قبل عدة أشهر، كان الاقتصاد الأميركي يبدو في أبهى حالاته، بمعدل بطالة تاريخي وصل إلى 3.5 في المائة في فبراير (شباط) الماضي، وكان الرئيس الأميركي – على كل ما واجهه من ضغوطات لعزله عن الرئاسة – يبدو فخوراً بهذا الرقم التاريخي، ذاكراً إياه في جل خطاباته. ليس ذلك فحسب، بل بدت الأوضاع تسير بحسب ما يريد ترمب، حيث توصل إلى هدنة مع الصين في حربه الاقتصادية معها، وتوصل إلى اتفاقيات مع كندا والمكسيك، وبدا كأن إنجازاته الاقتصادية سوف تكون داعمه الأول في ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة. إلا أن الأمور لم تؤل إلى ما يريده ترمب، فجاءت جائحة كورونا لتضع العالم بأسره أمام أزمات صحية واقتصادية واجتماعية، ولتنسف في شهرين فقط، ما حققه ترمب في ثلاث سنوات.
فإحصائيات البطالة وضحت أن أكثر من 20.5 مليون أميركي غدوا في قائمة العاطلين في شهر أبريل (نيسان) وحده، أي أن نسبة البطالة ارتفعت بأكثر من 10 في المائة في شهر واحد فقط لتصبح الآن 14.7 في المائة! وأصبحت أزمة كورونا رسمياً الأسوأ للولايات المتحدة منذ الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي، حين وصلت البطالة إلى 25 في المائة، لتتجاوز الأزمة الحالية بمراحل أزمة 2007 المالية. ولن يكون تأثير هذه الزيادة المفاجئة في نسبة البطالة سهلاً على الاقتصاد الأميركي، فالاقتصاد الأميركي خسر ما يدفعه 20 مليون أميركي من الضرائب دفعة واحدة، بل وتوجب على الحكومة الآن أن تدفع لهم إعانات شهرية. في وقت أعلنت فيه الحكومة عن دعم زاد على تريليوني دولار للقطاع الخاص لمواجهة أزمة كورونا.
ولذلك فقد أعلنت الحكومة الأميركية خطتها لاستدانة نحو 4.5 تريليون دولار لهذه السنة المالية، أكثر من ثلاثة أضعاف الدين في عام 2019. وقد أشارت توقعات ما قبل كورونا إلى أن الدين العام للولايات المتحدة قد يصل إلى 100 في المائة من الناتج القومي، أما الآن فقد ارتفعت هذه النسبة لتصل إلى 128 في المائة. وقد أشارت التوقعات إلى أن حجم العجز قد يصل إلى 3.7 تريليون دولار. والأسوأ من ذلك كله أن أعداد الإصابات والوفيات في الولايات المتحدة لا تزال في ازدياد مستمر، ولا يبدو الوضع في تحسن حتى هذه اللحظة، خصوصاً مع تصريح الرئيس الأميركي إلى أن الوفيات قد تزيد على 90 ألفاً.
إلا أن المستغرب في الولايات المتحدة هو وضع أسواق المال التي لم تخسر كثيراً من قيمتها في المجمل هذا العام، والمتأمل في السوق المالية الأميركية يرى أنه لا يمانع وصول الدين العام الأميركي إلى مستوى تاريخي. ويبدو أن ردة الفعل هذه تعود لعدة أسباب؛ منها أن الولايات المتحدة الآن غير ملامة في الاستدانة، فهي الخطوة التي اتخذها كثير من دول العالم، لا سيما مع انخفاض تكلفة الديون في هذا الوقت. كما أن نسبة الدين هذه هي نسبة مؤقتة فرضتها الأزمة الحالية، وسرعان ما يعود الوضع كما كان. علاوة على أن الإقبال على السندات الأميركية لم يكن يوماً موضع شك، ولذلك فإن سوق المال الأميركية لا تزال إيجابية حتى هذه اللحظة.
لقد راهن الرئيس الأميركي كثيراً على تحسن الوضع الاقتصادي في بلاده قبل خوضه الانتخابات المقبلة، وقد حاول طوال الشهرين الماضيين الحفاظ على هذه المكتسبات بالتقليل من الجائحة، ومن ثم وصمها بالفيروس الصيني، كل ذلك حتى لا يتأثر الاقتصاد الأميركي سلباً، إلا أن ذلك كله جاء بنتائج عكسية بعد أن أصبحت الولايات المتحدة أكبر دولة في عدد الإصابات والوفيات.
والآن يسعى ترمب لإعادة فتح الاقتصاد مرة أخرى ولو بشكل جزئي، وهو ما قد يزيد عدد الوفيات اليومي لأكثر من 3000 يومياً بحسب إحدى الدراسات. وفي حال كانت هذه الخطوة غير موفقة، فقد تكون النتائج وخيمة للغاية، وهي تبدو الآن بمثابة مغامرة لترمب لاستعادة مكتسباته، مغامرة إن لم تنجح فسوف يكون ترمب في مأزق في الانتخابات. والظاهر أن سوق المال الأميركية هي الرهان الوحيد المتبقي للرئيس الأميركي، وهو ما سيذكره كثيراً في خطاباته مستقبلاً، تماماً كما فعل سابقاً.
د. عبدالله الردادي.