أرشيف التصنيف: المقالات العامة

عن العقوبات الاقتصادية وعواقبها

عندما هدد الرئيس الأميركي جو بايدن روسيا «بفرض عقوبات شديدة وقيود على الصادرات» في حالة غزوها لأوكرانيا، لم يكن هذا إجراءً مستغرباً فقد أصبحت العقوبات الاقتصادية وضعاً افتراضياً معتاداً للسياسة الخارجية الأميركية مع كل أزمة دولية.
ويبدو أن الرئيس الروسي بوتين قد أدرج هذا في حساباته قبل الحرب فبلاده كانت بالفعل هدفاً لعقوبات، ولم يبالِ بالتهديد بأن العقوبات الجديدة ستكون أشد عنفاً من تلك التي طُبقت بعد أزمة جزر القرم في عام 2014؛ وهو ما حدث بالفعل ولم تكفِ العقوبات المشددة في الردع أو عدم تصعيد العمليات العسكرية. ولم تكن هذه حالة استثنائية لعجز العقوبات عن تحقيق أهدافها الأمنية أو العسكرية بمنع الحرب، فيذكر محلل السياسات الدولية جوشوا كيتينغ أن سجل العقوبات به خليط من الإخفاق والنجاح، وهي إلى الإخفاق أقرب حيث لم تحقق نجاحاً إلا في 33% من الحالات.
ويُرجع المؤرخون أول استخدام للعقوبات إلى عهود الإغريق، إذ أشار لها المؤرخ اليوناني القديم ثوكيديدس في فرض أثينا حظراً على تجارة مدينة ميجارا في القرن الخامس قبل الميلاد. وهو ما رجع إليه المؤرخ الأميركي نيكولاس مدلر في كتابه الصادر قبل حرب أوكرانيا بأسابيع تحت عنوان «السلاح الاقتصادي وزيادة استخدام العقوبات كأداة في الحروب الحديثة». ويفرق مدلر بين العقوبات الحديثة وتلك القديمة بأنها، كما حدث في أثناء الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، تستند إلى القانون الدولي وأعرافه وكثيراً ما استخدمتها الدول الأعضاء في عصبة الأمم – الكيان الأممي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى وأنهته فعلياً الحرب العالمية الثانية. ووصف الرئيس الأميركي وودرو ويلسون العقوبات الاقتصادية المضمَّنة في المادة السادسة عشرة من اتفاق عصبة الأمم بأنها من شأنها «أن تسبّب ضغوطاً تفوق قدرة أي دولة حديثة على تحملها».
ونجحت هذه العقوبات في بعض الحالات مثل إنهائها الغزو اليوناني للأراضي البلغارية في العشرينات من القرن الماضي. ولكنها فشلت في منع القوات الفاشية بقيادة موسيليني من غزو إثيوبيا في الثلاثينات، بل جعلته يتقرب من ألمانيا بقيادة حاكمها النازي هتلر. ومع فشل العقوبات الاقتصادية في ردع موسوليني، فما عساها تفعل قبال هتلر وأطماعه الأوروبية أو لتحجيم اليابان بمنعها في الاستمرار في غزو الصين قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية فلم يكن أمام التحالف إلا الإذعان لما يحدث من عدوان أو إعلان الحرب، وهو ما كان في نهاية الأمر بما خلفته من ضحايا ودمار.
ويحدد المؤرخ الشهير بول كينيدي، مستعيناً بكتاب السلاح الاقتصادي، ثلاثة دروس تزداد فيها احتمالات فاعلية العقوبات: 1) ألا تكون ناعمة كأنها تُظهر مجرد عدم رضا عن الفعل، بل يجب أن تكون مُنزلة لألم شديد بالخصم. 2) أن تكون ذات ستار حديدي خالٍ من الثغرات التجارية والمالية وبلا أي استثناءات. 3) ألا يتمتع الخصم خلالها بسند من قوة أو قوى اقتصادية تمده بما يحتاج. ولهذا نجحت العقوبات الاقتصادية تاريخياً في حالات التعامل مع الدول ذات الاقتصادات الهشة أو شديدة الانكشاف الاقتصادي باعتمادها على الخارج. ولكن الدول ذات الاقتصادات الأكبر لن يلحقها الأذى إلا وقد مس خصومها أذى مثله. وهو ما حذّر بوتين بايدن من حدوثه في لقائهما الافتراضي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عبر الفيديو بأن إقناع الأوروبيين بعدم الإسهام في خط غاز «نورد ستريم الثاني» لا يخيفه بل سيؤذي حلفاء أميركا.
ويبدو أن الاستخدام المعاصر للعقوبات الاقتصادية، بوصفها أدوات أنعم من العتاد الحربي، جعل الخطوط الفاصلة بين حالة الحرب وحالة السلم مبهمة باستخدام متكرر لأدوات من شأنها إلحاق دمار بالإمكانيات والأنشطة الاقتصادية، بل بحياة الناس أنفسهم، في وقت قد يعرف اسماً بالسلم لغياب حرب تقليدية معلنة.
كثيراً ما يترتب على القرارات بما في ذلك إجراءات العقوبات الاقتصادية في حالتنا هذه نتائج تناقض مقاصدها المعلنة، وقد أشرت من قبل على صفحات هذه الجريدة الغراء إلى أنه في أحوال متعددة تتجاوز هذه النتائج غير المقصودة ما يمكن عدّه مجرد آثار جانبية حيث تتجاوز حجماً وضرراً ما كان مستهدفاً منها.
ويذكر روبرت مرتون، الباحث في علم الاجتماع، في مقال نشره عام 1936 خمسة أسباب للوقوع في فخ النتائج غير المقصودة للقرارات:
1) الجهل بطبيعة المشكلة وأبعادها المتشابكة، وقد يكون ذلك لقصور في البيانات والمعلومات أو لضعف القدرة على التحليل.
2) الخطأ في المعالجة لنقصٍ في الخبرة أو لسوء اختيار التوقيت أو لعدم القدرة على توضيح الأهداف من القرار.
3) الاستناد إلى بعض المثل والمبادئ الأساسية التي قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا لم يتم وضعها في إطار من التوازن والاعتدال.
4) الرغبة الملحّة في تنفيذ القرار بما يجعل صاحبه يتغاضى عمداً عن أي آثار قد يسببها اتخاذه، فيصبح وكأنه قد قرر تجاهل أي أمر يسببه القرار مهما بلغ حجمه وضرره.
ومما لم تتناوله الحوارات مع إرهاصات الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا، الأثر على الأطراف الثالثة أو ما يشبه إبان الأزمات الكبرى الأبرياء المتفرجين على سباق محتدم بين متصارعين رُعُن، فيطولهم الأذى بما يطيش من سلاحهم دون اكتراث. أما الأبرياء المقصودون هنا فهم أهل الدول النامية، وفي مقدمتها دول عربية وأفريقية، فقد ساء تقدير أثر قيام حرب بين روسيا وأوكرانيا اللتين لا يتجاوز إسهامهما في الاقتصاد العالمي 3 أو 4% على أقصى تقدير، ولكن لهما أوزان مؤثرة بشدة في قطاعات الطاقة والقمح وزيوت الطعام والأسمدة فضلاً عن تأثيرهما في السياحة الدولية. وتأتي هذه الحرب بمربكاتها مع وضع اقتصادي عالمي هش يعاني أصلاً، بسبب الجائحة وتداعياتها، من تراجع في معدلات النمو والتشغيل وزيادات في التضخم لم يشهدها العالم منذ أربعة عقود وديون خارجية تعتلي موجاتها بمخاطرها ما سبق من موجات انتهت كل واحدة منها بأزمة عالمية مشهودة.
– آثار ممتدة لتسليح أدوات الاقتصاد وتلغيم قنواته
ورغم أن العقوبات الاقتصادية، بما في ذلك الموصوف منها بالذكاء، لم تحقق أهدافها المعلنة بكفاءة ما زال هناك من ينادي بها مثلما فعل الديمقراطيون في الكونغرس الأميركي بمطالبتهم بفرض عقوبات اقتصادية ضد الكيانات التي تهدد المناخ، أو ما كان من مطالبة باستخدام عقوبات دولية ضد من يحجب معلومات عمّا يهدد الصحة العالمية كالأوبئة. ويجعل مثل هذا التخوف من احتمالات استخدام عقوبات اقتصادية خطراً متزايداً، بما يضطر المسؤولين في دول مختلفة إلى اللجوء إلى بدائل، سواء لتحويل الأموال، وهو ما يجري فعلاً في الصين من خلال نظامها للتحويل المصرفي عبر الحدود والذي تطور منذ أزمة القرم بمنع روسيا من استخدام نظام «سويفت»؛ وكذلك إلى البحث عن أوعية مالية بديلة للاستثمار بعيداً عن أصول مالية قد تتعرض للتجميد، أو غير مالية قد تتعرض للمصادرة، بسبب اختلافات سياسية دولية.
هذا فضلاً عن البحث كذلك عن عملات دولية بديلة للدولار الأميركي، فرغم انخفاض نسبته في الاحتياطيات الدولية من أكثر من 70% في عام 2000 إلى 60% حالياً، فما زال الدولار يحظى -حتى الآن- بما وصفه الرئيس الفرنسي ديستان بـ«امتياز سخي» كعملة دولية يتمتع مصدرها بأن يشارك في سداد ديونه كل من يحمل عملته. ولكنْ هناك آثار على النظام النقدي الدولي من خلال التوسع في العملات الرقمية للبنوك المركزية بما في ذلك من الصين كـأكبر دولة نصيباً في التجارة العالمية، ومع حالة الاستقطاب الدولي بين نظامين في الشرق والغرب، تزداد الآراء المرجحة لتراجع هيمنة الاقتصاد الأميركي ومن ثم عملته خاصة، بما جعل زانغ يانلينغ، نائبة الرئيس التنفيذي السابقة لبنك الصين، تقول لمستمعيها في محاضرة، أشارت إليها صحيفة «الفاينانشيال تايمز» في تحقيق عن مستقبل الدولار الشهر الماضي، إن نوعية العقوبات الأخيرة أثّرت على مصداقية الدولار في الأجل الطويل، وتبشر مستمعيها بالبزوغ الدولي للعملة الصينية اليوان وبأن «الصين ستساعد العالم في التخلص من الهيمنة الدولارية أقرب من المتوقع». أي إنه بعد عهد من «الدولرة» قد يأتي عهد «اليوننة»، نسبةً إلى اليوان!
عادةً ما يستمر وصف الترتيبات النقدية والمالية المعمول بها بأنها تخدم المتعاملين بها والمستفيدين منها على نحو جيد، حتى يتم استبدالها! فتحل محلها ترتيبات جديدة تتوافق مع المستجدات في عالم شديد التغير.

