خطة إنقاذ لبنان عبر صندوق النقد لا ترسم خريطة لمسار الإصلاح

تقدم الخطة التي يتفاوض عليها لبنان مع صندوق النقد الدولي لإقالته من عثرته تشخيصا متقنا للخسائر الهائلة التي منيت بها الدولة المفلسة لكنها لا تلزمها بالإصلاحات الجذرية التي تعد عنصرا لازما لاتفاق مالي ينتشل اقتصادها الغارق من أزمته.

ويقول مسؤولون واقتصاديون ودبلوماسيون إن خطة الإنقاذ التي تقع في 53 صفحة ووافقت عليها الحكومة في ابريل نيسان الماضي بعد شهور من الشد والجذب هي أوفى شرح للكيفية التي وصل بها لبنان إلى ما تراكم عليه من ديون تعادل حجم اقتصاده عدة مرات.

غير أن مصادر مطلعة على المحادثات مع صندوق النقد تقول إن الخطة لم ترسم خريطة طريق واضحة لإصلاح النظام الطائفي المعمول به في الدولة والقطاع العام الذي تعرض للنهب على مر العقود على أيدي مراكز القوى وأمراء الحرب السابقين الذين هيمنوا على النظام السياسي الطائفي في البلاد ودفعوا بها إلى الأزمة.

ويعتقد هؤلاء أن النخبة السياسية ستتحاشى تنفيذ إصلاحات حقيقية مثلما حدث في أربع جولات سابقة من المساعدات والقروض الميسرة منذ وضعت الحرب الأهلية أوزارها وأنهم يقدرون مدى الحزم الذي سيضغط به صندوق النقد الدولي من إجل إحداث تغييرات عميقة قبل الموافقة على مد يد العون.

وقال ناصر السعيدي، الذي سبق أن شغل منصبي وزير الاقتصاد ونائب حاكم مصرف لبنان المركزي، ”يحاولون تقديم خطة يقتنع بها صندوق النقد ويقتنع بها المجتمع الدولي والدائنون دون معالجة حقيقية للمشاكل الأعمق في البلاد وهي الإصلاحات“.

ويضيف كميل أبو سليمان المحامي المتخصص في الشؤون المالية الدولية والذي استقال من منصبه الوزاري في الحكومة السابقة بسبب التقاعس عن الإصلاح ”المخطط الحالي خفيف للغاية فيما يتعلق بإصلاحات القطاع الخاص“.

والخسائر الواردة في الوثيقة الحكومية مروعة إذ تقدر الوثيقة الدين السيادي الإجمالي بنحو 90 مليار دولار أي 176 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وهو من أعلى معدلات الدين في العالم.

كما تقدر الخسائر الإجمالية للقطاع المصرفي بمبلغ 83 مليار دولار والخسائر غير المحققة للمصرف المركزي بأكثر من 40 مليار دولار.

والعبء المترتب على هذه الأرقام يتزايد مع التراجع السريع الذي يشهده الاقتصاد إذ انكمش بنسبة 6.9 بالمئة في العام الماضي وفقا لبيانات الحكومة وسينكمش نحو 13.8 بالمئة هذا العام تحت وطأة التداعيات الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا.

ويقول مسؤول رفيع بالحكومة اللبنانية إن الاتفاق مع صندوق النقد تم إنجازه بنسبة 70 بالمئة. غير أن بعض العالمين بسير المحادثات غير مقتنعين بذلك ويتنبأون بمفاوضات شاقة.

لا حماس للإصلاح

رغم أن الحكومة الحالية احترمت الخبراء التكنوقراط فإنها تخضع لنفوذ القيادات الطائفية بالقدر نفسه الذي كانت تخضع به لها الحكومة السابقة التي أسقطتها احتجاجات شعبية على الفساد.

والفرق أن هذه الحكومة تعكس بقدر أكبر نفوذ حزب الله الشيعي المدعوم من إيران الذي يهيمن على لبنان بالتحالف مع أكبر الأحزاب المسيحية وحركة أمل الشيعية. فقد تحاشت الأحزاب السنية والمسيحية والدرزية المؤيدة للغرب المشاركة فيها.

وفي الأسبوع الماضي دفعت الحكومة بفريق لإجراء مباحثات مع صندوق النقد الدولي تألف من مندوبين يمثلون الرئاسة ووزارة المالية ومصرف لبنان المركزي ورئاسة الوزراء.

