أرشيف التصنيف: المقالات العامة

محافظو بريطانيا والرهان على الاقتصاد

انتهى الحداد الرسمي على وفاة الملكة إليزابيث الثانية (1926 – 2022)، وعدنا لنمط الحياة اللاهث السرعة في وستمنستر. الصحافيون يستكشفون التغيرات في سياسة فريق إليزابيث تراس، وما إذا كانت ستضع المصلحة القومية ومساعدة المواطنين عملياً، فوق الآيديولوجيا والشعارات، خاصة الاتهامات التي وجهت إلى حكومة المحافظين في السنوات الأخيرة (المحافظون في الحكم وحدهم منذ 2015 وقبلها في ائتلاف مع الديمقراطيين الليبراليين منذ 2010)، فيما يتعلق بالتزامهم بشعارات التيارات اليسارية والخضر وحركة البيئة، والتي كانت من أهم أسباب أزمة الطاقة في بريطانيا وزيادة فواتيرها، وأيضاً تنفيذ وعد المحافظين بإنهاء تقييدات الاتحاد الأوروبي للقوانين البريطانية، التي تعرقل محاولات وزارة الداخلية التعامل مع الهجرة غير الشرعية بقوارب مهربي البشر عبر فرنسا.
جاء التأكيد على السياسات الجديدة يوم الخميس عندما واجه جيكوب ريس – موغ، وزير الأعمال والطاقة والصناعات، مجلس العموم، متحدياً مزاجاً عاماً (يقارب هستيريا الهوس العقائدي) يسعى لهدف مثالي بتحويل البلاد إلى الطاقة الخضراء. وزير الطاقة ألغى الحظر على التنقيب عن الغاز الصخري الذي كانت حكومة جونسون فرضته بسبب احتجاجات جماعات الخضر والبيئة، الذين أثاروا مشاكل كانت تعرقل عمليات التنقيب وتجمد المشروع برمته. والحكومة أيضاً تبحث عن إصلاح وتعديل القوانين المتوارثة منذ معاهدة ماستريخت في الاتحاد الأوروبي، التي تعرقل إصدار تصريحات التنقيب عن حقول غاز وبترول في بحر الشمال.
ريس – موغ جادل بأن معارضة اليسار والخضر آيديولوجية الدوافع تتجاهل الواقع الاقتصادي، بل وتزيد من معدلات التلوث، فاستيراد بريطانيا الطاقة من الخارج، يعني شحن الغاز المسيل (باستهلاك طاقة) بناقلات تحرق محركاتها الوقود الكربوني بجانب تكلفة النقل، والخطر الاستراتيجي من الاعتماد على مصادر أجنبية ليس للبلاد قدرة على تأمينها.
قبل عرض وزير المالية الجديد، كوازي كوارتينغ، مشروع ميزانية الخريف على البرلمان أول من أمس، الجمعة، كانت الخزانة بدأت في تزويد الصحافة البرلمانية بقطرات من معلومات عن سياسة جديدة للنمو الاقتصادي، على المستويات المحلية، في 38 من المقاطعات والبلديات المحلية، وتسريب بعض المقترحات، مثل إلغاء الزيادة المتوقعة في الضريبة على الأعمال والشركات وإبقائها 19 في المائة؛ وإلغاء عدة رسوم وضرائب كان وزير المالية السابق، ريشي سوناك يعدها لدعم الرعايتين الصحية والاجتماعية.
الهدف من التسريبات كان أعداد المراقبين والمعلقين الاقتصاديين لتجنب مفاجأة الأسواق المالية والبورصات، بمشروع ميزانية راديكالي حتى لا تتذبذب الأسعار، خاصة أن بنك إنجلترا المركزي رفع سعر الفائدة مرة أخرى يوماً قبل الميزانية لتصل إلى أعلى مستوى لها لقرابة عقدين.
رغم ذلك، فور إعلان كوارتينغ الميزانية (كان لا يزال يقدمها لمجلس العموم) انخفض الجنيه أمام الدولار لأدنى مستوى له منذ قرابة أربعة عقود، والسبب أن كثيراً من الإجراءات المتخذة، خاصة تجميد أسعار فواتير الطاقة للمنازل والأعمال الصغيرة ستؤدي إلى اقتراض الخزانة ستين مليار جنيه (قرابة ثمانين مليار دولار قبل انخفاض الجنيه)، ويقدر خبراء المال والاقتصاد أنه إذا لم تنخفض أسعار الغاز بمعجزة في منتصف العام المقبل، لن يكون هناك مفر أمام حكومة تراس إلا الاستمرار في دعم أسعار الطاقة مما قد يرفع المديونية إلى مائة بليون جنيه إسترليني، وهو سبب تذبذب الأسعار، وانخفاض سعر الجنيه (الدولار هو الذي يرتفع أمام كل العملات الأخرى بسبب رفع البنك الفيدرالي سعر الفائدة).
ورغم أن الحكومة قدمت المشروع على أنه «تعديلات إصلاحية» فإنه أكبر ثورة في السياسات المالية والضرائبية لدعم الاستثمار منذ ميزانية 1972 لوزير مالية حكومة المحافظين وقتها، أنتوني باربر (1920 – 2005) ـ ولا يزال المؤرخون الاقتصاديون يختلفون حول ميزانيته (اشتملت على تسهيلات بنكية وتخفيض ضرائب وتبسيط القيود على المؤسسات المالية) وأدت إلى رواج اقتصادي سريع، فالاشتراكيون والكينزيون (أتباع نظرية الاقتصادي الإنجليزي جون كينز 1833 – 1946) على السواء يرون باربر مسؤولاً عن تضخم السبعينات والثمانينات، بعكس اقتصاديين حرية السوق وجذب رؤوس الأموال.
الاتهامات الموجهة اليوم لكوارتينغ من اليسار والعمال والاشتراكيين تكاد تكون نسخة كربونية للانتقادات التي وجهت إلى باربر منذ نصف قرن.
ميزانية كوارتينغ أدخلت تعديلات ضخمة لتخفيض تمغة شراء العقار – لتحرك سوقه، وأيضاً تبسيط تعقيدات الضرائب وتخفيضها. لكنها سياسة تثير الجدل، فالتخفيض في نظام الضرائب التصاعدية على الدخل المتبع في بريطانيا يجعل شرائح الدخول العليا أكثر استفادة من التخفيض من أصحاب الدخل المحدود ولا يفيد 43 في المائة لا يدفعون ضرائب أصلاً، إما لتلقيهم إعانات أو لانخفاض دخلهم الشهري عن الحد الأدنى (1250 دولاراً). حكومة تراس ألغت قيوداً وضعها الاتحاد الأوروبي على حوافز ومكافآت العاملين في البنوك، لجذب الاستثمارات وإبقاء لندن المركز المالي العالمي الأول.
الترحيب بالميزانية الجديدة من المستثمرين وأصحاب الصناعات الصغيرة وغرفة اتحاد الصناعات البريطانية لترويج الاقتصاد كان حذراً، ووصفها كثيرون بأنها «مراهنة»؛ لكن اقتصاديين آخرين يرون أن المضي في التقشف، رغم ارتفاع الديون سيكون «مقامرة» أكثر خطورة. تراس وكوارتينغ يجادلان بأن تخفيض الضرائب لجذب الاستثمارات، يؤدي لترويج الاقتصاد وزيادة الوظائف، وبالتالي مزيد من دخل الضرائب للخزانة لدفع الديون التي اقترضت لتمويل السياسة الجديدة.
النظرية بالطبع ثبتت صحتها عبر عقود، لكنها مراهنة تعتبر مجازفة سياسية، لأن فوائد هذه السياسة يجني المجتمع ثمارها على المدى الطويل، لا القصير، والمحافظون سيواجهون انتخابات عامة في خلال عامين، فقط، بينما تتزايد إضرابات الاتحادات المهنية المختلفة (عمال النقل، والبريد، والمواصلات، والمحامين، وعمال الموانئ)؛ أيضاً أغلبية الصحافة ومؤسسات تشكيل الرأي العام اليسارية الاتجاه تتربص بالمحافظين، واستقالة رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون مجبراً لم تكن بسبب الاقتصاد، أو إخفاق الخدمات، بل لحملة الصحافة التي اتهمته بتضليل البرلمان في تبرير إقامة الحفلات بين موظفي مكتبه أثناء إغلاق وباء «كوفيد»، رغم نجاحه في الإسراع بتوفير أمصال التطعيم.
ميزانية باربر، وزير مالية حكومة المحافظين (1970 – 1974) منذ نصف قرن أدت إلى رواج اقتصادي لم يدم طويلاً؛ فقد اندلعت حرب الشرق الأوسط في خريف 1973. وتضاعفت أسعار الوقود، وصاحبها إضرابات عمال النقل والمناجم، وخسرت حكومة المحافظين بزعامة إدوارد هيث (1916 – 2005) الانتخابات عامين بعد ميزانية باربر.

