أهم 10 توقعات اقتصادية لعام 2024

يعتقد كثير من المحللين بأن العام 2024 هو بمثابة عام التحول بالنسبة لعديد من السياسات الاقتصادية، لا سيما مع توقعات خفض الفائدة، وتأثيراتها الواسعة المحتملة.. فما هي أهم التوقعات الاقتصادية للعام الجديد؟

نائب رئيس قسم الاقتصاد العالمي في شركة S&P Global  حدد عشرة توقعات اقتصادية، اعتبرهم الأهم خلال العام 2024، وذلك في تقرير نشره عبر موقع المؤسسة، على النحو التالي:

اعتدال التضخم

يتوقع محللو S&P Global Market Intelligence أن يبلغ تضخم أسعار المستهلك العالمي 4.7% في العام 2024، بانخفاض عن المعدل المتوقع يقدر بنحو 5.6% في العام 2023 والذروة بنسبة 7.6% في العام 2022.

انخفاض النمو في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية

يتوافق ذلك مع هدف إعادة التضخم إلى وضعه الطبيعي حيث المعدلات المستهدفة. ومن المتوقع أن تكون معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي أضعف في جميع المناطق الكبرى في العام 2024 مقارنة بالعام 2023.

عالميًا من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي بوتيرة أبطأ في العام 2024 – 2.3% مقارنة بما يقدر بنحو 2.7% في عام 2023 – على الرغم من قوته في بعض البلدان. وسوف تساعد المناطق بما في ذلك منطقة آسيا والمحيط الهادئ على تجنب حدوث صعوبات عالمية هبوط.

تعافي اقتصاد الصين

سيتم دعم اقتصاد البر الرئيسي للصين بمزيد من التكيف، بما يقود إلى تحسن تدريجي في ثقة القطاع الخاص، علاوة على توقع الخروج من ركود سوق الإسكان.

تشير التوقعات إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي في البر الرئيسي للصين بنسبة 4.7٪ في العام 2024، بانخفاض عن ومن المتوقع أن يصل إلى 5.4% في عام 2023.

خفض أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة بداية من منتصف السنة

مع الثقة في أن معدلات التضخم في أسعار المستهلك سوف تتراجع إلى الهدف، ومن المتوقع حدوث تغيرات في السياسة النقدية منتصف عام 2024. ستبدأ تخفيضات أسعار الفائدة بمجرد ظهور مخاوف بشأن السعر الأساسي لقد خفت حدة الضغوط.

 ستبدأ الأسواق الناشئة في وقت مبكر في تخفيف القيود

شددت البنوك المركزية -التي بدأت بالفعل سياسة التيسير النقدي بشكل عام- سياساتها النقدية في وقت مبكر نسبيا.. والحفاظ على التضخم وسط توقعات مستقرة.. على سبيل المثال، انخفضت معدلات التضخم نسبيا بسرعة، في حين أن ظروف سوق العمل ليست ضيقة بشكل عام. دورات التخفيف الجارية بالفعل في شيلي والبرازيل وبيرو،

ومن المتوقع أن يستمر ذلك في الفترة المقبلة، مع تخفيض أسعار الفائدة أيضًا توقعات المكسيك في النصف الأول من عام 2024.

انخفاض قيمة الدولا الأميركي

سيتم تعزيز الانخفاض من خلال تباطؤ نسبي كل من النمو الاقتصادي الحقيقي في الولايات المتحدة والتضخم، فضلا عن العبء الواقع من عجز الحساب الجاري، والذي يمثل نسبة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة عالية بشكل غير مستدام. ومن المتوقع أن يرتفع الين مقابل الدولار الأميركي بقوة أكبر من عديد من نظرائه خلال العام 2024، جنبا إلى جنب مع الاختلاف المتوقع في السياسة النقدية.

استمرار التحديات المالية المعيقة للنمو

من المتوقع أن تظل التحديات المالية عاملًا معيقًا لنمو الاقتصاد. ويُتوقع أن يكون لتأثير ارتفاع أسعار الفائدة وتراجع سريع لتأثير التدابير الداعمة المتعلقة بجائحة كوفيد-19 تأثير ملحوظ على قدرة خدمة الديون في العام 2024.

من المرجح أن يزيد ذلك الأمر من مستويات القروض الغير مؤمنة في معظم المناطق. وعلى إثر ذلك، ستحتفظ البنوك بموقف أكثر حذرًا تجاه الإقراض، حيث قد تتطلب ضمانات أكثر قيمة وتفرض قيودًا على منح الائتمان للعملاء ذوي جودة أدنى. يتوقع أن يكون نمو الائتمان دون المعدل المتوقع في معظم الدول، مما يعمل على تقليل وتيرة النمو الاقتصادي.

انخفاض أسعار المنازل السكنية.. ولا يزال أمام أوروبا المزيد لتقطعه

سوف تستمر شروط الائتمان الصارمة وارتفاع تكاليف الاقتراض لخفض الأسعار في العام 2024 بسرعة وشدة، ويختلف التصحيح بين الاقتصادات تبعا لاختلالات التوازن المتراكمة في العقد الماضي في كل سوق الإسكان كذلك فترات تثبيت معدل الرهن العقاري.

تأثير الانتخابات والعوامل الجيوسياسية

ستظل العوامل الجيوسياسية مصدرا هاما للخطر.. الانتخابات هي التي تحدد جدول أعمال عديد من الاقتصادات الناشئة الهامة، بما في ذلك الهند وإندونيسيا في الربيع، والمكسيك في منتصف العام، مع إجراء الانتخابات إلى البرلمان الأوروبي المقررة أيضًا في يونيو (حزيران).. علاوة على الريبة حول نتيجة الانتخابات الأميركية.. ومن المرجح أن تشكل هذه الآثار عائقاً أمام الآفاق الاقتصادية.

