قبل عقد من الزمان، كانت البنوك هي النقاط الساخنة لمواجهة الأزمة المالية العالمية. واليوم، فإن الجميع يطلبون منها المساعدة في عمليات الإنقاذ من انتشار فيروس كورونا، بما في ذلك تحويل أموال القروض المدعومة من الحكومة إلى الشركات الصغيرة. ولكن تبين أن هذا عمل من الأعمال المعقدة التي لا تستحق الثناء أو التقدير.
وفي الأثناء ذاتها، فإن العديد من البنوك الأوروبية تواجه مشكلات الأزمات المالية القديمة المتمثلة في وجود أصول يصعب للغاية بيعها والتي تُثقل الميزانيات العمومية الأوروبية. وسوف نكتشف قريباً الطريقة الصعبة لعلاج الأمور إذا ما تعلمت هذه البنوك أي درس من دروس إدارة المخاطر من هذه الأزمة الراهنة.
عند النظر في البيانات التاريخية ذات الصلة بالتغييرات الشهرية في كشوف الرواتب غير الزراعية الأميركية يقابلك جدول يسبب الكثير من الصداع، فهو يتعلق بتحويل تريليوني دولار من أموال المحفزات غير الكافية لأي شيء تقريباً.
وهناك رقم – 701 – الذي يمثل فقدان 701 ألف وظيفة في شهر مارس (آذار) فقط، مما أبلغت عنه الحكومة الأميركية. وهي ليست سوى البيانات الأولية حتى الآن، والتي سوف تخضع للكثير من المراجعة والتنقيح فيما بعد. وبصرف النظر تماماً عن الرقم النهائي، فإن الأمر يعبر عن فقدان الكثير من الوظائف. وهو على قدم المساواة مع حالات فقدان الوظائف السابقة في عام 2008 وعام 2009.
وإيضاحاً للأمر، من شأن الأرقام الواردة في أبريل (نيسان) الحالي أن تكون أكبر من الرقم المذكور بثلاثين ضعفاً، وفق تقديرات خبراء الاقتصاد لدى وكالة بلومبرغ الإخبارية. مما يعني أن خانات البيانات التي لم تكن تتسع إلا لثلاثة أرقام على الأكثر سوف تتسع لتشمل أرقاماً أكبر، وصولاً إلى 20 مليون وظيفة في شهر واحد على سبيل المثال. ولم نشهد أي شيء مثل هذه الأوضاع من قبل، أو حتى الاقتراب منها. ومن ثم، فنحن في حاجة ماسة وشديدة للمزيد، وربما الكثير والكثير، من المحفزات المالية التي نعرفها حتى اليوم من أجل وصول الاقتصاد إلى بر الأمان بعد انقضاء جائحة الوباء الحالية.
على سبيل المثال، فإن مبلغ 350 مليار دولار المخصص لتغطية قروض الشركات الصغيرة لن يكون كافياً على وجه التقريب. إذ يستند المبلغ المذكور إلى فكرة أن عمليات الإغلاق الناجمة عن انتشار فيروس كورونا سوف تكون قصيرة الأجل نسبياً وأن الجميع سوف يرجعون إلى أعمالهم بسرعة. ولا يبدو ذلك من المرجح شهوده على أي حال. وتنتظم الشركات والأعمال الصغيرة ضمن نسيج الحياة الأميركية اليومية، ويعمل فيها نصف القوى العاملة من البالغين في سن العمل. ولن تكون هناك عودة طبيعية إلى سابق عهد الأعمال إذا لم نمد إليهم يد العون والمساعدة.
ومع ذلك، فإن خطط إنقاذ الشركات ينبغي ألا تشتمل على إنقاذ شركات الأسهم الخاصة التي أثقلت عاتق الشركات الصغيرة بالكثير من الديون لسداد أرباح الأسهم وأصحابها، فشركات الأسهم الخاصة لديها رأس المال الكافي، فضلاً عن وسائل جمع المزيد من الأموال لدعم الشركات المتعثرة.
