أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

الأزمة النقدية علاجها نقدي: دولرة لبنان بين صندوق النقد والبنك الدولي

منذ عام 1994 نشر صندوق النقد الدولي ورقة بحثية فَنّد فيها خصوصية دولرة الإقتصاد اللبناني منذ الأزمة النقدية في الثمانينات، ولم يرَ أفقاً للخروج منها واستعادة الثقة بالعملة الوطنية، على رغم من عودة الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي للبلاد. وشرح ذلك بما يُعرف بعلم الاقتصاد بتخلّفية الخروج من الدولرة، حتى لو زالت الأسباب التي أدّت إليها Hysterisis effect of Dollarization اليوم كرّر البنك الدولي تأكيد المسار التصاعدي للدولرة في لبنان، حتى بعد تعافي الاقتصاد، علماً أنّ لبنان عرف 22 عاماً من تثبيت سعر الصرف، من دون انخفاض ملحوظ للدولرة. فما هي خصوصية الدولرة في لبنان وقراءتها لدى صندوق النقد والبنك الدولي؟ ولماذا المسار نحو الدولرة الشاملة؟

كما كتبها صندوق النقد الدولي عام 1994، جَدّدها تقرير البنك الدولي الأخير لعام 2022 حول دولرة الإقتصاد اللبناني، مؤكّداً مسارها التصاعدي في غياب معالجة الأزمة النقدية، حتى ولو تحقّق تعافياً اقتصادياً عاماً. وقد جاء في خلاصة التقرير، تحليل لعملية الدولرة في لبنان، ويَخلُص إلى أنّ الأزمة الحالية ستعزز على الأرجح مستويات الدولرة المرتفعة، حتى بعد تحقيق التعافي.

تاريخياً، أدّت أزمات العملات المتعددة إلى ازدياد كبير في عملية الدولرة في البلاد، مع اتساع نطاقها بمرور الوقت للودائع والإقراض والدين العام. لم يتطور النظام المالي في لبنان خارج القطاع المصرفي، وحال الافتقار إلى سوق رأس المال، من دون تطوير أدوات التنويع والتحوّط التي كان من الممكن أن تساعد في خفض الدولرة أو عكس مسارها. ولا يزال تطوير أسواق رأس المال أمراً بعيد المنال في ظل الظروف الحالية، كما أنّه سيتطلب تحقيق استقرار على صعيد الاقتصاد الكلي على المدى القصير وتبنّي نموذج نموٍ على المدى الطويل.

وشهد لبنان دولرة على نطاق واسع أثناء وبعد 15 عاماً من الحرب الأهلية. تحلّل هذه الورقة القوى الدافعة وراء دولرة الاقتصاد اللبناني، باستخدام نموذجين اقتصاديين قياسيين، بصرف النظر عن المحدّدات المتضمنة عادة في الدراسات التجريبية على ظاهرة الدولرة، وتأخذ في الاعتبار أيضًا محدودية انعكاس عملية الدولرة. كان للحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عامًا تأثير مدمّر على لبنان اقتصاديًا. لم يكن نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي الحقيقي في عام 1990 سوى ثلث مستواه في عام 1975. العجز المالي المُتزايد بسرعة، بتمويل من طباعة النقد – لا سيما خلال منتصف الثمانينات – ومع اشتداد الحرب تصاعدت ضغوط الطلب المحلي والتضخم جنبًا إلى جنب مع استمرار انخفاض قيمة العملة، الليرة اللبنانية. بعد فوات الوقت، ساهمت هذه التطورات في زيادة الاعتماد على العملات الأجنبية لأغراض المعاملات وتخزين القيمة ووحدة الحساب، والتي استمرت حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية، تأمين الاستقرار السياسي والحكومي، واستقرار ظروف الاقتصاد الكلي، بما في ذلك التضخم، وإعادة تدفق كبير للأموال من الخارج.

وقد لوحِظت أنماط مماثلة في مجموعة متنوعة من البلدان الأخرى حول العالم، مثل استبدال العملة على نطاق واسع والدولرة عادة ما يُفترض أنه ناتج عن التدهور الاقتصادي للبلد، الوضع المالي والسياسي، والذي ينعكس، من بين أمور أخرى، في ارتفاع وتسارع معدلات التضخم وانخفاض كبير في قيمة العملة المحلية. خلال العقد ونصف العقد الماضي، عدد من الدراسات التجريبية ركّزت على هذه الظاهرة، التي كانت منتشرة بنحو خاص ومستمر في أميركا اللاتينية، ولكنه حدث أيضًا بمقدار أكثر اعتدالًا في البلدان النامية والصناعية الأخرى حول العالم، وكذلك بعض دول الشرق الأوسط مثل مصر واليمن.

ومع ذلك، فإن معظم نماذج استبدال العملات التقليدية تشير إلى أنه بمجرد استعادة الاستقرار الاقتصادي الكلي والسياسي، فإنّ استخدام العملة الأجنبية ينخفض مرة أخرى. ومع ذلك، لم يحدث في الواقع في العديد من حالات البلد. لكن القليل فقط من الدراسات التجريبية حول العملة قد تعامل الاستبدال على وجه التحديد مع التخلفية في الخروج من الدولرة والعودة الى العملة الوطنية.

في حين أن دولرة الودائع كانت حاسمة للهيكل المالي الكلي لما بعد الحرب، كذلك أدت دولرة الودائع الى دولرة أخرى في الاقتصاد، بما في ذلك دولرة الإقراض وكذلك الدين العام. يتم شرح هذه السببية بأن «دولرة الودائع تحفّز الدولرة في القروض. تشجع المستويات المرتفعة من ودائع العملات الأجنبية لدى المصارف على إقراض المتعاملين المحليين بالعملة الأجنبية للمحافظة على مواضع الموازنة العمومية المتطابقة، ويسري مفعول ذلك بنقل عبء سعر الصرف الى المقترضين في حال تدهور سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي. أما في حال كان المقترضون عاجزين عن التسديد نظراً لكَون مداخيلهم بالعملة الوطنية فيكون الخطر انتقل الى المودعين وهذا ما حصل فعلياً في لبنان حيث كل من وَظّفت المصارف الدولارات لديهم توقفوا عن تسديدها بالدولار (من الدولة وصولا الى المقترضين من القطاع الخاص).

تحلّل هذه الورقة محددات استخدام العملات الأجنبية في الاقتصاد اللبناني خلال العقدين الماضيين وتتناول بنحو صريح المثابرة في استخدامه. بينما النماذج العادية لإحلال العملة تفترض عملية استبدال متماثلة وقابلة للانعكاس تسمح بتغيير غير مقيّد في نسبة إحلال العملة في كلا الاتجاهين عندما تتغير المحددات الأساسية، النهج المستخدم في ورقة صندوق النقد أخذ في الاعتبار على وجه التحديد قابلية التراجع المحدودة لدولرة الاقتصاد اللبناني حتى بعد تطبيع نسبي للوضع السياسي والاقتصادي، ما يعني ضمناً وجود غير متماثل لعملية الاستبدال، أي صعوبة الخروج من الدولرة حتى بعد زوال أسباب حدوثها.

من المعلوم أنه تم دعم الدولرة في لبنان بسبب ضعف أساسيات الاقتصاد الكلي. يتضمّن بنية مالية كلية متكاملة من مستويات عالية للديون، وعجزاً مزدوجاً كبيراً (عجز مالي وعجز الميزان التجاري) بالاستناد الى قطاع مصرفي كبير الحجم وقوي. كانت احتياجات التمويل قبل الأزمة كبيرة، يتم تمويلها بشكل أساسي من خلال قطاع مصرفي فاقت ودائعه أكثر من أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. ضمان مصرف لبنان أنّ البنوك استمرت في جذب الودائع الأجنبية وذات الاحتياجات التمويلية الإجمالية للقطاعين العام والخاص تمّ الوفاء به، وبالتالي تمويل العجز المالي الكبير عجز الحساب المالي. وبغية جذب الودائع الأجنبية، قدم مصرف لبنان شهادات بالدولار من الودائع ومختلف إعادة تمويل العملات الأجنبية المدعومة المخططات. لتلبية احتياجات الحكومة، كان مصرف لبنان المشتري المتبقّي للديون الحكومية في السوق الأولية والأسواق الثانوية. وقد أرسَت هذه العوامل المختلفة أرضًا خصبة لتدفقات رأس المال.

في تشرين الأول 2019 سقط نظام سعر الصرف القائم على الربط المَرِن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عملياً يعيش لبنان منذ ثلاث سنوات من دون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيريا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية. وذلك بدلاً من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببدل أتعاب ومداخيل بالعملة نفسها التي يتكبّدون فيها تدريجاً كل المصاريف، ولا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عملياً على هامش النظام الاقتصادي-الاجتماعي ككل. السبب هو الخطأ الفادح الذي تتم فيه مقاربة الأزمة من كل الزوايا إلا الزاوية التي يفترض البدء بها، أي اعتماد نظام سعر صرف جديد قبل التطرّق الى بقية نواحي الأزمة وحتى الموازنة التي يستحيل تقديمها بأرقام حقيقية قبل بَت نظام سعر الصرف والخيار النقدي للبلاد بما يتناسب مع دولرة تتخطى نسبة 80 %.