تحول الطاقة يدعم النمو في الولايات المتحدة وكندا

يشار هنا إلى أثر قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف وقانون الحد من التضخم الذي يدعم دعم مشاريع الطاقة الخضراء في الولايات المتحدة.. وفي كندا، بدأت المبادرات المناخية بالفعل (..) وهناك مشاريع جديدة مماثلة في مراحل التخطيط أو قيد الإنشاء.

مديرة صندوق النقد الدولي: عام 2023 سيكون صعباً على الاقتصاد العالمي

 

قالت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا الأحد 1 يناير/كانون الثاني إن عام 2023 سيكون عامًا صعبًا بالنسبة لمعظم الاقتصاد العالمي، حيث تشهد المحركات الرئيسية للنمو العالمي – الولايات المتحدة وأوروبا والصين – ضعفاً في النشاط الاقتصادي. وتوقعت جورجيفا دخول ثلث الاقتصاد العالمي في ركود في 2023، فيما سيكون نصف الاتحاد الأوروبي في ركود العام المقبل، بالإضافة إلى أن التوقعات المستقبلية للأسواق الناشئة أكثر خطورة بسبب مستويات الديون وقوة الدولار الأميركي. وأضافت – في تصريحات لـ CBS – أن زيادة إصابات كوفيد في الصين تمثل أنباء مقلقة للاقتصاد العالمي في الأجل القريب، مشيرة إلى أنه من المرجح أن يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني في مستوى توقعات النمو العالمي أو أقل في المستقبل القريب.   أما بالنسبة لتوقعاتها للاقتصاد الأميركي، قالت ميرة صندوق النقد إن الاقتصادالأميركي هو الأكثر مرونة وقد يتجنب الركود.

 

الأزمة النقدية علاجها نقدي: دولرة لبنان بين صندوق النقد والبنك الدولي

منذ عام 1994 نشر صندوق النقد الدولي ورقة بحثية فَنّد فيها خصوصية دولرة الإقتصاد اللبناني منذ الأزمة النقدية في الثمانينات، ولم يرَ أفقاً للخروج منها واستعادة الثقة بالعملة الوطنية، على رغم من عودة الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي للبلاد. وشرح ذلك بما يُعرف بعلم الاقتصاد بتخلّفية الخروج من الدولرة، حتى لو زالت الأسباب التي أدّت إليها Hysterisis effect of Dollarization اليوم كرّر البنك الدولي تأكيد المسار التصاعدي للدولرة في لبنان، حتى بعد تعافي الاقتصاد، علماً أنّ لبنان عرف 22 عاماً من تثبيت سعر الصرف، من دون انخفاض ملحوظ للدولرة. فما هي خصوصية الدولرة في لبنان وقراءتها لدى صندوق النقد والبنك الدولي؟ ولماذا المسار نحو الدولرة الشاملة؟

كما كتبها صندوق النقد الدولي عام 1994، جَدّدها تقرير البنك الدولي الأخير لعام 2022 حول دولرة الإقتصاد اللبناني، مؤكّداً مسارها التصاعدي في غياب معالجة الأزمة النقدية، حتى ولو تحقّق تعافياً اقتصادياً عاماً. وقد جاء في خلاصة التقرير، تحليل لعملية الدولرة في لبنان، ويَخلُص إلى أنّ الأزمة الحالية ستعزز على الأرجح مستويات الدولرة المرتفعة، حتى بعد تحقيق التعافي.

تاريخياً، أدّت أزمات العملات المتعددة إلى ازدياد كبير في عملية الدولرة في البلاد، مع اتساع نطاقها بمرور الوقت للودائع والإقراض والدين العام. لم يتطور النظام المالي في لبنان خارج القطاع المصرفي، وحال الافتقار إلى سوق رأس المال، من دون تطوير أدوات التنويع والتحوّط التي كان من الممكن أن تساعد في خفض الدولرة أو عكس مسارها. ولا يزال تطوير أسواق رأس المال أمراً بعيد المنال في ظل الظروف الحالية، كما أنّه سيتطلب تحقيق استقرار على صعيد الاقتصاد الكلي على المدى القصير وتبنّي نموذج نموٍ على المدى الطويل.

وشهد لبنان دولرة على نطاق واسع أثناء وبعد 15 عاماً من الحرب الأهلية. تحلّل هذه الورقة القوى الدافعة وراء دولرة الاقتصاد اللبناني، باستخدام نموذجين اقتصاديين قياسيين، بصرف النظر عن المحدّدات المتضمنة عادة في الدراسات التجريبية على ظاهرة الدولرة، وتأخذ في الاعتبار أيضًا محدودية انعكاس عملية الدولرة. كان للحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عامًا تأثير مدمّر على لبنان اقتصاديًا. لم يكن نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي الحقيقي في عام 1990 سوى ثلث مستواه في عام 1975. العجز المالي المُتزايد بسرعة، بتمويل من طباعة النقد – لا سيما خلال منتصف الثمانينات – ومع اشتداد الحرب تصاعدت ضغوط الطلب المحلي والتضخم جنبًا إلى جنب مع استمرار انخفاض قيمة العملة، الليرة اللبنانية. بعد فوات الوقت، ساهمت هذه التطورات في زيادة الاعتماد على العملات الأجنبية لأغراض المعاملات وتخزين القيمة ووحدة الحساب، والتي استمرت حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية، تأمين الاستقرار السياسي والحكومي، واستقرار ظروف الاقتصاد الكلي، بما في ذلك التضخم، وإعادة تدفق كبير للأموال من الخارج.

وقد لوحِظت أنماط مماثلة في مجموعة متنوعة من البلدان الأخرى حول العالم، مثل استبدال العملة على نطاق واسع والدولرة عادة ما يُفترض أنه ناتج عن التدهور الاقتصادي للبلد، الوضع المالي والسياسي، والذي ينعكس، من بين أمور أخرى، في ارتفاع وتسارع معدلات التضخم وانخفاض كبير في قيمة العملة المحلية. خلال العقد ونصف العقد الماضي، عدد من الدراسات التجريبية ركّزت على هذه الظاهرة، التي كانت منتشرة بنحو خاص ومستمر في أميركا اللاتينية، ولكنه حدث أيضًا بمقدار أكثر اعتدالًا في البلدان النامية والصناعية الأخرى حول العالم، وكذلك بعض دول الشرق الأوسط مثل مصر واليمن.