وكما كتبت بالأمس، فإن نظام إعانات البطالة الحالي غير مصمم للتعامل مع هذه الكارثة. ويقترح أحد الخبراء على الحكومة بدلاً من ذلك أن تسدد الأجور والمزايا الكاملة بصفة مباشرة لأي مواطن فقد وظيفته بسبب انتشار الفيروس القاتل. ومن شأن ذلك أن يتطلب توفير تريليوني دولار إن جرى تطبيق المقترح على فترة تمتد 3 أشهر، ولكن الأمر يستحق ذلك.
كما ينبغي فعل المزيد لمساعدة 550 ألف مواطن أميركي مشردين يعيشون في الشوارع، أو في ملاجئ شديدة الازدحام حيث سهولة التعرض للإصابة بفيروس كورونا. ومساعدة المواطنين الذين لا مأوى لهم على التباعد الاجتماعي ليست مجرد قضية أخلاقية، وإنما هي ضرورة من ضرورات الصحة العامة، وذلك مع اعتبار عدد الذين يعملون في الوظائف بالأجور المتدنية، نجد أنها ضرورة ملحة تماماً مثل إعداد الطعام وتوصيله للمنازل حالياً.
إن البنية التحتية الأميركية المتداعية، مثل الافتقار إلى الوحدات السكنية بالتكاليف الميسرة، هي من مشاكل الأمد الطويل الأخرى التي ربما حان ميقات الانتباه لها والتعامل معها. يقول الرئيس دونالد ترمب إنه يريد الإنفاق على البنية التحتية في جزء من خطة التحفيز المالي المستقبلية، ويوافقه الكاتب نوح سميث على هذه الفكرة الرائعة. غير أن الرئيس ترمب قد لا يروق له توصيف نوح سميث لشكل الإنفاق المشار إليه بقوله: ينبغي أن يكون في صورة المنح المباشرة للولايات الأميركية ويتضمن المشاريع التي تجهز لمستقبل أكثر ازدهاراً. وربما يكلف الأمر مبلغ تريليوني دولار آخرين على أقل تقدير. وهذا مبلغ كبير للغاية، ولكننا في عصر الأرقام الفلكية!
عندما تَلوح في الأفق لحظة تكون عندها الديون في تزايد مطّرد بينما الدخول المطلوبة لسدادها محل شك، فهذا هو التوقيت الحاسم لتبني سياسة عاجلة دون إبطاء أو انتظار لمنع تحول مشكلة الديون إلى أزمة طاحنة. فلن يزيد مرور الزمن إلا صعوبة حل المشكلة؛ هكذا أرشدتنا دروس الموجات الثلاث من تفاقم الديون التي شهدها العالم خلال السنوات الخمسين الماضية.
فمع اختلاف في التفاصيل، إلا أن هناك عناصر مشتركة لأزمات الديون لا يمكن تجاهلها. فالموجة الأولى، التي تكونت مع اندلاع أزمة مديونية أميركا اللاتينية في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، جاءت بعد عقد من الانخفاضات في تكاليف الاقتراض بما شجّع الحكومات على التوسع في الاستدانة بما تجاوز مقدرتها على السداد. وعندما عاودت أسعار الفائدة ارتفاعها عجزت الدول عن خدمة الدين. ولم يكن الأمر يستدعي عندئذٍ إلا إعلان دولة واحدة، كانت في هذه الحالة المكسيك، عجزها عن الوفاء بمستحقات الدائنين فتلتها خمس عشرة دولة أخرى من أميركا اللاتينية وإحدى عشرة دولة أخرى من الأقل دخلاً، مطالبة بإعادة جدولة القروض لتعثرهم في السداد.
وكانت الموجة الثانية في التسعينات حيث انخفضت أسعار الفائدة الحقيقية أيضاً، وتساهلت مؤسسات مالية في إقراض دول شرق آسيا التي كانت تتمتع بارتفاع وتيرة النمو وإنْ عانت من هشاشة في نظمها المالية. ثم توالى سقوط المقترضين متعثرين في الديون وتكاليف خدماتها بما فيهم تايلند وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا، فيما عُرفت بأزمة الأسواق الناشئة.
