وضع «كورونا» العالم على مشارف أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية، والكساد الكبير (1929 – 1939). فالإغلاق العالمي الكبير الذي شهدته الكرة الأرضية من حجْر منزلي، وحظر تنقل، وتباعد اجتماعي، أدَّى لتوقف قطاعات وأنشطة اقتصادية عديدة، مثل الطيران والفنادق والمطاعم والمتاجر وكثير من الصناعات، واختلالات بأسواق الأسهم والطاقة والتجارة الدولية. وتسبب في تداعيات اقتصادية سلبية على الاستهلاك والادخار والاستثمار وتشغيل اليد العاملة؛ بل إنَّه أصبح ينذر بدخول الاقتصاد العالمي مرحلة ركود سيستغرق سنوات ليتعافى منه، كما أفادت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فقد أشارت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي في 9 أبريل (نيسان)، بتوقع تسجيل معدلات نمو سلبية لدخل الفرد في أكثر من 170 دولة خلال عام 2020، وأنَّ نصف دول العالم طلبت من الصندوق خطة للإنقاذ.
وأورد تقرير الصندوق لآفاق الاقتصاد العالمي الصادر في 14 أبريل، توقعاته بأن يشهد الاقتصاد العالمي انكماشاً حاداً بواقع 3 في المائة خلال العام الحالي. وقدر انخفاضات إجمالي الناتج المحلي بالاقتصادات المتقدمة بنسبة 6.1 في المائة (أعلاها في منطقة اليورو بنسبة 7.5 في المائة)، وبمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بنسبة 2.8 في المائة، وأميركا اللاتينية بنسبة 5.2 في المائة. وتوقعت منظمة التجارة العالمية ببيانها الصحافي في 8 أبريل انخفاض التجارة الدولية بنسب بين 13 في المائة – 32 في المائة هذا العام. كما أظهر البيان الصحافي الصادر عن منظمة العمل الدولية بتاريخ 7 أبريل، أن الجائحة سوف تؤدي إلى إلغاء 6.7 في المائة من إجمالي ساعات العمل بالعالم بالنصف الثاني من هذا العام، أي ما يقارب 195 مليون وظيفة بدوام كامل، وأنَّ ما يقارب 81 في المائة من القوى العاملة العالمية التي يبلغ عددها 3.3 مليار شخص، تأثرت بسبب الإغلاق العالمي الكبير. ومن الجدير بالتنويه هنا أنَّ عدد الأميركيين الذين فقدوا وظائفهم خلال الأسابيع الأربعة الماضية بلغ أكثر من 22 مليون فرد، وهذا العدد يقارب مجموع العاطلين الأميركيين في ذروة الكساد الكبير عام 1932 الذي بلغ 30 مليون شخص.
وأظهرت تداعيات هذه الأزمة الدولية غير المسبوقة، أنه لا يمكن لدولة أياً كانت أن تقدر على مواجهتها بمفردها، مما يحتم حشد التعاون الدولي. وهذا ما أكده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في مستهل أعمال قمة مجموعة العشرين الاستثنائية التي عقدت افتراضياً برئاسة المملكة العربية السعودية في 26 مارس (آذار) الماضي؛ حيث قال: «إن هذه الأزمة الإنسانية تتطلب استجابة عالمية، وإن العالم يعوّل علينا للتكاتف والعمل معاً لمواجهتها، ويجب أن نأخذ على عاتقنا جميعاً مسؤولية تعزيز التعاون في تمويل أعمال البحث والتطوير، سعياً للتوصل إلى لقاح لفيروس (كورونا)، وضمان توفر الإمدادات والمعدات الطبية». وأكد بيان القمة هذا الأمر، فتضمن: «إن جائحة (كورونا) غير المسبوقة تعد رسالة تذكير قوية بمدى الترابط بين دولنا ومواطن الضعف لدينا، فهذا الفيروس لا يعترف بأي حدود. وتتطلب عملية التعامل معه استجابة دولية قوية منسقة واسعة المدى، مبنية على الدلائل العلمية ومبدأ التضامن الدولي».
واستجابة لذلك، بادرت المملكة بالإعلان عن مساهمتها بمبلغ 500 مليون دولار لمساندة الجهود الدولية الرامية للتصدي لجائحة فيروس «كورونا» المستجد. وسوف يسهم هذا التبرع للمنظمات الدولية المختصة في تعزيز التأهب والاستجابة للحالات الطارئة، وتطوير أدوات تشخيصية وعلاجات ولقاحات جديدة وتوزيعها، وتلبية الاحتياجات غير الملباة فيما يتعلق بالرصد والتنسيق الدولي، وضمان توفر ما يكفي من إمدادات المعدات الوقائية للعاملين في القطاع الصحي. وانطلقت المملكة في تقديم هذا التبرع غير المشروط من إدراكها لدورها الإنساني. ولم تنغلق على نفسها كبعض الدول التي تتشدق جزافاً بحقوق الإنسان، وتربط دعمها للمنظمات الدولية بفرض إملاءاتها وشروطها عليها.