د. محمود محيي الدين

بريطانيا وحسابات الضرائب الاستثنائية

انتهى الأسبوع بأخبار اقتصادية مزعجة؛ بنك إنجلترا (البنك المركزي الذي يحدد السياسات المالية وهو مستقل القرار عن الحكومة منذ 1997) رفع الفائدة للمرة الثالثة على التوالي، لتصل إلى أربعة أضعاف نسبتها (واحد في المائة بعد أن كانت ربعاً من الواحد في المائة قبل ستة أشهر)، كذلك البنك الفيدرالي الأميركي رفع الفائدة بنصف في المائة (ضعفا بنك إنجلترا).
البنوك المركزية تحاول استخدام سعر الفائدة أداة، إما لدعم النمو الاقتصادي (معدلات فائدة منخفضة تحفز على الاقتراض للاستثمار في مشاريع وخلق وظائف، بدلاً من الادخار لانخفاض نسبة العائد)؛ أو للحد من معدلات التضخم (ارتفاع الفائدة يؤدي لعكس المعادلة أعلاه، إذ يفضل الناس الادخار، وتقلل من الإنفاق على السلع والخدمات وزيادة عرض المنتجات على الطلب يخفض الأسعار). توظيف سعر الفائدة هو الوسيلة المجربة لعقود طويلة بالنسبة لأي سوق داخلية (في مجتمعات السوق الرأسمالية الحرة المفتوحة).
أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، حذر في المؤتمر الصحافي للإعلان عن أسعار الفائدة، من أن الاقتصاد يمر بمرحلة صعبة، وأن المواطنين يعانون من ارتفاع الأسعار وقلة الدخل، مع توقعه أن تصل معدلات التضخم إلى عشرة في المائة، وهي الأعلى منذ ثمانينات القرن الماضي.
وبعكس الثمانينات، لا توجد حالة بطالة، بل نقص الأيدي العاملة، والإنتاجية أكثر ارتفاعاً، لأن أسباب التضخم اليوم ليست من السوق الداخلية في أي بلد رأسمالي، وإنما أسباب خارجية عالمية أساسها ارتفاع أسعار الطاقة، وبدورها تؤدي إلى رفع تكلفة المنتجات والخدمات، سواء في تشغيل المصانع أو نقل البضائع، وازادت الأزمة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، والحصار الاقتصادي على الأولى، وبدورها أثرت على واردات الطاقة، وأيضاً صادرات الحبوب والمنتجات الزراعية من أوكرانيا إلى العالم، مما رفع أسعارها، وهي عوامل لا يعتقد كثير من خبراء المال والاقتصاد أن الأداة المجربة، أي سعر الفائدة، ستكون فعالة في التأثير عليها.
في الأسبوع نفسه بلغت أرباح شركة البترول البريطاني في الربع الأول من هذا العام ستة مليارات ومائتي مليون دولار، أما شركة «شل» الشهيرة فقد بلغت أرباحها في الفترة نفسه رقماً قياسياً تجاوز تسعة مليارات ومائة مليون دولار.
حكومة المحافظين بزعامة بوريس جونسون (التي تلقت صفعات وركلات انتخابية موجعة في الانتخابات البلدية المحلية يوم الخميس) تواجه خيارات اقتصادية صعبة، وملايين من الناخبين ينخفض مستواهم المعيشي والمالي. ارتفعت النداءات من المعارضة العمالية، والصحافة وشبكات البث (أغلبها يسارية ليبرالية) ومن أحزاب المعارضة؛ الديمقراطيون الليبراليون، والخضر، والقوميون الاسكوتلنديون، بفرض ضريبة استثنائية على شركات الطاقة الكبرى، خصوصاً «شل»، والبترول البريطاني. ضريبة بنسبة ما بين عشرين إلى أربعين في المائة على الأرباح، وهو ما قد يزود الخزانة البريطانية بما بين خمسة وسبعة مليارات دولار، تطالب المعارضة بأن تستخدمها الخزانة لدعم فواتير الطاقة المنزلية لمحدودي الدخل والفقراء.
حكومة المحافظين بزعامة جونسون، ترفض الفكرة شكلاً وموضوعاً.
فهي ليست فقط سيئة من الناحية السياسيةـ بل إنها غالباً ما ستكون مخربة للنمو والتطور الاقتصادي، وتخلق مشكلات للمسؤولين عن تخطيط السياسة المالية وتحديد المعدلات الضرائبية لميزانيات السنوات المقبلة.
الضريبة الاستثنائية، تعرف بـ«windfall tax» (ضريبة على أرباح أتت بها رياح مواتية)؛ أي أن الدخل أو الربح نفسه استثنائي ولم يكن متوقعاً. وإذا افترضنا الحد الأقصى من الدخل من الضريبة، أي سبعة مليارات دولار، ماذا ستفعل بها الخزانة البريطانية؟
هل تستخدمها لتخفيض الضرائب؟
دخل مصلحة الضرائب البريطانية في السنة المالية المنتهية في الخامس من الشهر الماضي كان 718 ملياراً و200 مليون جنيه (890 مليار دولار)، أي أن الدخل من الضريبة الاستثنائية سيضيف أقل من 0.008 في المائة من دخل الخزانة. فماذا ستكون نسبة التخفيض الضرائبي لمعلم أو ممرضة من متوسط مرتب سنوي ثلاثين ألف جنيه سنوياً؟ بعد حساب الإعفاءات والاستثناءات سيكون حوالي ستة جنيهات شهرياً.
وماذا عن العام المقبل والأعوام التي تليه؟ كيف ستخطط وزارة المالية لسياستها بلا ضمان «لرياح مواتية» تهبط على مؤسسات أخرى بثروة تفرض عليها ضرائب؟
أم هل تخصص وزارة المالية دخل الضريبة الاستثنائية منحةً تصرف للأسر التي تواجه «فقر الطاقة» مثلما تطالب المعارضة والتيارات اليسارية والاشتراكية؟
دراسة معهد «ريزليوشن فونديشن» (خزانة تفكير لبحوث خطط لتحسين أحوال محدودي الدخل) في الشهر الماضي توقعت أن يتجاوز عدد الأسر التي تواجه «فقر الطاقة» خمسة ملايين منزل، يواجهون زيادة في فواتير الطاقة ما بين سبعمائة و1101 جنيه في العام، إذا ظلت أسعار الغاز على ما هي عليه.
لو وزعت وزارة المالية كل دخل الضريبة الاستثنائية على بيوت فقراء الطاقة، سيكون نصيب الأسرة حوالي مائة جنيه من الفاتورة السنوية التي تتجاوز في المتوسط ألفين من الجنيهات (مائة وستون جنيهاً شهرياً). ماذا عن بقية أشهر السنة؟
وهنا يحضرنا القول الصيني الشهير «اعط رجلاً سمكة تكفه وجبة عشاء، علمه الصيد تطعمه مدى الحياة».
معلقون وخبراء اقتصاد حرية السوق والاستثمار الرأسمالي يدعمون وزير الصناعة والأعمال والطاقة، غريغ هيندز، في محاولته إقناع الشركتين الكبيرتين، «شل»، و«البترول البريطاني»، باستخدام الأرباح غير المتوقعة في الاستثمار في التنقيب عن حقول غاز وبترول جديدة في بحر الشمال. وكان التنقيب واكتشاف مزيد من الغاز متوقفين منذ سنوات بسبب الحملة الهستيرية التي يشنها الخضر والبيئيون في مظاهرات ضد منشآت مقاولي التنقيب. مستشارو وزارة الصناعة والطاقة ينسقون مع الشركتين للتخطيط لتوجيه جزء من الأرباح للاستثمار في مشاريع توليد الطاقة الخضراء، وكلا النشاطين سيخلق عشرات الآلاف من الوظائف، ويؤدي لرواج اقتصادي في مناطق مستواها الاقتصادي متدنٍ.
أسعار أسهم الشركتين ارتفعت في البورصات؛ والاشتراكيون يتعمدون عدم ذكر أن حملة الأسهم لهذه الشركات أغلبها صناديق استثمار لمعاشات الاتحادات العمالية ومؤسسات ترعى الأرامل، أو مؤسسات تأمين صحي وتعاونيات.
جونسون ووزراؤه يخشون أن تشكل الضريبة الاستثنائية سابقة، وبالتالي تفزع المستثمر. شركتا البترول، «شل»، و«البريطانية»، بينهما يوظفان قرابة أربعين ألفاً مباشرة و185 ألفاً في أعمال تعتمد على المباشرين، وينفقان ثمانية عشرين مليار دولار سنوياً في بريطانيا، والخوف من ضرائب لم يخطط لها قد تدفع الاستثمارات الكبرى لتجنب بريطانيا.

عادل درويش

الأفراد والشركات والاقتصادات والبلاد محكومة بإعادة الهيكلية الداخلية للإستمرار

الإقتصادات العالمية تغيّرت بعد الحرب العالمية الثالثة، ضدّ الوباء ولا سيما جائحة «كوفيد-19». فلم يُبلسم العالم بعد جروحاته إزاء التغيّرات الكبرى التي واجهت الشعوب والشركات والاقتصادات. إذ فوجئنا بحرب عالمية رابعة باردة ناجمة عن الحرب الساخنة بين روسيا وأوكرانيا، والتي سيكون لها أبعاد وتغيّرات اقتصادية، اجتماعية، مالية ونقدية هائلة.

إنّ هذه التغيّرات الكبرى التي ستحصل في العالم ككل سيكون لها تأثير مباشر، على الأفراد والشركات والاقتصادات والبلدان. لذا إنّ المجتمعات اليوم محكومة بإعادة الهيكلية الداخلية في معرفتها، وخبراتها، وأفكارها وابداعاتها وابتكاراتها، وحتى في طريقة عملها واستراتيجياتها وخططها. فنقاط القوة التي كانت تملكها لم تعد صالحة، لمواجهة هذه الأزمة الراهنة. فكل فرد، أكان طالباً أو ريادياً، أم رجلاً أو سيدة أعمال، أو موظفاً، بات محكوماً بمراجعة مسيرته وإعادة بناء ذاته من جديد، في ظل هذه الانقلابات الكبرى.

 

أما الشركات الخاصة في كل دول العالم فباتت محكومة أيضاً بإعادة الهيكلية الداخلية، لمتابعة مسيرتها وتمويل وتطوير أعمالها، وتنويع سلعها، وأسواقها، وتغيير رؤيتها وإستراتيجياتها. فلم يعد ممكناً أن تتكل هذه الشركات القائمة على أمجادها الماضية وقدرتها وتقدّمها السابق، والتي لم تعد صالحة في هذا العالم الإقتصادي الجديد. فكل المؤسسات اليوم محكومة بتغيير مسيرتها ونظرتها وخططها، لتتماشى مع هذا التغيير، للتطوير والإنماء من جديد على أسس حديثة.

 

أما الإقتصادات، فهي أيضاً تحت المجهر، وفي عين العاصفة، ومجبرة على إعادة الهيكلية الداخلية والخارجية لمواجهة هذا التسونامي العالمي. فعليها إعادة النظر في كل الاتفاقات الدولية السابقة، أكانت تجارية أو صحية، أو مالية، أو نقدية، وحتى سياسية وأمنية وثقافية. فيوماً بعد يوم تتغيّر أسس التبادل التجاري، وسلاسل التوريد، حول الكرة الأرضية. فالاقتصادات محكومة بتغيير نهجها وإستراتيجياتها حيال ارتفاع أسعار النفط، وكل المشتقات النفطية، لذا عليها إعادة النظر في تمويل اقتصاداتها وتمويل سيولتها التشغيلية.

 

أما البلدان والسياسات فهي أيضاً محكومة بإعادة النظر في استراتيجياتها ونظرتها ورؤيتها وحتى في تحالفاتها، لمواجهة هذه التغيّرات القائمة. فمن بعد مواجهة جائحة كورونا وتوقيف عقارب الكرة الأرضية لنحو سنتين، إستيقظت على حرب جديدة وتضخّم مخيف، وارتفاع في كلفتها التشغيلية، لذا عليها مواجهتها على كل الأصعدة، وعلى جبهات عدة، أكانت صحية، أو اقتصادية، أو تجارية أو صناعية، أو معيشية. فكل مؤسساتها وقطاعاتها في ظلّ العاصفة محكومة بإعادة الهيكلية، لمتابعة أعمالها.

 

في الخلاصة، شئنا أم أبينا، إنّ التغيير حاصل، ولا نستطيع مواجهته، لكن علينا أن نتماشى معه، ونستخرج الأفضل عوضاً عن التمسّك بالماضي، والترحّم على الأمجاد. لذا نكرّر ونشدّد على أنّ الأفراد والشركات والاقتصادات والبلدان، باتت محكومة بإعادة الهيكلية الداخلية وإعادة النظر في رؤيتها وإستراتيجياتها، لاحتضان هذا التغيير، واستخراج الأفضل منه.

د. فؤاد زمكحل

{الخزانة} الأميركية والنفط الروسي

حذرت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يللين، الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين، من حظر تام للنفط والغاز الروسيين. وقد صرحت يللين بذلك للإعلاميين في واشنطن يوم الخميس المصادف 21 أبريل (نيسان)، وذكرت أن هناك نتائج غير محسوبة للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من الحظر الشامل، بحسب دورية «أويل برايس».
أضافت يللين أن الحظر الشامل له مضار أكثر من الفوائد. إذ، كما ذكرت، أن أوروبا بحاجة إلى تقليص اعتمادها على استيراد النفط والغاز الروسي، الأمر الذي سيقلص من الريع البترولي لروسيا، لكنه سيؤدي في الوقت نفسه إلى «حرمان السوق الأوروبية من كثير من إمدادات الطاقة التي هي بحاجة ماسة إليها».
تأتي تصريحات وزيرة الخزانة الأميركية بعد بيان صدر للمؤسسة المالية الأميركية «جي بي مورغان»، الذي أشار فيه إلى أن مقاطعة النفط الروسي ستؤدي إلى حرمان أوروبا لأكثر من 4 ملايين برميل يومياً من النفط الخام، ما سيرفع أسعار النفط الخام إلى نحو 185 دولاراً للبرميل.
من الجدير بالذكر، أن الإمدادات النفطية الروسية للولايات المتحدة ضئيلة جداً ولا تشكل إلا نسبة قليلة جداً من مجمل واردات النفط الأميركية.
وتعقد الولايات المتحدة وأوروبا محادثات منذ اندلاع حرب أوكرانيا في أواخر شهر فبراير (شباط) الماضي، حول مقاطعة النفط الخام الروسي. لكن هناك تبايناً في الآراء ما بين الطرفين وضمن أعضاء السوق الأوروبية، بالذات ألمانيا. وحتى لو قررت دول السوق المقاطعة، فإن الأقطار الأعضاء بحاجة إلى أشهر من المفاوضات للتفاوض مع الدول المنتجة للوصول إلى قرار نهائي، بحسب تصريحات لمسؤولين أوروبين، الذين أضافوا أن السوق الأوروبية تفاوض حالياً دولاً منتجة أخرى للحصول على بدائل غير نفطية للطاقة، وذلك محاولة منها لفك الاعتماد على النفط الروسي.
هذا، وتتزامن هذه التصريحات مع قرار الأسبوع الماضي، لشركة «غازبروم»، بإيقاف الصادرات النفطية الروسية لكل من بولندا وبلغاريا.
واعترفت يللين بأن مقاطعة أوروبية للنفط الروسي ستزيد من أسعار النفط عالمياً، «ما سيؤدي بدوره إلى ترك آثار سلبية محدودة على الاقتصاد الروسي. لأنه بينما ستصدر روسيا نفطاً أقل، فإن ريعها من كل برميل سيكون أعلى». من جانبها، تعاني الحكومة الأميركية من الشكاوى بارتفاع أسعار البنزين في الولايات المتحدة، نتيجة ارتفاع أسعار النفط الخام منذ فصل الخريف الماضي.