ولم تمر عشر سنوات على نشوب هذه الأزمة التي اتخذت فيها الدول المتقدمة موقف الناقد الحكيم لسوء أفعال تلك الدول ذات الأسواق الناشئة المستجدة العهد بقواعد الاقتراض في أسواق الدين، حتى وقعت انهيارات متتالية في أسواق الدول المتقدمة ذاتها فيما عُرفت بالأزمة المالية الكبرى في عام 2008، وتشكلت بذلك الموجة الثالثة من أزمات الديون، وأعقبتها أزمة ركود اقتصادي لم يشهد العالم مثلها منذ الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي. ووجه التشابه لا يمكن إغفاله بين الموجات الثلاث: انخفاض في أسعار الفائدة، وإفراط في الاقتراض، وتساهل في الإقراض، وساعة محاسبة تأتي بغتة مع تغير ظروف الأسواق، ثم تتوالى السلسلة المعروفة من الأحداث بتداعياتها المؤلمة التي لا تفرّق بين البريء والمذنب.
فبعد فترة من الاستقرار النسبي في الأسواق المالية تتزايد معدلات التمويل المخاطر وترتفع أسعار الأسهم متجاوزة قيمها الحقيقية. وتتردد مقولات على شاكلة «هذه المرة الأمر مختلف!» التي ذكر المستثمر الأميركي جون تمبلتون في عام 1933 أنها أخطر أربع كلمات في عالم المال والاستثمار، ومع كثرة ترديدها يتبارى المحللون متسائلين: هل هذه المرة تختلف فعلاً عن سابقاتها أم لا؟ وهل هناك أزمة في الأفق لأسباب موضوعية حقاً أم أنها أضغاث وتخرصات تسببها حالات العجز في الثقة وعدم اليقين والشك التي تنتاب الأسواق؟
وقد أفرد البنك الدولي في تقريره الأخير عن آفاق الاقتصاد العالمي فصلاً كاملاً تحت عنوان «الموجة الرابعة». وقد استند إلى اعتبار حالة زيادة الديون الحالية مكونة لموجة جديدة تذكِّر بما أعقب سابقاتها من أزمات، بارتفاع نسبة الديون إلى إجمالي الناتج العالمي خلال السنوات العشر الماضية لتصل إلى 230%، كما ارتفعت مديونية الدول النامية وذات الأسواق الناشئة إلى 55 تريليون دولار لتصل إلى 170% من دخولها في عام 2018، وهي آخذة في التزايد.
وإذا كانت توقعات الأسواق تشير إلى استمرار انخفاض أسعار الفائدة العالمية في الأجل المتوسط بما يقلل من ضغوط تكلفة الاقتراض، إلا أن التوقعات عن معدلات النمو العالمية شديدة الانخفاض ولم يتجاوز أكثرها تفاؤلاً 2.5% وسط أجواء جيوسياسية مضطربة وأوضاع اقتصادية هشة، فضلاً عما استجدّ من تداعيات لأزمة فيروس «كورونا المستجد». ومما يزيد من المخاطر تلك الزيادة الملحوظة في ديون الشركات بعملات أجنبية لدائنين غير مقيمين، وكذلك ارتفاع نسبة الديون التجارية بآجال أقصر للسداد. ورغم انخفاض في التصنيفات الائتمانية لعدد كبير من الدول فإن إقراضها ما زال في تزايد، كما ارتفعت أعداد الدول النامية المقترضة من الأسواق خلال السنوات العشر الماضية ومنها 20 دولة تقترض من الأسواق التجارية للمرة الأولى. كما ارتفعت نسبة مانحي الائتمان من وحدات للوساطة المالية غير المصرفية أو ما تُعرف ببنوك الظل التي تعمل وفقاً لقواعد إشراف أقل من تلك المعمول بها في القطاع المالي الخاضع للرقابة.