ومع ذلك، فإن معظم نماذج استبدال العملات التقليدية تشير إلى أنه بمجرد استعادة الاستقرار الاقتصادي الكلي والسياسي، فإنّ استخدام العملة الأجنبية ينخفض مرة أخرى. ومع ذلك، لم يحدث في الواقع في العديد من حالات البلد. لكن القليل فقط من الدراسات التجريبية حول العملة قد تعامل الاستبدال على وجه التحديد مع التخلفية في الخروج من الدولرة والعودة الى العملة الوطنية.

في حين أن دولرة الودائع كانت حاسمة للهيكل المالي الكلي لما بعد الحرب، كذلك أدت دولرة الودائع الى دولرة أخرى في الاقتصاد، بما في ذلك دولرة الإقراض وكذلك الدين العام. يتم شرح هذه السببية بأن «دولرة الودائع تحفّز الدولرة في القروض. تشجع المستويات المرتفعة من ودائع العملات الأجنبية لدى المصارف على إقراض المتعاملين المحليين بالعملة الأجنبية للمحافظة على مواضع الموازنة العمومية المتطابقة، ويسري مفعول ذلك بنقل عبء سعر الصرف الى المقترضين في حال تدهور سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي. أما في حال كان المقترضون عاجزين عن التسديد نظراً لكَون مداخيلهم بالعملة الوطنية فيكون الخطر انتقل الى المودعين وهذا ما حصل فعلياً في لبنان حيث كل من وَظّفت المصارف الدولارات لديهم توقفوا عن تسديدها بالدولار (من الدولة وصولا الى المقترضين من القطاع الخاص).

تحلّل هذه الورقة محددات استخدام العملات الأجنبية في الاقتصاد اللبناني خلال العقدين الماضيين وتتناول بنحو صريح المثابرة في استخدامه. بينما النماذج العادية لإحلال العملة تفترض عملية استبدال متماثلة وقابلة للانعكاس تسمح بتغيير غير مقيّد في نسبة إحلال العملة في كلا الاتجاهين عندما تتغير المحددات الأساسية، النهج المستخدم في ورقة صندوق النقد أخذ في الاعتبار على وجه التحديد قابلية التراجع المحدودة لدولرة الاقتصاد اللبناني حتى بعد تطبيع نسبي للوضع السياسي والاقتصادي، ما يعني ضمناً وجود غير متماثل لعملية الاستبدال، أي صعوبة الخروج من الدولرة حتى بعد زوال أسباب حدوثها.

من المعلوم أنه تم دعم الدولرة في لبنان بسبب ضعف أساسيات الاقتصاد الكلي. يتضمّن بنية مالية كلية متكاملة من مستويات عالية للديون، وعجزاً مزدوجاً كبيراً (عجز مالي وعجز الميزان التجاري) بالاستناد الى قطاع مصرفي كبير الحجم وقوي. كانت احتياجات التمويل قبل الأزمة كبيرة، يتم تمويلها بشكل أساسي من خلال قطاع مصرفي فاقت ودائعه أكثر من أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. ضمان مصرف لبنان أنّ البنوك استمرت في جذب الودائع الأجنبية وذات الاحتياجات التمويلية الإجمالية للقطاعين العام والخاص تمّ الوفاء به، وبالتالي تمويل العجز المالي الكبير عجز الحساب المالي. وبغية جذب الودائع الأجنبية، قدم مصرف لبنان شهادات بالدولار من الودائع ومختلف إعادة تمويل العملات الأجنبية المدعومة المخططات. لتلبية احتياجات الحكومة، كان مصرف لبنان المشتري المتبقّي للديون الحكومية في السوق الأولية والأسواق الثانوية. وقد أرسَت هذه العوامل المختلفة أرضًا خصبة لتدفقات رأس المال.

في تشرين الأول 2019 سقط نظام سعر الصرف القائم على الربط المَرِن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عملياً يعيش لبنان منذ ثلاث سنوات من دون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيريا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية. وذلك بدلاً من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببدل أتعاب ومداخيل بالعملة نفسها التي يتكبّدون فيها تدريجاً كل المصاريف، ولا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عملياً على هامش النظام الاقتصادي-الاجتماعي ككل. السبب هو الخطأ الفادح الذي تتم فيه مقاربة الأزمة من كل الزوايا إلا الزاوية التي يفترض البدء بها، أي اعتماد نظام سعر صرف جديد قبل التطرّق الى بقية نواحي الأزمة وحتى الموازنة التي يستحيل تقديمها بأرقام حقيقية قبل بَت نظام سعر الصرف والخيار النقدي للبلاد بما يتناسب مع دولرة تتخطى نسبة 80 %.

بعد سقوط نظام الربط المَرن لسعر الصرف ونفاد الاحتياطي بالعملات الأجنبية الذي كان المصرف المركزي يعتمد عليه للتدخّل المستمر في سوق القطع، ونظراً لاستحالة اعتماد نظام سعر الصرف العائم في إقتصاد مدولر بمعدلات مرتفعة تفوق 80 %، لا يبقى علمياً أمام لبنان سوى خيار اللجوء الى نظام الربط الصارم لسعر الصرف المتمثّل بالدولرة الشاملة و/أو «مجلس النقد» الرديف لها.