وليد خدوري

في التقدم: مربكات ومسارات

في أقل من عامين ترى العالم وهو يواجه عاصفة كاملة تلو الأخرى، فجاءت العاصفة الأولى في أعقاب إعلان منظمة الصحة العالمية في الحادي عشر من مارس (آذار) 2020، أن تفشي فيروس كورونا المستجد المسبب لمرض «كوفيد – 19» قد وصل إلى مستويات الجائحة العالمية. ومنذ هذا التاريخ أصابت «كورونا» أكثر من 500 مليون إنسان بالمرض، توفي منهم ما يزيد على 6.2 مليون حول العالم، وكانت أكثر الإصابات والضحايا ارتفاعاً في الولايات المتحدة يليها الهند والبرازيل ثم فرنسا وألمانيا. ويلاحظ تباين نسب التعافي والشفاء حتى بين الدول الأعضاء في مجموعة العشرين بناءً على عوامل متعددة، منها قدرة استجابة النظم الصحية وفاعليتها في مواجهة تداعيات المرض مبكراً ومدى انتشار اللقاح وتوفر العلاج.
وصاحبت الجائحة أزمات اقتصادية بانكماش في الناتج العالمي وزيادة في البطالة وتزايد أعداد البشر الذين يعانون من الفقر المدقع، مع ارتفاع حدة التفاوت في الدخول والثروات، فضلاً عن تضخم المديونيات الخارجية التي كانت مرتفعة أصلاً قبل الجائحة فيما عُرف بالموجة الرابعة للمديونية.
وقد صدر مؤخراً لكاتب هذه السطور كتاب بعنوان «في التقدم: مربكات ومسارات»، وأقتبس من مقدمة أحد فصوله عن تداعيات «كورونا» ما يلي «أتت جائحة كورونا فاختبرت قدرات الأمم على التعامل مع المربكات الكبرى ومدى استعدادها لها. ويستشري معها انتشار نظريات المؤامرة والخرافات. وتبين أن العالم مع الجوائح بين إنكار وإهمال لها قبل وقوعها وهلع وارتباك بعد وقوعها. ولا ينجو منها الناس بفضل ربهم إلا بالعلم والمال». وبعدما تسابق أهل العلم في تطوير اللقاح وساعدت مؤسسات المال في توفيره إنتاجاً وتوزيعاً في البلدان المتقدمة وتمت إتاحته في البلدان الأخرى، مع تباين شديد بين الدول الأغنى والأفقر، لاحت آمال للبعض بأن عام 2022 هو عام الغوث والتعافي من آثار الجائحة بعد سنتين عجفاوين. واُستشرفت قبل بداية العام عودة لمعدلات النمو الموجبة تدفع بالاقتصادات لمسارات تلتئم فيها إصابات أسواق العمل والتجارة، إلا أن ضربات متلاحقات من الأزمات الجيوسياسية وصدمات في سلاسل الإمداد وتراجع العرض من السلع والخامات الأساسية والخدمات سببت ارتفاعات حادة في معدلات تضخم الأسعار قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا.
ومع إرهاصات هذه العاصفة الكاملة الجديدة ظهرت تحديات كبار للسياسات الاقتصادية فإجراءات السياسة المالية العامة مقيدة الحركة بارتفاعات غير مسبوقة في الإنفاق العام وزيادة عجز موازنات الدول التي أنهكتها إجراءات مواجهة الجائحة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. كما أن أدوات السياسات النقدية الواجب تسخيرها لمواجهة التضخم تأخر تفعيلها ترقباً لإجراءات لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي أضاع وقتاً ثميناً في جدل حول إذا ما كان التضخم عارضاً مؤقتاً لا يستدعى رفعاً لأسعار الفائدة، أم مستمراً يستوجب التدخل السريع. فلما تبينت عاقبة التأخير سارع بنك الاحتياطي الفيدرالي بإرسال إشارات للأسواق بما هو مقدم عليه من رفع عاجل لأسعار الفائدة على مدار الفترة القادمة ثم أرسل إشارات أخرى للسيطرة على التوقعات بمزيد من التضخم تظهر أن السياسات النقدية الأميركية ستكون أكثر تقييداً، برفع أعلى وأسرع لأسعار الفائدة، بما سبّب تقلبات أشد حدة في أسواق المال وجعل التدفقات المالية خاصة قصيرة الأجل منها والساخنة تفر من البلدان النامية تاركة وراءها اضطرابات في أسعار الصرف وتهديدات بزيادة مخاطر مديونياتها الخارجية. ومع هذا ستظل معدلات النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة في اتجاه يعزز استعادة وتيرة التعافي، وإن كان ذلك بمعدلات نمو أقل من المتوقع لها منذ عام، ولكنها أعلى نسبياً من أغلب الاقتصادات المتقدمة التي لن تزيد على 3.5 في المائة في أفضل التقديرات.
أما الصين، فهي صاحبة الاقتصاد القادم بقوة للصدارة؛ رغم بعض المربكات، منها تعرضها مؤخراً لموجة جديدة معدية لفيروس كورونا، أجبرتها على إغلاق جزئي في ظل اتباعها استراتيجية «صفر كورونا» بما أثر سلباً على طلب المستهلكين والاستثمار ومن ثم معدل نمو الناتج الصيني، وبالتالي الناتج العالمي بحكم وزن الصين المتنامي في معدلات نموه على مدار العقدين الماضيين. ولكن الاقتصاد الصيني يتمتع أكثر من غيره بمرونة في استخدام أدوات السياسات المالية العامة والنقدية، بما في ذلك الدفع بحزم تحفيزية إذا أرادت الإدارة الاقتصادية الصينية لها تفعيلاً، خاصة بعد استقرار السوق العقارية وانخفاض معدلات التضخم في الصين عن شركائها التجاريين. ورغم تراجع معدلات النمو في الصين، فإنها ستظل أعلى من متوسط معدلات النمو في الأسواق الناشئة وكذلك الاقتصادات المتقدمة.
أما مجموعة دول اليورو فتواجه تحديات تراجع الإنتاجية وتفاوت الدخول، والخلل الديموغرافي والمواجهة المباشرة لتوترات سياسية تصاعدت لحالة صراع عسكري يهدد أمنها شرقاً، مع وضع حد للاعتماد الكبير على الغاز الروسي، بما يستوجب إجراءات لإعادة الهيكلة والتنويع لمصادر الطاقة مصدراً ونوعاً بما سيربك نمو صناعات وقطاعات بعينها. سيؤدي هذا إلى مزيد من الانخفاض والتباين والتقلب في معدلات نمو اقتصادات دول اليورو التسع عشرة من أصل 27 دولة تشكل الاتحاد الأوروبي. ولا تظهر المملكة المتحدة بعد انفصالها عن الاتحاد الأوروبي أو اليابان بمعدلات نمو تؤكد تمام التعافي، لتأثرهما باضطراب سلاسل الإمداد، فضلاً عن مشكلات تتعلق بارتفاع معدلات التضخم والضرائب في الأولى، وهشاشة مصادر التعافي في الثانية باعتمادها على طلب استهلاكي متذبذب.
ويؤكد هذا المشهد لتوقعات النمو ومساراته بين البلدان المختلفة، ما أكده كتاب المربكات في مطلعه من أن «الأمم في سباق مستمر، وهي فيه حتماً سواء بإرادتها أو رغماً عنها. وسباق الأمم لا يتوقف للحظة ولا يعنيه من يتقدم فيه أو يتأخر ولا يكترث بمن يصمد فيه أو يترنح. ولا مجال للصدارة فيه لمن يتخاذل أو يكتفي بلوم قواعد اللعبة أو التنديد بما فيها من غبن أو تلاعب. فالتقدم اختيار وإرادة».
وقد ضربت موجات التضخم وأزمات أسعار الوقود والغذاء والتحديات المالية وإدارة المديونية الخارجية بدول نامية في أقاليم متفرقة بما يهدد نمو اقتصاداتها بتراجع ملموس يؤخر عودتها لمسارات الناتج قبل الجائحة باستثناء بعض الدول المصدرة للنفط والغاز والسلع الأساسية، التي عليها رغم تحسن معدلات نموها إدارة التقلبات الحادة في أسعار سلعها المصدرة وتأثيرها على عدالة توزيع الدخل والتضخم. ولا يحظى كثير من الدول الأفريقية والعربية باستثناءات من هذا الوصف إلا من أتبع سياسات حصيفة تعينها على التعامل مع الموجات المتقلبة لأسعار صادراتها ووارداتها، وإدارة ملفات الديون الخارجية وتحجيم مخاطرها المحدقة واستعادة التعافي لاقتصاداتها بمعدلات نمو أكثر شمولاً وأعلى ارتفاعاً عما هو متوقع لأكثرها في العامين الحالي والمقبل.
وتظل المشكلة الكؤود لكثير من البلدان العربية والأفريقية كامنة في نوعية النمو، بمعنى أن تصاحب معدلات النمو الظاهرة ارتفاعات مناظرة في معدلات التشغيل وتحسن في الدخول الحقيقية وهو ما يستلزم، وفقاً للكتاب المذكور، سياسات جديدة للنمو «فللتعامل مع المربكات المعترضة سبيل التقدم تحتاج الأمم إلى الاستثمار في رأس المال البشري والبنية الأساسية والتكنولوجية وفي سبل الوقاية من الصدمات. ولكننا نعاني اليوم من انفصال بين مسارات الاستثمارات المطلوبة للتنمية وما يدور في أسواق المال بما يستدعي نهجاً جديداً للإصلاح».
كما يستوجب التغير في طبيعة العولمة والانتقال التدريجي لمركز الجاذبية الاقتصادية نحو نصف العالم الشرقي، تعاوناً إقليمياً عربياً على نحو ما نراه مثلاً في دول الآسيان. فكما أشار كتاب المربكات لا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه اقتصاداً عربياً، فنحن بصدد اقتصادات متباينة الأداء ضعيفة الترابط رغم وفرة متطلبات تحقيق طفرات في التجارة البينية وتدفق الاستثمارات والعمالة. التعاون العربي ضرورة للتقدم تحتمه تحديات المستقبل وتيسره وحدة الجغرافيا وتعوقه مربكات سياسية.
للتعامل مع العاصفة الكاملة المستجدة في الأجل القصير ستطالع توصيات بديهية لتقارير دولية منادية بإنهاء الحرب في أوكرانيا فوراً، وربما تحمست فذكرت مناطق أخرى لصراعات دامية. وستناشد التوصيات استكمال التصدي للجائحة الصحية التي سببت عاصفة 2020 وتداعياتها، والتعامل مع ارتفاعات الأسعار قبل مزيد من استفحالها الذي سيؤدي بدوره إلى اتباع سياسات نقدية ومالية عامة أكثر تقييداً وتقشفاً، بما يدفع إلى ركود دون القضاء على التضخم بالضرورة فننتهي إلى موجة عاتية من الركود التضخمي تزيد العاصفة الكاملة دماراً وعنفاً. كما ستطالع حديثاً، بلا أفعال مجدية تذكر، عن ضرورة علاج مشكلات المديونية الدولية قبل أن تتحول لأزمات مجتمعة أو متناثرة تضاف إلى قائمة المتعثرين من البلدان النامية منخفضة ومتوسطة الدخل. وستقرأ تحذيرات كثيرة من عواقب إهمال تغيرات المناخ وتراجع الاستثمار في التخفيف منها والتكيف مع آثارها، دون أن تظهر ومضات لمصادر تمويلها الموعود. وستكثر مناشدات عن أهمية التعافي الأخضر الذكي المتوازن إلى آخر هذه النعوت، التي قد يستجاب لها ببعض التعهدات بلا إلزام يذكر أو توقيت محدد، بما يستوجب الحرص في التعامل معها وضبط التوقعات بما يستحقها والمطالبة بالشفافية والإفصاح وتفعيل آليات المحاسبة حتى يمكن استعادة الثقة بعد عهد طال من إخلاف الوعود. وفي كل الأحوال يذكرنا كتاب المربكات المشار إليه بأنه «في سباق التقدم تتنوع المربكات وآثارها. وقد تسبب المربكات أزمات تتعلق بالأوبئة أو بتغيرات المناخ أو بتقلبات سياسية حادة أو بصدمة اقتصادية مفاجئة أو بمستحدثات تكنولوجية. وتشترك المربكات في ضرورة الاستعداد لها والمرونة في التعامل معها. ويفوز في النهاية من يستغلها لصالحه».