وقد لجأ كثير من الدول النامية لزيادة الاقتراض تحت ضغوط ضعف الإيرادات العامة لموازناتها، وانخفاض معدلات نمو اقتصاداتها وعزوف الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية عنها. وفي كثير من الأحوال كان استخدام القروض المتراكمة غير مصحوب بزيادة في الاستثمارات العامة، ولوحظ أن القروض الخاصة قد واكبتها زيادة في أسعار العقارات وتوسُّع في مجالات لا تحقق عائداً في بنود التصدير السلعية أو الخدمية لموازين المدفوعات.
وتتسم الموجة الرابعة للديون بأنها أكبر وأسرع من سابقاتها، فهي لا تتركز في إقليم بعينه ولا تقتصر على قطاع مقترض يستأثر بالديون، فتراكمها يشمل الحكومات والشركات الخاصة بمعدلات سنوية أعلى في زيادتها عن الموجات السابقة. وعلى الجانب الآخر فإن هناك عدداً من الدول يبدو فيها الاستفادة من خبرات الأزمات السابقة من حيث الاستعداد بأطر للسياسات المالية والنقدية للتعامل مع إدارة الديون والانضباط الاقتصادي والاستقرار النقدي، كما دعمت من قواعد الرقابة الحصيفة والإشراف المالي.
وفي ظل التطورات الاقتصادية والسياسية التي يشهدها عالمنا شديد التغير وما يتعرض له من مربكات، يصبح التحوط واجباً أساسياً في صياغة السياسات الاقتصادية. فما هي إلا صدمة في جانب تكلفة الاقتراض أو أخرى في جانب النمو الاقتصادي حتى تصبح بعدها عملية إدارة الديون مشكلة مضنية، وإذا لم يتيسر حلها على الفور فسنكون بصدد أزمة سيئة العواقب.
ومن أقوال العرب إن العاقل من اتعظ بغيره، وفي شأن الديون وأزماتها فإن عظاتها الكثيرة، من خارج الديار ومن داخلها، ما يستوجب صياغة سياسات عامة ملائمة للتطورات المستجدة في إقليمنا وحول العالم. ويمكن الاستفادة من انخفاض الفائدة العالمية في الوقت الراهن في إحلال الديون باهظة التكلفة بأخرى أقل تكلفة، وضبط آجال الاستحقاق بما يتناسب مع سيناريوهات النمو والقدرة على السداد، ومراجعة مكونات الديون خصوصاً في شقها التجاري وعالي المخاطر. كما يتطلب الأمر التنسيق بين الجهات القائمة على السياسة الاقتصادية والمالية والنقدية وسعر الصرف والرقابة المالية وتبادل المعلومات بينها في إطار مؤسسي ووفقاً للمعايير المتعارف عليها. كما أظهرت الأزمات السابقة أهمية التعرف على أوضاع الحوكمة والإفصاح والاستدانة والالتزامات الدولية بالنسبة إلى القطاع الخاص التي يمكن أن تصير في حالة الأزمات التزاماً سيادياً أو عبئاً على سوق النقد الأجنبي. وهناك أهمية كبرى لمتابعة التطورات الدولية وتأثيراتها على ميزان المدفوعات والنمو من خلال أطر التعاون الدولي ومؤسساته. ولا غنى عن الاستعداد ببناء مصدّات للصدمات المحتملة بتدعيم البناء الاقتصادي والمالي للدولة وشبكات ضمانها الاجتماعي. ويجب أن تأتي إجراءات إدارة الديون في إطار متكامل للنمو والتنمية. وفي هذا الشأن تتجلى أهمية توطين التنمية المستدامة وترسيخ قواعدها في الاقتصاد المحلي من خلال استيعاب ثورة البيانات المتولدة فيه وزيادة الطلب وإنعاش الإنتاج ذي القيمة المضافة المحقِّق لفرص عمل لائقة. وهذا كله يتطلب نهجاً فعالاً لتمويل التنمية والاستثمار المؤثر والتعامل المبكر مع تحديات الموجة الرابعة للمديونية العالمية.