion De Banques Suisse كانا مفلسين تماماً، والامر العجيب أن هذين البنكين بعد إنقاذهما من قبل السلطات السويسرية بضخ الفرنكات المطبوعة حديثاً تابعا في السنوات الاخيرة سياسات غير محافظة والبرهان أن بنك الكريدي سويس خسر 14 مليار دولار بسبب تمويل شركات مضاربات على الاسهم والشركات تعمل من لندن. إن هذا الكلام في مجمله القصد منه القول إن البنوك اللبنانية، باستثناء مصرفين، لم تخاطر بأموال المودعين، بل بالتوظيف في سندات الخزينة أي ديون الدولة التي كانت لسوء الحظ مموّلة مع فوائدها بنسبة 65% من الدين العام الذي بلغ أكثر من 100 مليار دولار بنهاية العام المنصرم، وقد بيّن ذلك حاكم البنك المركزي في تصريح رسمي قبل شهر على الاقل، وما زال هنالك من يقول إنه مسؤول عن الدين العام، وليس له أي مسؤوليات في هذا الامر، بل عليه الاستجابة لقرارات الحكومات المتعاقبة حتى لو تجاوزت أصول المراقبة القانونية سواء خلال المناقصات العامة أو مراجعة أسباب طلبات التحاويل والتي أسهمت في تضخيم عبء الدين العام.

الامر الذي عجز عنه لبنان زيادة السيولة بليرة قابلة للتحويل دون تحديد أسعار تحويلها بالمضاربات، وأضيف الى ذلك عبء استيراد كميات كبيرة من مشتقات النفط وإعادة تصديرها الى سوريا دون أن نحصل على الأموال التي دفعتها مصارفنا سوى بجزء منها، وحيث إن هذه العمليات طاولت نسبة 40% من مستوردات المشتقات النفطية، واجه لبنان صعوبات المحافظة على سعر مستقر للعملة.

في المقابل، كانت هنالك مطالبات ملحة من قبل مروان مرشي بإعادة دين اليوروبوندز الذي كان يبلغ أساساً 34 مليار دولار، ولم يكن هنالك تجاوب من السلطات، وبالمناسبة ولأن السياسيين لا يدرسون المحاسبة القومية، سندات اليوروبوند كان قد سُدّد من أصلها نسبة 80% حينما أعلن لبنان عبر حكومة حسان دياب عن تمنعه عن التسديد ووقعت الواقعة.

على صعيد آخر، إهمال هذا الاقتراح أسهم بتعميق الازمة وكان قد اقترح الدكتور باتريك مارديني إنجاز مجلس للنقد Currency Board يحقق استقرار سعر العملة ويساعد على تبني سياسات مالية أفضل، وهذا الاقتراح الذي توافر مع كتيب يبيّن نجاح هذه العملية في عدد من البلدان.

ليس هنالك من تنبّه لدى المسؤولين الحكوميين إلى استدراج مساهمات من الخارج والاردن فعل ذلك واستدرج 3 مليارات دولار للتوظيف في رؤوس أموال البنوك الثمانية من السعودية.
الامر الوحيد الذي تحقق في لبنان نجاح البنك المركزي في الحصول على 1.3 مليار دولار من صندوق تابع لصندوق النقد الدولي يسمّى صندوق السحوبات الخاصة ولو توافرت أسباب انكباب الحاكم على تسيير الأمور دون عوائق لحصل على مبلغ مماثل منذ زمن.

مروان اسكندر

عن خطة هي «مثال للفشل» في الإصلاح؟!

خطة الدولة للخروج من الازمة المالية المعدلة الصادرة في 9 ايلول تستهدف مرة ثانية شطب وتحويل 83 مليار من الودائع البالغة 99 مليار دولار وتحتفظ فقط بـ 14 مليار دولار منها كودائع ويفترض سحبها خلال 7 سنوات.

مجدداً، تطلق حكومة تصريف الاعمال خطة مالية جديدة تعتبرها أكثر تطورا من الخطة السابقة الصادرة في أيار الماضي. من الواضح انها تبذل المزيد من الجهد لشطب او تحويل الودائع الى الليرة واخترعت وسائل جديدة للتوصّل الى ذلك. ومن أهمها التمييز بين الودائع المؤهلة وغير المؤهلة، الفوائد الفائضة، إصدار حقوق للمصارف مقابل ودائعها المشطوبة في مصرف لبنان، إنشاء شركات قابضة، وإنشاء صندوق استرداد الودائع من أرباح مؤسسات القطاع العام الوهمية.

 

ما تهدف له الخطة هو شطب الودائع بالدولار ورؤوس أموال المصارف وتحويلها الى الليرة وسندات وهمية، حسب الافتراضات التالية: افتراض قروض مدفوعة (13 ملياراً)، تحويل فائض عائد الفوائد منذ 2015 (12 ملياراً)، تحويل الودائع غير المؤهلة (16 ملياراً)، تحويل 25 % من الودائع المضمونة لغاية 100 الف دولار (5 مليارات)، وتحويل الى اسهم او سندات ودائع تسمّى محمية (7 مليارات)، وتحويل الباقي الى الصندوق الوهمي لاسترداد الودائع (30 مليار دولار).

 

فيبلغ مجمل المبالغ المشطوبة والمحوّلة الى الليرة وصندوق استرداد الودائع 83 مليار دولار من أصل 99 مليار دولار. فلا يبقى من الودائع الدولارية سوى 14 مليار بالدولار ومتوفّرة فقط خلال 7 سنوات او اكثر. الخسارة في المبالغ المشطوبة لن تُعوّض، كذلك معظم التحويلات الى الليرة ستكون خسارات ناتجة عن سعر الصرف الوهمي المعتمد المرتفع لليرة. هذه الخطة ستوجّه ضربة قاضية للاقتصاد والثقة.

 

وبالنسبة الى ما يخص صندوق استرداد الودائع فهو صندوق وهمي ايضا، يرتكز على تحصيل ايرادات غير مضمونة في المستقبل. حتى ان الحكومة لم تتبنّ هكذا وسيلة منذ البداية، وقد اعلنت سابقاً ان العائد السنوي لصندوق كهذا لن يتعدى مليار دولار. لذا، ستحتاج الى ما لا يقل عن 30 سنة لاسترداد الـ 30 مليار دولار من الودائع المُحوّلة الى هذا الصندوق إذا تكلل بالنجاح. مع العلم ان الخطة تقترح تعويض الودائع من صندوق الاسترداد هذا بالعائد الذي يتجاوز معايير محددة، ومن المستبعد جداً ان يكون له مردود فائض.

 

البديل عن صندوق استرداد الودائع هو خَصخصة ادارة مؤسسات القطاع العام ومن ثم عرضها كشركات مساهمة في بورصة بيروت ولا تعني انها ستعوض ودائع الأثرياء فقط كما يعتقد صندوق النقد، بل ستكون متوفرة للاستثمار لجميع اللبنانيين كلّ بحسب رغبته، مما سيوفّر دخلا وفيرا للدولة وقد يفيد الفقراء قبل الأغنياء من خلال خلق الوظائف وتحفيز الاقتصاد. أما الحفاظ على قطاع عام فاشل ويزيد من الفقر، فهذه أفكار اشتراكية تخلّت عنها كل الدول الناجحة.

 

إنّ هذه الخطة هي مثال للفشل في الإصلاح ولن تطبّق حتى ولو أقرّت من قبل الحكومة. فلا احد يدعم شطب اموال المواطنين وإقفال المصارف. ومن الواضح ان بعثة الصندوق تواجه صعوبات مع الدولة ومع المواطن لكي تتوصل الى حل لتدارك الازمة، فهي تعارض استخدام موارد الدولة لتغطية خسارات الدولة. وربما لا تدري ان كل المواطنين يعانون من الازمة، وحتى ان الـ 100 الف دولار المضمونة لن تتوفر بحسب هذه الخطة، وحماية صغار المودعين لا تنقذ البلد. كما ان قدرة الدولة على إتمام موازنات إصلاحية اضافة الى العديد من الإجراءات المطلوبة من قبل الصندوق بنجاح محدودة جدا. إنّ المسار مع صندوق النقد سيكون شاقاً ولن تكون له نتائج في القريب العاجل.

 

من الواضح انّ الكساد سيعمّ جميع المرافق اذا طبقت خطة دولة الرئيس ميقاتي الاخيرة، لأنها ستقضي على القدرة الشرائية للمواطن وستُفقر جميع اللبنانيين. ومن الواضح ايضا ان الحكومة وبعثة الصندوق لا يقومان بالواجب المطلوب بإطلاع النواب والوزراء وكذلك المواطنين على محتوى الخطة بأسلوب شفاف. فالغموض المتعمّد واضح في الخطة، فقد كُتبت بأسلوب غير سلس محاولة إخفاء نواياها.

 

المطلوب من اي خطة اعادة السيولة للمصارف وليس اعادة الودائع بمجملها، فقد ذكرت خطة الحكومة بحد ذاتها: انّ اي اقتصاد لا يستطيع اعادة كل الودائع في آن واحد. لذا فتوفير السيولة المصرفية وإعادة الثقة بالمصارف يجب ان يَكونا الهدف الاول لخطة الإصلاح. ولكن نرى انّ الخطة تستهدف عكس ذلك وتُوجه نحو حذف الودائع وفقدان الثقة.

 

إنّ السيولة تتأمّن بتحرير سعر الصرف كلياً. والآن، الثقة تُستعاد بتحقيق التوازن المالي والادارة السليمة لموجودات الدولة، وكذلك بإعادة جدولة كل المستحقات والالتزامات المالية وتكلفتها. أمّا الآراء القائلة انّ تحرير سعر الصرف يجب ان يكون من خلال برنامج متكامل ويجب الانتظار لا تدري ضرورة التسلسل في الإصلاح.

د. منير راشد