عادل درويش

إشكالية العملات الرقمية

ناقشت قمة العشرين بالرياض (21 – 22 نوفمبر «تشرين الثاني» 2020) الأوضاع الاقتصادية في العالم، وكلفت صندوق النقد الدولي (IMF) دراسة الآثار المالية الكلية للعملات الرقمية وما يطلق عليها العملات المستقرة العالمية، إذ أكد القادة في البيان الختامي في الفقرة 17 أنه على الرغم من قدرة الابتكارات التقنية المسؤولة على تحقيق فوائد كبيرة للنظام المالي والاقتصاد، فإننا نتابع التطورات عن كثب ونظل متيقظين للمخاطر الحالية والناشئة لهذه العملات. ويجب عدم تداول ما يطلق عليها العملات المستقرة العالمية حتى يتم وضع جميع المتطلبات القانونية والتنظيمية والرقابية ذات الصلة بشكل مناسب وبما يتماشى مع المعايير المطبقة. ورحب القادة بالتقارير الصادرة عن مجلس الاستقرار المالي (FSB) ومجموعة العمل المالي وصندوق النقد الدولي بشأن ما يطلق عليها العملات المستقرة العالمية. وقد وجه القادة بوضع المعايير بمراجعة المعايير الحالية في ضوء هذه التقارير وإجراء التعديلات اللازمة، وكان من أهم ما وجه به القادة من خلال كلماتهم، دراسة ضرورة وجود تنسيق وتعاون نقدي دولي يعمل على وضع الأطر الكفيلة بحماية المتعاملين بهذه العملات، مع العمل على صياغة قوانين تضبط إصدار هذه العملات وآليات تداولها على المستوى الدولي، وأصدر تعليمات إلزامية تمنع تداول هذه العملات، لحين الوصول لضوابط دولية بشأنها.
انتشر التعامل بالعملات الرقمية في كثير من دول العالم، إذ إنها عملة ليس لها وجود مادي ويتم تداولها في الإنترنت فقط وتوليدها من خلال برامج خاصة في الحاسب الآلي ولا يزال غالبية الناس غير ملمين بخصائص ومخاطر هذه العملات، ولذا فقد وجهت القمة صندوق النقد الدولي لدراسة وبيان حقيقة العملات الرقمية وأنواعها وخصائصها، مع تحليل لأبرز الآثار الاقتصادية الناشئة عن انتشارها واستخدامها كوسيلة دفع حديثة.
وبناءً على تكليف القادة في قمة العشرين بالرياض (21 – 22 نوفمبر 2020)، نشر صندوق النقد الدولي (IMF) منشوراً حول الأصول المشفرة ولوائحها، إذ طالب الصندوق بنهج عالمي شامل لتنظيم الأصول الرقمية، وسلط الضوء على بعض القضايا الرئيسية المتعلقة بـ«بيتكوين» والأصول الرقمية الأخرى، حيث هناك مبالغة في تقدير الكثير من العملات الرقمية، ولا تزال حماية مستثمري العملات الرقمية مشكلة كبيرة بسبب عدم وجود لوائح واضحة. يعتقد الصندوق أن اتباع نهج عالمي غير منسق للوائح العملة المشفرة سيؤدي إلى زعزعة استقرار النظام المالي. من ناحية أخرى، صرحت كريستالينا جورجيفا المدير الإداري لصندوق النقد الدولي (IMF)، بأنه من الصعب التعامل مع «بيتكوين» والعملات المشفرة الأخرى كأموال، وفي سياق الإطار التنظيمي للعملات المشفرة، حدد صندوق النقد الدولي الحاجة الملحة للتعاون الدولي لحل التحديات الفنية والإشرافية والتنظيمية المتعلقة بالعملات المشفرة، إذ تعتقد المؤسسة المالية أن العملات الرقمية تغير النظام النقدي والمالي الدولي.
أكد صندوق النقد الدولي أنه سيحتاج إلى تعزيز موارده مع سعيه للاضطلاع بدور المراقبة وإسداء المشورة والمساعدة في إدارة التحول واسع النطاق والمعقّد نحو العملة الرقمية، لا شك أن العملات الرقمية قادرة على تسهيل المدفوعات وتسريعها وخفض تكاليفها، لكن ذلك يتطلب أن يعالج صناع السياسات تحديات رئيسية، فالنقد الرقمي ينبغي أن يكون موثوقاً، كما يجب حماية الاستقرار الاقتصادي والمالي المحلي، واستقرار النظام النقدي الدولي، وعلى صندوق النقد دور حاسم في مساعدة أعضائه على الانتفاع بمزايا النقود الرقمية وإدارة مخاطرها، كما يجب على النقود الرقمية أن تخضع للإشراف التنظيمي وأن يسمح هيكلها وطريقة توافرها للدول بمواصلة السيطرة على السياسة النقدية والأوضاع المالية وأنظمة الصرف الأجنبية.
بدأت فكرة هذه العملة في أواخر عام 2008، وظهرت على أرض الواقع في بداية عام 2009 عن طريق مبرمج مجهول يدعى ساوتشي ناكاموتو، والذي تبنى فكرة العملة الرقمية بهدف تغيير العملات التقليدية السائدة واستبدال العملة الجديدة بها التي تحفظ خصوصية البائع والمشتري ولا تتحكم بها البنوك والحكومات، ويتم التعامل بها من خلال بروتوكول الند للند (متعامل مع متعامل) مع اعتماد تقنيات التشفير الحديثة بهدف زيادة الأمان فيها، ولذا فهي عملة لا توجد إلا في الإنترنت فقط ومن خلال المحافظ الإلكترونية وتعد العملة الافتراضية (بيتكوين) من أكثر النقود الافتراضية انتشاراً وقبولاً، ويمكن الحصول عليها إما عن طريق التعدين وفق آليات محددة، وإما من خلال الشراء من الأسواق والبورصات المتخصصة بهذه العملات.
وسوف يسبب انتشار هذا النوع من العملات الرقمية عند استخدامها عدداً من الآثار الاقتصادية السلبية؛ والتي ينبغي على المتخصصين دراستها، ولا سيما أنه لا دور للدول أو بنوكها المركزية في إصدار هذه العملة الجديدة، مما سيؤثر بشكل كبير في السياسات النقدية للدول، ويقلل من قدرة البنك المركزي على الحفاظ على الاستقرار النقدي من خلال إضعاف دوره في السيطرة على حجم السيولة النقدية وسرعة دوران النقود، وهذا بالإضافة إلى تأثير هذه النقود على السياسات المالية أيضاً، من خلال تأثيرها على حجم الإيرادات الضريبية، حيث سيكون من الصعب على السلطات المالية المختصة أن تراقب جميع الصفقات والدخول التي يتم دفعها أو تسلمها بالعملات الرقمية، علماً بأنه قد تُستخدم هذه العملات أو النقود كأداة لتمويل الصفقات غير المشروعة، ومع ازدياد ترابط الأسواق المالية الدولية وارتفاع معدلات التعامل الدولي بوسائل الدفع الإلكترونية، فإن حجم المشكلات الاقتصادية والمالية والقانونية التي يمكن أن تنشأ كنتيجة لظهور وشيوع النقود الرقمية سيكون كبيراً جداً.
إن العملات الرقمية لا تقدم أي إضافة نوعية متميزة عمّا تقدمه العملات المتداولة الحالية الدولار، واليورو، واليوان، والين وغيرها من العملات المتداولة إذ سيعقّد تداولها المشهد المالي الدولي من خلال تمويل الصفقات غير المشروعة والتهرب الضريبي وإرباك وظائف البنوك المركزية في العالم وغيرها من المشكلات المحتملة، إذ يتم تداول عدة ملايين من الأموال يومياً التي لا تنتمي لأي دولة، ولا يدعمها وينظمها ويطبعها أي بنك مركزي في العالم، ولا تخضع لسياسات الدول، كما أنها لا تتأثر إلا بقانون الثقة بين المتعاملين وسمعة التعاملات.
هذه إشكالية، بين استعمال العملات الرقمية، أو الامتناع عنها، حتى يضع صندوق النقد الدولي، التعليمات التي تضمن الاستعمال والتداول الآمن لهذه العملة، إذ بيّن مجلس الاستقرار المالي (FSB) أن فشل لاعب واحد في سوق العملات الرقمية كفيل بأن يفرض خسائر كبيرة على أهل القطاع ككل من مستثمرين وأسواق ناشئة وأنظمة بيئية أخرى في مجال العملات والأصول الرقمية.

د. ثامر محمود العاني

أسواق الدَين البريطانيّة: أسوأ عام منذ الحرب العالميّة الثانية

لا يبدو أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد مكّنها من تحييد اقتصادها عن تبعات الأزمة الاقتصاديّة التي تصيب الدول الأوروبيّة اليوم. بل وعلى العكس تمامًا، تدل جميع المؤشّرات إلى اتجاه بريطانيا نحو هاوية من الكساد الاقتصادي الذي لم تشهده في تاريخها، وبما يفوق بأشواط التأزّم الذي تعاني منه دول الاتحاد الأوروبي اليوم.

ومن الواضح أن أسواق المال البريطانيّة باتت تعاني اليوم من الضغوط نفسها التي تتعرّض لها سائر الدول الأوروبيّة، والمتصلة بأزمات الطاقة وتداعيات الحرب الأوكرانيّة وارتفاع الفوائد الأميركيّة. إلا أنّ بريطانيا تبدو اليوم أقل مناعة تجاه هذه الضغوط مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي، بخلاف ما توقّعه مؤيدو الخروج من الاتحاد الأوروبي سابقًا، وهو ما يضعها اليوم في عين العاصفة الاقتصاديّة.

تدهور نقدي مقلق
على خطى اليورو والين الياباني وغيرهما من العملات الرئيسيّة، دخل الجنيه الاسترليني دوّامة الهبوط القاسي أمام الدولار الأميركي، لتلامس قيمته اليوم حدود 1.03 دولار أميركي، ما يدل على خسارته ربع قيمته مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. وبذلك، يكون الجنيه قد سجّل أسوأ مستوى له في تاريخه، بعد أن هبط إلى ما دون أدنى مستوياته التاريخيّة التي سجّلها عام 1985. أمّا سندات الدين الحكوميّة، فانخفضت قيمتها إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من ثلاثة عقود، ما سينعكس بارتفاع كلفة اقتراض الحكومة البريطانيّة إلى أعلى مستوى منذ ذلك الوقت.

ورغم سوداويّة المشهد الحالي، تذهب الغالبيّة الساحقة من الترجيحات إلى الإشارة إلى أنّ الأسوأ بالنسبة للاقتصاد البريطاني لم يحدث بعد. فحسب الأرقام، وبعد الانهيار الأخير في قيمة الجنيه وأسعار سندات الدين الحكوميّة، من المتوقّع أن ترتفع نسب الفوائد على الدين السيادي إلى مستويات أعلى من كل من إيطاليا واليونان، التي تعاني منذ زمن طويل من ارتفاع مخاطر ديونها السياديّة.

ولهذا السبب تحديدًا، أشار تقرير بنك أوف أميركا إلى أنّ أسواق السندات الحكوميّة البريطانيّة تسير في طريقها نحو أسوأ عام لها منذ العام 1949، يوم كانت أوروبا تخرج من تداعيات الحرب العالميّة الثانية. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة الارتفاع الشهري في كلفة اقتراض الحكومة البريطانية لم تشهده بريطانيا منذ بداية خمسينات القرن الماضي، ما يؤكّد توقّعات بنك أوف أميركا.

نحو كساد اقتصادي عظيم
باختصار، وتمامًا كأحجار الدومينو، تتداعى المؤشّرات النقديّة السلبيّة، والتي يتوقّع الجميع ترجمتها على شكل كساد اقتصادي كبير قبل نهاية العام الحالي. فتدهور قيمة الجنيه ستعني تفاقم معدلات التضخّم، التي تسجّل أساسًا معدلات مرتفعة تجاوزت حدود 10% خلال الصيف الماضي، ما مثّل أعلى مستوى تضخّم تعرفه البلاد منذ أربعة عقود. وارتفاع معدلات التضخّم، وبهذا الشكل الهستيري، سرعان ما سيُترجم بتراجع في قدرة البريطانيين الشرائيّة، وبركود تضخّمي قاسٍ.

أمّا ارتفاع الفوائد، فسيساهم بالضغط على كلفة اقتراض القطاع الخاص، ما سيزيد من المنحى الانكماشي الذي تسلكه البلاد اليوم. مع الإشارة إلى أنّ جميع التحليلات تركّز على الهواجس المتصلة بالقطاع العقاري بالتحديد، الذي يعتمد على الاقتراض إلى حد بعيد لتمويل الاستثمار والشراء. فبمجرّد ارتفاع الفوائد، من الطبيعي أن تتراجع جدوى الاقتراض لتمويل النشاط العقاري بالنسبة للمستثمر التجاري، كما من المتوقّع أن تتراجع قدرة المواطنين البريطانيين على الاقتراض لشراء العقارات السكنيّة.

وكان بنك إنكلترا قد رفع معدلات الفوائد على أمواله سبع مرّات منذ شهر تشرين الثاني الماضي، لمجاراة ارتفاع الفوائد الأميركيّة، وتخفيف ضغط التحويلات باتجاه السوق الأميركي. وآخر هذه الزيادات، جرت منذ أيّام، حين رفع بنك انكلترا معدل الفائدة الرئيسي لديه بمقدار 0.5%، ليبلغ حدود 2.25%. ومع ذلك، اعتبرت معظم التقارير أنّ هذه الزيادة مازالت غير كافية للتعامل مع معدلات التضخّم المحليّة، وضبط خروج الرساميل باتجاه الولايات المتحدة بعد ارتفاع الفوائد فيها. وهذا تحديدًا ما يشير إلى إمكانية تسجيل زيادات جديدة في معدلات الفوائد البريطانيّة، مع كل ما يعنيه ذلك من زيادة في الضغوط الإنكامشيّة على مستوى الاقتصاد البريطاني المحلّي.

أخيرًا، يبقى من الأكيد أن ارتفاع كلفة الاقتراض على هذا النحو بالنسبة للحكومة البريطانيّة، سيعني المزيد من تراجع الثقة بأداء الاقتصاد البريطاني وقدرة الحكومة على التدخّل، ما سيُترجم بمزيد من الضغط على أسواق المال البريطانيّة. وهذا تحديدًا ما جرى خلال الأيام الماضية، مع اندفاع حملة سندات الدين السيادي البريطانيّة إلى التخلّص منها، في ظل الخشية من تداعيات ارتفاع الفوائد، وعدم الثقة بالخطط الحكوميّة التي اقتصرت على رزم من الإعفاءات الضريبيّة لإنعاش الاقتصاد، والتي يُتوقّع أن تؤدّي إلى المزيد من الضغط على الميزانيّة العامّة.