طبعاً كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومُتماهٍ مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعًا بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي، لا سيما منذ بدء تسجيل تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011. إستناداً الى نموذج الأكوادور الأقرب الى عناصر الأزمة في لبنان مع الانتقال من الدولرة الجزئية المرتفعة نحو الدولرة الشاملة، تبيّن أنّ الشرط الاساسي لنجاح عملية الانتقال الى «الدولرة الشاملة» يتطلّب أولاً امتلاك المصرف المركزي احتياط بالعملات الأجنبية بالدولار الأميركي يكفي لتغطية التزاماته تجاه القطاع الخاص، أي بشكل أساسي «القاعدة النقدية» (monetary base) الأوراق النقدية المطبوعة من المصرف المركزي بالعملة الوطنية + احتياطي المصارف لدى المصرف المركزي.

عند الافتقاد الكلي والمزمن بالعملة الوطنية وطغيان التعامل بالعملة البديلة لا يعود الخيار بينها وبين البديل، أي الدولار الأميركي، في حال لبنان، بل يصبح الخيار في آلية الربط الصارم المناسبة وكيفية الانتقال التدريجي إليها بُغية نجاحها بأسرع وقت وأقلّ كلفة… أما إزاء «تردّد» البعض في اعتماد الدولرة الشاملة، على رغم من أن الاقتصاد اللبناني بات مدولراً بأكثر من 80 %، أي أنّ ما يعرف بـ«السيادة النقدية»، لم يعد يتخطى حدود الـ20 %، ثمة خيار رديف للدولرة الشاملة وهو «مجلس النقد» الذي يتفادى اعتماد «الدولار الأميركي» رسمياً في حد ذاته كلياً بدلاً من الليرة اللبنانية، بل اعتماد إسم عملة آخر (الليرة أو إسم جديد) يحظى بتغطية الاحتياطي الموجود بالدولار الأميركي. ويبقى القول ان الأزمة النقدية لا يمكن معالجتها سوى انطلاقاً من الشق النقدي واعتماد سعر الصرف المناسب ومن تؤكد الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية وتقاريرالمنظمات الكبرى، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، حتى لو تمّ تعافي الاقتصاد تبقى الدولرة متزايدة عندما تنفلش في الاقتصاد وتصمد مرتفعة حتى بعد استقراره. الدولرة الشاملة تفرض نفسها واقعاً، الخيار المتبقّي يكمن في آلية الاعتراف بها رسمياً لوقف الفوضى في الأسواق وتأمين العدالة في الوصول الى الدولار لجميع المواطنين.

د. سهام رزق الله

الإجابة عن سؤال ماسك: نعم

في الأسبوع الماضي، سأل إيلون ماسك متابعيه على «تويتر» عما إذا كانوا يفضلون أن يحتفظ بمنصبه رئيساً تنفيذياً للمنصة، أم يرجحون تخليه عن هذا المنصب.
وعندما تناول عدد كبير من وسائل الإعلام العالمية هذا الاستطلاع بالعرض والتحليل، ظهر ما يشبه الإجماع بينها على استخدام وصف «مفاجئ» للخطوة التي أقدم عليها الملياردير الشهير، وهو أمر استدعى الدهشة بالضرورة؛ لأن الجميع تقريباً بات يعرف أن ما يفعله ماسك عادة ليس سوى تفجير المفاجآت.
يكسب ماسك الأموال، ويدير الشركات الكبرى، ويحقق الاختراقات العلمية، وينجز الابتكارات، ويفاجئ الجمهور بالتصرفات غير المتوقعة، وتلك العادات الخمس هي ديدنه ونسق حياته وأسلوبه الخاص الذي لم يعُد مفاجئاً لأحد.
وعندما انتهى الوقت الذي خصصه ماسك لتلقي استجابات الجمهور حيال هذا السؤال، كان 57 في المائة من المصوّتين قد أخبروه بأنهم يفضلون تنحيه عن القيادة التنفيذية للمنصة، في مقابل 43 في المائة فقط رأوا أن ينصحوه بالاستمرار في هذا العمل، وهؤلاء بالذات لا أعرف علامَ بنوا موقفهم هذا، أو ماذا كان يدور بخلدهم حينما قرروا تفضيل تثبيته في موقعه على رأس «تويتر» المُهم والمؤثر والفعال.