وتقول المصادر إن الخطة تتركز بشكل طاغ على البنوك والمصرف المركزي والتي شاركت معا في إقراض لبنان ما يزيد على 70 بالمئة من إجمالي الودائع في النظام المصرفي لدولة عاجزة عن سداد التزاماتها بأسعار فائدة متصاعدة مبالغ فيها من إعداد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

غير أن البنوك لم تكن مسؤولة عن الهدر المدمر والنهب والتعيينات على أسس غير سليمة في القطاع العام، وكلها أمور لا تتطرق إليها الخطة بأي تفاصيل تذكر.

ويقول الاقتصاديون والدول المانحة إن أي خطة إنقاذ يجب أن ترسل مؤشرات قوية بالتغيير وكما قال مسؤول فالخطة ”لا تتعلق فقط باستهداف البنوك“ أو عملية انتقائية لاستهداف الثروة غير المشروعة لقلة من الناس يمثلون خصوم الائتلاف الذي يدعم الحكومة ويهيمن عليه حزب الله.

وتهدف الحكومة لتقليص حجم القطاع المصرفي من خلال عمليات دمج واستحواذ وإغلاق ورفع رأس المال وخفض قيمة ودائع كبار المودعين وكذلك تحويل ما تم تحصيله من توزيعات مالية وإيرادات الفائدة في السنوات الخمس الماضية إلى البلاد.

وثار غضب جمعية مصارف لبنان ورفضت هذا النهح. وتعتقد البنوك المملوكة تقليديا في الغالب للمسيحيين والمسلمين السنة أن ثمة برنامجا ممنهجا من جانب الحكومة التي يهيمن عليها حزب الله لإسقاطها.

وقال أبو سليمان ”على الدولة أن تتحمل قسطا كبيرا لكن بالطريقة التي يسيرون بها العبء كله على البنوك“.

والمجالات الثلاثة التي يعتبرها كل المحللين والمسؤولين الذين يميلون للإصلاح هي شركة كهرباء لبنان التابعة للدولة، والاتصالات والجمارك والموانئ، ومعاشات التقاعد وأجور العاملين في الدولة.

ضغوط على حزب الله

بلغت خسائر شركة الكهرباء، وهي إقطاعية حزبية أكثر منها مرفق للكهرباء، مليارات الدولارات منذ الحرب. ومع ذلك فليس بإمكانها المحافظة على استمرار التيار الكهربائي فتلك مهمة يتولاها أصحاب المصالح من مزودي المولدات الخاصة وموردي الوقود الذين لا تجرؤ أي حكومة على المساس بهم.

كذلك فإن الجمارك والموانئ والمنافذ الحدودية إقطاعيات حزبية موزعة لتحقيق المكاسب غير المشروعة بالتهرب من سداد رسوم الاستيراد. وتواصل أجور العاملين في القطاع العام تضخمها. وتستخدم كل الأحزاب دون استثناء هذا النظام في مكافأة أتباعها.

ويقول أبو سليمان إن الحكومة ليست بحاجة لانتظار الصندوق وبإمكانها البدء في تنفيذ الإصلاحات الآن.

غير أن الائتلاف الذي يهيمن عليه حزب الله ويدعم الحكومة يحجم أمام القطاعات الثلاثة ولا سيما تغيير الترتيبات الجمركية التي تمثل مصادر مهمة للإيرادات.

وقال مسؤول إن من المعلوم أن صندوق النقد يخشى أن يتحمل مسؤولية انهيار مالي يحمل علامة ”صُنع في لبنان“، مضيفا أن الأمر يمثل ”مجازفة بالسمعة“ بالنسبة للصندوق إذا لم تكن الخطة تبدو منصفة ومتقنة.

كذلك فإن حزب الله الذي يقدم مساعدات اجتماعية يتعرض لضغوط من أنصاره الشيعة الفقراء الذين تضرروا بشدة من فقدان مئات الآلاف من وظائف القطاع الخاص ويواجهون فقدان المزيد في القطاع العام.

يضاف إلى ذلك ما يصفه وزير شيعي سابق بالضغوط الشديدة من جانب أثرياء اللبنانيين المغتربين لا سيما في غرب إفريقيا الذين أودعوا مبالغ كبيرة في بنوك لبنان وأصبح من المحتمل الآن أن يتحملوا خسائر.

وقال الوزير السابق إن هؤلاء اللبنانيين المغتربين يقولون ”دعمناكم والآن تخنقوننا“ بينما ”حزب الله يشعر بوطأة التصرف كدرع لفساد حلفائه في الحكومة“.

رويترز.