سيناريو الأزمة الشاملة
رغم سوداويّة المشهد الحالي، ورغم تشاؤم جميع التحليلات، لا يمثّل كل ذلك أسوأ ما يمكن أن يحدث خلال الأشهر المقبلة. فخلال الأيام الماضية، شهدت أسواق الرهن العقاري تخبطات واضطرابات سريعة وغير مألوفة، وهو ما أجج المخاوف من إمكانيّة تداعي الأحداث السيئة بشكل متوقّع نحو سيناريو الأزمة الشاملة، كما حدث عام 2008. أمّا أكثر ما أجج هذا النوع من المخاوف، فهي التقارير التي استندت إلى بيانات بنك إنكلترا التي تعود إلى العام 1772، والتي تبيّن منها أن بريطانيا لم تسجّل المستوى الحالي من العجز في حسابها الجاري إلا ثلاث مرّات في تاريخها، أي خلال 249 سنة المشمولة بهذه البيانات. وهذا تحديدًا ما يدل على قسوة الأزمة الراهنة، وما يمكن أن ينتج عنها من تداعيات غير متوقعة.

خيارات بنك إنكترا خلال المرحلة المقبلة محدودة للغاية، وهي تبدأ بفرض زيادات إضافيّة في الفوائد، لحماية قيمة الجنيه، لكن هذه الخطوة ستؤدّي إلى المزيد من الأعباء على المقترضين من أسر وشركات، وعلى خدمة الديون السياديّة. كما يملك البنك خيار التدخّل المباشر في السوق، لدعم عملته، بأدوات مختلفة قد تشمل الشراء المباشر للجنيه أو التداول بأصول ماليّة أخرى. أمّا الحكومة، فيبدو أنّها مازالت أسيرة خيارات اليمين التقليديّة، المحصورة برزم الإعفاءات الضريبيّة، بدل التدخّل الفاعل لمعالجة الأزمة، ما يضيف من قلق الأسواق تجاه هذا التصلّب غير المفهوم في أداء الحكومة.

علي نور الدين

رفع أسعار الفائدة عالميًا.. كيف تتصرف بأموالك؟

أقدمت معظم بنوك العالم المركزية على رفع أسعار الفائدة خلال الشهور الماضية وهي في طريقها للاستمرار في الزيادة لكبح التضخم الذي وصلت لمستويات قياسية في بعض البلدان.
كان آخر التحركات في سعر الفائدة والتي أحدثت تبعات، قرار الفدرالي الأميركي برفع الفائدة بنسبة 0.75% الأسبوع الماضي، وهو ما تبعه برفع مماثل في بنوك مركزية خليجية وأوروبية.
ومع تزايد ارتفاع أسعار الفائدة حول العالم يجدر بنا مراجعة كيفية تأثير هذه الزيادة على أموالنا، وبما ينصحنا الخبراء بشأن استراتيجيات الادخار والإنفاق والاستثمار بشكل أفضل للأموال في ظل معدلات الفائدة المرتفعة.

 

إعطاء الأولوية لسداد الديون

مع تحركات البنوك المركزية لرفع الفائدة فإن الاقتراض أصبح أكثر تكلفة، خاصة إذ كانت عدة أشكال من الاقتراض الاستهلاكي مرتبطة بسعر الفائدة في البنك المركزي للبلد وهو ما يعني ارتفاع النسبة مع أي زيادة.
يقول جريج ماكبرايد، كبير المحللين الماليين في Bankrate، لـ CNBC: إن “معدلات الفائدة على بطاقات الائتمان مثلًا في أميركا عند أعلى مستوى لها منذ عام 1996، ومعدلات الرهن العقاري هي الأعلى منذ عام 2008 وقروض السيارات هي الأعلى منذ عام 2012”.
لن تؤثر الزيادات الإضافية في أسعار الفائدة على قرض السيارة ذي السعر الثابت الذي قد تحصل عليه وينطبق الشيء نفسه على الرهون العقارية ذات السعر الثابت، لكن إذا كنت تحمل رصيدًا على بطاقة ائتمان، فإن السعر الذي تدين به على تلك الأموال سيستمر في الارتفاع جنبًا إلى جنب مع قرارات رفع الفائدة المستمرة.
وتقول ليزا فيذرنجيل ، المديرة الوطنية لتخطيط الثروة في Comerica: “الفائدة التي تدخرها من خلال سداد الديون هي نفس الشيء في حال استثمرت أموالك بنفس معدل العائد بدون مخاطر”.
“إذا كانت بطاقتك الائتمانية بها معدل فائدة 22%، فهذا يماثل ربح 22% على استثمارك بعد الضريبة، وإذا كنت غير قادر على سداد ديونك بسرعة، فإن تحويل دينك إلى بطاقة ائتمان وهو ما يمكن أن يضمن عدم وجود فائدة على رصيدك المستحق لمدة 6 إلى 21 شهرًا”.
وتشمل الخيارات الأخرى لتخفيف عبء الديون ذات معدلات الفائدة المرتفعة دمج ديونك في إطار قرض شخصي منخفض السعر أو الاشتراك في خدمة استشارات ائتمانية.

 

ارفع الفائدة على أموالك في البنك

 

أحد الجوانب الجيدة في بيئة ارتفاع أسعار الفائدة هو أنك ستصبح أكثر ربحًا من الادخار.
يقول كيلي لافين، نائب رئيس قسم سلوك المستهلك في Allianz Life، إن هذا الأمر يبدو بمثابة راحة للمدخرين الذين يعانون من تضخم بنسبة 8%.
ويضيف: “في هذه البيئة ستخسر المال إذا كان لديك نقودًا على الهامش”.
ومع ذلك يوصي الخبراء بالاحتفاظ بما يكفي من النقود لتغطية ما لا يقل عن 3 إلى 6 أشهر من نفقات المعيشة في صندوق الطوارئ، وبهذه الطريقة إذا حدث الأسوأ فلديك ما يكفي لتغطية فواتيرك، بحسب لافين.
ويضيف: “حتى لو أن معدلات الفائدة الحالية على احتياطاتك النقدية لا تواكب التضخم، فإن كسب شيء نظير أموالك المدخرة أفضل من لا شيء”.

 

اختر الاستثمارات بحكمة وفكر على المدى الطويل

إذا ألقيت نظرة على محفظتك وسط نظام رفع أسعار الفائدة الأخير، فمن المحتمل أنك لاحظت أن الأسهم والسندات الخاصة بك لا يبدو أنها من كبار المعجبين بالمعدلات المرتفعة، ولم تكن السندات التي ينظر إليها على أنها أثقل أقل تقلبًا نظرًا لأن أسعار السندات وأسعار الفائدة تتحركان في اتجاهين متعاكسين.
فإذا كنت مستثمرًا في الأسهم على المدى الطويل، “فأنت تريد التأكد من أنك لا تشعر بالذعر”، كما يقول لافين.
ويضيف “قد يكون من الصعب شراء الأسهم عندما ينخفض السوق ومن الأفضل لك الاستمرار في استثماراتك”.
وفي الوقت نفسه سيكون من الحكمة أن يتحقق مستثمرو السندات من متوسط مدة محفظتهم وهو مقياس لحساسية أسعار الفائدة.
وبشكل عام تأتي السندات ذات الاستحقاق الأطول بمدة أطول مما يعني أنها انخفاض قيمتها سيكون أكثر استجابةً لارتفاع أسعار الفائدة، وتميل السندات قصيرة الأجل إلى الصمود بشكل أفضل أثناء ارتفاع معدلات الفائدة.
ونظرًا لوجود استثمارات معقدة سيكون من الذكاء استشارة مخطط مالي قبل الدخول في الاستثمار، كما يقول لافين “لا ينبغي لأحد أن يشارك في أي نوع واحد من الاستثمار دون التحدث مع متخصص مالي أولاً”.

cnbc

الهند تتجاوز بريطانيا

في احتفالية فيها الكثير من الرمزية، احتفت الهند بتحقيق اقتصادها المركز الخامس عالميا من ناحية الحجم، متجاوزة بريطانيا التي انتقلت إلى المركز السادس. رمزية هذه الاحتفالية بسبب التزامن مع ذكرى مرور 75 سنة على استقلال الهند عن بريطانيا. لم يخف رئيس الوزراء الهندي (مودي) فخره بهذا الإنجاز، مذكراً أن الهند خلال خمس وسبعين سنة، تمكنت من تجاوز المستعمر الذي ربض على شبه القارة الهندية نحو 250 سنة. فكيف تمكنت الهند من تجاوز اقتصاد بريطانيا في وقت يعاني فيه العالم من أزمات اقتصادية وصراعات جيوسياسية؟
خلال العامين الماضيين عانى العالم من عدة عوامل، استطاعت الهند بشكل أو بآخر تجاوزها أو تقليل آثارها السلبية، أولها هو التضخم الذي يؤكد الخبراء أنه وصل قمته في أبريل (نيسان) الماضي، ليبدأ بعدها في الانخفاض، فوصل إلى 6.7 في المائة في شهر يوليو (تموز)، منخفضا عن مستوى يونيو (حزيران) (7 في المائة). ويعزى هذا الانخفاض إلى السياسة التي اتبعتها الهند في حِزم مساعدات ما بعد الجائحة، ففي حين ضخت العديد من الحكومات السيولة في بلدانها لتخفيف آثار الجائحة على المواطنين، ركزت الهند على دعم الشركات والاقتصاد المحلي، بضخ نحو 3 في المائة من حجم ناتجها القومي. كما أن الهند تفوقت على جارتها الصين في مرحلة ما بعد الجائحة، ويعود ذلك إلى اتباع الصين سياسة (صفر كوفيد) التي تسببت في تعطيل الاقتصاد الصيني وإيقاف الكثير من المصانع وإبقاء حالات العزل للعديد من المناطق في الصين.
كما أن الهند اتخذت موقفاً محايداً من الأزمة الروسية الأوكرانية، ولم تقف مع الغرب كما كان يتوقع، ولذلك هي لم تقاطع روسيا ولم تحاول إيقاف استيراد النفط الروسي، بل على العكس فقد تضاعف استيرادها للنفط الروسي بنحو أربعة أضعاف، مستفيدة من السعر المخفض بنحو 30 دولاراً للبرميل. ورغم أن الصين اتبعت أسلوباً مشابهاً، فإن إيقاف العديد من مصانعها قلل من استفادتها من النفط منخفض الثمن. هذا الحياد الهندي قلل من التضخم بشكل كبير في الهند، ولم يجعلها تعاني من أزمة الطاقة كما هي الحال في أوروبا وأميركا.
وتمكن الاقتصاد الهندي من النمو خلال الفترة الماضية لأسباب منها زيادة نشاط القطاع العقاري، وزيادة الاستهلاك المحلي الذي يقدر بنحو 55 في المائة من الناتج القومي، إضافة إلى استثمار العديد من رؤوس الأموال في البلاد. وقدر صندوق النقد الدولي حجم النمو للاقتصاد الهندي هذا العام بنحو 7.4 في المائة، ويتوقع أن يستمر النمو مقارباً لـ7 في المائة خلال الخمس سنوات القادمة. وتطمح الهند إلى أن تصل إلى المرتبة الرابعة عالميا في 2027 متفوقة على ألمانيا، والثالثة بحلول 2029 متعدية اليابان. كما توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تكون الهند في المرتبة الثانية عالمياً في منتصف هذا القرن، متجاوزة الولايات المتحدة وخلف الصين فقط!
ويجدر التوضيح أن تفوق حجم الاقتصاد الهندي على نظيره البريطاني لا يعطي بأي حال أفضلية لأحدهما على الآخر، فالاقتصاد الهندي بلغ حجمه 3.5 تريليون دولار، مقارنة بـ3.2 تريليون للاقتصاد البريطاني، ولكن سكان الهند يزيدون 20 ضعفا على سكان بريطانيا (1.4 مليار هندي مقابل 68 مليون بريطاني)، وينعكس ذلك على الرفاه المعيشي للبريطانيين، حيث يبلغ الدخل لكل فرد في بريطانيا 47 ألف دولار مقابل 2500 دولار فقط في الهند. ولكن هذا الإنجاز يبقى معنويا للهند التي انتقلت من الاقتصاد العاشر في العالم في 2014 إلى الخامس في أقل من عشر سنوات، وهو يعطيها إثباتاً على أنها في الطريق الصحيح، حتى لو لم تكن هذه الخطى ثابتة.
تبدو الهند الآن إحدى الدول البارزة اقتصادياً في العالم، وهي بمعدل نموها الاقتصادي للربع الثاني، والمتوقع لهذا العام (7.4 في المائة) جاءت ثانية بعد المملكة العربية السعودية التي يعد اقتصادها الأسرع نموا لهذا العام (بنسبة نمو 7.5 في المائة). وفيما راهن الغرب لفترة طويلة على الهند كقوة اقتصادية تستطيع مجابهة الاقتصاد الصيني، إضافة إلى تمتعها ببعض القيم الغربية الديمقراطية، فإن تفوق الاقتصاد الهندي جاء بطريق لم يقره الغرب، ومن ذلك عدم إنكار الحرب الروسية على أوكرانيا، ومخالفة العديد من القيم الديمقراطية الغربية. وجاء هذا الإنجاز الذي يحمل معاني معنوية ليعطي الهند بارقة أمل على التفوق الاقتصادي الذي لطالما سعت له، والذي تملك مقوماته بلا أدنى شك.

