ما زال وباء «كورونا» يلقي بظلاله على الأسواق العالمية، ولكن هذه المرة على الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، تلك القطع التي لا يمكن الاستغناء عنها في صناعات كثيرة وجوهرية مثل السيارات والهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية؛ ابتداء من محمّصات الخبز حتى غسالات الملابس. وتعاني هذه الصناعات من النقص الحالي في كميات الشرائح الإلكترونية، مما أربك عملياتها الصناعية وأثر حتى على توقعات أرباحها.
وتأثر عرض الرقائق الإلكترونية بثلاثة أسباب: أولها اختلال ميزان الطلب أثناء وباء «كورونا»، حيث توقفت مصانع السيارات عن العمل أثناء وباء «كورونا»، بينما نشطت الصناعات التقنية، مثل الأجهزة الذكية والكومبيوترات وأجهزة الألعاب بسبب زيادة الطلب عليها أثناء إجراءات الحجر الاحترازية. إلا إن الطلب عاد مرة أخرى لمصانع السيارات وبشكل أسرع من المتوقع، وهو ما لم تأخذه مصانع الرقائق الإلكترونية في الحسبان. وسبق لشركة «سامسونغ»؛ وهي من كبرى 3 شركات في تصنيع الرقائق الإلكترونية، التحذير من هذا النقص قبل نحو شهرين. كما أن هذه الصناعة تأثرت وبشكل كبير بالعقوبات الأميركية على الشركات الصينية، والتي أثرت على سلاسل الإمداد للرقائق الإلكترونية؛ مما أضعف قدراتها الإنتاجية. أما السبب الثالث فهو احتكار هذه الصناعة ضمن عدد قليل من المصانع، حيث تشكل شركات «سامسونغ» الكورية، و«إنتل» الأميركية، و«تي إس إم سي» التايوانية، النصيب الأكبر من هذه الصناعة، وعندما تأثرت هذه الشركات الثلاث تأثرت سوق الرقائق الإلكترونية بالكامل، ويتضح تأثير هذه الشركات الثلاث من معرفة أن 80 في المائة من مصانع السيارات تستورد الرقائق الإلكترونية من الشركة التايوانية «تي إس إم سي».
يذكر أن السيارة الواحدة في المتوسط تحتوي على ما بين 50 و150 من هذه الرقائق.
وبناء على هذا النقص الحاصل، فقد تتأثر مبيعات وأرباح كثير من الشركات في هذا العام، فعلى سبيل المثال، تشير التوقعات إلى أن إنتاج «فورد» للسيارات سوف يقل بنحو 1.1 مليون سيارة، مما قد يعني انخفاض أرباح الشركة بنحو 2.5 مليار دولار. كما أن مصنع «بي إم دبليو» للسيارات في بريطانيا توقف عن العمل لمدة 3 أيام بسبب هذا النقص. أما شركة «فولكس فاغن» الألمانية؛ فقد أعلنت أنها قد توقف بعض خطوط الإنتاج في المكسيك الشهر المقبل. وفي الهواتف الذكية، يُتوقع أن تنخفض مبيعات شركة «أبل» في الربع الثاني من 3 إلى 4 مليارات دولار بسبب تأثر الإنتاج في الأجهزة اللوحية والكومبيوترات.
أما بالنسبة للأفراد، فقد يكون هذا التأثر على نوعين: النوع الأول هم المستهلكون، الذين قد ترتفع عليهم تكلفة السيارات والأجهزة بسبب ارتفاع تكلفة الرقائق الإلكترونية، وبسبب نقص الإنتاج والعرض في السوق، ويتوقع أن تزيد أسعار بعض السيارات في هذه السنة مقارنة بالعام الماضي بنسبة 8.4 في المائة، وفي المتوسط قد تزيد أسعار السيارات والأجهزة بنسبة 5 في المائة. والنوع الثاني هم المستثمرون، فانخفاض الأرباح قد يؤثر بشكل واضح على أسعار الأسهم، لا سيما أن الأسواق العالمية شهدت ارتفاعاً عاماً خلال الأشهر القليلة الماضية بدعم من التفاؤل بتجاوز الوباء.
ويبدو الأمر المهم الآن هو كيفية إيجاد حل لهذا النقص في الأسواق، فالرقائق الإلكترونية ليست باهظة الثمن، وليست معقدة التصنيع، إلا إنه لا يمكن الاستغناء عنها في كثير من الصناعات، ومع ذلك؛ فإن استثمار الشركات فيها لا يتناسب مع العرض الحالي في الأسواق، ولذلك فقد أعلنت شركة «إنتل» أنها مستعدة لاستثمار ملياري دولار لبناء مصانع للرقائق الإلكترونية في الولايات المتحدة، مستندة إلى قرار الحكومة الأميركية الذي يدعم هذه الصناعات من ناحية حوافز البحث والتطوير وكذلك الحوافز الصناعية. كما أعلنت كذلك شركة «تي إس إم سي» أنها سوف تستثمر أكثر من 100 مليار دولار خلال الأعوام الثلاثة المقبلة في تطوير مصانعها وزيادة إنتاجيتها.
لقد كشّف الوباء جوانب قصور كثيرة في الأنظمة العالمية، وبعد أن اتضحت جوانب القصور في القطاعات الصحية، تتضح الآن آثار الوباء على سلاسل الإمداد العالمية، والتي لطالما حذر الخبراء منها، فمصنع السيارات في الولايات المتحدة يعتمد على رقائق إلكترونية من كوريا وتايلاند، وحينما اختل ميزان العرض والطلب لمدة قصيرة، اختلت معه الأسواق لفترة قد لا تكون قصيرة، وقد تمتد حتى ما بعد هذا العام إلى العام المقبل. وهو يوضح أن العالم، رغم تقدمه، ما زال ضعيفاً في كثير من جوانبه، والدليل أن صناعة جوهرية واستراتيجية مثل الرقائق الإلكترونية، تعتمد بشكل أساسي على 3 شركات فقط!