منذ أعلن ماسك نيته شراء «تويتر» تفجرت مفاجآت عديدة، ودار صخب عنيف، وطُرحت دعاوى متضاربة، وحينما أعلن تراجعه عن نيته تفجرت التساؤلات واندلعت النزاعات، ومعها كثير من الأكاذيب أيضاً. وفور عودته إلى تنفيذ قراره الأول وتفعيل عملية الشراء، سرت الشائعات وتضاربت التوقعات، وبموازاة قراراته التنفيذية المفاجئة والصادمة والطائشة أحياناً، تسمر الناس لمتابعة ما يجري مشدوهين ومرتبكين، والآن يطرح استطلاعه المثير ليحافظ على الحالة ذاتها: الصدمة، وعدم اليقين، والاستمرار في الاهتمام والمتابعة.
لكن السؤال الذي اختار ماسك أن يكون موضوعاً لاستطلاعه المثير بخصوص بقائه من عدمه رئيساً تنفيذياً لـ«تويتر»، يبقى مع ذلك سؤالاً موضوعياً ينطوي على أهمية كبيرة لعالم تلك المنصات، وللحالة الإعلامية العالمية، ولمستقبل المعلومات والحقيقة والسلم والأمن الدوليين.
لن نجد في ذلك أي نوع من المبالغة، خصوصاً عندما تُعاد صياغة هذا السؤال لتشمل قواعد ومحددات إرساء عملية القيادة وتنظيمها في منصات «التواصل الاجتماعي» الكبيرة والصغيرة ومتفاوتة الأهمية والتأثير. وعندما سيكون السؤال عن إمكانية الجمع بين ملكية وسائل «التواصل الاجتماعي» وإدارتها التنفيذية، فإنني سأصوت بكل تأكيد مع ضرورة الفصل بين الموقعين، وهكذا سيفعل كثيرون عندما يُظهرون الاهتمام بحوكمة هذه الشبكات ومحاولة كبح نزعاتها المُسيئة والضارة.
لقد خاضت وسائل الإعلام «التقليدية»، التي حظيت بأهمية قصوى في عصر المعلومات المُنصرم، نضالات كبيرة لكي تُرسي قواعد لحوكمتها وتنظيم أدائها والحد من انفلاتاتها. وعلى رأس تلك القواعد ما اجتهدت دوماً لإدراكه في مسألة الفصل بين الملكية والإدارة، أو على الأقل بناء تراث من المعايير والأكواد وأطر السياسات والإجراءات، التي لا تجعل من أي وسيلة مطيّة خاضعة مباشرة لرغبات المالك أو نزعاته الحادة.
ورغم أن تلك النضالات لم تفضِ إلى نجاح صريح، ولم تنجُ من محاولات إجهاضها والالتفاف عليها في عديد الحالات، فإنها مع ذلك أثمرت قيماً ومعايير وأساليب عمل ما زالت صالحة للمجادلة وتوجيه أصابع الاتهام لمنتهكيها، وما زالت أيضاً قادرة على أن تُرسي مبدأ يُطلب الامتثال له والتزامه واحترامه.
ثمة ضرورة حيوية لإخضاع تلك الشبكات المؤثرة، التي ترِث الإعلام «التقليدي» بنهم وشغف شديدين، للحوكمة، على أن يكون تطوير نظام للضبط الذاتي الشفاف والخاضع للمساءلة جزءاً من برنامج عملها المستقبلي. ومن عناصر تلك الحوكمة المبتغاة لعالم شبكات «التواصل الاجتماعي» أن تعلن سياساتها لحماية الفئات الأضعف، وتقنن استخدام الأطفال والمراهقين لأدواتها، بما يضمن سلامتهم النفسية والجسدية.
سيكون من المُهم أيضاً أن تعلن تلك الشركات التزامها بتوفير مجالس للثقة والأمان وتحري الاستخدامات المُسيئة، وأن تجتهد في إثبات أنها لا تتسامح مع الممارسات الحادة من أجل تعزيز الرواج والتفاعل لتعظيم الأرباح. وفي مقدمة ما يجب أن تتعهد به تلك الشركات، في هذا الصدد، ضرورة الكف عن سياسات الاحتكار، وفي هذا المبحث بالذات، يجب أن تقوم الحكومات والمنظمات الدولية بما يلزم لضمان ألا تحتكر خمس شركات فقط عالم الحقيقة أو الأخبار أو الألفة والتسرية. لكن هذه المطالبات الضرورية لن تكون قابلة للتفعيل من دون الفصل بين ملكية تلك المنصات وإدارتها، وهنا يجدر أن تكون إجابة ماسك عن سؤاله مفادها أنه من الضروري أن يتنحى مالك منصة «التواصل الاجتماعي» عن الإدارة، سواء كان هذا المالك ماسك أو أياً من نظرائه ومنافسيه.