د. عبد الله الردادي

الإبداع عصب الاقتصاد الجديد

الأسبوع الماضي كنت متحدثة «منتدى العالم القادم» الذي استضافته العاصمة السعودية الرياض لمناقشة موضوعات حيوية، تجمع بين الترفيه والاقتصاد، بمشاركة أكثر من 1000 شخصية فاعلة في هذا المجال، لاحت في مخيلتي عبارة منسوبة لـ«ألبرت أينشـتاين»: «الخيال أهم من المعرفة… نعم الخيال أهم من المعرفة… فبينما المعرفة محدودة، فإن الخيال لا حدود له… الخيال هو حافز كل تقدم، ومنشئ أي تطور».
وكان هنالك سؤال يدور لدى البعض؛ ما هو الدور الذي ستلعبه السعودية في مستقبل الألعاب والرياضات الإلكترونية والصناعات الإبداعية بشكل عام؟ ليأتي إعلان الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي عن الاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية، التي تؤكد أنها خطوة جديدة نحو الريادة وجعل السعودية مركزاً عالمياً في هذا القطاع، والأهم من ذلك ما قاله الأمير محمد بن سلمان؛ إن طاقة وإبداع الشباب السعودي وهواة الألعاب الإلكترونية هما المحرك للاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية، التي تلبي طموحات مجتمع الألعاب محلياً وعالمياً من خلال توفير فرص وظيفية وترفيهية جديدة ومميزة لهم، بهدف جعل السعودية مركزاً عالمياً لقطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية بحلول 2030.
حقيقة التطورات المتسارعة التي شهدها العالم في الألفية الثانية تتحدث عن اقتصاد جديد مختلف عن القطاعات التقليدية التي سادت العالم في القرن الماضي؛ فالاقتصاد الإبداعي بدأ يتطور ويأخذ حيزاً كبيراً ويؤثر بشكل إيجابي في اقتصادات بعض الدول، مع إدراكها بأهميته في تنويع مصادر الدخل، وتوفير الوظائف، واستدامته، لأن مصدره خيال الموهوبين، وعقول المفكرين، فما دام هناك خيال يصنع واقعاً، فإن الاقتصاد الإبداعي سيستمر في النمو والتطور والازدهار… وبالتالي فإن الإجابة على السؤال؛ سعودية مبدعة… هي كلمة السر في فتح خزائن المستقبل.
وقد أجاب الأمير فيصل بن بندر رئيس الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية عن أسباب استثمار السعودية وتركيزها على هذا القطاع بقوله: «السؤال الآن يجب أن يتغير من؛ لماذا السعودية؟ إلى؛ لِمَ ليست السعودية؟ لدينا مجتمع شغوف بالألعاب والرياضات الإلكترونية، ونظّمنا كثيراً من الفعاليات العالمية في مختلف القطاعات، لدينا جميع المقومات لننافس، والأهم من ذلك أن كوادرنا الشابة، رجالاً ونساءً، أظهروا للعالم مدى كفاءتهم وقدراتهم».
لقد كانت السعودية من أوائل الدول في المنطقة التي وضعت الاقتصاد الإبداعي ضمن رؤيتها المستقبلية من خلال وزارة الثقافة وصندوق الاستثمارات العامة، وشهد هذا الاقتصاد خلال الأعوام القليلة الماضية تطوراً متسارعاً، سواء عبر ضخ استثمارات في شركات عالمية والاستحواذ على بعضها، أو تطوير قدرات ومهارات المبدعين لإعداد الجيل القادم من قادة الاقتصاد الإبداعي، وتقديم دعم لرواد الأعمال الشباب لتأسيس مشروعاتهم الإبداعية. كان ذلك مبادرة إطلاق اعتماد برنامج لتمويل الألعاب والرياضات الإلكترونية بميزانية قدرها 300 مليون ريال سعودي… تمتلك السعودية الإدارة والإمكانات لقيادة هذا الاقتصاد إقليمياً وعالمياً، فكما صنعت السعودية اقتصاداً مزدهراً على مدار 100 عام ماضية، هي قادرة أيضاً على صنع اقتصاد إبداعي مستدام يحقق «رؤية السعودية 2030».
شخصياً، واجهت كثيراً من التحديات عندما بدأت عملي في الصناعات الإبداعية قبل 8 سنوات، واليوم أصبحت الأحلام تتحقق بقيادة الأمير محمد بن سلمان، وخير دليل على ذلك الاستراتيجية التي أطلقها للألعاب والرياضات الإلكترونية، التي تعمل على إزالة العقبات والصعوبات التي واجهتنا في السابق، خاصة أن الصناعات الإبداعية لم تعد وسيلة للترفيه فحسب، بل أصبحت مساهماً قوياً في الناتج المحلي للدول، ومن أبرز الأمثلة ظهور مصطلح «الاقتصاد البرتقالي» الذي تبنته كولومبيا قبل 20 عاماً لتصبح اليوم من أكبر 5 اقتصادات في أميركا الجنوبية، ومن أسرع الاقتصادات نمواً… نمتلك المواهب والخبرات والقدرات والإمكانات لنصنع اقتصاداً إبداعياً تنافسياً، يؤمن مستقبلاً مشرقاً للأجيال القادمة… بالأمس كانت منطقتنا تستهلك المنتج الإبداعي الذي يصنعه غيرنا، واليوم فرصتنا لنصنع منتجات إبداعية لبقية العالم تحمل رؤيتنا وبصمتنا وهويتنا وثقافتنا.
قلت لصديق أثق في رأيه؛ هل نحن نبالغ في الحلم؟ ردّ بثقة وابتسامة: «الإبداع والحلم كلاهما لا يخضعان للمنطق… لأنهما ببساطة يصنعانه».

عزيزة الأحمدي

كيف تدير المصارف المخاطر الناجمة عن الديون المتعثرة؟

تعتبر إدارة المخاطر في #المصارف الإسلامية والمصارف التقليدية من المسائل المهمّة جداً في ظلّ التطوّر الهائل في عالم التكنولوجيا والعولمة وانفتاح الأسواق. وقد استحوذت على اهتمام معظم المؤسّسات الماليّة والمصرفيّة نتيجة لهذا التطوّر، ولتشابك هذه المؤسّسات وانخراطها في الأسواق المالية، ونتيجة للأزمات التي حصلت؛ فتنامي سوق الائتمان ومنح القروض والتسهيلات التجارية أدّى إلى تنامي هذه المخاطر ناهيك بتنامي المشكلات الناتجة من التطوّر التكنولوجيّ، ممّا حتّم على هذه المؤسّسات البحث عن حلّ لهذه المخاطر، وإدارتها بطريقة سليمة تهدف إلى الحدّ منها، وتخفيفها من أجل تخفيف الخسائر ورفع نسبة الأرباح.
فالمخاطر ترافق حياة الإنسان من المهد إلى اللّحد؛ لذلك فهو يبحث عن هذه المخاطر ويعدّ العدّة لمواجهتها. وكذلك على الصعيد المصرفي، فإن مفهوم المخاطر بدأ يبرز دوره ويتعاظم نتيجة للانفتاح والعولمة وظهور مشتقات جديدة. فالمخاطر موجودة في كلّ مكان، ولا يمكن من دونها للمصرف أن ينمو ويتطوّر؛ فمن دون مخاطر لا يوجد أرباح. لذلك أصبحت المخاطر المالية حديث العصر، فشرعت لها المصارف إدارات تُعنى بها، وتعمل على تحديدها، وقياسها، والتقليل من آثارها.
إن موضوع إدارة المخاطر شغل بال المصرفيين، واستحوذ على اهتمامهم منذ أواخر القرن العشرين، خصوصاً في أعقاب الأزمات المالية التي عصفت بالعالم في أميركا وآسيا وأوروبا، ناهيك بالأزمات التي نمرّ بها حاليّاً، خصوصاً أزمة جائحة كورونا.
ما هو تعريف إدارة المخاطر المصرفية؟
عرّف الدكتور محمد سليم وهبي والدكتور كامل حسين كلاكش إدارة المخاطر بالفن، فهي “تتطلّب اختيار النموذج المناسب، ومحاولة تعميمه بنجاح وفاعلية في المؤسّسة، مع اعتبار الحيطة والحذر، بما يجعل إدارة المخاطر من الفنون القائمة على المعرفة الحقيقيّة للبيئة المصرفيّة والمكتسبة من خلال الكفاءة المهنية والخبرة”.
وعرّفت لجنة الرقابة على المصارف إدارة المخاطر بأنها: “التعرّف على الأحداث المرتقبة، والمخاطر المحتملة، وقياس هذه المخاطر، وتقدير الخسائر التي يُمكن أن تتأتّى عنها، وإدارتها، من أجل إبقاء هذه المخاطر عند مستوى معيّن يُمكن للمصرف أن يتحمّلها، وبالتالي مساعدة الإدارة العامة على اختيار النشاطات والأعمال المصرفيّة المَنْوِي القيام بها”.
ما أهميّة إدارة المخاطر المصرفيّة؟
 
أصبح وجود هذه الإدارة في القطاع الماليّ والمصرفيّ ضرورة ملحّة لأهميّتها في البحث والتخطيط والتنبّؤ وتخفيف الأضرار والخسائر، وإيجاد الحلول السريعة والناجعة لهذه المخاطر، ولبثّ الثقة بين المساهمين والمستثمرين. وقد باشرت المصارف المركزية رسالتها بهذا الخصوص، وفرضت على المصارف إيلاء إدارة المخاطر الأهميّة اللازمة لتكون جزءاً أساسيّاً من إدارة المصرف أو المؤسّسة المالية، وأوجبت إنشاء قسم لإدارة المخاطر في كلّ مصرف؛ وذلك بهدف تطوير إدارة المخاطر في القطاع المصرفيّ ال#لبنانيّ، وبشكل يستند إلى منهجيّة موحّدة، ترتكز على هيكليّة شاملة متماشية مع متطلّبات “بازل 2″، والمعايير المصرفيّة الدوليّة، بسبب الأهمية الأساسية والمتزايدة لإدارة المخاطر المصرفيّة، ولأن الرقابة على المصارف أصبحت في الوقت الحاضر ترتكز بشكل كبير على المخاطر.
تبرز أهميّة إدارة المخاطر من خلال العناصر الآتية:
أ- المساعدة على تشكيل رؤية مستقبليّة واضحة، يتمّ بناءً عليها وضع خطط سير العمل، وتنمية وتطوير الميزة التنافسيّة بين المصارف، عن طريق التحكّم بالتكاليف الحاليّة والمستقبليّة، التي تؤثر في ربحيّة المصارف.
ب- تقدير المخاطر والتحوّط ضدّها بما لا يؤثر على ربحيّة المصرف، والمساعدة على تشكيل رؤية واضحة للمخاطر، وبناء الخطة المناسبة لها.
ج – المساعدة على اتخاذ قرارات التسعير والمعرفة المتزايدة للمخاطر، وفهمها، ووضع المنهج أو البرنامج المناسب لاتّخاذ القرارات، التي تقلّل من إحداث الفوضى.
د – مساعدة المصرف على احتساب معدّل كفاية رأس المال، وفقاً للمقترحات الجديدة للجنة “بازل”، وبما يتّفق مع الطبيعة المميّزة للمصارف الإسلامية.
ه – إن عملية اتّخاذ القرارت المتعلّقة بالمخاطر تتّفق مع استراتيجية المصرف، وأن يكون العائد متناسباً مع درجة المخاطر.
ما هي وظائف إدارة المخاطر المصرفيّة؟
تطوّرت إدارة المخاطر المصرفيّة في عصرنا الحالي حتى أصبحت علماً يدرس في الجامعات، وتبنى عليه آمال كثيرة؛ وذلك بهدف تخفيف حدّة هذه المخاطر، لكي تتمكّن المصارف التقليدية والإسلامية من القيام بوظائفها، وتحقيق الأرباح التي يعوّل عليها في استمرار عملها. ولأن لكلّ علم وظيفة وأهدافاً، كان لا بدّ لنا من الوقوف على وظائف إدارة المخاطر المصرفية وهي:
أ- وظيفة وقائية: وهي تعني الوقاية من المخاطر المتوقعة أو التي يمكن توقّعها قبل حدوثها. ويُطلق عليها كذلك وظيفة التحوّط من المخاطر ما إن يتمّ اتّخاذ القرارات. لكنّها يجب أن تؤثر في عملية اتّخاذ القرارات، لأنّ المهمّ هو رصد المخاطرة قبل وقوعها، واتخاذ القرار المناسب لها. نعطي مثالاً على ذلك دور الاستعلام في المصارف، سواء أكان عبر مصرف لبنان أو عبر شركات تقوم بهذا الدور، إذ إن المعلومات التي تعطى للمصرف تكون كفيلة بالوقاية من المخاطر المستقبلية، كما لو كان المدين طالب القرض عميلاً متعثراً، وحاول الحصول على قرض جديد من المصرف الثاني؛ فهنا الاستعلام قام بدور الوقاية من المخاطر المستقبليّة.
ب- وظيفة اكتشافية: لكشف المشكلات حال حدوثها، والتعرّف على النتائج غير المرغوب فيها، ودراسة مدى شدّة تأثيرها. هنا نتحدّث على اكتشاف المخاطر بعد منح القرض. في هذه الحالة، المصرف قدّم القرض للزبون، ولكن بعد فترة اكتشف تعثّره، فيقود الاكتشاف المبكر إلى الحلول السريعة؛ وهذا يعتمد على مدى فاعليّة جهاز إدارة المخاطر في المصرف.
ج – وظيفة تصحيحيّة لتدارك آثار المخاطر المكتشفة وتلافيها والعمل على عدم تكرارها. وتحصل هذه الحالة عند وجود ارتفاع في حالات التعثّر في قطاع معيّن، ممّا يحتّم على المصرف وقف التسليفات لهذا القطاع.
د – وظيفة مستقبلية: إذ إن إدارة المخاطر تزوّد المصارف بنظرة أفضل عن المستقبل. لهذا، تنبع أهمّية إدارة المخاطر من حقيقة أنّه من دونها سوف يكون تنفيذ الاستراتيجية مقصوراً على قواعد إرشاديّة تجاريّة من دون النظر إلى تأثيرها على مفاضلة المخاطرة والعائد الخاصّ فيها.
ه- وظيفة التحكّم بالمخاطرة: تعتبر وظيفة التحكّم بالمخاطرة عاملاً مهماً جدّاً في زيادة الأرباح والتنافس، لأنه من أسباب قياس المخاطر أنها تولد تكاليف مستقبليّة يجب أن تقدّر؛ وعندها يتمّ تحميلها للعملاء المستفيدين من القروض من المصرف؛ وهذا سبب ارتباط إدارة المخاطر الوثيق بقرارات التسعير.
و – استقراء الأحداث والمخاطر المرتقبة: “استقراء الأحداث المستقبلية المتوقعة، بغضّ النظر عن تأثيراتها الإيجابية (الفرص)، أو السلبية (المخاطر)، على أن تؤخذ بالاعتبار العوامل الداخلية (حجم المصرف أو المؤسّسة المالية، المؤسّسات المرتبطة، طبيعة النشاط، كفاءة الموظفين، مؤهّلاتهم، التغيّرات الإدارية المرتقبة، سلامة بيئة العمل…)، إضافة إلى العوامل الخارجية (تغيّرات في الظروف الاقتصادية، تطوّرات تكنولوجية وتشريعات جديدة…)، وتجميع الأحداث التي تمّ التعرف عليها، وإعادة توزيعها وفقاً لشرائح معيّنة، يسهل معها استخراج المخاطر منها، ثمّ دراسة هذه المخاطر كلاً على حدة، ومقارنتها ببعضها البعض لتحديد مدى تأثير كلّ منها على تحقيق الأهداف المحدّدة”.
 
وأخيراً ما هي أهداف إدارة المخاطر المصرفيّة؟
لا يوجد عمل من دون هدف. يُطلق مصطلح الهدف على النتائج الطويلة المدى المراد تحقيقها. وينبغي على برنامج إدارة المخاطر تحديد الأهداف المراد تحقيقها بهدف تخفيف الآثار المالية للخسارة عند وقوعها، وهي تكتسي أهميّة كبيرة خصوصاً في مجال القروض، بالنظر إلى أنّها تخفّف من التعثّر الذي بدوره ينعكس إيجاباً على سيولة المصرف؛ لذلك، فإنّ لإدارة المخاطر في المصارف التقليديّة والمصارف الإسلامية أهدافاً عديدة، نذكر منها:
أ- يعتبر الهدف الأول والأساس هو تقليل مخاطر الائتمان أو الديون المتعثرة كي تبقى هذه المخاطر ضمن الحدود المسموح بها، والتي تتناسب مع طاقة المصرف وقدرته على تحقيق الأرباح.
ب- المحافظة على الأصول الموجودة لحماية المستثمرين والمودعين والدائنين وإحكام السيطرة على المخاطر في الأعمال التي يقوم بها المصرف، والتي ترتبط بالأوراق المالية والقروض وغيرها من أدوات الاستثمار.
ج – تعظيم قيمة المصرف، إذ إن الهدف من إدارة المخاطر تعظيم القيمة السوقيّة للمصرف، وبثّ الاطمئنان في نفوس المستثمرين والمودعين والدائنين؛ فكلّما كانت قرارات إدارة المخاطر رشيدة وصائبة ارتفعت نسبة الثقة بالمصرف وتعاظمت أعماله.
في الختام، وفي ظلّ الظروف التي يمرّ بها بلدنا، لا بدّ من إيلاء وظيفة إدارة المخاطر الأهمّية الكافية، كي نستطيع الوصول إلى برّ الأمان، وكي تحلّ المشكلات في القطاع المصرفيّ اللبنانيّ، خصوصاً مشكلة المودعين ومشكلة الديون المتعثرة.
أحمد محمد قاسم
(*) متخصص في القروض والديون المتعثرة

بين اقتصادين… متعثر وجيد

حين نفكر في الاقتصاد نفكر عادةً في العوامل الجغرافية، والبيئية. حجم الموارد الطبيعية، طبيعة المناخ، الإمكانات السياحية. وكلها عوامل مهمة فعلاً، لكنها لا تصنع اقتصاداً جيداً بالمفهوم المعاصر لكلمة اقتصاد. وهو مفهوم تميز بتجاوزه للقيم الريعية (الحسابية) المجردة، ليكتشف ويقيِّم القيم المعنوية والاجتماعية والإدارية التي تصنع اقتصاداً جيداً، كالتنافسية، وآداب العمل، والانفتاح، وسعة الأفق. يقيِّمها، أي يحولها إلى قيمة مادية رقمية.
لو تابعنا الخطاب النخبوي في الأمم المتعثرة اقتصادياً، سنجد أن أهم ما يميزه التركيز على النوع الأول من العوامل الاقتصادية؛ الموارد الطبيعية. وسنجد أن تشخيصه للداء الاقتصادي ينصبّ أيضاً على ندرة الموارد أو «عدم استغلال الموارد»، أو «سرقة الموارد». لا أنفي احتمال أن يكون هذا وذاك سبباً حقيقياً في الفقر الاقتصادي. ما أعارضه هنا أن يكون السبب الوحيد، أو حتى السبب الأرجح. هذا كسل فكري مريح، لكنه مهلك، محدود التفكير الأخلاقي، ومحدود الخيال، ولا يبعث على الأمل في تغيير الحال.
تحدثنا سابقاً عن القيمة الأخلاقية للتنافسية في صياغة منظومة أخلاقية تمجّد حس المسؤولية والاجتهاد لدى الأفراد، تمجّد ملكية الشخص لنجاحه، وملكيته لفشله، وملكيته لما بينهما من درجات اليسر والعسر، وقيمتها في نبذ التواكل والشعور بالاستحقاق. عن قيمة التنافسية في تعزيز فكرة الجودة والإتقان، وفكرة العدالة الطبيعية. وعن قيمة التنافسية في توسيع أفق الابتكار واكتشاف المواهب داخل المجتمع، وبالتالي قيمتها في توسيع المشاركة. كل هذه الفوائد لها قيم مادية لا تقل أهمية عن قيمة الموارد البيئية والنصيب الجغرافي.
بعض الدراسات الاجتماعية ركز على ما يسمى «رأس المال المجتمعي». وهو مصطلح يبحث في شكل الأواصر بين الأفراد داخل مجتمع ما، وعلاقة هذا بالأداء الاقتصادي للبلد. هناك علاقة طردية بين قدرة المجتمعات على بناء منظومات اجتماعية تطوعية يتعاون فيها الأفراد، وبين قدرتها على التطور الاقتصادي. يمكن ببساطة فهم السبب. المجتمع المتزاور المتعاون مجتمع أكثر تمتعاً بالتآلف والثقة بين أفراده. وهما صفتان إن غابتا عن مجتمع انقلب على نفسه تناحراً، وانقلب على ضيوفه نافراً منفراً. إن كانت ثقافة المجتمع تُشيع -لأسباب مختلفة- عدم الثقة بين فئاته، رجاله ونسائه، أو أبناء الأديان والطوائف المختلفة فيه، فكيف تتوقع أن تشيع الثقة مع الغرباء وترحب بهم؟
الثقة إذن عامل «مادي» أساسي في الحسابات الاقتصادية. عامل يمكن للفرد أن يتخيله بسهولة في دائرته المحدودة، حيث البقال الأمين الموثوق أنجح من البقال الغشاش. لكننا لا نولي هذه القيمة الاجتماعية الأخلاقية حقها من التقييم المادي حين نتحدث عن الإدارة الاقتصادية للدول، وعن الكفاءة الاقتصادية للمجتمعات، كما نفعل مع «الموارد الطبيعية». السبب في هذا بسيط. نتخيل الاقتصاد بقيم مادية واضحة يمكن حسابها، ولا نتخيل دور القيم التي تحتاج إلى خيال لحسابها، والمسماة «اليد الخفية للسوق».
لو كان للاقتصاد -من هذا المنطق- كتاب مقدس، لكانت افتتاحيته «في البدء كانت الثقة». تحت هذا المتن ضع من الشروح ما شئت. تكلم عن دور الدولة في طمأنة أصغر مشارك في الاقتصاد إلى أكبر مشارك فيه إلى أن رأسماله لن يضيع بسبب قرار مفاجئ، يعطل له تجارته، أو بسبب مزاحمة من مركز نفوذ يريد أن يحتكر كل قطاع رابح، أو بسبب غموض القانون وغشاوة اللوائح.
عدم اكتراث دولة بقيمة الثقة لا ينبع من عدم أهلية ساستها للثقة، بل ينبع غالباً من غياب هدف إشاعة الثقة من لائحة أهدافهم. أحياناً لأسباب تتعلق بروافد ثقافتهم الاقتصادية. الساسة ذوو الأفكار الاشتراكية، ينصبّ جهدهم الاقتصادي على تعزيز دور الإدارة المركزية في تنفيذ المشاريع. يهتمون بالثقة المتبادلة بين أفراد هذا الجهاز البيروقراطي، وينتهي اهتمامهم بالثقة عند محيط تلك الدائرة. ينظرون إلى المجتمع كأنه كيان منفصل عن الدولة، كانفصال المولود عن أمه. يعدّونه كياناً مَعَولاً لا كياناً منتجاً، يعجزون عن رؤية طموح الفرد منفصلاً عن طموح المركز. لو كانت الإدارة المركزية نواة في ذرّة، لخمل العالم، وضاقت مدارات الإلكترونات، وانتحرت التفاعلات الكيميائية، لحدث المستحيل وعثرت في الطبيعة على ذرة مستقلة، أو على نواة تعتقد أنها إلكترون. المشكلة الكبرى في هذه النظرة أنها نظرة لا تنبع غالباً من شر محسوس، بل من نية طيبة، لكنها فاشلة إدارياً ومدمرة اقتصادياً. الأعمال في الاقتصاد ليست بالنيات.
ثم إن ثقافة كيان جغرافي تشبه هواءه ونهره. يتنفسها الجميع، ويتشربها الجميع. المجتمع الذي لا يسمع ولا يرى ولا يلمس أهمية الثقة في كل قرار يومي لا يلتفت إليها. قد يتحدث عنها في خطب الجمع أو مراجعات السبت أو مواعظ الأحد، لكنه في واقعه العملي يمجد الغش. لا تسارعوا إلى إساءة الظن به، فلن يستسيغ مدح الغش باسمه الحقيقي، سيسميه «شطارة»، سيسميه «فهلوة»، سيسميه «تقليب رزق»، سيسميه «على قد فلوسهم».
غياب الثقة بين أفراد ومؤسسات الكيان الجغرافي الواحد يجعل التنبؤ بالقيم الحاكمة لتعامله مع الغرباء قصة قصيرة، حزينة. رغم أن حبكتها سهلة، وعبرتها حاضرة. إن رأى رأس المال القادم، لكي يبادل النفع بالنفع سابقاً عليه، أُضير في هذه المبادلة فلن يخاطر بتقليده، ولن يصغي إلى كلمات الترحيب. احسبْ الضرر الاقتصادي بنفسك. راجع أرقام ونوعية الاستثمار الأجنبي، وأرقام السياحة.
الثقة إذن هي الهدف الأول. والهدف الأول هو الثقة. هذه ليست جملة إنشائية. بل جملة اقتصادية معاصرة تعبر بطريقة مبسطة عن الخطوة الأولى في التفكير الاستراتيجي لبناء اقتصاد. الثقة كلمة على كل مسؤول أن يرددها لنفسه كما يردد عابدٌ أذكار الصباح والمساء. الثقة لا تصلح أن تكون ضحية جانبية. لا تصلح لدور رهينة في مساومة لشراء الوقت. الثقة هي العقد غير المكتوب، قبل العقد المكتوب، وبعد العقد المكتوب.

