صناديق استرداد الودائع، أدوات لتمويه شطب الودائع

لا تزال خطط الحكومة تدعو لشطب معظم الودائع الدولارية (الفائضة) التي تفوق 100 الف دولار على الرغم من خسارة المواطن للكثير من مدّخراته بسبب الممارسات وعدم تنفيذ اية إصلاحات. اقترحت خطة الحكومة المعدلة الصادرة في 9 ايلول اساليب جديدة لشطب معظم الودائع بالدولار – من خلال شطب الفوائد الفائضة في الودائع، وشطب الودائع غير المؤهلة التي حوّلت من الليرة الى الدولار بعد 17 تشرين، وتحويل ودائع لسندات واسهم في المصارف بالليرة، وتحويل ما تبقى الى صندوق يسمّى «صندوق استرداد الودائع». وتقترح خطة الدولة تأمين استرداد الودائع الفائضة بحسب وصف الحكومة المقدرة بأكثر من 80 مليار دولار من اصل 99 مليار دولار من خلال الصندوق الوهمي الذي سيصدر حقوقاً لصالح المودعين – اي أوراق مالية من دون تحديد تاريخ الاستحقاق وعملته.

انّ تمويل صندوق استرداد الودائع سيستند الى تخصيص بعض الايرادات المستقبلية من ايرادات ادارة اصول الدولة من قبل القطاع الخاص في حال تجاوزت معايير محددة «ومع تنفيذ برنامج الاصلاح الاقتصادي والمالي بنجاح ووصول الدين العام الى مستوى أدنى مما هو مُستهدف في البرنامج للحفاظ على استدامة الدين»، ومن ايرادات الاموال المسروقة والمنهوبة وغير المشروعة، وجزء من اصول البنوك. يحتاج هكذا صندوق قرناً من الزمن لاستعادة جزء من الودائع.

 

والغريب في الامر انّ الحكومة كانت قد أخذت موقفاً مُعاداً لإنشاء صناديق استرداد الودائع، منذ بضعة اشهر، من خلال ادارة مؤسسات القطاع العام للتعويض من عائداتها على «الخسارات» المزعومة المقدّرة بـ 73 مليار دولار التي سيتحملها المودعون. واكدت انّ صندوقا بأصول تبلغ 20 مليار دولار وعائد قدره 5% سيستغرق 73 عاما على الاقل للتعويض عن خسائر المودعين. ولا يضمن ايضا القيمة الحقيقية لتلك الودائع ولا حتى استرداد قيمتها الاسمية التي ستصبح أضعاف الاموال المشطوبة الآن. اضافة الى ان صندوق النقد الدولي يخالف فكرة استعمال مؤسسات الدولة التي هي للجميع، المودع وغير المودع، كأداة للتعويض عن الودائع.

 

سينتج عن خطة الحكومة الاخيرة شطب 84 مليار دولار من اصل 99 ملياراً من الودائع التي ستُحوّل الى ودائع بالليرة على اسعار منخفضة جدا مقارنة بسعر السوق الحرة وسعر المنصة مقابل حقوق ورقية من دون اي قيمة. هذه ليست وسيلة لمعالجة الفجوة المالية. انّ هذا الاقتراح لا يؤدي الى حل بل الى تفاقم الازمة، وهي فقط استبدال التزام مؤكد بالتزام غير مضمون. يجب ان تستيقظ الحكومة وتُقلع كلياً عن الترويج لشطب الودائع التي تؤدي فقط الى هدم ثقة المواطن بالدولة والمصارف كونها لا تستطيع اعادتها.

 

المواطن لا يطالب باسترداد كل امواله فوراً ويعلم انّ اي جهاز مصرفي لأية دولة لا يستطيع اعادة اموال جميع المودعين في وقت واحد. انّ الدولة تُروّج للعكس وتعتبر النقص في السيولة كخسارة. المواطن يطلب من المصارف توفير السيولة والثقة كما كانت عليه قبل «الازمة».

 

انّ الخطأ يكمن في اعتماد ما يسمّى ركائز الخطة من قبل الحكومة الى: «حل الترابط بين ميزانيات المصارف التجارية – الديون السيادية – وميزانية مصرف لبنان». وهذا يعني شطب البنود المشتركة بين الحسابات الثلاثة. وفي المقابل يتوجب شطب الودائع ليبقى التوازن في حسابات المصارف.