د. محمود محي الدين

قانون الخدمات الرقمية

أعلن الاتحاد الأوروبي يوم السبت الماضي عن (قانون الخدمات الرقمية)، وهو نظام يهدف إلى التخلص من المحتوى السام في الإنترنت، وكان الاتحاد قد أعلن الشهر الماضي عن (قانون الأسواق الرقمية) يهدف إلى الحد من هيمنة الشركات على الاقتصاد الرقمي، وتحقيق العدالة والتنافسية في الأسواق الرقمية. وقد سبق هذين النظامين نظام حماية خصوصية البيانات الذي أطلقه الاتحاد الأوروبي عام 2018 ليكون الاتحاد الأوروبي مسؤولا عن ثلاثة قوانين تتعلق بتنظيم الفضاء الرقمي.
وخلال الخمسة والعشرين سنة الماضية، نقلت الخدمات الرقمية العالم، وأحدثت ثورة غيرت معالمه خالقة اقتصادات جديدة. إلا أن هذه الثورة لم تماثلها ثورة تشريعية، فلم تصاحب هذه الخدمات تشريعات تنظمها وتكفل حقوق المشاركين فيها من مستخدمين وشركات وغيرهم من اللاعبين في هذه المنظومة الضخمة. بل ما حدث أن الشركات نفسها كانت هي المنظمة لهذه الأسواق، وهي كذلك المنتجة فيه، ليكون المستخدم هو العنصر الأضعف في هذه المنظومة التي تعتمد عليه بشكل أساسي.
والمتأمل في الفضاء الرقمي اليوم، يجد أن الكثير من الخدمات التي يحصل عليها المستهلك هي خدمات مجانية ظاهريا، ولكن الشركات تحصل على بيانات هؤلاء المستخدمين، وتستفيد منها بطرق عديدة أبسطها بيع هذه البيانات لشركات أخرى، كما تستخدم هذه البيانات في توجيه الإعلانات إلى فئات محددة بحسب تفضيلاتهم، ودون إبلاغهم بخوارزميات هذه الإعلانات، ودون توضيح لهم أنها إعلانات مستهدفة. كما لشركات الفضاء الرقمي الحرية الكاملة في تحديد الخطوط الحمراء لمحتوياتها، ولذلك فهي قد تسمح بالمحتويات المضرة في سبيل زيادة المشاهدات والإعلانات وتحقيق الأرباح، وهو ما قد حصل ويحصل بشكل متكرر ويلاحظه أي مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي بأشكالها.
وتهدف المفوضية الأوروبية من خلال قانون الخدمات الرقمية إلى خلق بيئة رقمية آمنة وذات مسؤولية، لكي تكون المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي شفافة بشأن قرارات الإشراف على المحتوى الخاص بها، ومنع الانتشار السريع للمعلومات المضللة، ومكافحة خطاب الكراهية والتشجيع على الإرهاب، إضافة إلى تجنب عرض المنتجات غير الآمنة في الأسواق. ويمكن هذا النظام الاتحاد الأوروبي من محاسبة المنصات على المخاطر التي قد تشكلها خدماتها على المجتمع.
وبموجب هذا النظام، ستكون المنصات مسؤولة عن الخوارزميات الخاصة بها، والإفصاح عن هذه الخوارزميات بكل شفافية وعليها تقييم المخاطر وتخفيفها لحماية المستخدمين. كما أن المنصات الرقمية ستمنع استهداف الأطفال بالإعلانات، وهو ما تستند عليه غالبية الألعاب الموجهة للأطفال والتي لا تنظر في كثير من الأحيان إلى محتوى الإعلان ومدى مناسبته للأطفال. وللمفوضية الأوروبية الحق في فرض عقوبات على الشركات التقنية عند الانتهاكات، هذه العقوبات قد تكون مادية وتصل إلى 6 في المائة من حجم المبيعات العالمية للشركة، هذه النسبة تبلغ 7 مليارات دولار من مبيعات (فيسبوك) عام 2021، وقد تتعدى العقوبات المادية إلى حد حظر العمل في السوق الأوروبية الموحدة في حال تكرار هذه الانتهاكات.
وللاتحاد الأوروبي تاريخ في مقاومة الشركات التقنية العملاقة، ووصف العملاقة ليس بالمبالغ فيه، فالقيمة السوقية لكل من فيسبوك وجوجل وأمازون وأبل مجتمعين تساوي 4.6 تريليون دولار، أي أن بعض هذه الشركات أكبر من الدول، وهو ما ذكره أحد المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، موضحا أن هذه الشركات لا يمكنها التصرف على أنها جزر مستقلة بمنأى عن الأنظمة الدولية. وبلغ حجم الغرامات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على جوجل وحدها خلال السنوات الأخيرة أكثر من 8 مليارات دولار، كما أنه يجري تحقيقات في قضايا ضد فيسبوك وأمازون وأبل. ويستهدف هذا القانون جميع الشركات التقنية التي تزيد قيمتها السوقية على 75 مليار دولار ذات المبيعات الأكثر من 7.5 مليار، ويزيد عدد مستخدميها على 45 مليون مستخدم.
وقد سبق الاتحاد الأوروبي الولايات المتحدة في سن هذه القوانين، رغم الدعوات المستمرة للرئيس السابق أوباما لسن أنظمة حاكمة للفضاء الرقمي. إلا أن جماعات الضغط التابعة للشركات التقنية الأميركية تمكنت من تعطيل العديد من القوانين الممررة للكونغرس، ورغم أن العديد من مديري ومؤسسي هذه الشركات سبق لهم وأن مثلوا للتحقيق أمام الكونغرس، فإن الولايات المتحدة لم تصدر نظاما واحدا يحد من الممارسات الاحتكارية أو التي تضر بالمستخدمين. ويبدو أن الرأسمالية الأميركية تفضل دائما رجال الأعمال على حماية المستهلكين، وقد شبه أحد الكتاب هذا الموقف بالتنظيمات الأميركية المتعلقة بمكافحة التدخين، والتي تمكنت شركات التبغ بتعطيلها لأكثر من 50 سنة من أول تقرير طبي وضح أضرار التبغ.
إن قانون الخدمات الرقمية هو نقطة تحول في الفضاء الرقمي، وهو قانون سنه الاتحاد الأوروبي على نطاقه الجغرافي فحسب، وقد يدخل حيز التنفيذ بداية عام 2024، وقد تلحقه في الأشهر القادمة دول أخرى. والاتحاد الأوروبي بهذا القانون فرض سيادته على الشركات التقنية العملاقة، بل وكلف هذه الشركات بدفع فاتورة الرواتب لـ200 موظف سيعملون في مراقبة الالتزام بهذا القانون، سماها «تكاليف رقابية». إلا أن هذا القرار يخضع لسيادة الدول التي قد تُخضع الشركات التقنية لقوانينها الخاصة والمتفاوتة. فما يعد ممنوعا في دول قد لا يكون كذلك في دول أخرى، وما قد تراه بعض الدول خطاب كراهية، قد يكون حقا ديمقراطيا في دول أخرى. ويجب التذكير أن الاتحاد الأوروبي لم يسرع في هذا القرار إلا بعد الحرب الروسية الأوكرانية بعد أن وجد حاجة ماسة وأمنية إلى إخضاع الشركات التقنية إلى مراقبة المحتوى. أي أنه اتخذ هذا القرار بناء على مصلحته فحسب، وهو ما يعني أن بقية الدول سوف تتخذ القرار بحسب ما يناسب توجهاتها السياسية ومصالحها الأمنية والاقتصادية، دون أي تبعية مطلقة للاتحاد الأوروبي. وبكل الأحوال فإن الأشهر القادمة ستشكل تحديا للشركات التقنية العملاقة التي لطالما استمتعت بهامش حرية عالٍ مكنها من الاستحواذ على السوق دون أي منافسة حقيقية أو صرامة تشريعية دولية.

د. عبدالله الردادي

في الاستدامة: العلم قبل المال!

مما سيُعين على تطوير العمل المناخي على أرض الواقع والوفاء بالتعهدات الدولية الملزمة، الاستفادة من أهل العلم من الباحثين والخبراء الذين تذخر بهم الجامعات ومراكز البحث. فلم يُرشد الناسَ ابتداءً بالكوارث المناخية المحدقة بهم إلا دراساتُ العلماء التي حذّرت مبكراً من استحالة استمرار انتهاك الطبيعة، التي تؤوي الناس، على هذا النحو الجائر.
فقد قدم العلماء الدلائل على مخاطر تجاهل آثار الانبعاثات الضارة بالمناخ والبيئة، وأن الطبيعة بما يجري فيها من زيادة حدة الفيضانات والأعاصير وانتشار حرائق الغابات وأزمات التصحر والجفاف بضحايا من البشر وخسائر في الممتلكات، وأضاع العالم بتزكية نفر من المنتفعين بالأوضاع القائمة عقوداً طويلة دون اتخاذ إجراءات حاسمة بين متجاهل ومنكر، وعندما تبين الخطر للعيان سادت حالات الارتباك المعتادة في مواجهة الأزمات التي لم يحسن التوقي منها، واستحال الارتباك إلى فوضى مع مشكلات في إدارة التحول خصوصاً في ملفات الطاقة وتأمين الوقود التي استفحلت مع الأزمة الأوكرانية الأخيرة. ولم تكن هذه الحالة الأولى طبعاً التي يدفع فيها ثمن الأزمات البريءُ قبل المذنب، ولن تكون الأخيرة.
وكأن الطبيعة تستصرخ الناس لوقف تخريبها منذرةً بكوارث أكبر تلحق بأسباب الحياة والمعيشة إذا لم تتخذ إجراءات عاجلة. ومن أهم هذه الإجراءات ما يلزم اتّباعه لتخفيض درجة حرارة الأرض بألا تتجاوز 1.5 درجة مئوية عمّا كانت عليه مع بداية الثورة الصناعية. ومن المعلوم أن اتفاق باريس بشأن المناخ الذي أبرمته حكومات العالم قد اكتفى بألا تتجاوز هذه الزيادة درجتين مئويتين، ولكن الدراسات العلمية الأحدث ذهبت إلى أن هذا يعد مخاطرة كبرى، خصوصاً مع الارتفاعات المتزايدة لدرجة حرارة الأرض لتصل بالفعل إلى نحو 1.1 درجة مئوية عمّا كانت عليه قبل الثورة الصناعية.
ومن الجدير بالذكر أن التعهدات المقدَّمة من الدول إلى سجلات الأمم المتحدة من شأنها أن ترفع درجة حرارة الأرض إلى مستويات خطيرة بزيادة قدرها 2.7 درجة مئوية، وأن ما أُعلن من وعود جديدة في جلاسجو في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في شهر نوفمبر الماضي سيصل إلى تخفيض لن يتجاوز 1.8 درجة مئوية، هذا إذا ما تحققت الوعود والتزم أصحابها بالوفاء بها، وكالمعتاد يقل الوفاء بالعهد في غياب الشفافية، فمن أَمِن العقوبة أساء العمل واستمرأ في غيّه بوعود أخرى كسابقاتها.
وقد عمت الشكوى من نقص المعايير التي يمكن الاحتكام إليها في التقييم والمقارنة وانتشرت ظاهرة ما يُعرف «بالغسل الأخضر» بادّعاء شركات ومؤسسات مالية وجهات أخرى بالتزامها التعهدات المناخية ثم يتبين اختراقها لهذه التعهدات. فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» اللندنية أن أكثر من 2900 صندوق استثماري حول العالم يدير أصولاً مالية تقدَّر بنحو 2.7 تريليون دولار. وأن معيار جذب هذه الأصول المالية هو أن تتحرى قواعد الاستثمار المؤثر إيجابياً على البيئة والمجتمع فيما يُعرف اختصاراً بحروف «إي إس جي» باللغة الإنجليزية في إشارة إلى التزامها الاعتبارات البيئية والاجتماعية فضلاً عن الحوكمة. وقد شهدت تعبئة الأموال في هذه المجالات طفرات مع إعلان كثير من هذه الصناديق توافقها أيضاً مع أولويات العمل المناخي والاستدامة. ومع زيادة الإقبال على هذه الاستثمارات وإدارة الأصول المالية ازدادت مكاتب الاستشارة العاملة في التصنيف لترتيب أهمية وفرص الاستثمارات المتاحة حول العالم وجدارة صناديق الاستثمار العاملة في هذا المجال. ولكن يعيب مكاتب التصنيف الاستشارية هذه أن لكل منها منهجاً مستقلاً وأساليب مختلفة للتقييم بما يعقِّد من عمليات المقارنة، فمن الممكن أن يصنَّف أصل مالي أو استثمار في مشروع تصنيفاً عالياً وفقاً لتصنيف أحد المكاتب الاستشارية ويخفق في أخرى بما يضلل المستثمرين ويصيب عموم الناس بالحيرة أيُّ الصناديق أفضل أداءً. كما تشير دراسة من خبراء مدرسة سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أن هذه التضاربات والاختلافات في أسس التقييم والتصنيف من شأنها أن تقف حجر عثرة في سبيل التطوير وتحسين الأداء في غياب اتفاق على طبيعة الإجراء الذي من شأنه الارتقاء بالأداء أو تخفيض المخاطر.
وقد جدَّ جديد فيما يتعلق بتعهدات القائمين على الشركات والمستثمرين والمدن والأقاليم بشأن تغيرات المناخ، وهي المجموعة التي تشكِّل مع غيرها من الأطراف غير الحكومية الزخم العملي والتنفيذي خارج الدوائر الحكومية المعنية الإطارَ الرسمي للتفاوض. فقد تشكلت مجموعة خبراء دولية من الأمم المتحدة لمتابعة التعهدات المناخية والتحقق منها، إدراكاً لأنه لا سبيل للتعامل مع هذه التحديات المتعلقة بالتعهدات وتنفيذها وجودة الاستثمار فيها إلا بالاتفاق على المفاهيم والمعايير والإجراءات واجبة الاتباع للتعامل تطبيقياً مع هذه الاستثمارات بالتعرف على مجالاتها ومدى توافقها مع ما تعلن عنه والإفصاح عنه.
وقد شكَّل مجموعةَ الخبراء الدولية الأمينُ العام للأمم المتحدة لمتابعة تعهدات الحياد الكربوني من المؤسسات والأطراف غير الرسمية. وضمت عدداً من الخبراء المرموقين في مجالات العمل المناخي والبيئي والتمويل والتنمية والرقابة، وتم اختيار وزيرة البيئة والمناخ السيدة كاثرين ماكينا، لرئاسة المجموعة التي ستُصدر توصياتها قبل نهاية هذا العام في المجالات الأربعة الآتية:
أولاً، مراجعة المعايير والمفاهيم المعمول بها في تحديد أهداف الحياد الكربوني وتخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ إلى الصفر.
ثانياً، الأسس المستند إليها في تحديد أهداف الحياد الكربوني وتخفيض الانبعاثات الضارة، وأساليب القياس والإفصاح.
ثالثاً، الخطوات العملية المتخَذة للتحقق من سلامة الإجراءات والحساب الدقيق لتحقيق الأهداف المعلنة عن الحياد الكربوني.
رابعاً، التعرف على خريطة الطريق لترجمة المعايير والأسس المتفق عليها لقواعد رقابية دولية ووطنية.
وحريٌّ بهذه المجموعة أن تستعين بالكفاءات والخبرات التي تتباهى بها الجامعات ومراكز البحث المرموقة ضماناً للاستفادة من مستجدات العلم واحترامه للحقائق والأدلة. ولعلنا ونحن بصدد الإعداد لقمة جديدة للمناخ في نوفمبر المقبل في شرم الشيخ نبني على إسهامات التجمعات العلمية في مساندة قمة جلاسجو السابقة. ومن هذه الإسهامات ما كان من شبكة الجامعات لقمة المناخ التي كانت برئاسة مشتركة لأستاذتين مرموقتين هما إميلي شوكبرغ بجامعة كمبريدج، وإليسا غيلبرت بكلية لندن الإمبراطورية، ومعهما لفيف معتبَر من خبراء وباحثي المعاهد والجامعات العلمية.
فإذا أُتيحت الفرصة لمؤسسات البحث العلمي تجدها لا تتوقف بفرقها المتخصصة عند تشخيص الداء لأسباب تدهور المناخ، بل تطوّر حلولاً عملية للتخفيف من الانبعاثات الضارة وتخفيض ملوثات البيئة والتكيف مع آثار ما لحق بالمناخ من أضرار. وأصبحت هناك بدائل تكنولوجية مجدية منخفضة التكلفة لمصادر الطاقة ووسائل النقل وتطوير التجمعات العمرانية والتوسع في التصنيع والزراعة، وجاء ذلك كله بفضل الاستثمار في رأس المال البشري وفي البحث العلمي وتعزيز تعاونه مع قطاعات الإنتاج والأعمال في تحويل التجارب المعملية إلى مشروعات واسعة النطاق، وتحقيق طفرات في جهود العمل وإرشاد صانع القرار السياسي ومتابعة المستجدات في مجالات الاستثمار والوفاء بالتعهدات خصوصاً في مجالات التكيف التي عانت من إهمال في السياسات والاستثمارات المطلوبة في إدارة المياه وتوفير الغذاء وحماية البنية الأساسية والمناطق الساحلية وبرامج التنمية الريفية والحضرية.
تتيح جهود تحقيق التنمية المستدامة، التي تتضمن التصدي لتغيرات المناخ، فرصاً كبرى لمشاركة دوائر العلم والبحث في تقديم الحلول العلمية وتطوير السياسات ورفع كفاءة المؤسسات التنفيذية من حيث تبدأ المشكلة وتنتهي على المستوى المحلي، وكذلك على مستوى الدولة والمستويين الإقليمي والعالمي. عندما تستقر هذه الحلول العلمية وتُمكَّن من القيام بدورها سيكون التمويل الهائل المطلوب لتحقيق أهداف التنمية وحماية البيئة والمناخ أكثر اطمئناناً على مساراته أن تَضل أو تُضلَّل.