خالد البري

بين اقتصادين… متعثر وجيد

حين نفكر في الاقتصاد نفكر عادةً في العوامل الجغرافية، والبيئية. حجم الموارد الطبيعية، طبيعة المناخ، الإمكانات السياحية. وكلها عوامل مهمة فعلاً، لكنها لا تصنع اقتصاداً جيداً بالمفهوم المعاصر لكلمة اقتصاد. وهو مفهوم تميز بتجاوزه للقيم الريعية (الحسابية) المجردة، ليكتشف ويقيِّم القيم المعنوية والاجتماعية والإدارية التي تصنع اقتصاداً جيداً، كالتنافسية، وآداب العمل، والانفتاح، وسعة الأفق. يقيِّمها، أي يحولها إلى قيمة مادية رقمية.
لو تابعنا الخطاب النخبوي في الأمم المتعثرة اقتصادياً، سنجد أن أهم ما يميزه التركيز على النوع الأول من العوامل الاقتصادية؛ الموارد الطبيعية. وسنجد أن تشخيصه للداء الاقتصادي ينصبّ أيضاً على ندرة الموارد أو «عدم استغلال الموارد»، أو «سرقة الموارد». لا أنفي احتمال أن يكون هذا وذاك سبباً حقيقياً في الفقر الاقتصادي. ما أعارضه هنا أن يكون السبب الوحيد، أو حتى السبب الأرجح. هذا كسل فكري مريح، لكنه مهلك، محدود التفكير الأخلاقي، ومحدود الخيال، ولا يبعث على الأمل في تغيير الحال.
تحدثنا سابقاً عن القيمة الأخلاقية للتنافسية في صياغة منظومة أخلاقية تمجّد حس المسؤولية والاجتهاد لدى الأفراد، تمجّد ملكية الشخص لنجاحه، وملكيته لفشله، وملكيته لما بينهما من درجات اليسر والعسر، وقيمتها في نبذ التواكل والشعور بالاستحقاق. عن قيمة التنافسية في تعزيز فكرة الجودة والإتقان، وفكرة العدالة الطبيعية. وعن قيمة التنافسية في توسيع أفق الابتكار واكتشاف المواهب داخل المجتمع، وبالتالي قيمتها في توسيع المشاركة. كل هذه الفوائد لها قيم مادية لا تقل أهمية عن قيمة الموارد البيئية والنصيب الجغرافي.
بعض الدراسات الاجتماعية ركز على ما يسمى «رأس المال المجتمعي». وهو مصطلح يبحث في شكل الأواصر بين الأفراد داخل مجتمع ما، وعلاقة هذا بالأداء الاقتصادي للبلد. هناك علاقة طردية بين قدرة المجتمعات على بناء منظومات اجتماعية تطوعية يتعاون فيها الأفراد، وبين قدرتها على التطور الاقتصادي. يمكن ببساطة فهم السبب. المجتمع المتزاور المتعاون مجتمع أكثر تمتعاً بالتآلف والثقة بين أفراده. وهما صفتان إن غابتا عن مجتمع انقلب على نفسه تناحراً، وانقلب على ضيوفه نافراً منفراً. إن كانت ثقافة المجتمع تُشيع -لأسباب مختلفة- عدم الثقة بين فئاته، رجاله ونسائه، أو أبناء الأديان والطوائف المختلفة فيه، فكيف تتوقع أن تشيع الثقة مع الغرباء وترحب بهم؟
الثقة إذن عامل «مادي» أساسي في الحسابات الاقتصادية. عامل يمكن للفرد أن يتخيله بسهولة في دائرته المحدودة، حيث البقال الأمين الموثوق أنجح من البقال الغشاش. لكننا لا نولي هذه القيمة الاجتماعية الأخلاقية حقها من التقييم المادي حين نتحدث عن الإدارة الاقتصادية للدول، وعن الكفاءة الاقتصادية للمجتمعات، كما نفعل مع «الموارد الطبيعية». السبب في هذا بسيط. نتخيل الاقتصاد بقيم مادية واضحة يمكن حسابها، ولا نتخيل دور القيم التي تحتاج إلى خيال لحسابها، والمسماة «اليد الخفية للسوق».
لو كان للاقتصاد -من هذا المنطق- كتاب مقدس، لكانت افتتاحيته «في البدء كانت الثقة». تحت هذا المتن ضع من الشروح ما شئت. تكلم عن دور الدولة في طمأنة أصغر مشارك في الاقتصاد إلى أكبر مشارك فيه إلى أن رأسماله لن يضيع بسبب قرار مفاجئ، يعطل له تجارته، أو بسبب مزاحمة من مركز نفوذ يريد أن يحتكر كل قطاع رابح، أو بسبب غموض القانون وغشاوة اللوائح.
عدم اكتراث دولة بقيمة الثقة لا ينبع من عدم أهلية ساستها للثقة، بل ينبع غالباً من غياب هدف إشاعة الثقة من لائحة أهدافهم. أحياناً لأسباب تتعلق بروافد ثقافتهم الاقتصادية. الساسة ذوو الأفكار الاشتراكية، ينصبّ جهدهم الاقتصادي على تعزيز دور الإدارة المركزية في تنفيذ المشاريع. يهتمون بالثقة المتبادلة بين أفراد هذا الجهاز البيروقراطي، وينتهي اهتمامهم بالثقة عند محيط تلك الدائرة. ينظرون إلى المجتمع كأنه كيان منفصل عن الدولة، كانفصال المولود عن أمه. يعدّونه كياناً مَعَولاً لا كياناً منتجاً، يعجزون عن رؤية طموح الفرد منفصلاً عن طموح المركز. لو كانت الإدارة المركزية نواة في ذرّة، لخمل العالم، وضاقت مدارات الإلكترونات، وانتحرت التفاعلات الكيميائية، لحدث المستحيل وعثرت في الطبيعة على ذرة مستقلة، أو على نواة تعتقد أنها إلكترون. المشكلة الكبرى في هذه النظرة أنها نظرة لا تنبع غالباً من شر محسوس، بل من نية طيبة، لكنها فاشلة إدارياً ومدمرة اقتصادياً. الأعمال في الاقتصاد ليست بالنيات.
ثم إن ثقافة كيان جغرافي تشبه هواءه ونهره. يتنفسها الجميع، ويتشربها الجميع. المجتمع الذي لا يسمع ولا يرى ولا يلمس أهمية الثقة في كل قرار يومي لا يلتفت إليها. قد يتحدث عنها في خطب الجمع أو مراجعات السبت أو مواعظ الأحد، لكنه في واقعه العملي يمجد الغش. لا تسارعوا إلى إساءة الظن به، فلن يستسيغ مدح الغش باسمه الحقيقي، سيسميه «شطارة»، سيسميه «فهلوة»، سيسميه «تقليب رزق»، سيسميه «على قد فلوسهم».
غياب الثقة بين أفراد ومؤسسات الكيان الجغرافي الواحد يجعل التنبؤ بالقيم الحاكمة لتعامله مع الغرباء قصة قصيرة، حزينة. رغم أن حبكتها سهلة، وعبرتها حاضرة. إن رأى رأس المال القادم، لكي يبادل النفع بالنفع سابقاً عليه، أُضير في هذه المبادلة فلن يخاطر بتقليده، ولن يصغي إلى كلمات الترحيب. احسبْ الضرر الاقتصادي بنفسك. راجع أرقام ونوعية الاستثمار الأجنبي، وأرقام السياحة.
الثقة إذن هي الهدف الأول. والهدف الأول هو الثقة. هذه ليست جملة إنشائية. بل جملة اقتصادية معاصرة تعبر بطريقة مبسطة عن الخطوة الأولى في التفكير الاستراتيجي لبناء اقتصاد. الثقة كلمة على كل مسؤول أن يرددها لنفسه كما يردد عابدٌ أذكار الصباح والمساء. الثقة لا تصلح أن تكون ضحية جانبية. لا تصلح لدور رهينة في مساومة لشراء الوقت. الثقة هي العقد غير المكتوب، قبل العقد المكتوب، وبعد العقد المكتوب

خالد البري

 