د. ياسر عبد العزيز

الاقتصاد برواية ريما

العقبة الكبرى أمام التغيير في أي مجتمع ليست في الشوط المقطوع فقط، إنما في الاتجاه المزمع، في تحديد الهدف. ستقول لي إن تحديد الهدف سهل، كلنا نريد مجتمعاً أفضل، أقول لك إن هذه رغبة وليست هدفاً. الهدف هو الخطوة التالية تماماً، ومنها نعرف في أي اتجاه نمضي. قل لي خطوتك التالية أقل لك ماذا تعني بعبارة «المجتمع الأفضل».
بعض الناس يعتقد أن المجتمع الأفضل صورة من مجتمع حدث في الماضي، خطوته التالية ستكون استلهام هذا الماضي في سمت من سماته، والخطوة التالية سمت آخر وهكذا. بعضهم يعتقد أن المجتمع الأفضل مجتمع المساواة الطبقية. وخطوتهم التالية تقليص القدرة المالية للأغنياء لصالح دعم الفقراء. على ما يبدو من فارق بين هاتين الذهنيتين فإن شيئاً جوهرياً يجمعهما، وشيئاً أساسياً يغيب عنهما.
يجمعهما الاستسهال، ومبدؤه اختيار الفعل السهل لا الفعل الناجع الذي يدعمه المنطق. لا يمكن تحسين أحوال الفقراء بطريقة راسخة فعالة إلا بتشغيلهم، وهذا يستلزم خلق فرص عمل. وخلق فرص عمل لن يحدث إلا بحيازة المجتمع قدراً من المشاريع الرابحة كافياً لتشغيل أفراده. وهذا بدوره لن يتحقق إلا بوجود عدد كبير من أصحاب رؤوس الأموال الذين تجاوزوا حد الثراء الجامد إلى الثراء القادر على الاستثمار. وأيضاً بوجود عدد أكبر من أصحاب القوى الشرائية التي تُربِح هذه المشاريع. تشتري منها الأثاث، أو الأحذية أو السيارات إلى آخره.
كما أن التحسين الفعال الراسخ لأحوال الفقراء عملية طويلة الأمد، وفيها قرارات صعبة، وتنضوي على خطوات كثيرة يكون ظاهرها تشجيع الأثرياء على زيادة ثرائهم بفتح طريق الاستثمار، واحترام الملكية الخاصة، وتوفير الثقة والأمان، وكلها تسمح لرؤوس الأموال بالتراكم. هذا يعني قضاء فترة طويلة تمتد عقوداً من دون تحقيق الشعار، بل السير في طريق يبدو معاكساً له.
بهذا المنطق البسيط فإن سحب أموال الأغنياء للإنفاق على الفقراء خطوة تقوض هدفها المعلن، وتفقر الجميع. والاستسهال السبب الوحيد للإقدام عليها، وهو استسهال يشبه ما في ذهنية الفريق الآخر الذي يريد العودة إلى نقطة ذهبية في الماضي، فيرفع شعاراً مثل «يختفي الغلاء إن تحجبت النساء». الاستسهال دائماً فعل لا يتطلب جهداً كبيراً، ويروّج على أنه حل لمشكلة لن يحلها في الحقيقة إلا السير في طريق صعب إلى مكافأة كبرى.
هذا ما يجمع الفريقين. فماذا يغيب عنهما؟ يغيب عنهما الأصالة. وهنا يستوقفني استخدام الكلمة في اللغة العربية على عكس معناها المقصود. نستخدم لفظة الأصالة للإشارة إلى العودة إلى «أصول» قديمة، بينما المقصود بالأصالة اختلاق شيء جديد يصير هو أصلاً لما بعده. حين أقول إن فلاناً لديه «أصالة» في التفكير، المفترض أن أعني أنه يأتي من الأفكار بما لم يستطعه الأوائل. إنه أصل لنفسه، وأصل لغيره. أما إن أردت المعنى الآخر، أنه يعود إلى أصول من الماضي، فالكلمة التي ينبغي استخدامها هي الأصولية، لا الأصالة.
هذا التناقض الذهني في استخدام الكلمة انعكاس للتناقض الذهني في ممارستها. لكي يخرج مجتمع من حال سيئ عليه أن ينتقد ذاته، أن يقر ويعترف بأن حاله السيئة نتيجة لأفكاره القديمة. أن تلك الأفكار الداء لا الدواء.
هل تبدو الوصفة سهلة؟ بل هي أصعب الوصفات. تتطلب الأصالة زراعة جذور جديدة، في تربة جديدة. تتطلب شجاعة المغامرة والخروج من «البيئة المريحة» التي تهرع إليها كلما واجهتك مشكلة.
ولأننا نتحدث عن الاقتصاد، لا نملك مساحة لكثير من التفلسف والتنظير والالتفاف حول المقصود… حيث ندور منذ الخمسينات في بحيرة من الهيمنة الثقافية لتيارات الأصولية والاستسهال الاقتصادي. المشكلة الكبرى ليست فقط في السياسات الاقتصادية المتعاقبة، ونتائجها السلبية، بل في هيمنة الخطاب الداعم لها على الثقافة أيضاً. الخطاب الذي يشخص الفشل الاقتصادي بالبعد عن الالتزام الحرفي بالأصولية الاشتراكية الريعية في إدارة الاقتصاد. كما يشخص الأصوليون المتدينون أي مشكلة في مجتمعاتنا بالبعد عن الأصولية الحرفية في الالتزام الديني.
إننا نحتاج بوضوح إلى سياسات اقتصادية تعتمد على القطاع الخاص، بما يستلزمه هذا من تقليص دور الدولة واكتفائها بمقعد الحكم الراعي للالتزام بالقانون، وما يستلزمه أيضاً من حماية الملكية الخاصة لكي تتراكم الثروات، فتعبر عتبة القدرة على الشراء، وعتبة القدرة على الاستثمار في مشاريع متناهية الصغر وصغيرة ومتوسطة وكبيرة. وهذا الطريق – نعم – يعني مزيداً من الثراء للأثرياء، ويعني اضطرار الفقراء إلى تحمل مسؤوليات قراراتهم المعيشية، وإدراك أن عليهم التكفل بذواتهم، وأن سبعين سنة من الكفالة المجتمعية لم تنجح في تقليل الفقر، بل ساهمت في توالده، والتوالد في دوائره. لكنه يعني أيضاً مزيداً من فرص العمل للمجتهدين المكافحين من الفقراء. صاحب المشروع الخاص يريد المواهب التي تربحه، لا أبناء العاملين، ولا الموصى عليهم. منطق المسؤولية الاقتصادية نفسه يجعل أصحاب رؤوس الأموال يتحملون مسؤولية دراسة جدوى مشاريعهم، إن نجحت كسبوا، وإن فشلت دفعوا الثمن من ثرواتهم، لا من ثروات عموم المواطنين.
أخلاقية المنطلقات أخلاقية شعاراتية خادعة، استسهالية. العقول العظيمة في الإدارة المجتمعية، التي نقلت حياة الأمم، هي العقول القادرة على تحقيق أخلاقية النتائج النهائية. آدم سميث في الحساب الأخير أكثر فضلاً على البشرية ممن رفعوا شعارات ضمنت لهم تصفيق الجماهير بينما أعلت شأن الأكثر كسلاً وعاقبت المجتهدين.
ونحن في ذلك أكثر حظاً من غيرنا؛ لسبب بسيط هو أننا نستطيع أن ننظر إلى التحولات الاقتصادية الناجحة. تريد تعليماً أفضل مستداماً؟ لا سبيل سوى البدء بالاقتصاد الربحي. تريد سكناً أفضل مستداماً؟ لا سبيل سوى البدء باقتصاد ربحي. تريد تخفيضاً مستداماً لمعدلات الفقر؟ لا سبيل سوى البدء باقتصاد ربحي. كثير من العادات التي نظنها جيدة هي السبب الحقيقي لمعاناتنا.