 

د. محمود محيي الدين

اقتصادي مصري

دليل الحائرين إلى كيفية تدمير العالم!

هذا العنوان لا علاقة له بالحرب البائسة في أوكرانيا التي لم تضع أوزارها بعد حتى كتابة هذه السطور، ولا صلة له برؤوس نووية تتحكم فيها أكواد سرية يرجى أن تكون في أيدٍ أمينة، توجهها عقول رصينة. فقد اطلعت على كتاب عجيب يخلط بين الجد والمزاح، ويجمع بين العلم الرصين والهزل. وهي متناقضات قد تعين في تفسير الفوضى التي تكتنف عالمنا بأحداثه المتوالية التي تشبه الملهاة في عبثها بأحوال البشر. أما الكتاب فهو لمبرمج الكومبيوتر الكندي ريان نورث، وهو نفسه مؤلف سلاسل كوميدية شهيرة عن الديناصورات، وقد راجت مؤلفاته الأخيرة انتشاراً، بما في ذلك كتابه الأخير المعنون «كيف تسيطر على العالم.. أساليب عملية وحلول علمية للأشرار الطموحين».
ويعدد نورث مداخل مختلفة لهؤلاء الأشرار في سعيهم للسيطرة على العالم وتدميره، ومن أبرزها العمل على تدهور المناخ، وكذلك تدمير الإنترنت بأساليب متطورة تكنولوجياً، وهي بالمناسبة ذات السبل التي يمكن استخدامها لحماية العالم من هذه التهديدات إذا أتيحت لمن يرغب في الدفاع عن نظم البيانات والمعلومات الأساسية بتدعيم أمنها السيبراني أو حماية المناخ من مزيد من التدهور على النحو الذي سيوضحه هذا المقال.
وفي وصفه لجرائم الأشرار يحدد ريان نورث ثلاثة مكونات للجريمة الكاملة تبدأ بالتخطيط المحكم ثم التنفيذ باحتراف ثم الهرب بمهارة، ولكن هذا في تقديره عمل الأشرار المستجدين من منسوبي المراحل الأولية في الجرائم ضد العالم والبشرية. ولكن الشرير القدير هو من تطور بما يتجاوز هذه الحدود المتواضعة في الشر التي لا تهدف إلا لحماية المجرم فلا يظهر بجرمه للعيان متلبساً ثم يصعب تعقبه إذا أفلح في الهرب من دون أثر. ولكن صاحب هذا الشر المستطير لا يرغب في أن يكون مجهولاً في سجلات التاريخ بل متصدراً لصفحاته، والأدهى بأن صاحب الجريمة الكاملة من هذا الصنف اللئيم يسعى لأن يُذكر بأنه بطل مغوار وألا يحسب أبداً من زمرة الأشرار. فستجده يُشكر على جريمته ويمجَد على فعلته، ولم لا فسيظهر للناس بأنه من منقذي العالم والبشرية، وإذا أتت النتائج كاشفة عن مساعيه في الدمار فسرعان ما ستظهر له أبواق الممجدين لجده واجتهاده، مدعية أنه قد حالت بينه وبين مراميه السامية أنواء معاكسة وظروف قاهرة.
من عجب أن هذا العالم الذي تشغل أولى اهتماماته اليوم حرب كان يمكن تفاديها حقناً لدماء الأبرياء ومنعاً لمزيد من الانهيارات الاقتصادية، ما زال يعاني رسمياً من جائحة، لم يعلن أحد انتهاءها، أصابت أكثر من 470 مليوناً من سكانه بالمرض، وقضت على حياة ما يزيد على 6 ملايين إنسان، وتستمر في تهديدها لحياة مزيد من البشر وأسباب معيشتهم. إذا كان هناك حماس لحرب واستعداد لتضحية في سبيلها فلتكن حرباً على الوباء الفتاك أو حرباً على فقر مدقع ازداد بسببها عما كان قبلها، أو حرباً على البطالة التي ازدادت بسبب نمو متراجع عما كان مقدراً له للتعافي، أو حرباً على التضخم الذي سيتجاوز 5 في المائة في أغلب البلدان المتقدمة، وسيشعر به غلاءً أهل البلدان المتقدمة في موجات لارتفاع في الأسعار لم يشهدها العالم منذ 4 عقود، أو فلتكن حرباً على الديون الخارجية التي لم تشهد مثلها البلدان الأفقر دخلاً منذ نصف قرن. وسيتبين للباحثين عن مسببات هذه الأزمات أن الجائحة كانت كاشفة لعلل النظم الاقتصادية المتبعة، وأن الأعراض المشاهدة هي لأوجه خلل ازدادت استفحالاً بعد الأزمة المالية العالمية. وفي كل الأحوال لن يمكن تعليق تدهور المشكلات الاقتصادية العالمية الراهنة على مشاجب الحرب الأوكرانية، بالادعاء أن الأمور كانت تسير في أعنتها، ولكن عرقلتها الجائحة ثم أربكتها الحرب. فالعالم يعاني من مشكلات تفاوت حاد في توزيع الدخل والثروة، وخلل ديموغرافي، وتهديدات مناخية، زادت من آثارها السلبية سوءاً ويلاتُ الحرب وضحاياها والنزاعات الجيوسياسية والجائحة.
وبعد حديث مسترسل عن حالة اللايقين التي تعقّد من أمر التحليل الاقتصادي، وتزيد من صعوبة تحديد إجراءات السياسات العامة الأولى بالاتباع، حري بنا اليوم استناداً إلى أدلة دامغة على أن هناك حالات من اليقين الذي لا يمكن التغافل عنها، بوهم اللايقين، فيقيناً هناك تراجع للنمو والاستثمارات والتجارة والتقارب الاقتصادي بين الدول وداخلها، ويقيناً هناك زيادة في التضخم والفقر وسوء التغذية والديون واحتمالات التعثر في سدادها، ويقيناً العالم ليس على مسار تحقيق الاستدامة، بمفهومها الشامل الذي يتضمن أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي يجب تحقيقها قبل عام 2030، ولسنا كذلك على نهج تحقيق الاستدامة بمفهومها المحدد المرتبط بالتصدي لتغيرات المناخ وتلبية تعهدات اتفاق باريس لعام 2015.
فقد أفصح التقرير العلمي للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أننا بعيدون عن أهداف الحياد الكربوني المتعهد بها، وأننا بدلاً من أن نخفض الانبعاثات الضارة بالمناخ بمقدار 45 في المائة بحلول عام 2030 فإننا نزيدها بنحو 14 في المائة بانحراف بمقدار 60 في المائة تقريباً عن المستهدف.
ومن المزعج حقاً أن الحلول العلمية للتصدي لتغيرات المناخ متعارف عليها بزيادة الاستثمارات في مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة، ولكن إدارة عملية التحول تعاني من تردد وتخبط في البلدان المتقدمة، ويضاف إلى هذه المشكلات عجز في التمويل في البلدان النامية، خاصة مع التقصير المستمر في الوفاء بوعود قطعت منذ قمة كوبنهاغن في 2009 فيما يتعلق بتوجيه 100 مليار دولار من البلدان المتقدمة إلى النامية، وهو ما لم يتم تلبيته في أي سنة حتى انعقاد قمة غلاسكو العام الماضي، هذا رغم ميوعة أساليب التقدير لما يمكن اعتباره فعلاً تحويلاً مالياً لأغراض التصدي لتغيرات المناخ، سواء من خلال التخفيف للانبعاثات الضارة أو التكيف مع آثارها. ناهيك عن متطلبات الملف الحرج المتعلق بالخسائر والدمار الذي لحق بالبلدان النامية، تضرراً من الانبعاثات الضارة بالمناخ وتراكمها منذ الثورة الصناعية الأولى.
لم يعد هناك من شك أن تغيرات المناخ، حتى بافتراض بقائها عند مستويات الحرارة الحالية، أمست مهددة لوجود البشرية، وهذه التغيرات الحادة المتوالية في الطقس والأعاصير والفيضانات وحرائق الغابات وانتشار حالات الجفاف من مظاهرها المتكررة خسائر في الأرواح والطبيعة والتنوع البيولوجي والمنشآت وعوامل الإنتاج وما يرتبط بذلك من تهجير للسكان.
تذكر وحدة أبحاث الإكونوميست البريطانية أن حرب أوكرانيا من شأنها تبديل شكل ممارسة الأعمال وأنماط التجارة بين الدول على 5 محاور؛ مزيد من الإرباك لسلاسل الإمداد التجارية، رفع لأسعار الطاقة والأغذية بما يهدد الأمن الغذائي، زيادة الاستثمارات في الطاقة المتجددة في الدول المتقدمة على حساب الدول النامية، التعجيل بالحلول الرقمية لعملات البنوك المركزية لتفادي النظام النقدي والمالي المعتمد على الدولار خشية وقوعها مستقبلاً للعقوبات من خلال تسليح الأدوات المالية، مثلما حدث مع روسيا، مزيد من التوترات الجيوسياسية فيما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات واستخداماتها وزيادة مخاطر الأمن السيبراني. في تقديري أن هذه مجرد مظاهر تفصيلية لعالم شديد التغير يشهد إرهاصات تكون نظام جديد يعكس تغير أوزان القوى الاقتصادية، وحتى تتضح المعالم وتتجلى قواعد نظام جديد سيستمر التعامل بما زال متاحاً من بقايا نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية وترتيبات ما بعد الحرب الباردة، حتى حين.