تحديات صعبة أمام الطاقة الأوروبية

تعاني أسواق الطاقة العالمية أصعب تجربة مرت بها منذ عقود بسبب حرب أوكرانيا، والقرارات الأوروبية لمقاطعة الغاز والنفط الروسيين اللذين يشكلان عماد إمدادات الطاقة لأوروبا. ومن ثم رد الفعل الروسي بقطع الإمدادات الطاقوية إلى أوروبا.
كان من المستغرب في بادئ الأمر كيف تقاطع أوروبا الإمدادات الروسية؟! من المفهوم أن أوروبا أرادت أن تعبر عن دعمها لأوكرانيا واستهجانها للغزو الروسي، كما أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال تضغط منذ عقود لفك الاعتماد الأوروبي على الإمدادات الغازية الروسية لأوروبا؛ لكن من غير المفهوم أن تقاطع دول صناعية المصدر الأساسي لمصدر طاقاتها الرئيسة، بتبني قرارات مستعجلة، دون التحضير اللازم مسبقاً للحصول على التعويضات. فقرار المقاطعة هذا غريب من نوعه، إذ إنه ضار للدول التي وافقت عليه قبل غريمها وأكثر. وهذا ما بدأ يحصل فعلاً مع تسييس ومقاطعة الغاز الروسي لأوروبا.
شعرت أوروبا بثقل عبء قراراتها هذه. وأول رد فعل هو الارتفاع الحاد في أسعار الكهرباء للمستهلك الأوروبي. وهذا ما تشير إليه بوضوح الزيادة الشهرية العالية على فاتورة كهرباء المنازل، ناهيك عن ارتفاعها على الشركات الصناعية والخدماتية، مما أخذ يزيد من التضخم في أوروبا.
بدأت الدول الأوروبية حالاً بعد اتخاذ قرارات المقاطعة الاتصال مع دول مصدِّرة للغاز، على غرار قطر والولايات المتحدة والجزائر ونيجيريا ومصر وإسرائيل. لكن -كما هو متوقع- فإن الطاقات الإنتاجية الإضافية لهذه الدول مجتمعة من الصعب أن تعوض الإمدادات الغازية الروسية الإضافية. هذا الأمر لا بد من أنه كان معروفاً لدى الخبراء والمسؤولين الأوروبيين عند اتخاذ القرار. كما أنه من المعروف أن الاتفاق السريع مع الدول أعلاه، سيعني معادلات سعرية أعلى مما كانت تدفعه الأقطار الأوروبية باتفاقاتها الطويلة المدى مع روسيا. وهذا ما أخذ يحصل الآن فعلاً. والاهتمام الأوروبي حالياً هو تخزين أكبر كميات ممكنة من الغاز قبل حلول فصل الشتاء؛ حيث الحاجة الماسة للتدفئة في حال برد قارس.
وتبادر الأقطار الأوروبية بتبني سياسات متعددة للالتفاف على الأزمة التي تعانيها الآن. فكانت هناك أولاً قرارات المقاطعة. وقد ردت موسكو بقرار مواجه لها من جانبها، بالمبادرة بقطع الإمدادات الغازية للصيانة ولوقت غير محدد، كما هو حاصل مع خط أنبوب «نورد ستريم- 1» الذي يزود ألمانيا ودولاً أخرى في الشمال الأوروبي بالغاز. سيكون من الصعب على ألمانيا المعتمدة كلياً على استيراد الغاز عبر الأنابيب، ومن دون منشآت وعقود لاستيراد الغاز المسال عبر الناقلات، أن تعوض الغاز الروسي بسهولة.
والجولة الجديدة للسوق الأوروبية المشتركة في معركة «تسييس الطاقة» هي فرض سقف سعري على صادرات النفط الروسية. تم إصدار قرار أوروبي مؤقت بهذا الصدد في شهر يونيو (حزيران) الماضي؛ لكن لم تتم متابعته أو تنفيذه فعلاً.
تفيد المصادر النفطية بأن الرئيس الأميركي جو بايدن أعاد إحياء الاقتراح في اجتماعات زعماء دول «مجموعة السبع» الأخيرة، لأجل استمرار الضغط على روسيا وريعها البترولي، وللحد من ارتفاع أسعار المنتجات البترولية في السوق الأميركية، ومعدلات التضخم العالية التي وصلت إلى معدلات قياسية، بالذات قبل حلول الانتخابات التشريعية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
سيتم تنفيذ خطة الرئيس بايدن من خلال قرارات المقاطعة والحصار النفطي الثانوية الأميركية التي تؤهل وزارة المالية الأميركية لملاحقة ومعاقبة المصارف وشركات الشحن والتأمين التي تتعامل مع العقود الروسية، دون السقف السعري في الدول المستوردة. وتتأمل واشنطن أن يردع هذا القرار موسكو عن إمكانية الحصول على أسواق نفطية جديدة تعوض الأسواق الأوروبية.
لم تتبين حتى الآن ما هي قرارات المقاطعة الأميركية التي تنوي واشنطن تبنيها في عقوباتها. المعروف أن الشركات الروسية كانت على اتصال مع الشركات الصينية والهندية لاستيراد كميات إضافية من النفط بعد الحصار الأوروبي؛ حيث تعتبر روسيا مصدراً مهماً للنفط للدولتين الآسيويتين الكبريين.
من جانبها، قررت مصلحة الكهرباء الفرنسية (إي دي إف)، نظراً للضغوط التي يمارسها عليها وزير الطاقة، إعادة تشغيل 32 مفاعلاً نووياً عاطلاً عن العمل حالياً، للقيام بأعمال الصيانة وتشغيل المفاعلات هذه قبيل فصل الشتاء، بحسب صحيفة «فايننشيال تايمز». أدى توقف هذه المفاعلات وتوقف الغاز الروسي إلى شح موارد الطاقة في فرنسا، واضطرارها إلى استيراد الكهرباء من بريطانيا ودول مجاورة أخرى، كما ارتفعت أسعار الكهرباء.

وليد خدوري

اليابان ثملة

هل تتخذ الحكومات قراراتها بناءً على مصلحة الشعوب؟ منطقياً يبدو الأمر كذلك، فالحكومات أياً كان هيكلها، لا ترغب في اتخاذ قرارات تضر بأبناء بلدها. حتى وإن كانت بعض القرارات لا ترضي السواد الأعظم، إلا أن الأغلبية يدركون أن الحكومة – على الأقل – ترى أن هذه القرارات للمصلحة العامة، وإن كانت مؤلمة. ولذلك فعندما هجمت الجائحة على العالم، بدأت بعض الحكومات باتخاذ قرارات صعبة للحفاظ على اقتصاداتها من الانهيار، واختلفت هذه القرارات حسب الحكومات، ولكن معظم هذه القرارات كانت منطقية بشكل أو بآخر دون أي غرابة، حتى جاء قرار الحكومة اليابانية قبل عدة أيام.
فالحكومة اليابانية أطلقت مسابقة، تشجع فيها الشباب ممن دون سن الأربعين على شرب المزيد من الكحول! وتدعو هذه المسابقة الشباب إلى تقديم خطة عمل تساهم في زيادة إقبال الشباب على شرب الكحول. وانخفضت نسبة استهلاك الكحول لدى الشباب الياباني، لأسباب منها تغير أسلوب الحياة وعادات الشرب بعد العمل، إضافة إلى الجائحة التي زادت من بقاء الناس في منازلها. السبب الأخير تحديداً جعل المسابقة تركز على تقديم المقترحات لجعل اليابانيين يشربون أكثر في منازلهم. هذه المعلومات ليست من الصحافة الصفراء أو من المواقع غير الموثوقة، بل هي معلومات نشرتها الصحف اليابانية، التي تبنى الكثير منها هذه المسابقة لتحفيز الشباب على المشاركة. فلماذا أصدرت اليابان هذا القرار الغريب؟
في عام 1980، شكلت العائدات الضريبية للكحول 5 في المائة من إيرادات الضرائب في اليابان، وانخفضت هذه النسبة لتصل إلى 3 في المائة عام 2011، لتنخفض بعد ذلك إلى نحو 1.7 في المائة عام 2020، هذا الانخفاض أثر بشكل كبير على العوائد الضريبية لحكومة اليابان، التي تعاني بالفعل من عجز في ميزانيتها يزيد على 340 مليار دولار. وانخفضت عائدات الضرائب خلال العام الماضي بنحو 813 مليون دولار، وهو أكبر انخفاض في الثلاثة عقود الماضية، بعد هذا النقصان أصبحت العوائد 8.4 مليار دولار. وللتوضيح، هذا الرقم الأخير هو ما تجنيه الحكومة اليابانية من ضرائب جراء مبيعات الكحول!
والحكومة اليابانية لا تريد خسارة هذه الأموال، خصوصاً في وقت تسعى فيه لتحفيز اقتصادها، ولذلك فقد أطلقت هذه المسابقة التي أعلنتها وكالة الضرائب الوطنية في رسالة واضحة وشفافة، أن الحكومة تريد المزيد من الأموال، ضاربة صحة المجتمع عرض الحائط. هذه المسابقة هي تخبط جديد للحكومة اليابانية، التي حذرت وزارة صحتها العام الماضي من عواقب الإفراط في شرب الكحول وما يسببه من مشكلات اجتماعية كبرى.
ولم تعقب منظمة الصحة العالمية على هذه المسابقة التي مر على إعلانها أكثر من 5 أيام، وهي التي يمتلئ موقعها الإلكتروني بالتحذير من مخاطر الإسراف في شرب الكحول. وتذكر منظمة الصحة العالمية في موقعها العبارة التالية: «كلما قلت التنمية الاقتصادية في البلدان أو المناطق، ارتفع معدل الوفيات والإصابات والأمراض التي تعزى للكحول، ويرتبط ذلك بشكل مباشر بمعدل استهلاك الكحول لكل فرد»، فما هو معدل استهلاك الكحول في اليابان؟ كان في السابق نحو 100 لتر في العام لكل فرد، وهو الآن 75 لتراً في العام لكل فرد، وقد لا تعلق المنظمة على كلا الرقمين أو حتى المسابقة، لأسباب معروفة.
إن إلقاء المحاضرات عن القيم والأخلاق ومصلحة الشعوب، أمر في غاية السهولة في أوقات الرخاء. وهو أمر أصبح سماعه معتاداً من الدول المتقدمة بشكل عام. ولكن عند التقلبات وشظف العيش تختلف الموازين، فلو اتخذت أي دولة ثانية القرار نفسه، سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، لتكالبت عليها الدول منددة ومستنكرة، ولكن الموازين كذلك تختلف حسب الدولة التي تتخذ القرار. وقد يكون لليابان ما يبرر هذا القرار حسب ثقافة الشعب ودينه، ولكن الدول الأخرى كذلك، التي تحذر باستمرار من مغبة الكحول والإسراف فيه – مثل بريطانيا – لا تمانع بكل تأكيد في دعم هذه الصناعات بهدف التصدير للخارج، بل يعد ذلك أحد أهم نجاحات بعض الحكومات البريطانية السابقة، وكأن شرب الكحول غير ذي مضرة إن كان خارج الحدود، خصوصاً إذا كانت مبيعاته وصادرته تملأ الخزائن.