بعد سقوط نظام الربط المَرن لسعر الصرف ونفاد الاحتياطي بالعملات الأجنبية الذي كان المصرف المركزي يعتمد عليه للتدخّل المستمر في سوق القطع، ونظراً لاستحالة اعتماد نظام سعر الصرف العائم في إقتصاد مدولر بمعدلات مرتفعة تفوق 80 %، لا يبقى علمياً أمام لبنان سوى خيار اللجوء الى نظام الربط الصارم لسعر الصرف المتمثّل بالدولرة الشاملة و/أو «مجلس النقد» الرديف لها.

طبعاً كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومُتماهٍ مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعًا بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي، لا سيما منذ بدء تسجيل تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011. إستناداً الى نموذج الأكوادور الأقرب الى عناصر الأزمة في لبنان مع الانتقال من الدولرة الجزئية المرتفعة نحو الدولرة الشاملة، تبيّن أنّ الشرط الاساسي لنجاح عملية الانتقال الى «الدولرة الشاملة» يتطلّب أولاً امتلاك المصرف المركزي احتياط بالعملات الأجنبية بالدولار الأميركي يكفي لتغطية التزاماته تجاه القطاع الخاص، أي بشكل أساسي «القاعدة النقدية» (monetary base) الأوراق النقدية المطبوعة من المصرف المركزي بالعملة الوطنية + احتياطي المصارف لدى المصرف المركزي.

عند الافتقاد الكلي والمزمن بالعملة الوطنية وطغيان التعامل بالعملة البديلة لا يعود الخيار بينها وبين البديل، أي الدولار الأميركي، في حال لبنان، بل يصبح الخيار في آلية الربط الصارم المناسبة وكيفية الانتقال التدريجي إليها بُغية نجاحها بأسرع وقت وأقلّ كلفة… أما إزاء «تردّد» البعض في اعتماد الدولرة الشاملة، على رغم من أن الاقتصاد اللبناني بات مدولراً بأكثر من 80 %، أي أنّ ما يعرف بـ«السيادة النقدية»، لم يعد يتخطى حدود الـ20 %، ثمة خيار رديف للدولرة الشاملة وهو «مجلس النقد» الذي يتفادى اعتماد «الدولار الأميركي» رسمياً في حد ذاته كلياً بدلاً من الليرة اللبنانية، بل اعتماد إسم عملة آخر (الليرة أو إسم جديد) يحظى بتغطية الاحتياطي الموجود بالدولار الأميركي. ويبقى القول ان الأزمة النقدية لا يمكن معالجتها سوى انطلاقاً من الشق النقدي واعتماد سعر الصرف المناسب ومن تؤكد الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية وتقاريرالمنظمات الكبرى، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، حتى لو تمّ تعافي الاقتصاد تبقى الدولرة متزايدة عندما تنفلش في الاقتصاد وتصمد مرتفعة حتى بعد استقراره. الدولرة الشاملة تفرض نفسها واقعاً، الخيار المتبقّي يكمن في آلية الاعتراف بها رسمياً لوقف الفوضى في الأسواق وتأمين العدالة في الوصول الى الدولار لجميع المواطنين.

د. سهام رزق الله

كيف نختار القيامة؟

إن الكتابة من قبلي في أواخر هذه السنة تنجز بعد خمسين عاماً من أول مقال حول أزمة #بنك أنترا التي أشرت إلى أنها مفتعلة وأن حلها ممكن، وهكذا كان. واليوم شركة انترا للاستثمار المملوكة بالنسبة الأكبر من مساهمين حملوا الأسهم لأنهم كانوا مودعين، وحتى تاريخه يتقاضون أرباحاً سنوية وقيمة موجودات الشركة تفوق المليار دولار. ربما ممارسة توزيع أسهم على المودعين طريقة مناسبة لمعالجة عجز المصارف عن تأمين ودائعهم دون تقنين مخالف للقانون مقنّع حالياً.

لقد لاحقت تقارير #صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وتقييم #الأمم المتحدة والعديد العديد من التعليقات، ولم أستكشف في جميع التقارير ما يوحي بحلول واقعية تنقذ البلد من السقوط في خانة الدول الممانعة أي سوريا وإيران. والبلدان يعانيان من مصاعب اقتصادية واجتماعية والتغلب على مصاعبهما يستوجب انقضاء سنوات قبل ظهور تباشير الحلول الحديثة.

 

دراساتي شملت إصدار كتيّب حول الأزمة المصرفية وإمكانات تجاوزها، لأن #لبنان دون مصارف متحرّكة وقادرة لن يكون مقبلاً على النموّ والتحرّر، وممارسات المصارف الجارية حالياً لا تخدم أهداف استعادة الحياة الاقتصادية لطبيعتها الحرة وممارساتها الصحية غير الخاضعة لاستهداف إنقاذ أصحاب المصارف وعدد المودعين يفوق 1.5 مليون لبناني وغير لبناني وعدد المصارف العاملة لا يتجاوز 60 منها عدد مرشح للانطواء دون خسائر ملحوظة.

هنالك تصوّران لافتان للاهتمام وقد أنجزهما مروان أديب مرشي الخبير بالأسواق المالية العالمية الذي ترأس ثاني أكبر شركة للتعامل المالي، تسويقاً وإصداراً للسندات الحكومية ومعالجة مشاكل عدد من الدول شملت الأرجنتين، والمكسيك والإكوادور وحتى السويد، التي بلغ مجموع قيمها حوالى تريليون دولار أي ألف مليار دولار في حينها. وقد عرض دراساته على عدد من المسؤولين، وأظهر الاهتمام الأساسي بحلول مروان مرشي الرئيس نبيه بري، وهو قضى ساعة مستمعاً ومناقشاً لافتراضات مروان مرشي واستشعر أن دراساته قد تكون البوابة الصالحة للمجلس النيابي الحالي الذي يشمل طاقات جديدة على السياسة وتوجهات غير تقليدية.

المصدر الثاني مذكرة مختصرة، لكن غنية بالأفكار والتوجهات غير التقليدية بل إنها تشمل انتقادات أساسية لمنطلقات وتفسيرات وتوجهات ما سُمّي خطة حسان دياب، والرجل بريء من المعرفة بشؤون الاقتصاد وإن هو ادّعى أن برنامج حكومته – بعد انقضاء شهر على تأليفها – عالج 97% من مشاكل لبنان الاقتصادية، والأمر الذي يدعو الى التنبّه بعد ادعاءات حسان دياب، أن برنامج حكومة نجيب ميقاتي بحسب تقييم الدكتور منير راشد الذي كان خبيراً في صندوق النقد الدولي، ويرأس حالياً جمعية الاقتصاديين اللبنانيين، هو أسوأ من برنامج حكومة حسان دياب، كما أن دراسته القيّمة تبيّن أن النظام اللبناني كان يسمح بتحويل الأموال دون عائق ما دامت صحة البنوك متوافرة، وهو يعتبر أن البنوك التي تحوز سيولة بنسبة 10-12 في المئة مقابل الودائع قادرة على الحياة، وهكذا كان الوضع مع بنوك عالمية خلال الأزمة المالية العالمية 2007/2008. فبنوك مثل بنك الاعتماد السويسري أو اتحاد البنوك السويسرية كانت بالفعل مفلسة لولا مسارعة الدول لإنقاذها، وأكبر بنك في إنجلترا اضطرت السلطات الى تملكه مقابل ضخ 150 مليار جنيه استرليني كانت تساوي أو تزيد على 180 مليار دولار.

يرى الدكتور منير راشد أن التحويلات التي أنجزت حتى بعد تظاهرات شهر تشرين الأول عام 2019 كانت شرعية بل هي تشكل ارضية رئيسية لاستعادة تدفق الأموال الى لبنان، وهو يعتبر أن برنامج صندوق النقد الدولي غير صالح، وهنا أقتبس بضعة أسطر من استخلاصات الدكتور منير راشد الذي يقول:

“سياسات صندوق النقد الدولي التي تحصر دور المصارف هي غير مناسبة حالياً. فاقتراحات صندوق النقد الدولي تشمل الاعتراف بخسائر كبيرة في القطاع… وتوصي بتضييق الاعتماد على المصادر التابعة للدولة. وهذا الاقتراح مخالف لقانون النقد والتسليف حيث ينص القانون في المادة 113 على أن الدولة مسؤولة عن تغطية خسائر مصرف لبنان (ومنها ودائع المصارف) وعلى الدولة واجب ضمان جميع الموجودات المالية”. وقد بيّن حاكم مصرف لبنان أن 65% من الدين العام مترسّب من التحويلات لعجز الكهرباء وفوائدها، وربما هنا سبب التهجمات البذيئة على الحاكم.

برنامج دراسة مروان مرشي ينطلق من ضرورة معالجة قرض اليوروبوند في المكان الأول وهو يشير الى أن بداية الأزمة انطلقت من توصيات حكومة حسان دياب بالامتناع عن تسديد فوائد هذا الإصدار بتاريخ أواسط شهر آذار من عام 2020.

وبعد تظاهرات شهر تشرين الاول التي انطلقت وتمنّع لبنان عن دفع مستحقات الفائدة كان الطلب الذي أطلقته الجماهير، استعادة حوالى 10 مليارات دولار حُوّلت لحسابات أصحابها في الخارج، والواقع أن هذه الأموال وغيرها ممّا يتوافر للبنانيين قد تكون، عند استعادة الثقة بالحكم وقطاع المصارف، النواة الضرورية لإحياء الاقتصاد اللبناني.

بالمناسبة نشير الى أن تحويلات اللبنانيين الى لبنان خلال 2007/2008 بلغت 24 مليار دولار وساعدت على تحقيق فوائض على حساب ميزان المدفوعات حتى عام 2013.

إضافة إلى برنامج مروان مرشي لاستعادة نبض الحياة الإنتاجية خلال 3 سنوات، ظهرت بوادر المطالبة بتأسيس صندوق وطني تتكوّن موجوداته من المؤسسات المملوكة والمسيّرة من القطاع العام، وقد طالبت شخصياً بمعالجة قضيّة الكهرباء بتحويل مسؤولية الإنتاج والإمداد وتركيب العدادات الإلكترونية والفوترة والجباية الى القطاع الخاص منذ عشر سنوات، ولم يكن هنالك من متحمّس لهذه الخطوات… وبالتالي لا بدّ من التشديد على ما يأتي:

الابتداء بمعالجة دين اليوروبوند البالغ أساساً 32 مليار دولار قبل احتساب الفوائد والذي يحظى بخطة متكاملة في معالجة مروان مرشي، والمبادرة الى تأليف هيئة مستقلة لشؤون الطاقة – أي الكهرباء والمياه ومعالجة النفايات، ثم التدرّج في تخصيص خدمات الهاتف والانترنت وتخصيص نسبة ملحوظة من الريجي وإنجاز اتفاقات تسيير وإدارة المرافئ وتخصيص المصفاتين في طرابلس والزهراني ومطار رينه معوض، وتعزيز خدمات الصحة – في عهد الأوبئة الصحية والحكمية – وإعطاء لبنان وأهله بصيص الأمل، وكل ذلك يستوجب حكومة لا تشمل من يماثل نائب رئيس مجلس الوزراء أو وزير الطاقة، وصاحب الصوت العالي وزير الشؤون الاجتماعية.

مروان اسكندر

موازنة رفع عتب لـ IMF وتدميرية للشعب والاقتصاد

صُدّقت ونُشرت موازنة 2022 وبدأ تنفيذها. هذه الموازنة عينها التي هوجِمت على المنابر، ورُفعت الشعارات الشعبوية من أكثرية نواب الأمة، ومن ثم صوّتوا عليها حينما جاءتهم كلمة السر.

هذه الموازنة “العجائبية” هي في الحقيقة موازنة ضريبية بامتياز، ستُطبّق على شعب منهوب، واقتصاد مهترئ. فالموازنات في البلدان عادةً تُمثّل رؤية واضحة للسنوات المقبلة، بالتوازي مع خطة استراتيجية تُواكبها.

 

الموازنة تبدأ بنية مزدوجة مع الرؤية، ومن ثم استراتيجية على المدى القريب، المتوسط والبعيد، وخطة تنفيذ وخصوصاً ملاحقة.

 

وإذا نظرنا اليوم حولنا، من الواضح أن لا نيات صافية، ولا شبه رؤية، ولا استراتيجية إلاّ الإستراتيجية التخريبية، ولا خطة إلاّ الخطط الشعبوية لمتابعة الإنهيار، ولا ملاحقة إلاّ ملاحقة الأبرياء.

 

هذه الموازنة الضريبية ستطعن القلوب والأيادي البيضاء، وستُحفّز التهريب وتبييض الأموال.

 

إذا ركّزنا على التنفيذ، نتساءل مَن سيُنفذ هذه الموازنة؟ أهي الدولة العاجزة عن دفع أجور ورواتب ونقل موظفيها؟ وقرطاسية وحبر وأقلام وزاراتها؟ وهل المراقبون على تنفيذ هذه الموازنة هم الذين يقبضون الرشى بالدولار الفريش، والذين سيُلاحقون بشفافية هذا المشروع الوهمي؟ علماً أن التنفيذ والملاحقة هما كلمتان لن توجدا في قاموس الدولة والسياسة في بلدنا المنهار.

 

من جهة أخرى، نتساءل كيف يُمكن تسديد العجز بالضرائب، وهذا أخطر وأسوأ هدف مستحيل. فالضرائب ستُعمّق الفجوة، وتزيد الإنهيار، والتدمير الذاتي.

 

إن تخفيض العجز لم ولن يكون إلاّ بإعادة الحركة الإقتصادية، والنمو المستدام وجذب الإستثمارات والمستثمرين، خلافاً لهذه الموازنة الضريبية والتي ستُهرّب ما تبقّى من الإستثمارات، وتزيد الإنكماش والإنهيار.

 

نتفهّم مطالبة صندوق النقد الدولي، وعملية حساباته التي تنص على زيادة الضرائب التي ستزيد مداخيل الدولة، لكن هؤلاء يغفلون أن كتب اقتصاد لبنان والمنطق المالي والضرائبي يختلف تماماً عن المحاسبة والإقتصاد الدولي. ففي لبنان عندما ترتفع الضرائب، تنخفض مداخيل الدولة ويتضاعف التهريب وينمو الإقتصاد الأسود على حساب الإقتصاد الأبيض.

 

إضافة إلى ذلك، نتساءل على مَن ستُفرض هذه الضرائب، على شعب منهوب؟ والذي سُرقت ودائعه، وهُدرت مداخيله بأكبر أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخ العالم؟ وهل ستُنفذ على شعب دُمّرت منازله وشركاته بثالث أكبر انفجار في تاريخ العالم؟ وعلى شركات لن يؤمّن لها أقلّ حاجاتها وحاجات الشعب، من البنى التحتية والخدماتية مثل الكهرباء والمياه والإتصالات؟

 

إن هذه الموازنة الضريبية ورفع العتب على الصندوق، هي موازنة لن تُطبّق، ولن تُبصر النور عملياً، لكن مرّة أخرى نشهد مشاريع عشوائية، ووعوداً كاذبة، في ظل غياب أي نية صافية واستراتيجية واضحة، وخطة تطبيقية، وملاحقة دقيقة.

د. فؤاد زمكحل.

لماذا تُصرّ الحكومة على ابتلاع الودائع؟

في ظلّ الانتظام السياسي، ومع وجود رئيسٍ للجمهورية، وحكومة مكتملة الأوصاف والصلاحيات، وفي منتصف الولاية الرئاسية، حين يكون العهد لا يزال قوياً، عجزت الدولة بكل سلطاتها التنفيذية والتشريعية عن إطلاق خطة للتعافي والبدء في الخروج من النفق. فهل يمكن ان تنجح اليوم، في غياب رئيسٍ للجمهورية، ومع حكومة تصريف أعمال منقسمة على نفسها، ومع سلطة تشريعية تتكوّن من القوى نفسها التي تتصارع داخل وخارج الحكومة؟

مع انتهاء العام 2022، يكون مرّ شهران ونيف من السنة الرابعة من عمر أزمة الانهيار المالي، من دون ان تبرز حتى الآن معطيات تسمح بالقول انّ مرحلة الخروج من النفق سوف تبدأ عمّا قريب. وقد بات واضحاً انّ ادارة الأزمة كانت أسوأ من الأزمة نفسها.

 

ماذا ينبغي ان نتوقع في المرحلة المقبلة؟ هل يمكن للوضع ان يسوء اكثر؟ وما هي فرص تغيير المشهد والانتقال إلى مرحلة التعافي التدريجي؟

 

في مقارنة بين الوضع المالي عشية 17 تشرين الاول 2019، والوضع اليوم، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

 

اولاً- كان البنك المركزي يمتلك في حساباته حوالى 32 مليار دولار، تراجعت اليوم إلى حوالى 10 مليار دولار، بما فيها حقوق السحب الخاصة (SDR) ومن دون احتساب المطلوبات، ومن ضمنها مستحقات فواتير ينبغي على مصرف لبنان تسديدها.

 

ثانياً- كانت المصارف التجارية تمتلك في حساباتها الخارجية والداخلية حوالى 6 إلى 7 مليار دولار، وفق التقديرات القائمة في حينه، وكانت سجلاتها تشير إلى موجودات تقترب من 210 مليار دولار، من ضمنها حوالى 177 مليار دولار كودائع. وكان هناك عدد منها، يعتمد بنسبة لا تقلّ عن 30% في تحقيق وحداته الخارجية الارباح. اليوم، تراجع حجم الودائع إلى اقل من 100 مليار دولار، وتراجعت محفظة القروض للقطاع الخاص من حوالى 50 مليار دولار إلى ما دون الـ20 ملياراً، وباعت المصارف في غالبيتها كل استثماراتها في الخارج، ولم يتبقَ من السيولة في الداخل والخارج سوى النذر اليسير. أما الرساميل التي بلغت 22 مليار دولار، فإنّها مهدّدة بالتراجع الى حوالى 3 مليار دولار، مع بدء احتساب سعر صرف الدولار الرسمي على 15 الف ليرة، بدءاً من الاول من شباط 2023.