والمجتمع الدولي اليوم بأمسّ الحاجة لقيادات سياسية واعية حكيمة ذات مبادئ راسخة، تعي أهمية هذه المرحلة، ولا تهدر جهودها في تبادل الاتهامات والتنصل من تعهداتها، وتعي تجارب التاريخ. فقد ساهم انشغال الدول بمعالجة أزماتها الاقتصادية فرادى إبان فترة الكساد الكبير، إلى عدم التنبه لخطورة ما كان يجري على الصعيد العالمي من فورة العنصرية والشعبوية وانتهاك للمعاهدات الدولية، مما أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية.
ولا يعني القول أعلاه أن تركنَ الدول فقط للتعاون الدولي، وتغفلَ عن الاهتمام بمسؤولياتها الوطنية؛ بل يتوجب عليها بلورة وتنفيذ السياسات والبرامج المحلية لاحتواء الوباء، وانتشال اقتصاداتها للتعافي من تبعاته. وأبرز توصيات المنظمات المتخصصة وخبراء الاقتصاد في هذا الشأن، ما يلي:
أولاً: السعي لتعزيز قدراتها الوطنية بتشخيص وعلاج الوباء، والرفع من كفاءة أنظمتها الصحية، وتوفير الغذاء وتوزيعه، وتبني إجراءات مشددة لضبط الأسعار، ودعم تجهيزاتها وخدماتها الأساسية، من كهرباء وماء واتصالات وأمن وخدمات بلدية. كما من المهم عليها توفير الدعم للأسر المحتاجة والأفراد الذين يفقدون دخولهم نتيجة للإجراءات الاحترازية المطبقة. فقد كان أول تشريع اقتصادي يصدره الكونغرس الأميركي في عهد الرئيس روزفلت لمواجهة أزمة الكساد الكبير، يتضمن إيصال المساعدة للشباب العاطلين عن العمل، من خلال انخراطهم في مخيمات للمشاركة في الأنشطة والمشروعات الاجتماعية، مقابل 30 دولاراً للشهر الواحد.
ثانياً: البدء في بلورة وتنفيذ الخطط والبرامج الكفيلة بالأخذ بيد الاقتصاد الوطني، للانتعاش والتعافي سريعاً والنماء.
ويتطلب ذلك تشكيل فريق من المتخصصين الوطنيين المتمرسين بالخبرات الثرية، في مجالات المالية والاقتصاد وإدارة الأعمال، وبرئاسة السلطة العليا بالدولة، لتولي الإشراف على تخطيط وإدارة القضايا الآتية:
1- ترتيب أولويات الإنفاق العام، وضمان الحوكمة والشفافية فيما يتم إنفاقه خلال هذه المرحلة.
2- مراجعة سياسات البنوك المركزية، ومتابعة أداء الصناديق السيادية لضمان جدوى استثماراتها، وتوجيه حجم أكبر من نشاطها نحو الاقتصاد الوطني.
3- دعم الصناعة الوطنية المتصلة بمجالات الغذاء والدواء والمستلزمات والخدمات الصحية، ورفع كفاءة الخزن الاستراتيجي.
4- احتواء المخاطر المالية جراء الزيادة المحتملة في الديْن العام، والسعي لضمان سلامة القطاع المالي الوطني من الاضطرابات.
5- العمل على دعم الطلب بالاقتصاد المحلي، وتحفيز التشغيل بالقطاع الخاص ومعالجة الخلل في ميزانياته.
6- تمديد آجال القروض على مؤسسات القطاع الخاص، وشراء أسهم الشركات الفاعلة ذات القدرة على الاستمرار والمنافسة.
7- دعم الأجور بمؤسسات القطاع الخاص، ووضع قيود على المكافآت وتوزيعات الأرباح لأعضاء مجالس الإدارة والرؤساء التنفيذيين.
ختاماً: أصعب تحدٍّ سوف يواجه الدول في المرحلة القادمة، يتمثل في إعادة الثقة للمستهلك والمستثمر. وهذا الأمر يتأثر بعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية وإدارية عديدة، ولا بد من التنبه لها جميعاً، والتعامل معها بحذر شديد، لضمان تحقيق الهدف المنشود.
د. يوسف السعدون