بعدما قدّمت المصارف خطتها الانقاذية البديلة، وسلّطت الضوء على مكامن الخلل في الخطة الحكومية التي تتمّ مناقشتها مع صندوق النقد، تنصرف إدارات البنوك في هذه المرحلة الى ترتيب البيت الداخلي، من خلال إجراءات تفاجئ أحياناً المودعين…
بعد الضجة التي أثارتها الخطة الحكومية لجهة الطريقة المعتمدة في مقاربة مسألة تقدير الخسائر وتوزيعها بأسلوب يهدّد مصير القطاع المالي برمّته، ويظلم المودعين بنسَب غير منطقية من الاقتطاعات المحتملة (haircut)، بدأ يتّضح انّ هذا الاسلوب الشمولي لن يمر، وان لا مفر من التعاطي مع المصارف على أساس كل حالة بحالتها، لفرز المؤسسات البنكية، ومعرفة الوضعية الحقيقية لكل مصرف، لكي يُبنى على الشيء مقتضاه.
إنطلاقاً من هذا الواقع، باشرت ادارات المصارف اتخاذ الاجراءات الكفيلة بتحصين دفاترها، وتجهيز البنك ليكون قابلاً للتعويم والاستمرار عندما يبدأ تنفيذ خطة الانقاذ التي يُفترض ان تؤدّي الى الخروج من المأزق وفق روزنامة زمنية واضحة.
هذه الترتيبات تفاجئ أحياناً المودعين لجهة ما يعتبره هؤلاء اغراءات لا تُقاوم. وتشمل العروض التي تقدمها البنوك الامور التالية:
أولاً – التفاوض مع المقترضين على شطب ديونهم مقابل حسومات مغرية، بحيث انّ المقترض القادر، يستطيع ان يدفع نسبة معينة من دينه، مقابل شطب كامل قيمة الدين.
ثانياً – تحويل قروض بالدولار الى قروض بالليرة، مقابل تحديد اسعار فوائد اكثر ارتفاعاً، بناء على الفارق بين الفوائد على الدولار والفوائد على الليرة.
ثالثاً – تحويل ودائع بالليرة الى ودائع دولارية، بفوائد متدنية مقابل تجميد هذه الودائع لفترات زمنية تتراوح بين سنتين وخمس سنوات، على سعر الصرف الرسمي (1507-1514).
رابعاً – تقديم عروض مغرية لموظفين اقتربوا من سن التقاعد من أجل التقاعد المُبكر، مقابل الحصول على تعويضات اضافية، قد تفوق تعويضاتهم في حال انتظروا حتى بلوغ السن القانونية.
بالاضافة الى هذه الاغراءات، جرت محاولات لابتكار منتجات جديدة تقوم على مبدأ تكبير حجم أي وديعة تدخل الى المصرف كأموال طازجة. لكن هذه المنتجات توقفت بعد تدخّل مصرف لبنان ومنعها.
كل هذه الاجراءات تبدو وكأنها خاسرة بالنسبة الى المصارف، ومُغرية للمودع من حيث الافادة التي قد يحققها جرّاء هذه العروض. فلماذا تُقدم المصارف على هذه الخطوات؟
في الواقع، هناك سبب رئيسي، وبعض الأسباب الجانبية. لكن تجدر الملاحظة انّ هذه الاجراءات ليست مُعمّمة وموحّدة بين المصارف. بمعنى، أنّ كل مصرف يختار الاجراءات التي تناسبه ليعرضها على المودعين. لكن ذلك لا يمنع انّ المودع قد يستفيد من هذه الاجراءات، لأنّ الوضعية الخاصة للمصارف في هذه المرحلة قد تسمح بذلك، ما دام هناك تقاطع في المصالح بين الطرفين.
الهدف الرئيسي للمصارف من الاجراءات الاستثنائية، يكمن في تحسين وتحصين الوضعية الداخلية للمصارف، سواء لجهة تخفيف حجم الديون، أو لجهة خفض كلفة الودائع، (إستبدال ودائع الليرة بالدولار)، أو لجهة زيادة ايرادات الفوائد على الودائع (إستبدال قروض الدولار بقروض بالليرة)، او لجهة خفض الكلفة التشغيلية للمصرف (تصغير حجم الجهاز البشري من خلال التقاعد المبكر).
هذه الخطوات من شأنها أن تحصّن المصرف، وأن تجعل دفاتره المحاسبية في وضعية أفضل، حين يبدأ تقييم كل مصرف على حدة، لتقرير مصيره، سواء بتكبير الرأسمال، أو التعويم أو الدمج مع مصرف آخر.
تجدر الاشارة الى انّ كتلة الودائع بالليرة لا يُستهان بها، وهي توازي حوالى 30 مليار دولار، بما يعني انّ المصارف تدفع سنوياً ما يقارب الملياري دولار فوائد على هذه الودائع، في حين انّ استبدالها بودائع دولارية، على سعر الفائدة المتدنية، قد يخفّض الكلفة بحوالى مليار ونصف مليار دولار سنوياً.
بالاضافة الى ذلك، يساهم تحويل هذه الودائع بالليرة الى الدولار، وتجميدها لسنوات، في تخفيف الضغط على سوق الصرف الموازية، بحيث تتراجع نسبة المودعين الذين يقومون بسحب اموالهم بالليرة شهرياً، لشراء الدولارات من السوق وتخزينها. كما أنّ من يمتلك وديعة كبيرة بالليرة قد يستفيد من الظرف لتحويلها الى الدولار بالسعر الرسمي فيكون قد عوّض خسارة قيمتها الاصلية قبل ارتفاع الدولار. كما أنّ تحويل الودائع الكبيرة الى الدولار، قد يدفع البعض الى بيع كميات ولو صغيرة من الدولارات لتأمين حاجاته، بما يعني عرض المزيد من الدولارات في السوق الموازية، بما يخفّف قليلاً الضغط على الليرة.
من خلال هذه الوقائع يمكن الاستنتاج انّ المصارف التي تتحرّك اليوم من منطلق ضمان البقاء كأولوية، تمنح بعض المودعين فرصة لتعويض خسائرهم، او لتحقيق مكاسب غير متوقعة. وبذلك، يخرج طرفا المعادلة رابحين، من حيث المبدأ، واذا لم يطرأ ما ليس في الحسبان.
انطوان فرح.