 

ثالثاً- كان حجم موازنة الدولة حوالى 17 مليار دولار، أصبح اليوم أقل من مليار واحد.

 

رابعاً- كان حجم الاقتصاد يبلغ حوالى 55 مليار دولار، تراجع اليوم الى حوالى 18 مليار دولار، ولو انّه أعلى بقليل من الناحية الإسمية بسبب زيادة حجم الاستيراد اصطناعياً، ربطاً بالاحتياطات التي اتخذها المستوردون الكبار مع الاعلان المسبق عن النية في زيادة سعر الدولار الجمركي.

 

خامساً- كان معدّل الاجور في لبنان، في القطاعين العام والخاص، إعلى من 1000 دولار، أصبح اليوم حوالى 150 دولاراً.

 

هذه بعض من المعطيات المالية والاقتصادية التي تدل بوضوح إلى ما استهلكته السنوات الثلاث الماضية من دولارات، ومن فرص إنقاذية كان يمكن انجازها بأثمان مقبولة.

 

اليوم، لا تزال فرص الإنقاذ قائمة، ولو انّ الأثمان أصبحت باهظة اكثر، والوجع اكبر. وفي حسبة بسيطة، يتبيّن انّ مصرف لبنان لا يزال يحوز على حوالى 25 مليار دولار بين الاحتياطي من العملات والاحتياطي من الذهب. ولا تزال الدولة اللبنانية تمتلك كل اصولها العقارية ومؤسساتها العامة. ولا تزال المصارف قادرة على تلبية ما يُطلب منها في التعاميم التي يصدرها مصرف لبنان، ومن ضمنها التعميم 158 لإعادة الودائع حتى مبلغ 50 الف دولار، رغم انّ المركزي عاجز حتى الآن، عن إعادة ودائع المصارف لديه، والتي تقدّر بحوالى 82 مليار دولار.

 

هذه الوقائع تشي بإمكانية البدء في خطة للتعافي للخروج من الأزمة تدريجياَ. ومع ارتفاع حجم تحويلات المغتربين إلى لبنان، والتي وصلت إلى 6,8 مليار دولار، من دون احتساب الاموال التي دخلت من يد إلى يد. ومع الأخذ في الاعتبار وجود مليارات الدولارات في المنازل، يمكن القول انّ لبنان قادر على الخروج من الأزمة في فترة قياسية نسبياً، رغم انّ أزمته عميقة وحادة ومُصنّفة ثالث أسوأ أزمة شهدتها الدول في تاريخها الحديث.

 

المطلوب في هذه الحالة، عودة الانتظام السياسي اولاً، ومن ثمّ تخلّي السلطة عن فكرة ابتلاع الودائع، ورفض المشاركة في تمويل الإنقاذ من خلال الاختباء وراء صندوق النقد الدولي، بذريعة انّ الصندوق يرفض المس بأصول الدولة او عائداتها خلال السنوات المقبلة. ينبغي تغيير العقلية التي تقارب فيها السلطة المفاوضات مع الصندوق، وستكتشف انّ امكانيات التفاهم مع صندوق النقد على خطة تُنقذ الاقتصاد، وتعيد الانتظام المالي إلى البلد من دون ابتلاع حقوق المودعين، او التسبّب بإفلاس القطاع المالي، موجودة وكبيرة، وكل المطلوب التحلّي بالعقلانية والواقعية في المفاوضات، والأهم وجود نية حقيقية للوصول الى هذا الهدف. وأخيراً، من المعيب والمشين ان نصل إلى مرحلة أصبحت فيها السلطة التي أهدرت وسرقت الاموال، تضغط على المصارف اليوم لدفعها إلى القبول بمشروع شطب الودائع!

انطوان فرح

أزمة أرقام بين مصرف لبنان والبنك الدولي

يلاحظ المراقبون انّ الحركة الاقتصادية في البلد شهدت تغييرات في خلال العام 2022، بحيث انّ الوضع بات يختلف عمّا كان عليه في العام 2021. فهل هناك فعلاً حركة نمو، أم انّه وهم مرتبط بعوامل نفسية، وعوامل ظرفية، توحي بذلك، في حين انّ الأزمة تتجّه نحو مزيد من التعقيدات والبؤس والمخاطر في المرحلة المقبلة؟

يستند الناس في حكمهم على الحركة الاقتصادية على ما يشهدونه من ملاحظات في حياتهم اليومية. هذه الملاحظات توحي للبعض بأنّ «البلد ماشي»، رغم الأزمة: حركة المبيعات في بعض الاسواق ناشطة، المطاعم مفوّلة، حركة السير كثيفة رغم الارتفاع الجنوني في اسعار المحروقات، الكثير من الاعمال الحرفية والمهنية باتت مُسعّرة بالدولار، ومع ذلك جدول العمل لدى هؤلاء مليء بالمواعيد…

 

في المقابل، تستند الدوائر الاقتصادية والمالية المتخصصة إلى الارقام والمعايير الثابتة في تقييم نسب النمو، وترصد المؤشرات في قراءة الاتجاهات التي قد يسلكها الاقتصاد في المستقبل. لكن المفارقة، انّ لغة الارقام لم تكن موحّدة بالنسبة إلى هذه المؤسسات. ولعلّ التناقض النافر ظهر بين تقديرات البنك الدولي الذي تحدث عن نمو سلبي (انكماش) في العام 2022 سيصل إلى ناقص 5,4%، وبين إحصاءات وتقديرات مصرف لبنان التي تتحدث عن نمو نسبته 2%. وهذا ما أكّده حاكم المركزي في إطلالته التلفزيونية الأخيرة مع قناة «الحرة».

 

هل بدأ الاقتصاد فعلاً يتأقلم مع الوضع القائم، إلى حدّ الانتقال من الانكماش إلى النمو قبل البدء في خطة للتعافي، وقبل معالجة أزمة التوقف عن الدفع (الافلاس)، ومعالجة الوضع المصرفي ليعود إلى دوره الطبيعي؟

 

لا شك في انّ الاختلاف في التقديرات بين مصرف لبنان والبنك الدولي نافر، لأنّ الاختلاف في الرأي بالنسبة إلى النمو تحديداً كان يحصل في الماضي، قبل أزمة الانهيار، لكن الفارق لم يكن يتجاوز الـ1 أو2 في المئة في الحالات الاستثنائية. في حين انّ فارق التقديرات اليوم وصل إلى 7,4%.

 

من الواضح انّ مصرف لبنان يستند في إحصاءاته على وقائع قائمة، لكنها لا تعكس المسار الذي سيسلكه الاقتصاد لاحقاً، ولا تعكس في بعض الجوانب النمو الحقيقي الذي غالباً ما ينعكس على الحركة الاقتصادية، ويلمسه المواطن، ولو بنسبة ضئيلة. ومن هذه الظواهر والحقائق ما يلي:

اولاً- انّ حجم تدفق الدولارات إلى لبنان لم يحافظ على وتيرته المرتفعة قياساً بحجم الاقتصاد فحسب، بل انّه ارتفع.

ثانياً- انّ حجم الاستيراد زاد بما لا يقل عن نسبة 20% عمّا كان عليه في العام 2021.

ثالثاً- نشطت الحركة السياحية في الصيف، وسجّلت المطاعم والمقاهي حركة عمل ناشطة، وحتى بعد انتهاء موسم السياحة، استمرت الحركة وفق وتيرة جيدة.

رابعاً- رغم الارتفاع الهائل في اسعار المحروقات الناتج من تراجع قيمة الليرة، ووقف كل انواع الدعم على المادة، وارتفاع الاسعار عالمياً، وارتفاع اسعار الشحن والنقل، إلّا انّ الكميات المستوردة لم تنخفض سوى بنسبة تُعتبر ضئيلة قياساً بالأسباب الآنفة الذكر، بما يوحي بأنّ اللبناني لا يزال يتمتّع بقدرة شرائية مقبولة.

خامساً- ارتفعت الرواتب في القطاع الخاص بنسب متفاوتة. وهناك عدد كبير من المؤسسات باتت تدفع الرواتب بالدولار او تقسّم الراتب إلى دولار وليرة. وهذا الامر اتضح بسبب الضجة التي أُثيرت في شأن مشروع ضرائب الدخل الجديدة، بما يوحي بوجود نسبة لا بأس بها من اللبنانيين العاملين في القطاع الخاص باتوا يتقاضون رواتبهم بالدولار.

 

هل كل هذه المؤشرات كافية للقول انّ إحصاءات المركزي أكثر دقة من البنك الدولي، وانّ النمو موجود فعلاً، بصرف النظر عن نسبته؟

 

اللافت في هذا الموضوع، انّ تقديرات صندوق النقد الدولي للنمو في اقتصادات العالم جرى خفضها أخيراً بعد آخر تحديث للإحصاءات، بحيث تبين انّ معدل النمو في العالم قد ينخفض إلى ما دون الـ2%. وهذا يعني انّ الاقتصاد اللبناني المفلس حقق نمواً يعادل معدل النمو العالمي!