 

د. محمود محيي الدين

أزمة الطاقة والتضخم المالي

الشهر الحالي، يعني الربيع، وتغير التوقيت الشتوي إلى الصيفي يجعل النهار المشمس أطول، وظهور براعم الزهور على الأغصان يلون لوحة فنية للطبيعة تدعو إلى التفاؤل، لكنه مشهد من النافذة الإنجليزية فقط، فوراء الزجاج البارد الملمس، يوجد واقع آخر يوحي بأن المشهد خداع «فلا ربيع ولا يحزنون».
في الصباح كانت قطرات الثلج في الحديقة، فأول من أمس كان من أكثر أيام هذا العام برودة حسب مكتب الأرصاد الجوية، والأيام التالية (درجة الحرارة ما بين تحت الصفر والحد الأعلى ثماني درجات مئوية).
وخلافاً للعادة، لم تكن الأخبار الأولى عن خدعة أبريل (نيسان)، ورواج التجارة تسوُّقاً لعيد الفصح، بل كانت أخباراً تدعو للاكتئاب؛ ولا أقصد الحرب الدائرة في أوكرانيا وتدفق اللاجئين، فقد انسحبت أخبارها إلى الصفحات الداخلية.
الخبر الأول في نشرات التلفزيون والإذاعة، يركز على حالة بؤس اقتصادي تعيشها ملايين الأسر البريطانية بتضافر عوامل جعلت معدلات التضخم هي الأعلى منذ أربعة عقود.
العامل الأكبر تأثيراً، هو زيادة أسعار الغاز والوقود، وارتفاع الفواتير للبيوت وللنشاط الاقتصادي من الخدمات الفردية إلى الأعمال الكبرى بقرابة الثلثين، بعد انتهاء الفترة الموسمية التي تحدد فيها الحكومة سقف زيادة أسعار الوقود. شبكات التلفزيون والإذاعة أيضاً خصصت برامجها الحوارية لاستضافة خبراء ومتخصصين ينصحون الناس «الغلابة» بكيفية التوفير.
الخبر الثاني نشطاء حركة البيئة «إكستنينكشن ريبلليون» (يدعون أن التغير المناخي سيؤدي إلى فناء العالم) احتلوا الطرق أمام مراكز مستودعات البترول والديزل وزيوت وقود التدفئة في مناطق مختلفة في جنوب ووسط إنجلترا، ومنعوا الشاحنات من التحرك. ولمعلومات القارئ، فإن ملايين المساكن وأماكن النشاط في الريف البريطاني ليست مثل المدن موصلة بشبكات مواسير غاز التدفئة وأسلاك كهرباء الضغط العالي، بل تعتمد على زيوت الوقود (كالكيروسين) التي تخزن في صهاريج صغيرة تتراوح سعتها بين ما يكفي أسبوعاً، إلى شهر. ومنع الزيت من الوصول للناس في أيام شديدة البرودة أصبح خبراً؛ فمعظم مستهلكي الزيت أبقوا مستودعاتهم فارغة لشراء الحد الأقصى من الوقود بأسعار الخميس مارس (آذار) قبل ارتفاع الثمن أول الشهر، وليس في الصهاريج ما يكفي لتدفئة بيوتهم في الأيام القادمة بسبب منع النشطاء (وأغلبهم من أبناء الطبقات الميسورة المرفهين الذين لا عمل حقيقياً لهم) وصول الوقود إليهم. البرد في المنازل غير المدفئة بشكل كافٍ يتسبب في موت عشرة آلاف شخص من كبار السن في بريطانيا سنوياً، وذلك قبل أزمة الوقود؛ وارتفاع الأسعار.
المعارضة توجه اللوم للحكومة، وتدعمها التيارات الليبرالية اليسارية في صناعة الرأي العام بانتقائية التغطية الإخبارية، ولا تذكر أن الأدوات المتاحة للحكومة للتعامل مع الأزمة محدودة!
معدلات التضخم، وإضرابات عمالية قبل أربعة عقود كانت وراء فقدان حكومة العمال ( – ) بزعامة جيمس كالاهان ( – ) للانتخابات، وبقائهم خارج السلطة لعقدين.
أحداث سبعينات القرن والتي بدأت بارتفاع أسعار الوقود بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) ، وأنهت حكومتهم ( – ) بزعامة السير إدوارد هيث ( – ) لا تزال في وعي ساسة المحافظين، ولا يريدون أن تنتهي فترة حكمهم منذ (وهي من أكثر الفترات نجاحاً اقتصادياً) بتكرار ما حدث للعمال في السبعينات.
مساحة تحرك الحكومة للتعامل مع الأزمات في الديمقراطيات البرلمانية محدودة، فلا تستطيع اتخاذ قرارات أو تصدر قوانين فورية التطبيق، فهناك ضوابط وتوازنات وقضاء مستقل، وقانون لا تستطيع الحكومة نفسها مخالفته. عادة ليس أمام الحكومة إلا السياسة الضرائبية، واستثناءات ما تسمح به لوائح وزارة المالية، حتى سعر الفائدة في يد بنك إنجلترا المركزي وقراره مستقل عن الحكومة.
وزير المالية، ريشي سوناك، في ميزانية الربيع قبل أيام، خفض الضريبة على وقود الشاحنات والسيارات لتخفيف ارتفاع أثمان نقل الأغذية، ومنحة وزارة المالية للحكومات المحلية بخصم مؤقت من ضريبة العقار لبعض الأسر لا كلها؛ لكن عوامل أخرى تؤثر على التضخم كشحن الواردات من الخارج ومواد التعبئة والتغليف، والتكاليف والرسوم التي تدفعها شركات نقل الأغذية والمواد الأساسية، لكنها إجراءات بسيطة لن تؤثر على معدلات التضخم أو ارتفاع أسعار فواتير الغاز، بشكل يساعد الغالبية وهم ذوو الدخول المحدودة.
أحزاب المعارضة، تريد من وزير المالية أن يقدم المزيد لمساعدة ذوي الدخول المحدودة ودعم أسعار الطاقة، كما تتهمه بتعمد عدم تخفيض الضرائب، ورفع رسوم الضمان الاجتماعي كضريبة مقنعة، وهي خطته كي يخفض الضرائب قبل الانتخابات القادمة في ليجذب مزيداً من الأصوات للمحافظين.
المعارضة العمالية والتيارات الاشتراكية والديمقراطيون الأحرار، يطالبون بفرض ضريبة استثنائية على شركات البترول والغاز لأنها «حققت أرباحاً استثنائية من ارتفاع أثمان البترول والغاز». «الإغارة» على الأغنياء وآيديولوجية الحقد الطبقي التي تحرك السياسات الاشتراكية دائماً وبلا استثناء تؤدي لنتائج عكسية.
فلا توجد ضريبة استثنائية في الخريف حيث يتوقع عند ارتفاع أثمان الطاقة!
والضريبة الاستثنائية ستؤدي إلى هروب الاستثمارات التي تحتاجها بريطانيا، بما فيها الاستثمار في وسائل الطاقة الخضراء التي تمولها شركات الطاقة (وهي من أحد أسباب ارتفاع فواتير الغاز) وتصر عليها تيارات البيئة اليسارية.
كما أن أرباح هذه الشركات تذهب إلى حملة الأسهم، وبعكس ما تروجه الصحافة الاشتراكية مثلاً، فالغالبية العظمى من حملة الأسهم هي مؤسسات مالية ترعى صناديق المعاشات واستثمارات التقاعد لملايين من العاملين وأصحاب الحرف الصغيرة، والتي يدعي الاشتراكيون أنهم يمثلونهم.
باستثناء صحافة يمين الوسط، وخدمة جي بي نيوز (والتي تمثل أقل من خُمس صناعة الرأي العام) كل التغطية الصحافية تتجاهل تعطيل محتجي البيئة لوصول زيت التدفئة للمساكن، وأثر نشاطهم على تعطيل الاستثمار في بناء محطات توليد الطاقة النووية، وهجر استخراج الغاز الصخري وغاز وبترول الحقول والمياه البريطانية كسبب رئيسي في أزمة الطاقة الحالية والاعتماد على استيراد الغاز من الخارج.
ساسة اليسار وحركة البيئة لا يذكرون أي حلول للتعامل مع المشاكل الآنية الحالية كخفض أسعار الوقود وتوفير الاحتياجات الأساسية، بل يركزون على اقتراحات ومشاريع بشعارات مثالية براقة على المدى طويل وباهظة التكاليف كتوليد الطاقة من الرياح التي لا يضمن استمرار هبوبها. استمرار حكومة المحافظين في تبني دعوة متطرفي ناشطي البيئة، ورفضها استغلال الموارد المتاحة لعلاج أزمة للطاقة قد يكلفها الانتخابات القادمة.

عادل درويش

عقيدة «بتكوين»

«أنا لا أملك أي عملات مشفرة، ولن أملكها أبداً»، كرر الملياردير الأميركي وارن بافيت هذه العبارة مراراً وتكراراً في أكثر من لقاء تلفزيوني، مبيّناً وجهة نظره بشكل صريح ومباشر في العملات الرقمية التي وصفها سابقاً بـ«سم الفئران»، قبل أن يصفها في لقاء لاحق بـ«سم الفئران تربيع». هذه العبارات الحادة، واجهتها أخرى أكثر حدة من دعاة «بتكوين»، وتحديداً من بيتر تيل، الملياردير الأميركي الآخر أحد مؤسسي «باي بال»، وأحد أوائل المستثمرين في «فيسبوك».

ففي مؤتمر «بتكوين» الذي عُقد في ميامي الأسبوع الماضي، شن تيل هجوماً صارخاً وشخصياً على بافيت، بسبب مواقفه من «بتكوين»، وعدّه العدو رقم واحد لها، واصفاً إياه بـ«الجد المعتل اجتماعياً». هذا الهجوم المتبادل والمستمر بين مؤيدي العملات المشفرة ومناهضيها جعل هذا الخلاف كأنه خلاف عقائدي، وليس خلافاً في فلسفة اقتصادية أو استثمارية، لا سيما أنه يأتي من كبار المستثمرين في التيارين، فما نقاط الخلاف الرئيسية بين هذين التيارين؟

البداية مع بافيت، الملياردير الذي عُرف بحكمته المالية التي يتناقلها الناس. رأي بافيت بسيط في العملات المشفرة –وليس «بتكوين» فقط– وهو يتلخص في نقطتين، الأولى أن العملات المشفرة لا قيمة لها بحد ذاتها، وهي بذلك –في نظره– أقرب للوهم. النقطة الثانية تتعلق بعوائد العملات المشفرة، ويرى بافيت أن الأصول المدرّة مثل المزارع، تدر عوائد سنوية إضافة إلى قيمتها. فملّاك المزارع يراقبون أسعار المحاصيل للنظر في مدى الربحية، ولذلك فعند شراء هذه المزارع لا يُنظر في قيمتها فحسب؛ بل إلى ما تدره من دخل. أما في حالة العملات المشفرة، فإن الشيء الوحيد الذي يعطيها قيمة، هو وجود مشترٍ آخر لها، ولذلك فحين يشتريها شخص، فهو يفعل ذلك على أمل أن تزيد قيمتها ليبيعها لشخص آخر يأمل في الأمر ذاته. ولذلك فقد كرر بافيت كثيراً أن نهاية العملات المشفرة نهاية سيئة، وأنها لن تبتعد عن نهاية «التوليب» التي حدثت في هولندا في القرن السابع عشر الميلادي.

وبينما لم يُعرف بافيت بتصريحاته الحادة، عُرف عن تيل تصريحاته النارية والمثيرة للجدل. وتيل هو أحد أوائل المستثمرين في وادي السيليكون، وقد وصف «باي بال» -وهو أحد مؤسسيها- بأنها شركة محبطة، وأنها لم تفِ بما كان مأمولاً منها، ويذكر أن القيمة الحالية لهذه الشركة 130 مليار دولار.

انضم تيل إلى الحزب الجمهوري بداية رئاسة دونالد ترمب، وكان أحد الممولين لحملته الانتخابية. ويرى أن الاستثمار في «بتكوين» هو قرار سياسي، وأن «بتكوين» عبارة عن حركة شبابية ثورية قد تقلب الطاولة على النظام المالي التقليدي وتهدد القوى الحالية. وإضافة إلى هجومه على بافيت في مؤتمر ميامي، فقد استخدم وصف «الشيخوخة المالية» لوصف كل من المدير التنفيذي لـ«جي بي مورغان» ورئيس صندوق «بلاك روك»، وادعى أنهما يسعيان إلى إقصاء العملات المشفرة. واستمر هجوم تيل في المؤتمر، ولكن هذه المرة على القائمين على المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG)، ووصفهم بأنهم جزء من النظام المالي الساعي إلى سحق كل ما يهدد بقاءهم، وأنهم تحولوا إلى مصنع للكراهية، وشبَّههم بالحزب الشيوعي الصيني. وسبب هجوم تيل عليهم هو وصف «بتكوين» بأنها عملة ملوثة للبيئة، بسبب ما تستهلكه من طاقة أثناء عملية التعدين.

ويرى تيل -كغيره من كثيرين من المتحمسين للعملات المشفرة- أنها ستكون عملة المستقبل، وأن النظام المالي الحالي يشهد نهايته، وأن البنوك المركزية على وشك الإفلاس. وبالمقابل، فهو يصف «بتكوين» التي تُقيّم حالياً بنحو 830 مليار دولار، بأن لديها القابلية لتصبح نظيراً عالمياً للذهب الذي يساوي حالياً أكثر من 13 تريليون دولار. وادعى أن قيمة «بتكوين» قد تصل إلى أن تساوي قيم الملكيات العامة في العالم (115 تريليون دولار)، تماماً كما ساواها الذهب في السبعينات الميلادية. وحث حضور المؤتمر على أن يقاتلوا لكي تزيد قيمة «بتكوين» على 10 مرات، ومن ثم 100 مرة من القمة الحالية. واختتم المؤتمر بقوله: «يجب أن نخرج من هذا المؤتمر ونكتسح العالم».

الخلاف بين التيارين خلاف استثماري بحت، ولكنه تحوّل إلى عداء؛ لأسباب، منها: استنقاص مناهضي العملات المشفرة لها، وعلى رأسهم بافيت الذي يرى أن الناس يحبون الاستثمار فيما لا يفهمونه، وليس أفضل من «بتكوين» في ذلك، بينما يرى مؤيدو «بتكوين» أن هذا الاستثمار لا يناسب كبار السن، في إشارة إلى الفارق العمري بين مستثمري التيارين. والأكيد أن تيل ليس الشخص المناسب ليمثل مستثمري جيل الألفية، وهو الذي يبلغ من العمر 54 عاماً، ويستخدم مصطلحات مثل «ثورة الشباب»، وهو المصطلح المستخدم في أميركا في السبعينات الميلادية، في مطالبات الحقوق المدنية!