خالد البري

والكلمة الفائزة بكلمة العام في 2022 هي…

على طريقة إعلان الفائزين بجوائز الأوسكار، أقدم لكم الكلمة التي كانت أكثر الكلمات الجديدة تعبيراً عن الأوضاع في عام 2022، والكلمة هي «بيرماكرايسيس» ومعناها «الأزمة المستمرة». وهي كلمة مدمجة بجمع كلمتين باللغة الإنجليزية «بيرمينانت» كصفة تعني الاستمرار و«كرايسيس» بمعنى أزمة. وقد اعتبرها خبراء اللغة والمعاجم بمؤسسة «كولينز» التي تصدر القاموس الشهير بأنها الأكثر توضيحاً وإيجازاً لمعاناة الناس مع ما شهدته هذه السنة من فظائع. وقد شاع استخدام هذه الكلمة الجديدة في وصف ما يعترض العالم من صدمات، ووجد فيها المعلقون على أحداث عام 2022 ضالتهم بتلخيصها المجمع لمشاهده الكبرى. فقد تصدرت هذه الكلمة المقال الافتتاحي للإصدار السنوي لمجلة «الإكونوميست» البريطانية عن أحداث العام الذي تعرض لثلاث صدمات أربكت العالم، وهي الحرب الأوكرانية، وأزمة الطاقة، والتضخم العالمي في الأسعار خاصة الطعام والوقود، كما جعلتها مجلة «سبيكتاتور» عنوان طبعتها الدولية عن تداعيات هذه الأزمة المستمرة التي داهمت العالم بعد سنتين من المعاناة مع أزمة الجائحة.
فمع نهاية سنة 2021 تطلع الناس لأن تأتي سنة جديدة بعدها حاملة ما يغاثون به. وعقد الاقتصاديون مقارنات بين عشرينات هذا القرن وعشرينات القرن العشرين التي شهدت انتعاشاً أعقب نهاية الحرب العالمية الأولى وجائحة الإنفلونزا الإسبانية التي قتلت في الفترة من 1918 حتى 2020 ما يقدر بنحو 50 مليون إنسان من إجمالي سكان العالم حينها الذي لم يتعد مليارَي نسمة، بما يتضاءل بجانبها ما ألحقته جائحة كورونا من أذى؛ إذ تسببت في موت 6.7 مليون إنسان من 8 مليارات نسمة تقريباً يعيشون في عالم اليوم.
وأسوأ الأزمات حتماً هي ما تأتي فجأة بأوجه متعددة متشابكة، خاصة بعدما منَّى الناس أنفسهم بعهد من التطلعات المتفائلة. فبعد حديث مقتضب في بداية العام عن انتعاش اقتصادي مأمول وأشكال التعافي من تداعيات جائحة كورونا ومتحوراتها، جاءت حرب في شهر فبراير (شباط) لم تشهدها أوروبا على أرضها منذ الحرب العالمية الثانية. كما أدت السياسات الاقتصادية للبلدان المتقدمة، وخاصة الولايات المتحدة إلى انفلات في التضخم المحلي والعالمي بزيادة السيولة النقدية بموجة إصدارات للنقود الرخيصة أثناء عامي الجائحة. ثم ترددت البنوك المركزية للبلدان المتقدمة في التصدي للتضخم الناجم عن النقود الرخيصة وفائض السيولة النقدية عليها مع بداية عودة الناس لحياتهم الطبيعية، وتعثرت في علاج مشكلة سلاسل الإمداد للتجارة الدولية. وفي محاولة لتدارك الخطأ الجسيم بعدم التصدي المبكر للتضخم، الذي لم تشهد مثله منذ أربعين عاماً، سارعت البنوك المركزية الرئيسية بما في ذلك البنك الفيدرالي الأميركي برفع غير مسبوق في سرعته لأسعار الفائدة فتراجعت أسواق المال خاسرة في أسابيع ما جمعته في سنين، وارتفعت تكلفة الاستثمار وتراجعت أسعار العقارات في البلدان المتقدمة، وتوالت الأنباء عن تعثر سداد بلدان نامية لديونها مع زيادة الغلاء فيها، وأمسى العالم مثقلاً بموجات من الركود التضخمي تتفاوت حدتها بين الدول.
وذكرت آن كروجر، الاقتصادية الأميركية الشهيرة، أن العالم متورط في خمس أزمات كبرى تشمل تداعيات جائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا، والتضخم المرتفع، والتخوفات من الركود، وتحديات الديون في البلدان النامية والأسواق الناشئة، ثم أضافت لها سادسة بحكم خبرتها في اقتصاديات التجارة الدولية وهي الحروب التجارية! هذه الحروب الوشيكة ستسببها الولايات المتحدة باتباعها الإجراءات الحمائية الموروثة منذ إدارة الرئيس السابق ترمب وما أضافته إدارة الرئيس بايدن من إجراءات متعلقة بمبادرات اتخذتها هذا العام مثل قانون تخفيض التضخم وقانون الرقائق الإلكترونية. فهذه الإجراءات الحمائية تزيد الدعم لصالح المنتجات المحلية، ولكن آثارها النهائية سيئة إذا ترتب عليها معاملات بالمثل من الشركات التجاريين في الصين وأوروبا، وستفتح المجال لحرب تجارية تضر بمكونات الصناعات وتنافسيتها وتزيد من الأعباء في النهاية على المستهلكين.
رغم اختلافات معروفة بين ترمب وبايدن، فإن سياستيهما اشتركتا في إجراءات حمائية قد تتمتع بشعبوية الأجل القصير، ولكن سيكون لها ذات المآلات التي انتهت إليها سياسات مماثلة حظيت بتأييد مؤقت لدغدغتها عواطف المستهدفين بها ثم تذهب السكرة وتأتي العبرة محملة بضياع الموارد العامة ورفع تكاليف الإنتاج الفعلية وتحميلها على دافعي الضرائب وتراجع التنافسية. ومن المتعارف أن مثل هذه الإجراءات الشعبوية لها مريدوها المهووسون بها وإذا ذُكّروا بثبوت فشلها عللوا لها بالأسباب كافة وزكّوها بحجج بكلمات رنانة عن أهمية مقاصدها، ولكن معترك الاقتصاد لا يعبأ بدعاوى متهافتة، فلا يفوز فيه في النهاية من طارد أوهاماً أو انتهك قوانينه وسننه التي تقدمت بها الأمم. وهو ما حدا بالاقتصادي الأميركي براد ديلونج أن يذكر في كتابه الأخير عن التاريخ الاقتصادي للقرن العشرين بنهاية فعلية للسيطرة الأميركية مع حلفائها على الاقتصاد العالمي على مدار الفترة من 1870 باعتمادها على تنافسية تعتمد على السبق التكنولوجي حتى عام 2010 الذي أعقب الأزمة المالية العالمية وارتباك الدول الغربية في التعامل معها بما اعتبره كاتب هذه السطور بداية النهاية للنظام الاقتصادي العالمي المتعارف عليه منذ الحرب العالمية الثانية.