 

لا شك في انّ مظاهر التأقلم مع الأزمة في لبنان قائمة وحقيقية. لكن التأقلم لا يعني انّ الاقتصاد خرج من الأزمة وبدأ مسيرة الانتعاش. وكل الوقائع التي يستند اليها إحصاء النمو الحالي، إن وجد، مموهة او مؤقتة. الاستيراد ارتفع استباقاً للدولار الجمركي، انخفاض استيراد المحروقات بنسبة ضئيلة واستمرار حركة السير ناشطة سببهما انعدام وسائل النقل البديلة للمواطن للذهاب إلى مقر عمله. ارتفاع تدفق الدولارات قد يعكس زيادة حالات البؤس بما يضطر اللبنانيين العاملين في الخارج إلى إرسال المساعدات.

 

إلى ذلك، ينبغي الأخذ في الاعتبار الدولارات التي سُحبت من المصارف بناءً على التعميم 158، والتي بلغت حتى الآن حوالى 600 مليون دولار. جزء من هذه الدولارات جرى ضخه مجدّداً في السوق، لكن ذلك يعني ايضاً انّ المواطن يستنفد مدخراته ليؤمّن معيشته اليومية في هذه الأزمة.

 

خلاصة الامر، وبصرف النظر عن وجود نمو ايجابي كما يقول مصرف لبنان، ام انكماش كما يؤكّد البنك الدولي، ما هو اكيد انّ الاقتصاد مكربج، والاستثمارات الخارجية غير موجودة، والاستثمارات الداخلية الضئيلة، لا تبقي على أرباحها في الداخل، بل تعمل على إخراجها، والتفاوت الطبقي ينمو بشكل خطير يهدّد بالانفجار الاجتماعي. كل ذلك يعني انّ استمرار التأخير في البدء بالحل يزيد الأزمة صعوبة، ويزيد الكلفة على الجميع. ولا خلاص سوى بالاعتراف بالحقائق واستعجال المعالجة، قبل الوصول إلى وضع أسوأ بكثير من الوضع الحالي.

انطوان فرح

الوعود باسترجاع الودائع حلم أم حقيقة؟

مشروع استرجاع الودائع، والوعود الوهمية التي تتردّد، بات «سمفونية يومية»، من دون أي نتيجة عملية تُذكر. هذه الوعود الكاذبة والشعارات الفارغة تذكّرنا بوعود محاربة الفساد، حيث الذين يتبارون ويتنافسون على المنابر، ويُنادون بمحاربة الفساد هم اكبر الفاسدين، وهم أيضاً الذين يعدون باسترجاع الودائع المصرفية، وهم أنفسهم الذين أهدروها.

يبلغ مجموع قيمة الودائع المصرفية اليوم، تقنياً وبكل موضوعية، بين 15% و17%، لعملية صرف أي وديعة، بحسب سعر صرف السوق السوداء، وتحصيل ما تعادله بالـ»الفريش كاش».

 

الحقيقة المرة، التي علينا أن نقتنع بها في الوقت الحالي، أن الودائع المصرفية ليست لسوء الحظ مختبئة، في صناديق ما أو دهاليز، لكنها أُهدرت، وصُرفت وسُرقت. والمعنيّ الأول والمسؤول الأساسي باسترجاعها هو الدولة اللبنانية، التي صرفت وهدرت هذه الأموال. لكن لو توافرت النيات، كنا شاهدنا في هذه السنوات الثلاث الأخيرة، خطة إستراتيجية لبيع بعض العقارات، وإعادة هيكلة بعض المؤسسات، وبناء صناديق سيادية، لهذا الهدف.

 

لكن بعد ثلاث سنوات، من أكبر أزمة إقتصادية، وإجتماعية، ومالية ونقدية في العالم، لم تجرؤ الدولة على إتخاذ أي خطوة، أو مبادرة لتسديد الديون المتراكمة على عاتقها.

 

فالعملية الجارية عبر أمطار من التعاميم، (تعميم 151، 158، 161) التي بموجبها تُدفع بعض الودائع بـ»الملاليم» بخسارة أو «هيركات» يُراوح بين 75% و80%.

 

هذا يعني أن ليس هناك أي نية جدية من قبل الدولة لإسترجاع الودائع، وهدفها المبطّن هو دفعها بالليرة اللبنانية بالتقسيط، وبعد تراكم خسائر فادحة.

 

إضافة إلى ذلك، حتى قانون «الكابيتال كونترول»، الذي يتباحثون به منذ ثلاث سنوات، بدلاً من إقراره بعد أيام من الأزمة، يُبرهن أن لا نية جادة للتعامل مع هذه الكارثة وعملية النهب التي تتكامل، حيث لا يوجد بعدئذ أي «كابيتال» ولا نية أو قدرة على «الكونترول».

 

على صعيد المصارف، فهي تحت المقصلة، يربط حبل السكين الدولة التي لا تريد إصلاحها ولا إعادة هيكليتها، ولا حتى إفلاسها. فمصيرها معلّق بالهواء، مع مصير المودعين المفجوعين والمنهوبين. وحتى لو باعت المصارف بعض أصولها لن تستطيع استرجاع الودائع المتراكمة في المصرف المركزي، وقد أصبحت حبراً على ورق. وبعض المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، تطلب شطبها من سجلات المصرف المركزي.

 

ولو ذهبنا إلى أقصى الحدود، وأُفلست المصارف، مثلما البعض يطالب ويُراهن، فلن يُحصّل المودعون أكثر من 10% من الودائع، وبعد حروب ودعاوى ومحاكم طويلة الأمد.

 

أما في موضوع المردود من الغاز والبترول، الذي يعد السياسيون به، فعلينا أن نكون واقعيين، وندرك تماماً أننا لن نحصل على سنت واحد من المردود من هذه الموارد الطبيعية، سوى بعد سنوات بعيدة وطويلة، وإذا حصلت بأعجوبة، فستُهدرها الدولة، ويتقاسمها السياسيون، مثل عاداتهم التي باتت معروفة منذ عقود. ولن يرى المودعون المنهوبون منها سنتاً واحداً.

 

الحلّ الوحيد لإسترجاع الودائع تقنياً اليوم، هو فقط باستعادة الدولة الدورة الإقتصادية، وجذب الإستثمارات الخارجية، واستقطاب الدولار «الفريش» إلى السوق المحلية، وتنشيط الحركة والتبادل التجاري، وخصوصاً التصدير. فهذا هو الحل الوحيد لإسترجاع الودائع بالدولار وبالتقسيط، حسب الأرباح الجديدة التي سيتقاضاها الإقتصاد.

 

في الخلاصة، إننا نقفز من أزمة إلى أخرى، والجمود سيّد الموقف، وفقدان الثقة يزداد يوماً بعد يوم، بين اللبنانيين لبعضهم البعض، وأكثر مع الدولة، وأكثر بين المجتمع الدولي والدولة الفاسدة، ولا يوجد حتى الساعة أي نية حقيقية لمشروع إنقاذي، لا بل ثمة مشاريع تخريبية تتواصل، والتدمير يستمر، والشعب يدفع الثمن، ويُنهب يوماً بعد يوم.

د. فؤاد زمكحل

أخطاء معرفية مضرّة بالاقتصاد اللبناني

الأزمة التي يمر بها #لبنان لم يشهد ما يماثلها في تاريخه منذ الاستقلال حتى اليوم، والتعليقات الكثيرة من معلقين سياسيين واختصاصيين اقتصاديين تضيف الى مناخ اللاقرار أبعاداً مخيفة.
نريد أن نعرض في هذا المقال أخطاءً شائعة أصبحت تمثل قناعات اللبنانيين العاديين غير الملمّين بالشأن الاقتصادي.
أولى هذه الشائعات وأسوأها أن الدخل القومي أصبح على مستوى 22 مليار دولار أي ما يساوي 40% من مستوى الدخل القومي المقدَّر عام 2018 بـ55 مليار دولار.

سبب الخطأ في التقدير يعود الى أن دراسة الإحصاءات الحيوية لا يجريها معلقون سياسيون كما لا يحتسب الاقتصاديون حجم الاقتصاد غير الرسمي وتأثيره على مستويات الدخل وعلى مستويات الكفاية وكيف يمكن حقيقةً إنجاز تقدير للاقتصاد غير الرسمي، ونحن نقدّره بنسبة 30% من الدخل القومي لأن هذا الاقتصاد يشمل اقتصاد إنتاج وتجارة المخدرات، يشمل استيراد وتصدير #المشتقات النفطية على مدى سنتين أو ثلاث ودعم هذه المستوردات ومن ثم تصديرها الى سوريا، وقد أعطينا في مقال سابق عن تقدير حجم تسريب المشتقات استناداً الى الإحصاءات العامة غير القابلة للتلاعب الرقمي. فمستوردات لبنان من المشتقات بلغت عام 2013 حوالى 4.8 مليارات دولار، وعام 2014 بلغت 8.8 مليارات دولار، ولم يكن هناك مبرّر لارتفاع أسعار المشتقات في ذلك التاريخ يفسّر هذه الارقام، وقد أشرنا إليه في جلسة مع خبراء البنك الدولي وتمنينا على ممثلهم في السنتين المذكورتين أن يستوحي من كبار تجار المشتقات أسباب التفاوت، وحينما استعلم خبراء البنك الدولي عن السبب بلغهم الجواب بأن الفارق في الأسعار يعود الى استمرار استيراد الكميات ذاتها ومن ثم تصدير 35-40% منها الى سوريا.