 

د. عبد الله الردادي

اقتصاد المؤثرين

لعقود طويلة احتل الفنانون واللاعبون اللوحات الإعلانية، وارتبطت أسماء العديد منهم بالماركات المشهورة، حتى استحدث مبدأ (سفير الماركة)، وأصبح أحد المبادئ المعتادة في التسويق. وبظهور الثورة الرقمية في العقدين الأخيرين، ظهر نوع جديد من التسويق يعتمد على نوع آخر من المشاهير، ليسوا أولئك المشاهير في الرياضة أو الفنون، إنما مشاهير العالم الافتراضي الذين يُطلق عليهم اصطلاحاً (مؤثرو مواقع التواصل الاجتماعي). وهم مستخدمو هذه المواقع ممن لديهم عدد كبير من المتابعين، ولهم تأثير كبير في سلوك متابعيهم. وأصبح هؤلاء المؤثرون أحد أكثر أنواع التسويق نمواً إن لم يكن الأكبر خلال الخمس سنوات الأخيرة.
ولم يزد حجم اقتصاد المؤثرين في 2016 على 1.7 مليار دولار، ليصل إلى 9.7 مليار عام 2020، و13.8 مليار نهاية العام الماضي. وبلغت نسبة الشركات المستفيدة من إعلانات المؤثرين نحو 65 في المائة في 2020، ويتوقع أن تزيد هذه النسبة لتصل إلى 75 في المائة بنهاية هذا العام. ويعد جيل الألفية من أهم الشرائح التي يستهدفها التسويق من خلال المؤثرين، ويتوقع أن يبلغ إنفاق هذا الجيل نحو 70 في المائة من الإنفاق السنوي العالمي على السلع الثمينة البالغ 350 مليار دولار عام 2025.
وتوصلت الدراسات إلى أن المستهلكين يثقون في المؤثرين أكثر من ثقتهم بالإعلانات التقليدية التي تنشرها الشركات من خلال الإنترنت. كما أوضحت أن المحتوى الذي يقدمه المشاهير أكثر تركيزاً وتوجيهاً للمستهلكين، مما يزيد قناعة المستهلكين بالمنتجات والخدمات التي يعلن عنها المشاهير. ويصل عدد المؤثرين اليوم بحسب مراكز الدراسات إلى نحو 50 مليون مؤثر حول العالم، ويرى أكثر من 90 في المائة منهم أنهم هواة وليسوا محترفين في هذه المهنة.
ولكن هؤلاء الهواة يشكّلون أهمية كبيرة في عالم التسويق بغض النظر عن مدى جدية ما يقدمونه من محتوى، وهم كذلك يحققون عوائد كبيرة حتى وإن لم تكن حصتهم كبيرة من هذه العوائد. فعلى سبيل المثال، فقد حقق المؤثر الصيني (لي جياكي) نحو 250 مليون مشاهدة خلال البث المباشر الذي عرضه قبيل يوم العزاب والذي استمر لنحو 12 ساعة متواصلة، وسوّق هو ومؤثر آخر ما قيمته 3 مليارات دولار من السلع خلال أقل من 24 ساعة. كما حققت الإيطالية (كيارا فيرانجي) عوائد زادت على 36 مليون دولار خلال زواجها الذي استمر ثلاثة أيام، مستفيدة من متابعيها في الإنستغرام الذين يزيدون على 27 مليون متابع.
وبسبب ازدهار التسويق عن طريق المؤثرين، فقد برز اقتصاد المؤثرين بشكل واضح، وأنشئت شركات وسيطة متخصصة في ربط المؤثرين بالشركات الإعلانية، ويزيد عدد هذه الشركات الوسيطة على 19 ألف شركة حول العالم، وزادت عوائدهم العام الماضي على 10 مليارات دولار، ويتوقع أن تصل هذه العوائد إلى 85 مليار في عام 2028، وهو ما يعني أن هذا الاقتصاد ما زال في طور النمو وما زال يشكّل الكثير من الفرص. وقد وصل حجم هذا الاقتصاد في الصين لوحدها عام 2020 إلى 210 مليارات دولار، أي أنه يُشكّل ما نسبته 1.4 في المائة من الناتج القومي الصيني، ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وقد أسهمت الجائحة في زيادة حجم هذا الاقتصاد، ففي فترة زاد ارتباط الناس بهواتفهم الذكية، كان لديهم الكثير من الوقت لمتابعة المشاهير وتسويقهم والبحث عن حلول تساعدهم في تمضية الوقت خلال الجائحة. وقد استفادت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل هائل من الجائحة، سواء من زيادة المشتركين، أو من عوائد الإعلانات. ويعد إنستغرام من أكثر المواقع التي تجذب المسوقين، ويأتي بعده فيسبوك، وتيك توك، ويوتيوب، وتويتر، وأخيراً سناب تشات. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الترتيب يختلف من بلد إلى آخر. وبالنظر إلى يوتيوب على سبيل المثال، وهو بالعادة يأتي في المراكز المتوسطة، فقد دفع إلى منشئي المحتوى العام الماضي أكثر من 30 مليار دولار!
إن اقتصاد المؤثرين هو من الظواهر التي فرضتها التقنية، والتي استثمرها العديد من المؤثرين بشكل حقق لهم عوائد طيبة، كما زاد من نشاط مواقع التواصل الاجتماعي وأضفى عليها استدامة من خلال تحقيقهم لأرباح هائلة. ولكن العديد من الدول اليوم وفي مقدمتها الصين بدأت في تضييق الخناق على هذا الاقتصاد، لا سيما من باب المسؤولية الاجتماعية. وقد أظهرت تقارير أن السلطات الصينية تخطط لفرض قيود على مقدار الأموال التي يجمعها المؤثرون من متابعيهم، ومراقبة ما يسمح لهم بنشره. كما تدرس العديد من الدول مدى تأثير هؤلاء المشاهير على المتابعين وخاصة من الناحية السلبية، حتى لا يكون تحقيق الأرباح لهؤلاء المؤثرين على حساب خداع عامة الناس.

د. عبد الله الردادي

«أوبك بلس»… التزام رغم الضغوط

أقرت مجموعة «أوبك بلس»، التي تضم 23 دولة بينها روسيا، خلال اجتماعها بالفيديوكونفرنس الأسبوع الماضي، الالتزام بسياستها لاستقرار الأسواق، بزيادة الإنتاج لشهر مايو (أيار) 432 ألف برميل يومياً، مقارنة بالزيادات الشهرية السابقة 400 ألف برميل يومياً، وخلافاً لمطالب الدول الغربية الداعية إلى زيادات أعلى وأسرع للتعويض عن الإمدادات البترولية التي قاطعتها الدول الغربية بسبب حرب أوكرانيا. وتوقعت وكالة الطاقة الدولية مقدار انخفاض الصادرات النفطية الروسية للدول الغربية، نتيجة قرارت الحظر والقرار الروسي الدفع بالروبل بدلاً من الدولار، ابتداء من أول شهر أبريل (نيسان) نحو من 2 إلى 3 ملايين برميل يومياً.
تختلف تقديرات المسؤولين في «أوبك بلس» عن معلومات ومعطيات وكالة الطاقة الدولية. فوجهة نظر المنتجين هي أن ارتفاع الأسعار إلى ما فوق 100 دولار قد سبق حرب أوكرانيا، كما أن إمكانية نقص من 2 إلى 3 ملايين برميل يومياً من الصادرات النفطية الروسية في هذه الأوضاع المضطربة كان سيرفع الأسعار إلى أعلى بكثير من 120 دولاراً. وموقف «أوبك بلس» هو أن أساسيات الأسواق لا تزال مستقرة وأن السبب في أوضاع السوق الحالية مرده تردي الأوضاع الجيوسياسية.
وبحسب البيان الصادر عن مجموعة «أوبك بلس»، «فإن أساسيات الأسواق الحالية وإجماع الآراء يشيران إلى توازن جيد في الأسواق، وإن الوضع المتقلب للأسعار لا يعود إلى تغير أساسيات السوق، بل إلى تطور الأوضاع الجيوسياسية الحالية». يكمن الهدف من هذه المعطيات في الاستمرار بتبني سياسة تدريجية شهرية لزيادة الإنتاج، للتعويض تدريجياً عما تم تخفيضه من الإنتاج عند هبوط الطلب خلال ذروة إصابات جائحة «كوفيد – 19»، وذلك للعودة لتوازن الأسواق. يؤكد قرار «أوبك بلس» نجاح التحالف البترولي الاستراتيجي السعودي – الروسي في تنسيق معدلات الإنتاج للأعضاء الـ23 في «أوبك بلس»، التي تضم بالذات أكبر دولتين منتجتين للنفط عالمياً، السعودية وروسيا، والتعاون القائم بينهما من خلال رئيس المجموعة وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان ونائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك.
من جانبه، قرر المجلس الوزاري لمنظمة «أوبك» التخلي عن استعمال أرقام الإنتاج لوكالة الطاقة الدولية ضمن المصادر الثانوية التي تعتمدها المنظمة، واستبدال أرقام الإنتاج للمؤسستين الاقتصاديتين «وود ماكينزي» البريطانية و«ريستاد إينرجي» النرويجية بها.
وقد اشتكت دولة الإمارات ودول منتجة أخرى من تسييس أرقام الإنتاج الصادرة عن الوكالة خلال الأشهر الأخيرة.
وفي ظل سياسات المقاطعة النفطية والمالية والتهديدات التي تطال كلاً من روسيا والصين، فإن دلت هذه المعطيات على شيء فهو بداية انتهاء نظام العولمة الاقتصادي الذي برز بعد انتهاء الحرب الباردة في الربع الأخير من القرن العشرين، حيث توسعت الأسواق الدولية والتجارة الخارجية والاستهلاك النفطي لتشمل التعاون الاقتصادي الذي كان جارياً بين الدول الغربية والشرقية.
من ثم، كيف يمكن في ظل أنظمة الحصار والمقاطعة والتهديدات التي، على ضوء التجارب، ستبقى مفروضة لفترة طويلة بعد انتهاء النزاع العسكري، استمرار انفتاح الأسواق والاستثمارات للشركات الروسية في بورصات نيويورك ولندن أو استثمار الشركات الغربية العملاقة في الاقتصاد الروسي؟ وما تأثير صدى هذه التهديدات الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا على دولة مثل الهند التي تحاول جاهدة توازن علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع واشنطن وموسكو في الوقت نفسه؟ وقد بدأت الشركات الروسية فعلاً منذ الآن في محاولة زيادة صادراتها النفطية بحسومات للهند رغم التهديدات الأميركية. وكانت قد استوردت نيودلهي نحو 100 ألف برميل يومياً من النفط الروسي العام الماضي، أو نحو 2.5 في المائة من مجمل الواردات النفطية للهند في عام 2021. لكن تعتمد الهند بصورة كبرى على استيراد المعدات العسكرية الروسية التي تشكل 85 في المائة من معدات الجيش الهندي. كما أن الهند عضو في تجمع مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا للحد من توسع النفوذ الصيني آسيوياً. لكن امتنعت الهند عن التصويت مؤخراً على مشروع قرار في الأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. ويشكل النزاع الحالي وانسحاب الشركات الغربية من روسيا، فرصة للشركات الهندية الضخمة للاستثمار في الصناعات الروسية.