 

يجب ان تُدرك الحكومة وكذلك الهيئات الاقتصادية ان اية خطة تستهدف شطب الودائع ستؤدي، اذا طبّقت، الى الاغلاق التام للمصارف والمزيد من التدهور الاقتصادي وستكون نتائجها نقمة وليس نعمة عليها. ان فكرة انشاء صناديق او شركات قابضة وهمية لاسترداد الودائع لا تعيد ثقة المواطن بالجهاز المصرفي.

 

انّ اصرار الحكومة على ان الاستعانة بصندوق النقد هو إلزامي ولا يوجد حلول اخرى، يشير الى انها غير قادرة على الاصلاح ويثير الشك بقدراتها. فهذا كلام لا يتقبّله حتى الصندوق، فهو يدعو الدول دائما للاصلاح الداخلي اولاً مع استعداده بأن يقدم المشورة اللازمة. كما يفضّل ان ترتكز الحلول الى جذب الاستثمارات الخاصة وليس على استجداء المعونات والديون الرسمية اولاً.

 

الحل يتطلب توفير السيولة للقطاع المصرفي واعادة الثقة وهذا لا يتحقق من خلال شطب الودائع ووعود باستردادها بعد عشرات العقود من خلال صناديق وهمية.

 

وأكرر، انّ اهم اوليات الاصلاح (ويجب ان تبدأ حالا) هي التالية:

 

(1) التحرير الكامل لسوق االعملات الاجنبية ليصبح سعر الدولار مقابل الليرة سعراً موحداً تلقائياً محدداً من قبل سوق القطع الشامل لجميع المعاملات المصرفية، للمؤسسات العامة والخاصة، للحكومة، والمواطن. وينهي التعامل باللولار (الدولار المصرفي قبل 17 تشرين 2019) والاسعارالمختلفة للدولار التي لا تزال تُرهق الاقتصاد من خلال التشوهات في الاسعار والدعم الاستنسابي لفئات على حساب فئات اخرى. كما ينهي معاناة المواطن من الشطب غير المباشر بسسب حجب الوصول لودائعه وتحديد السقف على السحب وسعر الصرف المبالغ فيه. لقد خسر المواطن المليارات بسبب القيود على سوق النقد الاجنبي ولم يبق له اية فوائد فائضة كما تزعم الدولة. ومن الواضح انّ أثر الشطب للودائع بالعملة الصعبة كان ولا يزال سلبيا ويضر بثقة المواطن، وهو اكبر عائق للنهوض الاقتصادي. ان تحرير سعر الصرف واطلاق حرية المصارف في التعامل في سوق القطع يعيد السيولة للاقتصاد والمصارف وكذلك ثقة المواطن.

 

(2) اعادة جدولة الاصول والالتزامات المالية جمعاء وتنفيذه من قبل الجهات المعنية في كل قطاع.

 

(3) الالتزام والتوصّل الى التوازن المالي خلال سنة واحدة. وسيساهم في ذلك الى حد كبير في تحرير سعر الصرف بحد ذاته.

 

(4) البدء فوراً بتحسين اداء مؤسسات القطاع العام من خلال خصخصة ادارة كل قطاع على حدة بهدف وقف الهدر في الدولة.

 

انّ تحسين ادراة المؤسسات العامة ضروري لتحسين اداء الاقتصاد وليس للتعويض عن ودائع كبار المودعين او صغارهم. وهذا يتم من خلال خصصة الادارة اولاً ومن ثم إنشاء شركات مساهمة تُعرض في بورصة بيروت وتكون متوفرة للجميع. ومن الممكن ان تحتفظ الحكومة بمساهمة جزئية لتمويل شبكة الامان الاجتماعية للفئات الأفقر.

 

انّ التركيز في الحل على شطب الودائع وأصول المصارف والوعود بإعادتها بعد عقود لن يُثمر. ومن الاجدى للحكومة ان تتوجه للمواطن وللمودع العربي والاجنبي برؤيا جديدة وتبرّىء ذمّتها بتقديم طرح رائد لها (وان لا تكون اسيرة لطلبات الصناديق الدولية) يعيد ثقة المستثمر المقيم والمغترب. انّ الترويج السائد ان الخطة الحالية للحكومة ستجذب المليارات من الخارج هو مجرد وهم، بينما في الحقيقة نحن هَدرنا 25 ملياراً منذ بدء الازمة.