 

إضافة الى تسريب المشتقات المدعومة حينذاك الى سوريا، الضغط على ميزان المدفوعات اللبناني كان كبيراً لاستيراد الكمّيات ذاتها لكن العائد من بيع نسبة 30-40% لم يتوافر للبنان وإن كان جزء منه توافر لأن أحد كبار تجار النفط في سوريا كان يملك 20% من أسهم بنك في لبنان كان يتفاخر كل سنة بأنه البنك الذي يفتح أكبر الاعتمادات لاستيراد النفط.

اليوم نشاهد مظاهر التلاعب في الأرقام عبر برامج مخصصة لبحث الشأن الاقتصادي. معلوم أن محطة MTV أصبحت بتنوّع برامجها الأولى على صعيد الإعلام المرئي والمسموع، وأصحاب المحطة يبادرون الى مساندة الشأن العام بحملات التبرّع للمصابين بأمراض تستوجب العلاج في الخارج ويسهمون مع وزارة الاشغال بطمر الحفر التي تضر بالسيارات وتعوق حركة السير.

لقد أدخلت الـMTV برنامجاً اقتصادياً تقدّمه لفترة 5 دقائق كل يوم سيدة محتشمة أنيقة الثياب وحركة اليدين تحاول تبيان أسباب تردي الاقتصاد، وهي لا تعلم عن الاقتصاد سوى ما يسطره لها موظفو المحطة وبالتالي تقع في أخطاء تضر بالسامعين وصاحبة البرنامج. فعلى سبيل المثال قبل فترة قريبة أوردت أرقاماً عن المستوردات وأرقاماً عن الصادرات والتفاوت بينهما، ومن هنا استنتجت أن الدخل القومي انحسر بقوة، وكأن المستوردات والصادرات تشكلان عناصر تحديد الدخل القومي، وهي تجاوزت تأثير نفقات القطاع العام التي توازي 70% من الرقم الذي وفرته للدخلالقومي. وفي الوقت ذاته لم تتذكر أو هي تجاوزت ذكر تأثير التحويلات المالية والاستثمارية التي كانت دائماً السند الاساسي للاقتصاد اللبناني.

مؤخراً تناولت أرقام صندوق الضمان الاجتماعي وقد بادرت الى القول إن موارد الصندوق تتحصّل من الاشتراكات التي يدفعها أرباب العمل عن عمالهم، والجزء الذي يتوافر من العمال، ولم تشر الى أن الدولة مجبرة على تغطية نسبة ملحوظة من أكلاف فرع المرض والامومة الذي هو الفرع الاكبر في عدد المنتسبين إليه، كل ما قالته أنه يستحق على الدولة 5000 مليار ل.ل دون أن تذكر أن هذه اشتراكات أساسية من نظام الضمان ودون أن تذكر أن فرع المرض والامومة يغطي حوالى 1.5 مليون لبناني ولبنانية فيما تعويضات نهاية الخدمة لا تغطي أكثر من 150 ألف لبناني ولبنانية.

إن تعليقات من النوع المشار إليه بالغة الضرورة لأنها لا تبيّن حقيقة الالتزامات المالية ونسبة المستفيدين منها، والأمر المثير للعجب إدخال البرنامج وكأنه طُوّر لتغطية نقص في الإعلام الاقتصادي علماً بأن محطة MTV لديها أفضل مقدمة للشؤون الاقتصادية في لبنان وكانت حصلت على خبرة كبيرة في العمل في تلفزيونات #الخليج العربي.
ولا ننسى أن برنامج مارسيل غانم يطرح أحياناً القضايا الاقتصادية الاساسية ويحوز عدداً من المعلقين، بعضهم يستحق السماع إليه والبعض الآخر يستحق المعاقبة بالإرسال الى كليات لتعليم شؤون الاقتصاد والاعمال… واللبناني المستمع يتحمّل شظايا أغلاط اللااقتصاديين.

مروان اسكندر

هيركات على «الدولار البلدي» من 73 إلى 50%

هل يُعتبر الاول من شباط 2023، محطة مفصلية في الوضع المالي والاقتصادي، وهو الموعد المبدئي للانتقال إلى سعر صرف رسمي جديد لليرة مقابل الدولار، أم انّه مجرد محطة ثانوية لن تبدّل في المعطيات القائمة، خصوصاً اذا استمر النزف المالي، والمراوغة السياسية التي أدّت حتى الآن إلى عقمٍ أحبط كل محاولات الخروج من النفق.

رقم الـ15 سيكون طاغياً على المستوى المالي في المرحلة المقبلة. الدولار الجمركي أصبح مُسعّراً على 15 الف ليرة. وكذلك سعر صرف الدولار الرسمي سيصبح 15 الف ليرة بدءاً من اول شباط 2023. وفي التوقيت ذاته، سيتمّ رفع السحب من الودائع الدولارية المحلية على التعميم 151 من 8 آلاف الى 15 ألفاً. والأمر نفسه سيجري تطبيقه على التعميم 158، حيث سيرتفع سعر السحب باللبناني من 12 الفاً الى 15 الفاً.

 

هل يعني ذلك انّ الاول من شباط سيكون محطة مهمّة في الطريق نحو توحيد اسعار الصرف، وهو من الامور التي يطالب بها صندوق النقد الدولي؟

 

«تسعيرة» الـ15 الفاً، ستعطي الانطباع بأنّ عملية توحيد سعر الصرف قد اقتربت. لكن الاسئلة المطروحة كثيرة ومتشعبة بانتظار هذا الموعد، ومنها:

 

اولاً- ما المستوى الذي سيبلغه سعر الصرف في السوق السوداء من الآن، وحتى شباط؟ حالياً، واذا افترضنا انّ سعر دولار منصة صيرفة هو حوالى 30 الف ليرة، والمودع يسحب على سعر 8 آلاف ليرة، فهذا يعني انّ نسبة الهيركات على الدولار «البلدي» تصل الى 73%. وفي حال بقي الدولار على سعره الحالي، فإنّ نسبة الهيركات سوف تنخفض إلى حوالى 50%. فهل هذا الامر وارد، ام انّ الدولار سيواصل ارتفاعه إلى مستويات يعود معها الهيركات إلى نسبته القائمة اليوم؟

 

ثانياً- كيف سيتمّ التعاطي مع مسألة القروض الدولارية التي كان يتمّ تسديدها على الـ1500 ليرة؟ وفي هذا السياق، هناك مروحة واسعة من هذه القروض، منها الشخصية او السكنية وصولاً إلى القروض الاستثمارية.

 

ثالثاً- ما هي الانعكاسات المتوقعة على ميزانيات الشركات التي كانت لا تزال تعتمد تسعيرة الـ1500 في قيودها المحاسبية؟ وهل من تأثيرات استثنائية على ملف إعادة هيكلة المصارف؟

 

لا شك في انّ سعر الـ15 الف ليرة للدولار محطة في طريق توحيد سعر الصرف. هذه المحطة لا ينبغي ان تستمر لفترة طويلة، لأنّ إطالتها يعني انّه لم يتمّ الوصول الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وانّ الانهيار مستمر. ولن يطول الامر قبل ان يصبح هذا الرقم شبيهاً بمفاعيله بالرقم 1500 ليرة، سواء بالنسبة إلى التعاملات الرسمية، او للقيود المحاسبية في موازنات الشركات. وسيؤدّي ذلك إلى تسريع وتيرة التضخّم، بحيث انّ سعر العملة الوطنية سينهار دراماتيكياً، مقابل الاستمرار بزيادة الاجور وتكبير الكتلة النقدية في التداول.

 

بالنسبة إلى سعر الدولار من الآن وحتى شباط، ورغم صعوبة اعطاء تقديرات دقيقة، بسبب احتمال تدخّل مصرف لبنان في أية لحظة لدعم الليرة، وهذا ما أعلنه حاكم المركزي بصراحة في حديثه التلفزيوني الأخير، إلّا أنّ ذلك لا يمنع انّ الدولار سيواصل الارتفاع تدريجياً. وقياساً بالمنحنى القائم منذ سنة حتى اليوم، يمكن القول انّ احتمال وصول الدولار إلى فوق مستوى الـ50 الفاً في الاول من شباط، مرجّح حتى الآن.

 

في موضوع القروض، لا بدّ من تدخّل مصرف لبنان لتنظيم هذا الملف. ومن المرجّح أن يصدر تعميم او قرار عن المركزي قبل نهاية العام الجاري، يحدّد كيفية التعاطي مع القروض الدولارية. والترجيحات تفيد بأنّه سيتمّ تقسيم القروض إلى شرائح. ومن المؤكّد انّ شريحة القروض السكنية سيحظى اصحابها بوضعية خاصة في تسديد هذه القروض.

 

في موضوع الانعكاسات على وضعية ميزانيات المصارف، هناك اكثر من احتمال. وسبق لرئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي ان اعلن، بعد صدور تصريح وزير المالية المفاجئ في شأن تغيير سعر الصرف الرسمي، انّ التغيير لن يشمل رساميل المصارف، في اشارة إلى هذه الرساميل سيتواصل احتسابها على 1500 ليرة. لكن الأجواء السائدة اليوم، لا توحي بأنّ ما قاله ميقاتي سيبقى قائماً، ربما لأنّ صندوق النقد الدولي لن يوافق على هذا الاستثناء، ولو كان مؤقتاً بانتظار البدء في تنفيذ مشروع إعادة هيكلة المصارف. وبالتالي، ستكون هناك ورشة محاسبية لإعادة تقييم الملاءة في القطاع المصرفي، في ضوء الارقام الجديدة الناتجة من سعر الصرف الرسمي.

 

ويبقى سؤال أخير يتعلق بنهائية البدء في تنفيذ قرار رفع سعر الصرف في الاول من شباط. وفي هذا السياق، اصبح من الصعب تأجيل البدء في تنفيذ القرار، طالما انّ حاكم المركزي اعلن ذلك على الملأ، لكن القرار الرسمي لم يصدر بعد، وطالما انّه لم يصدر، فإنّ احتمالات التغيير تبقى قائمة ربطاً بالتطورات التي قد تفرض مثل هذا الأمر.

أنطوان فرح

واستفاقت الحكومة على الـbail-in… ماذا ينبغي أن نتوقّع؟

كثُر الحديث في الأيام الأخيرة عن الـbail-in كإجراء سوف تعتمده الحكومة في خطة التعافي واعادة هيكلة القطاع المالي. فهل ان هذا الاجراء عملي، ويمكن ان يكون جزءا من الحل؟ ولماذا تتجه الحكومة، أو من يرسم خطط الانقاذ فيها، الى هذا الاجراء اليوم؟

 

هناك لائحة من القواعد والمفاهيم التي يتم اللجوء اليها لمعالجة الأزمات المالية والاقتصادية حول العالم. لكن الاختيار بين سلة القواعد المتاحة، لا يتم بناء على مزاجية او رغبة من يملك حق الاختيار، بل وفق توصيفٍ للأزمة يتيح رؤية أفضل لنتائج هذا الخيار او ذاك. وبالتالي، لا توجد وصفات جاهزة يمكن إسقاطها على كل أنواع الأزمات المالية، بل هناك قواعد تصلح لأنواع محدّدة من الأزمات، وقد لا تصلُح لأزمات من نوع آخر.

 

في العادة، كان علم الاقتصاد، والبراغماتية بشكل عام، يدفعان في اتجاه الانقاذ عبر ما يُعرف بالـbail-out. وهذا ما فعلته، على سبيل المثال، الحكومة الاميركية في خلال أزمة 2008. اذ اضطرت الى التدخل لمنع انهيار قطاعها المالي، مع علمها المسبق بالنتائج التي قد تترتب عن السماح بهذا الانهيار. وهذا التدخل الرسمي لإنقاذ مصارف أخطأت في سياستها، كان موضع جدل عميق في واشنطن، قبل أن يُتخذ القرار.

 

في المقابل، دخل مفهوم الـbail-in حديثاً الى لائحة قواعد معالجة الأزمات المالية حول العالم. وتعتبر التجربة القبرصية من أوائل التجارب الحديثة التي جرى فيها اعتماد الـbail-in في العام 2013، لمعالجة الفجوة المالية في اكبر مصرفين على الجزيرة. هذه التجربة لا تزال موضع نقاش حتى اليوم، سواء لجهة قانونيتها ودستوريتها، أو لجهة النتائج التي أدّت اليها، وهل ساهمت فعلاً في الانقاذ، ام تركت تداعيات سلبية لا يزال الاقتصاد القبرصي يعاني منها حتى اليوم؟

 

بالنسبة الى المودعين الكبار في المصرفين القبرصيين، والذين تحولت ودائعهم الى أسهم وحقوق ملكية، خسروا قسماً من هذه الودائع بسبب الفارق بين سعر السهم كما جرى تخمينه في عملية التحويل (سعر اسمي)، وبين سعره الحقيقي في عمليات البيع والشراء. واعتبر ذلك بمثابة haircut فَرضَه الاتحاد الاوروبي على قبرص. ويؤكد كثيرون ان هذا الاقتطاع المموّه من الودائع في المصرفين المذكورين، انما اعتُمد كعقاب سياسي على اعتبار ان قسماً كبيراً من هؤلاء المودعين هم من الاثرياء الروس الذين استخدموا المصرفين لتهريب الاموال وتبييضها.

 

في عودة الى الوضع اللبناني، هناك مجموعة من الاسئلة ينبغي طرحها في موضوع الـbail-in، قبل المغالاة في دعم او انتقاد هذا الاجراء ضمن خطة الانقاذ:

 

اولاً – هل يمكن تطبيق الـbail-in على القطاع المصرفي بشكل عام، من دون الأخذ في الاعتبار الوضعيات المختلفة للمصارف، وقد شهدنا مؤخرا تدخل مصرف لبنان لإقصاء ادارة مصارف وتعيين مدير من قبله للاشراف على الانقاذ او تصفية هذه المصارف التي لم تعد قادرة على الاستمرار؟

 

ثانياً – ما هي النسبة التي سيتم اعتمادها في الـbail-in، وما هو السقف الذي سيجري تحديده لحجم الوديعة التي ستخضع لمثل هذا الاجراء؟ مليون، عشرة ملايين، 50 مليون دولار؟

 

ثالثاً – كيف سيتم تقييم الاسهم، وهل ستكون العملية مجرد اجراء صوري لتطبيق الـhaircut تحت مُسمّى آخر؟

 

رابعاً – هل يمكن تحديد الـbail-in قبل ان تقرر السلطة كيف ستتعامل مع ديونها، ومع ديون مصرف لبنان، ومع ودائع المصارف في مصرف لبنان والتي تقارب قيمتها الـ83 مليار دولار؟

 

خامساً – ماذا يضيف الـbail-in الى الحل، اذا لم تتم معالجة مشكلة الملاءة في القطاع المالي الناتجة عن عجز الدولة ومصرف لبنان عن اعادة الديون والمطلوبات الى المصارف؟

 

سادساً – هل هناك مودعون، على غرار المودعين الروس في قبرص، ترغب السلطة اللبنانية في الاقتصاص منهم، بقرار سياسي؟

 

الأزمة في لبنان ليست مجرد أزمة في القطاع المالي، ولا هي مجرد ازمة انهيار في قيمة النقد الوطني، ولا هي أزمة انكماش اقتصادي، بل انها مزيج من كل هذه العوامل، قادت اليها سياسة المالية العامة للدولة، بما يضفي عليها صفة الأزمة الشاملة التي تحتاج الى معالجات استثنائية. والقضية لا تتعلق بتأييد او رفض الـbail-in من قبل المودع، أو المصرف، بل تحتاج الى معالجة أعمق، تبدأ من الاجابة عن سؤال بسيط: هل نريد فعلاً حفظ حقوق المودعين؟ وهل المسؤول الاول عن الأزمة، أي الدولة، مستعدة للمساهمة في تعويض الخسائر، ام انها شريك مضارب، التهمت الودائع سنة بعد سنة، لسدّ العجز الناتج عن الانفاق والهدر والسرقات، وهي تدعو المودعين اليوم الى مسامحتها على طريقة عفا الله عمّا مضى؟

انطوان فرح

البنك الدولي يستبعد تعافي اقتصاد لبنان إذا استمر الشلل السياسي

دحض البنك الدولي ترقبات مصرف لبنان بتحقيق نمو إيجابي للناتج المحلي بنسبة 2 في المائة هذا العام، ليستخلص في أحدث تقديراته استمرار انكماش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 5.4 في المائة في العام الحالي، بافتراض استمرار حالة الشلل السياسي وعدم تنفيذ إستراتيجية للتعافي. ولينبّه بالتالي إلى ارتفاع المخاطر الاقتصادية للبلاد في ظل حالة عدم اليقين المستمرة منذ فترة طويلة، ما يؤكد ضرورة المضي قدماً في توزيع الخسائر المالية بصورة أكثر إنصافاً للمساعدة في وضع الاقتصاد اللبناني على مسار النهوض.

وفي توصيف لا يقل قساوة في مضمونه، أشار جان كريستوف كاريه المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي إلى «أن عمق الأزمة واستمرارها يقوضان قدرة لبنان على النمو، إذ يجري استنفاد رأس المال المادي والبشري والاجتماعي والمؤسسي والبيئي بسرعة وعلى نحو قد يتعذر إصلاحه. وعلى لبنان اعتماد حل منصف وشامل على وجه السرعة يعيد الاستقرار للقطاع المالي ويضع الاقتصاد على مسار التعافي».

وبرزت هذه الاستنتاجات ضمن ملخص التقرير الأحدث لمرصد الاقتصاد اللبناني، الذي يصدر دورياً عن المؤسسة الدولية، والذي تناول التطوُّرات الاقتصادية الأخيرة والآفاق والمخاطر الاقتصادية للبلاد، مستخلصاً منها تموضع لبنان في الصفوف الأخيرة للترتيب العالمي الذي يقيس الأداء الكلي للاقتصادات الوطنية، ومرجحاً أن يتبوأ مركز «الأسوأ» ضمن المجموعة المحددة من الدول التي انحدر إلى خانتها، وتضم زيمبابوي واليمن وفنزويلا والصومال.