وليد خدوري

الطريق الثالث بين روسيا والصين

قبيل الحرب الروسية الأوكرانية بأيام قليلة، أعلنت الصين وروسيا شراكة استراتيجية وُصفت منهما بأنها شراكة بلا حدود. وعند اندلاع الحرب، رفضت الصين وصف الإجراء الروسي بالغزو، وتبنّت وجهة النظر الإعلامية الروسية بوجود أسلحة بيولوجية في أوكرانيا، واتهمت الولايات المتحدة بإذكاء نار الحرب، على الرغم أنها لم تسمّ ما حدث بالحرب. وجهة النظر الصينية السياسية تجاه الحرب طرحت النقاش تجاه موقفها الاقتصادي، لا سيما مع العقوبات التي فرضها العالم الغربي على الاقتصاد الروسي والتي طالت حتى الأثرياء الروس. والسؤال المطروح هو، هل تنقذ الصين روسيا من هذه العقوبات بزيادة التبادل التجاري معها وتعويض ما سيفقده الاقتصاد الروسي بما في ذلك من جلب السخط من العالم الغربي؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من معرفة ما على المحك بالنسبة للصينيين، فمن ناحية التبادل التجاري، روسيا شريك وجار للصين، وقد وصل التبادل التجاري بين البلدين العام الماضي إلى 147 مليار دولار، وهو مستوى تاريخي للتبادل التجاري بعد أن زاد بنحو 36 في المائة عن العام الذي سبقه. ووصلت الصادرات الروسية للصين إلى 79 مليار دولار، أكثر من نصفها من النفط والغاز.
بالمقابل فالصين لا تستطيع إغضاب العالم الغربي بعدم التجاوب مع دعواته المستمرة لمقاطعة روسيا شومعاقبتها اقتصادياً. والتبادل التجاري بين الغرب والصين أضعاف مثيله مع روسيا، فالصين شريك تجاري للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بتبادل تجاري يتعدى 800 و750 مليار دولار على التوالي.
أما من الناحية الاستراتيجية، فلا يمكن للصين الاستغناء عن الغرب، فهي بحاجة إلى التعامل بالدولار، وهي كذلك بحاجة ماسة إلى التقنيات التي تحصل عليها من الولايات المتحدة.
ومع جميع الضغوطات التي تعرضت لها الصين خلال السنوات الماضية، حاولت جاهدة ألا تجعل الأميركيين والأوروبيين في صف واحد لعدم قدرتها على مواجهة الطرفين سوياً، ونجحت في ذلك إلى حدٍ كبير. ولكن في الوقت نفسه فهي منكشفة من ناحية حاجتها للطاقة التي تستورد جزءاً لا يستهان به من روسيا.
وقد استوردت العام الماضي لوحده ما قيمته 316 مليار دولار من النفط والغاز، ونحو نصف هذا الرقم من الحديد الخام. هذه الواردات لا يوفرها العالم الغربي للصين، ولذلك فإن الصين لا تستطيع معاداة كل دولة يعاديها الغرب الذي لديه احتياجات ومصالح مختلفة كلياً عن تلكم الصينية.
والصين حالياً في وضع لا تحسد عليه، فالحرب كانت أحد أسباب الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة، فهي تستورد أكثر من 70 في المائة من النفط، ونحو 40 في المائة من الغاز. كما أنها تشهد حالياً أعلى نسبة إصابات معلنة لـ«كورونا» منذ بدء الجائحة، ومع تبنّيها سياسة الإصابات الصفرية، فالعديد من مدنها الكبرى تشهد حظراً للتجول بشكل يشابه ما حدث في جميع دول العالم بداية الجائحة. ويضاف إلى ذلك أن موسم الأمطار لم يكن ملائماً لزراعة القمح في الصين، وهو ما يعني ازدياد الحاجة إلى استيراد القمح من روسيا. ولذلك فهي متضررة إلى حدٍ كبير من الحرب الروسية الأوكرانية سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر بسبب تعثر سلاسل الإمداد التي تغذي الصين.
وعودة للسؤال الأول، فلدى الصين القدرة على إنقاذ الاقتصاد الروسي وتعويضه عن العقوبات من الغرب، فنصف احتياطي البنك المركزي الروسي في الصين سواء من الذهب أو اليوان الصيني. والصين بإمكانها زيادة شراء السلع الروسية، لا سيما إذا ما استطاعت الحصول على النفط بأسعار منخفضة، تماماً كما تفعل مع النفط الإيراني والفنزويلي والذي تشتريه بسعر أقل من الأسواق بنحو 10 في المائة، رغم العقوبات المفروضة على إيران. ومع ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة الطلب الصيني، فلدى الصين الدافع في شراء النفط والغاز من روسيا بأسعار منخفضة. وسبق لمسؤوليها التصريح برفضهم للعقوبات الأحادية التي تفرضها دول العالم الغربي على روسيا. ويمكن أن تتعرض الصين لعقوبات ثانوية في حال لعبت دور المنقذ للاقتصاد الروسي، ولكن الغرب قد يتضرر كذلك إن فرض عقوبات على الصين وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لا سيما مع حجم التبادل التجاري بين الصين والغرب والمذكور آنفاً.
ويبدو أن الصين تتجه إلى الطريق الثالث، فهي لن تقاطع روسيا، وهذا جلي من موقفها السياسي ومن الشراكة الأخيرة مع روسيا، ولكنها كذلك لن تشارك عسكرياً في هذه الحرب. كما أنها لن تغامر باقتصادها وعلاقتها مع الغرب بلعب دور المنقذ للاقتصاد الروسي، لا سيما مع كون التبادل التجاري مع روسيا – مع أهميته الاستراتيجية – لا يشكل أكثر من 2 في المائة من مجموع تبادلها التجاري. والطريق الثالث الذي قد تسلكه الصين هو الاستمرار بعلاقتها مع روسيا دون تغيير يذكر دون استفزاز للولايات المتحدة التي لا يبدو أنها سترضى عن الصين مهما كانت ردة فعلها.

د. عبد الله الردادي

‘حرب’ العملات… ومستقبل الدولار

الدولار بلا منازع هو العملة الدولية المهيمنة، وقد ظل كذلك لنحو 77 عاماً، أي منذ أن تبنته الدول المشاركة في اتفاقية «بريتون وودز» عام 1944 باعتباره العملة «الرسمية» للاحتياطي النقدي. ووفقاً للتقارير الدولية فإن 59 من احتياطيات العملات الأجنبية العالمية محفوظة اليوم بالدولار، و20 باليورو، و6 بالين الياباني، و5 بالجنيه الإسترليني، بينما ما تزال حصة اليوان الصيني (أو الرنمينبي) أقل من 3.

لكن هيمنة الدولار أصبحت موضع نقاش منذ سنوات بسبب التحولات في موازين القوة الاقتصادية وبروز الصين كمنافس قوي للولايات المتحدة، والتحولات التقنية التي سهلت التعاملات المالية الرقمية، وصعود العملات المشفرة، إضافة إلى التوترات الجيوسياسية التي جعلت بعض الدول تبحث عن بدائل للدولار الأميركي. وعاد النقاش حول الموضوع إلى السطح أخيراً مع الحرب الأوكرانية والعقوبات الصارمة التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية على روسيا.

فحتى نهاية يناير (كانون الثاني) كان احتياطي العملات الأجنبية التي تحتفظ بها روسيا يقدر بنحو 469 مليار دولار. وكان الرئيس فلاديمير بوتين يأمل أن يشكل هذا الاحتياطي ضمانة لبلاده من آثار أي عقوبات غربية بعد الدرس الذي تلقاه إثر اجتياحه لمنطقة القرم عام 2014. لكن حساباته لم تكن دقيقة؛ إذ جاءت العقوبات هذه المرة أقسى وشملت احتياطات البنك المركزي الروسي الموجودة في الخارج، الأمر الذي حرم موسكو من نصف احتياطياتها من النقد الأجنبي، ووضع لها عراقيل جدية أمام تجارتها الدولية.

هذا الوضع لم ينعكس على روسيا وحدها، بل أرسل إشارات إلى دول أخرى مثل الصين التي تراقب حرب أوكرانيا وتداعياتها، وتدرك أنها ربما تكون مستهدفة في المستقبل بعقوبات أميركية في ظل الصراع المحتدم بينها وبين واشنطن على النفوذ وعلى موقع الصدارة في الاقتصاد العالمي. فتجميد الاحتياطيات الأجنبية لروسيا يعني أن هذه الاحتياطات لا توفر ملاذاً آمناً، وبالتالي فإن دولاً أخرى قد تفكر في أن تنويع الاحتياطات بالنقد الأجنبي يعطيها ضمانات أكبر من وضع كل بيضها في سلة الدولار.

الواقع أن هيمنة الدولار بدأت تواجه تساؤلات منذ فترة طويلة؛ إذ عمدت عدة دول بالفعل إلى تنويع احتياطاتها النقدية باللجوء إلى اليورو والاسترليني والين وأخيراً اليوان. وانخفضت حصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية من نحو 70 في مطلع القرن الحالي إلى نحو 59 بنهاية العام الماضي، لكن حتى الآن لا يوجد بديل يمكن أن يقال أنه سيزيح الدولار من مكانه. حتى اليوان الذي يعتمد على القوة الاقتصادية الهائلة للصين، لا يمثل بديلاً في نظر أغلب الدوائر المالية العالمية، وذلك بسبب المخاوف التقليدية من أن طبيعة السلطة المركزية في بكين تعني أنها يمكن أن تصدر قرارات تؤدي إلى تقلبات في أسعار العملة، إضافة إلى غياب عنصر الشفافية.

هناك من يرى أن التحدي الأقوى للدولار ربما يأتي مستقبلاً من العملات الرقمية. ففي الوقت الراهن هناك 100 دولة تدرس إمكانية استخدام عملات رقمية، وتمثل هذه الدول 90 تقريباً من الناتج الإجمالي العالمي. ومن بين أكبر أربعة بنوك مركزية في العالم (البنك المركزي الأوروبي، والبريطاني، والياباني، والاحتياطي الفيدرالي الأميركي)، فإن الولايات المتحدة تبدو متأخرة في التحرك نحو تبني مشروع الدولار الرقمي وذلك بسبب الخلافات في الدوائر السياسية والمالية، والعقبات التنظيمية، وتأثير ذلك على النظام المالي العالمي.
لكن صناع القرار في الولايات المتحدة يدركون أن العالم يتغير وسيتحرك عاجلاً أم آجلاً نحو العملات الرقمية. فخلال السنوات القليلة الماضية شهد عالم المعاملات المالية ثورة رقمية في ظل النمو المتسارع للعملات المشفرة غير الرسمية مثل بيتكوين، وتبني الأجيال الجديدة لنظم الدفع الإلكترونية وابتعادهم تدريجياً عن التعامل بالعملات الورقية والمعدنية مفضلين الدفع بواسطة هواتفهم الجوالة ونظام اللمس. والرأي السائد الآن أنه إذا لم تتحرك البنوك المركزية لمواكبة هذه المتغيرات، فإن الناس قد يتجهون نحو النظم البديلة غير الرسمية وأبرزها العملات المشفرة.

الأمر الآخر الذي يثير قلق الولايات المتحدة هو تحرك الصين نحو العملات الرقمية بإطلاق اليوان الرقمي ومساعيها لتعميمه في الاستخدام بين مواطنيها كخطوة أولى نحو تبنيه في معاملاتها مع الدول الأخرى.

في ظل هذه المتغيرات بدأ الكونغرس الأميركي يظهر اهتماماً متزايداً بموضوع العملات المشفرة، وفي يناير (كانون الثاني) الماضي نشر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ورقة حول مناقشاته الداخلية بشأن العملات المشفرة والدولار الرقمي. وعلى الرغم من أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي تحدث عن الفوائد المحتملة لفكرة العملة الرقمية الرسمية مثل تسهيل نظم الدفع، وتقليل تكاليفها على المؤسسات المالية، وانتهاء بالحفاظ على مكانة الدولار كعملة رئيسية في النظام المالي العالمي، إلا أنه أثار أيضاً بعض التحفظات والمخاوف بشأن التأثيرات المحتملة للخطوة على الاستقرار النقدي والمالي.

الكلام عن عملة أو عملات رقمية جديدة تتحدى الدولار وتحاول إزاحته من مكانته كعملة الاحتياطي النقدي العالمي ليس جديداً، ولا هو بوجهة نظر صادرة بالضرورة من خصوم الولايات المتحدة ومنافسيها مثل الصين وروسيا. فعلى سبيل المثال دعا مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا (السابق)، في خطاب ألقاه عام 2019 أمام اجتماع لمديري البنوك المركزية العالمية في بلدة جاكسون هول الأميركية، إلى إنهاء سطوة الدولار الأميركي على النظام المالي العالمي، باعتباره عملة الاحتياطي النقدي الرئيسية. وقال إن هذه السطوة بلغت مرحلة أصبحت معها تشكل عائقاً أمام انتعاش اقتصادي عالمي مستدام.

وكان بذلك يشير إلى أن الكثير من الدول حول العالم تحتفظ بمبالغ ضخمة من الاحتياطي النقدي بالدولارات لتأمين نفسها في الأوقات المضطربة، ما يعني تكدس الكثير من الأموال، التي كان يمكن أن تستخدم في دورة التجارة والاقتصاد العالميين. إضافة إلى ذلك فإن الدولار يستخدم كنظام دفع في نصف فواتير التجارة الدولية على الأقل، وبالتالي فإن العديد من الدول تصبح عرضة للتداعيات غير المباشرة من التقلبات في الاقتصاد الأميركي وفي قيمة الدولار.

ورأى كارني أنه يمكن استبدال الدولار واستخدام عملة رقمية عالمية تتبناها البنوك المركزية في دول مختلفة. وقال إن هذه العملة الرقمية «يمكن أن تثبط التأثير المهيمن للدولار الأميركي على التجارة العالمية. فإذا ارتفعت حصة التجارة التي يتم تحرير فواتيرها بهذه العملة الرقمية الجديدة، فإن الصدمات التي تحدث داخل الولايات المتحدة ستكون آثارها أقل قوة (على الدول الأخرى)».

وذكر أيضاً أن عملة رقمية عالمية مدعومة من مجموعة كبيرة من الدول ستطلق الأموال التي تخزنها الحكومات حالياً بالدولار كبوليصة تأمين في الأوقات المضطربة. وشبّه الانتقال من الدولار إلى عملة رقمية عالمية جديدة بنهاية سيطرة الجنيه الاسترليني على أسواق المال العالمية قبل 100 عام.

منذ خطاب كارني الذي أثار اهتماماً واسعاً، تحدث كثيرون عن موضوع العملات الرقمية ومستقبل الدولار الأميركي. وفي بداية فبراير (شباط) الماضي ألقت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا كلمة أمام «مجلس أتلانتيك» البحثي في واشنطن حول مستقبل النقود وصعود مفهوم العملات الرقمية. وقالت إن العالم تجاوز مرحلة المناقشات حول الفكرة وبلغ مرحلة التجريب للعملات الرقمية، مشيرة إلى دول مثل الصين والسويد قطعت شوطاً في هذا المجال.

الجدل حول مستقبل النظام النقدي الدولي لن يتوقف، لا سيما مع احتدام صراع النفوذ الدولي، والهجمة المتوقعة على الدولار في عصر العملات الرقمية القادم، والتحركات المتزايدة بين عدد من الدول بينها روسيا والصين والهند للقيام بمعاملاتهم التجارية المشتركة بالروبل واليوان والروبية. والسؤال هو، كيف سترد أميركا على هذا التحدي؟

عثمان ميرغني