د. عبد الله الردادي

التباطؤ التكنولوجي في الصين ليس بالأمر السيئ

للمرة الأولى في التاريخ، سجلت أكبر شركتين للتكنولوجيا في الصين انخفاضاً في الإيرادات، إذ تواجه الدولة عقبات نمو غير مسبوقة وتوقعات غير مؤكدة. لكن على بعد 2000 ميل، ثمة تحديات أكبر تنتظر واحدة من أكبر الشركات في جنوب شرقي آسيا.
سجلت شركة Sea Ltd، التي تعمل في مجال تشغيل الألعاب عبر الإنترنت وبوابات التجارة الإلكترونية، نمواً بنسبة 29 في المائة، وهو الأبطأ منذ ما يقرب من خمس سنوات. فنحن نميل إلى التفكير في التوسع في الإيرادات على أنه أفضل من التراجع، ولكن في حالة شركة «Sea» التي تتخذ من سنغافورة مقراً لها، فإن كل دولار يتم جلبه من خلال أعمالها التجارية الإلكترونية يتسبب في خسارة المزيد من المال. وقد واصلت شركتا Tencent Holdings Ltd، وAlibaba Group Holding Ltd على الأقل إعادة الأرباح حتى عندما تقلص السقف.
أدى ارتفاع التضخم العالمي والنمو الاقتصادي غير المستقر إلى دفع شركة «Sea» في شهر مايو (أيار) إلى خفض توقعات إيرادات العام بأكمله من التجارة الإلكترونية، والتي تمثل حوالي 52 في المائة من إجمالي مبيعات الشركة، بمقدار 400 مليون دولار إلى نطاق يتراوح بين 8.5 و9.1 مليار دولار. لكن التوجيه بالكامل الشهر الجاري.
في إطار جهودنا للتكيف مع تزايد حالات عدم اليقين الكلية، فإننا نقوم بتحويل استراتيجياتنا بشكل استباقي لزيادة التركيز على الكفاءة والتحسين من أجل القوة والربحية على المدى الطويل لأعمال التجارة الإلكترونية.
ويبدو هنا أن الإدارة أدركت أن شراء الإيرادات غير المربحة ليس نموذجاً تجارياً مستداماً، ولكن اختيار عدم القيام بذلك يجعل التنبؤ بالمستقبل شبه مستحيل.
في بعض الأعمال التجارية عبر الإنترنت – مثل التجارة الإلكترونية وتسليم البضائع إلى المنازل – تتمتع الشركات بقوة معينة لتحقيق الأهداف العليا من خلال تعزيز التسويق، واستخدام الإغراءات والإعانات لجذب المستهلكين إلى إنفاق الأموال. يجب أن يفكر المستثمرون في هذا على أنه «نمو خاطئ»، وقد رأينا ذلك في الأيام الأولى من خدمة النقل السريع وخدمة توصيل الطعام عندما قدم مقدمو الخدمة قسائم إنفاق وخصومات لجعل العملاء يستخدمون منصاتهم حتى عندما تخسر كل معاملة إضافية أموالاً. على النقيض من ذلك، فإن «النمو الحقيقي» سيجعل كل عملية شراء تجلب ربحاً للمزود حتى لو كانت التكاليف الهيكلية مثل الموظفين الإداريين تعني أن الشركة تخسر المال بشكل عام.
كان توسع التجارة الإلكترونية لشركة «Sea» على مدار السنوات القليلة الماضية، رغم أنه مثير للإعجاب، نمواً خاطئاً إلى حد كبير. وفي الوقت نفسه، تراجعت أعمال الترفيه الرقمي، التي تشكل 44 في المائة من الإيرادات، بنسبة 12 قي المائة في الربع الثاني مع تلاشي الإنفاق على الإقامة في المنزل بسبب «كوفيد».
من نواحٍ كثيرة، تعتبر «Sea» مكان التقاء وتقاطع بين شركتي «Alibaba» و«Tencent»، وهما أكبر شركات التجارة الإلكترونية والألعاب في الصين على الترتيب.
استمرار عمليات الإغلاق، والقمع على شركات الإنترنت، وارتفاع التضخم، وأزمة الرهن العقاري المتصاعدة والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة، تعتبر جميعها عوامل مؤثرة على توقعات الناتج المحلي الإجمالي في الصين. فبينما تستهدف الحكومة نمواً بنسبة 5.5 في المائة العام الجاري، فقد بلغ الإجماع في استطلاع أجرته «بلومبرغ» لخبراء الاقتصاد فقط 3.8 في المائة. وتعد شركتا Goldman SachsGroup Inc، وNomura Holdings Inc أحدث شركات قامت بخفض سقف توقعاتهما.
سجلت شركة «Tencent» الأسبوع الجاري انخفاضاً بنسبة 3 في المائة في الإيرادات، أكثر من المتوقع، وخفضت حوالي 5 في المائة من قوتها العاملة بعد تراجع الإعلانات بمعدل قياسي. في وقت سابق من الشهر الجاري، أعلنت شركة «علي بابا» أيضاً انخفاضاً في المبيعات. وقد انخفض صافي الدخل في كلتا الشركتين، لكنهما على الأقل ظلتا رابحتين.
نظرة شركة «Sea» تعتبر أقل وضوحاً. فخدمة «Shopee» التي تقدمها هي عبارة عن تطبيق التجارة الإلكترونية الأعلى تصنيفاً في إندونيسيا، وتايوان، وجنوب شرقي آسيا بشكل عام، بحسب الشركة، إلا أن الثروات الاقتصادية لأسواقها الرئيسية لا تزال غير مستقرة. وتتمتع إندونيسيا، أكبر اقتصاد في جنوب شرقي آسيا، بنمو قوي مدفوع بالتوسع في الصادرات التي تغذيها الزيادات في أسعار السلع الأساسية. ومع ذلك، يترك التضخم الباب مفتوحاً أمام احتمال ارتفاع أسعار الفائدة الذي قد يعيق إنفاق المستهلكين.
في وقت سابق من الشهر الجاري، خفضت سنغافورة من توقعات الناتج المحلي الإجمالي بمقدار نقطة مئوية واحدة بينما قلصت تايوان، سادس أكبر اقتصاد في آسيا، توقعات النمو مرتين العام الجاري بسبب تباطؤ الطلب على الإلكترونيات الاستهلاكية وانخفاض الاستهلاك الخاص. كما خفض «بنك التنمية الآسيوي» توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي لعامي 2022 و2023 لتايلند وماليزيا.
ومع وجود احتمال ضئيل بتحسن الاقتصاد الأوسع وزيادة الضغط على الإنفاق الاستهلاكي، فإن فرص شركة «Sea» في نشر توسع سريع في الإيرادات وتحويل المظهر المربح أخيراً يعد أمراً بعيد المنال، وهو ما أجبر الإدارة على تبني بعض الخيارات الصعبة، ومن المقرر أن يتم التضحية بالنمو نتيجة لذلك. إنه نوع من الانضباط المالي الذي يجب على المستثمرين أن يبتهجوا به، لكنهم في البداية سيحتاجون إلى قبول إيرادات ضعيفة.

تيم كولبان

العملات المشفرة تفشل حيث قد ينجح اليوان الرقمي

هل تدوي صافرات الإنذار من الحجم الكبير، مع تباهي المؤيدين بقدرة العملات المشفرة على التهرب من عقوبات الحكومة الأميركية؟
في مارس (آذار) الماضي، أبلغ أحد مؤسسي شركة «تورنادو كاش» – ما يُسمى خدمة «ميكسر» المعنية بإخفاء معاملات العملات المشفرة، عن طريق مزجها مع غيرها – وكالة «بلومبرغ» أنه سيكون من «المُحال تقنياً» فرض عقوبات ضد البروتوكولات غير المركزية. والمفاجأة؛ فرض العقوبات على شركة «تورنادو» من قبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، التابع لوزارة الخزانة الأميركية، ويرجع ذلك جزئياً إلى استخدام الشركة من قبل قراصنة، يُقال إنهم على صلة بغسل الأموال في كوريا الشمالية.
مع انخفاض أسهم «تورنادو» بنسبة 95 في المائة عن أعلى مستوى لها على الإطلاق، وإزالة «كود المصدر» الخاص بها من على «غيت هَب» (الشركة التابعة لمايكروسوفت والمعنية بتوفير الاستضافة لتطوير البرامج والتحكم في الإصدارات)، فإنها تعتبر آخر الضربات الموجهة لنظرية «عدم خضوع العملات المشفرة للعقوبات». وهي الكلمات التي استخدمها فيرغيل غريفيث، العالم الأسبق لدى مؤسسة «إيثريوم» عام 2019 عندما أخبر مؤتمراً لسلاسل الكتل في كوريا الشمالية حول كيفية تفادي العقوبات عبر تحويل الأموال النقدية إلى عملات مشفرة، تلك النصائح المُكلفة التي أسفرت عن إقراره بالذنب وصدور حكم بالسجن الفيدرالي لمدة 63 شهراً.
من الزاوية التقنية، تبين أن أكثر الخدمات غير المركزية لا يمكنها تجنب تطبيق القانون. وتتعرض البورصات لضغوط لمراقبة الروابط بالعملات العادية، شأنها في ذلك شأن مقدمي الخدمات الآخرين، ويمكن فحص سلاسل الكتل ذات المسميات المستعارة لرصد المعاملات المشبوهة، مثل مكاسب مجرمي الإنترنت من كوريا الشمالية الذين مروا عبر شركة «تورنادو». كما لاحظت الزميلة إيميلي نيكول من «بلومبرغ» أنه لم تتمكن صناعة العملات المشفرة من بناء كافة أصول بنيتها التحتية بعد.
ومن الزاوية الجيوسياسية، تعاني العملات المشفرة أيضاً – إذ لا تشهد ارتفاعاً – في خضم الحرب الاقتصادية الباردة. بعد جائحة «كوفيد 19» والاجتياح الروسي لأوكرانيا، كانت واشنطن تستعرض عضلاتها المالية، حتى وسط القلق الناشئ عن نوع من الارتداد السلبي الذي قد يجلبه التضخم أو العملات البديلة. إن إبقاء العملات المشفرة قيد الرصد والسيطرة يتلاءم مع تاريخ التنظيم الأميركي للتكنولوجيا المشفرة، مثل «مازجات» البريد الإلكتروني في تسعينات القرن العشرين، ولكنه أمر أساسي بالنسبة إلى مفاتيح القوة الناعمة للولايات المتحدة في زمن الحرب.
ومن المفارقات العجيبة هنا أن معارضي الاقتصاد العالمي القائم على الدولار كانوا متناقضين في أفضل تقدير حول العملات المشفرة. أما بالنسبة إلى الدول التي تشبه إيران مثلاً، وهي دول تعد منبوذة عالمياً، فإن تهديدات العملات المشفرة تقوض إمكاناتها، بينما من الناحية النظرية، تكون قادرة على الاستعانة بالعملات المشفرة في تسهيل التجارة وتجاوز الرصد الأميركي، وذلك يفوق توقعات هروب رؤوس الأموال وعدم الاستقرار وتقلب الأسعار. أيضاً تأرجحت روسيا مهتزة بين حظر الأصول الرقمية وتشجيعها، وأدركت بلا أدنى شك أنها قادرة على مساعدة النخب الخاضعة للعقوبات عند مستوى ما. لكن الروبل لا يزال صامداً، كما أظهرت السجالات الأخيرة مع الاتحاد الأوروبي بشأن مدفوعات الغاز.
وفي حين أعلنت طهران هذا الأسبوع عن أول طلب استيراد رسمي لها باستخدام عملة مشفرة لم تسمِها، بحسب «رويترز»، فإنها ليست سوى تجربة واحدة في سلسلة طويلة من اختبارات العملات المشفرة التي فشلت في اكتساب الثقل. كما كانت القيود الرقابية غير منتظمة، وهو ما اكتشفه المشتغلون بالعملات المشفرة في إيران مؤخراً.
لذا، يبدو الآن أن العالم الذي تهيمن عليه العقوبات، والصراعات، والتضخم غير المسبوق، لن يعطي دفعة كبيرة للعملات المشفرة. وكما كتب الخبير الاقتصادي إيسوار براساد مؤخراً فإن هيمنة الدولار الأميركي قد تدوم لفترة أطول كثيراً من المتوقع.
لكن هناك احتمالاً واحداً للتحول في الأمر؛ العملات الرقمية للبنوك المركزية، ولا سيما اليوان الإلكتروني الصيني. هذه الأنماط من النقود الرقمية قد تلعب دوراً جيوسياسياً كبيراً اعتماداً على كيفية تطبيقها ومن يتعامل بها أولاً.
يتصور كتاب جديد من تأليف خبيري العقوبات، أستريد فيو، وبول آرثر لوزو، عالماً جديداً، تكتسب فيه الصين ميزة المحرك الأول بعملة رقمية قابلة للتشغيل البيني مع غيرها من العملات، مع فرض معايير على بلدان أخرى تسعى إلى تجنب ممارسات التجارة بالدولار الأميركي.
يتلخص أحد السيناريوهات التي خاض مسؤولو الولايات المتحدة في مناقشتها – وفقاً لموقع «كوين ديسك» المعني بأخبار العملات المشفرة – في إنشاء يوان رقمي «قابل للانتقال بصورة كاملة»، ويعتبر البلدان الأخرى التي تستخدم البنوك ومزودي خدمات المدفوعات كنقاط تقاطع موصولة بشكل فعال مع البنية التحتية للصين. قد يؤدي ذلك إلى قيام كوريا الشمالية أو روسيا بشراء المواد بلا انتقام. وتسعى إيران كذلك إلى الحصول على عملة رقمية رسمية خاصة بها.
هذا مستقبل واحد فقط بين كثير من البلدان، ربما يمثل انطلاق العملات الرقمية للولايات المتحدة ومنطقة اليورو أولاً، أو أن مثل هذه المشروعات تنتهي إلى تفتيت الأنظمة القائمة بدلاً من تعزيزها. وفي كلتا الحالتين، كل ذلك بعيد المنال، غير أنه يشير إلى أنه على الرغم من أن مدفوعات الحرب الاقتصادية الباردة لا يزال الطريق أمامها طويلاً قبل ظهور التهديدات التي يتعرض لها الدولار الأميركي، فإنها تفتح مجالاً جديداً من الصراع يضمن عدم بقاء عبارة «عدم الخضوع للعقوبات» أكثر من مجرد شعار.

ليونيل لورانت