وإذ حمل التقرير عنواناً لافتاً بأنه «حان الوقت لإعادة هيكلة القطاع المصرفي على نحو منصف»، فقد رجّح أن يؤدي الفراغ السياسي غير المسبوق إلى زيادة تأخير التوصل لأي اتفاق بشأن حل الأزمة وإقرار الإصلاحات الضرورية، ما يعمّق محنة الشعب اللبناني. ليؤكد بالتالي، أنه بعد مرور أكثر من 3 سنوات على نشوب أسوأ أزمة اقتصادية ومالية في تاريخ لبنان، لا يزال الخلاف بين الأطراف المعنية الرئيسية حول كيفية توزيع الخسائر المالية يمثل العقبة الرئيسية أمام التوصل إلى اتفاق بشأن خطة إصلاح شاملة لإنقاذ البلاد.

وتشير التقديرات الواردة في التقرير إلى انكماش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 5.4 في المائة عام 2022، بافتراض استمرار حالة الشلل السياسي وعدم تنفيذ إستراتيجية للتعافي. ونظراً لتوفُّر بيانات أفضل مما كان متوقعاً سابقاً، فإن البنك الدولي يعدّل تقديراته لانكماش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي للعام الماضي إلى 7 في المائة بخلاف نسبة 10.4 في المائة المقدرة سابقاً. مع التنويه بأن الانكماش في الناتج الذي شهده لبنان منذ عام 2018 والبالغ 37.3 في المائة، يُعد من بين أسوأ معدلات الانكماش التي شهدها العالم، ما يقوض قدرة الاقتصاد على التعافي.

وفيما يخلص التقرير إلى أن الأزمة الحالية ستعزِّز على الأرجح مستويات الدولرة المرتفعة، حتى بعد تحقيق التعافي، فإنه يلاحظ أنه رغم تدخلات مصرف لبنان لمحاولة تثبيت سعر الصرف في السوق الموازية على حساب الاحتياطي بالعملات الأجنبية الآخذ في التناقص، فإن الانخفاض الحاد في قيمة الليرة اللبنانية مستمر. وهو ما أدى إلى دخول معدل التضخم في خانة المئات منذ صيف العام 2020، ويتوقّع أن يبلغ متوسطه 186 في المائة العام الحالي. وبذلك، فهو من بين أعلى المعدلات عالمياً. كما يُعد لبنان من أكثر البلدان تضرُّراً من التضخم الذي طرأ مؤخراً على أسعار المواد الغذائية التي تتأثر بها بشكل خاص الأسر الفقيرة والمحتاجة، إذ تشكّل نسبة كبيرة من نفقاتها في ظل التآكل الشديد لقوتها الشرائية.

ويرى التقرير أنه مع زيادة الخسائر المالية عن 72 مليار دولار أميركي، أي ما يعادل أكثر من 3 أضعاف إجمالي الناتج المحلي في عام 2021، فإن تعويم القطاع المالي بات أمراً غير قابل للتطبيق نظراً لعدم توفر الأموال الكافية لذلك. فأصول الدولة لا تساوي سوى جزء بسيط من الخسائر المالية المقدَّرة، كما لا تزال الإيرادات المحتملة من النفط والغاز غير مؤكَّدة ويحتاج تحقيقها سنوات.

علي زين الدين

لماذا يجمع ســلامة الدولارات في الخزنة؟

لماذا يجمع حاكم مصرف لبنان الدولارات من السوق، رغم علمه المسبق انّ عملية الجمع هذه تزيد الضغوطات على الليرة، وقد ساهمت في إعطاء دفع إضافي لارتفاع الدولار الذي وصل اليوم إلى مستويات الـ40 الفاً، ويتجّه إلى الـ50، وفق مسار تصاعدي سريع نسبياً.

إحتاج الدولار في السوق السوداء الى حوالى 18 يوماً، لكي يعود الى السعر الذي بلغه في الفصل الاخير من تشرين الاول الماضي، قبل ان يذيع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بيانه الشهير مساء 23 تشرين، ويعلن فيه التوقّف عن شراء الدولار من السوق، والاكتفاء ببيعه عبر منصة «صيرفة». نجح البيان في إسقاط الدولار في ساعة واحدة إلى 36 الف ليرة، اي ما نسبته 10%. ومن ثم بدا وكأنّ الدولار ثبُتَ على سعر متماوج بمعدل وسطي بلغ 37 الف ليرة. لكن هذا «الثبات» سقط بعد بضعة ايام، وعاد الدولار الى مسار تصاعدي، ولو بطيء نسبياً، ليعود اليوم الى المستوى الذي بلغه قبل بيان 23 تشرين.

 

ما الذي جرى في الايام الـ18 التي تفصل بين هبوط الدولار المفاجئ، وعودته إلى مستوياته السابقة؟ وهل تتجّه العملة الخضراء إلى مستوى الـ50 الفاً، ام انّ المفاجآت التي قد تغيّر المسار، كما حصل في 23 تشرين واردة في حسابات مصرف لبنان؟

 

ما تبيّن من خلال الارقام التي ينشرها مصرف لبنان، انّ احتياطي العملات لديه لا يزال يرتفع. وقد نجح في غضون شهرين تقريباً، في جمع اكثر من 600 مليون دولار. هذا الأمر لافت، لجهة حجم السوق الحرة. اذ يُبيّن انّ حجم السوق الحرة اكبر من التقديرات السائدة. وهذا الامر ايجابي في مكانٍ ما، لأنّه يعكس وجود تدفقات مرتفعة نسبياً من الدولارات الى السوق، بما يعطي الأمل في انّ التعافي، فور البدء في تطبيق خطة إنقاذية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وبمواكبة ورعاية دولية، سيكون اسرع من التوقعات المُستندة الى تجارب الدول.

 

في الموازاة، أظهرت التطورات انّ مصرف لبنان أحجم عملياً عن بيع الدولارات بعد بيان 23 تشرين، ويبدو انّه استمر في شراء الدولارات من السوق، ولو بوتيرة ابطأ مما كان يفعل قبل البيان. وباع كميات صغيرة من الدولار في هذه الحقبة عبر منصة «صيرفة». وهذا يعني انّ مصرف لبنان لديه مخطط لجمع العملة الصعبة وتعزيز احتياطه. وقد استفاد من مناخ الإشاعات في شأن احتمال خفض الدولار لأسباب سياسية، لشراء المزيد من الدولارات بأسعار «مُخفّضة»، نتيجة ارتفاع العرض في فترة من الفترات.

 

لماذا يعطي المركزي الأولوية لجمع الدولارات، ولو على حساب خفض القدرات الشرائية للمواطنين، الذين يواجهون مأزق ارتفاع نسب التضخم وارتفاع اسعار السلع بوتيرة غير مسبوقة، خصوصاً في ظلّ الارتفاع العالمي في اسعار المحروقات، ورفع تعرفة الكهرباء، والارتفاعات المتوقعة في اسعار الخدمات، تماهياً مع رفع سعر الدولار الجمركي ورفع سعر الصرف الرسمي إلى 15 الف ليرة.

 

في المعلومات والقراءات التحليلية، انّ مصرف لبنان يتحضّر لمرحلة ما بعد رفع أجور موظفي القطاع العام، ورفع سعر سحب الودائع إلى 15 الفاً، ورفع تسعيرة الدولار الجمركي، وإلى التداعيات المتوقعة فور بدء تطبيق مندرجات موازنة العام 2022 بعد نشرها في الجريدة الرسمية، والمتوقّع غداً الثلثاء. بالإضافة إلى عملية تمويل شراء الفيول للكهرباء، والتي ينبغي ان تتمّ وفق دولار «صيرفة».

 

هذه الإنفاقات الاضافية المتوقعة، خصوصاً بعد رفع سقف التحويل الى الدولار عبر «صيرفة» لموظفي القطاع العام للسماح لهم بقبض رواتبهم المضاعفة 3 مرات بالدولار، ستضطر المركزي إلى بيع المزيد من الدولارات.

 

ويبقى السؤال عن المسار الذي سيأخذه الدولار بعد نشر الموازنة وبدء تطبيق مندرجاتها؟

 

لا شك في انّ المشكلة الرئيسية التي سيواجهها مصرف لبنان تتعلق بحجم الخسائر المتوقعة بين الشراء من السوق على سعر 40 الفاً، والبيع عبر صيرفة على 30 أو 31 الفاً. وبالتالي، سيضطر المركزي الى الاستمرار برفع سعر «صيرفة» لتخفيف الضغوطات على احتياطي العملات لديه، وكلما خفّف مصرف لبنان الضغط على احتياطه، زاد الضغط المعيشي على اللبنانيين. هذه هي المعادلة الظالمة للجميع، والتي لا يمكن تغييرها قبل تغيير المشهد العام والانتقال الى مرحلة الإنقاذ والتعافي.

 

يبقى أنّ المفاجآت واردة دائماً، وليس مستبعداً ان يلجأ المركزي، وبدلاً من رفع سعر «صيرفة»، إلى ضخ كمية من الدولارات في السوق، بما يؤدّي الى خفض سعر الدولار، واستقراره نسبياً لفترة محدّدة. لكن كل القرارات لن توقف مسيرة الخراب، طالما انّ المسار الانحداري للوضع العام في البلد لم يتوقف.

انطوان فرح