قد ترى، عن حق، أن ما تم استعراضه حتى الآن غير شامل للمخاطر والأزمات المتواترة كافة؛ فالبعد المحلي والبيئة التي يعيش فيها القارئ يؤثران حتماً على تصنيفه للأزمات والمخاطر، ونبحث هنا عما قد يكون مشتركاً بين مختلف البلدان. فما هي القائمة الأكثر شمولاً لتعين في التعامل مع ظاهرة الأزمة المستمرة؟ من التقارير التي تتمتع بقدر نسبي من الدقة في متابعة المستجدات عن المخاطر ومستقبلها ما تصدره مؤسسة «أكسا» للتأمين بالمشاركة مع مجموعة «يوراسيا»، وهي تعتمد على مسوح واستقصاءات لرأي الخبراء حول أرجاء العالم. وفي هذا العام اعتمدت في ترتيب المخاطر على استطلاع رأي 4500 من خبراء المخاطر من 58 دولة، بالإضافة إلى عينة من عشرين ألف شخص من 15 دولة بالتعاون مع معهد «إيبسوس» للأبحاث.
وقد جاء تصنيفها للمخاطر في هذا العالم على النحو التالي:
1- تغيرات المناخ
2- الاضطرابات الجيوسياسية
3- مخاطر الأمن السيبراني
4- تحديات الطاقة
5- الأوبئة والأمراض المعدية
6- التوترات الاجتماعية
7- مخاطر على الموارد الطبيعية والتنوع البيئي
8- مخاطر مالية
9- مخاطر الاقتصاد الكلي
10- مخاطر السياسات النقدية والمالية
وقد احتلت تغيرات المناخ المرتبة الأولى في مقدمة المخاطر منذ عام 2018 باستثناء عام الجائحة 2020، ثم عادت مخاطر تغيرات المناخ للصدارة على المستوى العالمي. ففي تقرير العام الماضي (2021) كانت المخاطر الخمسة الأولى على الترتيب، هي: تغيرات المناخ، ثم أمن المعلومات أو الأمن السيبراني، والجوائح والأمراض المعدية، والمخاطر الجيوسياسية، ومخاطر التذمر الاجتماعي ونشوب صراعات داخلية. أي أن التغيير قد طرأ بسبب الحرب الأوكرانية وتداعياتها فرفعت من مرتبة المخاطر الجيوسياسية فجعلتها في المرتبة الثانية ودفعت بمخاطر الطاقة إلى المرتبة الرابعة، هذا مع قدر من التفاوت في الترتيب بين الأقاليم المختلفة حول العالم.
وعلينا على مستوى كل دولة أن نأخذ من هذه التقارير ونترك وفقاً للمعطيات المحلية وأولوياتها، لا ننجذب لأي منها انحيازاً حتى إذا ساق أصحابها ما يدعو للثقة في توقعات تقاريرهم عن المستقبل، فنحن في عالم شديد التغير، تكثر فيه البيانات وتندر فيه المعلومات المدققة وتُحتكر فيه المعرفة وتكاد تغيب عنه الحكمة في استخدامها.
ولكن ما لا يستفاد منه كله يجب ألا يهدر جله. فيجب الاعتماد على مصادر متعددة للاستشراف للتوقي من المخاطر في عالم تكتنفه أزمة مستمرة ترسم واقعاً جديداً يجعل من عملية رسم السياسات وإدارة المؤسسات حالة دائمة من إدارة الأزمات. ويمكن التعرف بيسر على إمكانيات الاستفادة من الأزمات في الإصلاح والتطوير واكتساب مراكز متقدمة في العالم الجديد، فالأزمات ما هي إلا معابر من واقع قديم إلى واقع جديد. ولهذا؛ أعجب من متخوف في البلدان النامية على مصير النظام الدولي القائم الذي لم تستفد بلداننا منه إلا الفتات مما يفيض عن الأغنياء المهيمنين فيه من خلال قنوات التجارة وبعض الاستثمارات وتحويلات المهاجرين، وما قد يقدم من منح وهبات.
هذا نظام دولي أوشك على نهاياته ومن المراقبين مَن يرى أن نهايته قد حلت بالفعل ولكن لم يعلنها النعاة بعد. نحن في إطار ترتيبات جديدة لنظام جديد لم يسفر عن معالمه وقواعده بعد، وحتى يحين زمنه بقواه الجديدة وقواعد ألعابه السياسية والاقتصادية تسير الأمور ببقايا متوارثة قانوناً وعرفاً من النظام الدولي الذي سيصير بائداً وفي ذمة التاريخ كما جرى لنظم سابقة عليه. ما نرجوه أن يكون النظام الجديد أكثر عدلاً وكفاءة من سابقه والأهم أن يكون لبلداننا فيه ما يليق بها. ولن تأتي لها جدارة السبق إلا بالهمة في الاستثمار في أهم مواردها وأرفع أصولها وأقيم ما لديها وهم البشر. هكذا فعل أهل الشرق في الصين وما حولها الذين يتجه نحوهم المركز العالمي للجاذبية الاقتصادية. قد يكون من أسباب التخوف أن عملية الانتقال من نظام إلى نظام لا يعلم أحد مداها الزمني وملابسات انتقالها سواء سلماً أو حرباً، وأن هناك خسائر ومكاسب محتملة، وضحايا وفائزين، وحلفاء وأعداء جدداً؛ وهو ما يستوجب إيضاحه في مقال قادم عن سبل إعداد العدة للتعامل مع التحديات وزيادة فرص التقدم في سباق الأمم رغم المربكات من أزمات وإن أطلق عليها «بيرماكرايسيس».

د. محمود محيي الدين

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات