هل يُدرك رئيس المركزي اللبناني حجم الورطة التي تنتظرهُ؟

 

ثلاثة أيام تفصلنا عن بدء عمل المنصة الالكترونية لمصرف لبنان، فيما دولار السوق السوداء يعاند ويستمر ثابتاً على مقربة من عتبة الـ13 الف ليرة للدولار. ماذا يعني ذلك؟ هل سيتغيّر الوضع يوم الخميس، وهو الموعد المحدّد لبدء التداول عبر المنصة؟ وما هي احتمالات النجاح والفشل في هذا الإجراء الجديد؟

لم يتمّ الإعلان عن إطلاق المنصة الالكترونية لمصرف لبنان قبل نحو شهرين، في اجواء عادية، بل تحت الضغط، وفي مناخٍ متشنّج. يومها، كان رياض سلامة يخضع للمساءلة من قِبل السلطة السياسية حول الاسباب التي أدّت الى تحليق دولار السوق السوداء ووصوله الى 15 الف ليرة. وكانت السلطة السياسية، تشير الى ارتفاع الدولار وكأنّه مؤامرة محبوكة في الغرف السوداء لأهداف سياسية.

في هذه الاجواء، جرى الاعلان عن المنصّة المركزية، وتمّ الترويج لها على أنّها علاج ناجع لمسألة استمرار ارتفاع الدولار، كما تمّ الترويج لسعر ثابت للدولار في حدود الـ10 آلاف ليرة. كل هذا الكلام لم يكن في موقعه الصحيح، وحتى من يطلقه كان يعرف ذلك، لكن الهدف كان محاولة اشاعة مناخ ايجابي يؤمل منه أن ينعكس فعلياً على سعر الدولار في السوق السوداء.

انطلاقاً من هذا الواقع، ما هي التوقعات المستقبلية لعمل المنصّة، ولتطور سعر صرف الليرة؟

لا بدّ من التوضيح انّ مبدأ وجود منصة مركزية للتداول الحر أمرٌ مطلوب لجسّ نبض السوق، ومعرفة السعر التقريبي الحقيقي للعملة الوطنية. هذا المبدأ يمكن اعتماده ضمن أي خطة اقتصادية انقاذية بهدف توحيد سعر الصرف، ومن ثم اتخاذ قرار بالسعر المرجعي الذي سيجري اعتماده لليرة، بحيث يكون سعراً واقعياً يعكس العرض والطلب والمخزون الاحتياطي، بالإضافة الى اداء الاقتصاد القائم والمتوقع على المدى القصير. ومن خلال تجارب الدول التي مرّت بأزمات مالية وانهيارات وافلاسات، ومن ثم باشرت تنفيذ خطط انقاذ، يتبين انّ سعر العملة في السوق السوداء يعكس الى حدّ ما المستوى الحقيقي للسعر الذي ينبغي اعتماده في مرحلة الخروج من الأزمة. لكن هذا الامر غير مُتاح بالنسبة الى الوضع اللبناني انطلاقاً من نقطتين:

اولاً- استمرار سياسة دعم السلع المستوردة من قِبل المركزي، بما يعني انّ السوق السوداء لا تعكس الحجم الحقيقي للعرض والطلب.

ثانياً- احتمال وجود مضاربات وألاعيب تداولية تهدف إما لتحقيق ارباح سريعة، وإما للضغط السياسي.

من هنا، يمكن الاستنتاج انّ المنصة المركزية ستكون قادرة على مراقبة السوق لمنع المضاربات المشبوهة أو فضحها، لكنها لن تكون قادرة على تحديد السعر الحقيقي لليرة منذ الآن، من اجل اعتماده عندما يبدأ تنفيذ خطة الإنقاذ، هذا اذا بدأت يوماً ما.

الشفافية التي يفترض ان تؤمّنها المنصّة لا يمكن أن تتحقّق إلّا بشرط وحيد، ينصّ على نجاح المنصّة في الغاء السوق السوداء والحلول مكانها. ولكي نصل الى هذه المرحلة ينبغي ان تعمل المنصة على غرار آلية السوق السوداء، أي انّ تشتري وتبيع الدولار. وحتى الآن، عُرف كيف ستبيع الدولارات الى المستوردين، وبأي سعر، ومن أين ستأتي المصارف بالدفعة الاولى من هذه الدولارات، لكن لم يُعرف بعد كيف سيحصل الافراد على الدولارات، وأين سيبيعون دولاراتهم. المنطق، انّ كل هذه العمليات ستتمّ في المصارف ولدى الصرافين الشرعيين، وإلّا فإنّ السوق السوداء ستستمر وستقضي مع الوقت على المنصة، وعلى قسم من دولارات المركزي.

في كل الاحوال، واذا سلّمنا جدلاً بأنّ المنصة ستنجح في الاقلاع وفق آلية عمل السوق السوداء، وانّها ستنجح مع الوقت في الغاء السوق السوداء، وتصبح هي بمثابة السوق الحرة لتبادل العملات، فهل سيكون الوضع أفضل، لجهة سعر الصرف؟

في الواقع، تنطلق المنصّة بالتزامن مع ارتفاع منسوب التشاؤم على المستوى السياسي، بحيث اصبح هناك قناعة بأنّ العهد قد ينتهي بلا حكومة. كذلك، تشير ملامح النقاشات الى انّ هدر الدولارات بالدعم 09العشوائي سيستمر بصرف النظر عن سقف الاحتياطي الالزامي، وبالتالي ستستمر مسيرة الإنحدار بسرعة اكبر. وهذا يعني حصول ضغط اضافي على الليرة، بما يضع مصرف لبنان وحاكمه امام خيارات كلها صعبة، على اعتبار انّه سيصبح مسؤولاً الى حدٍّ ما عن السوق الحرة وتقلّباتها، في حين انّه كان يتنصّل من أي مسؤولية في السوق السوداء.

إذا فلت سعر الدولار بسبب اشتداد الضغط سيكون مصرف لبنان امام الاحتمالات التالية:

1- ترك السوق يفرض السعر المناسب، وهذا يعني احتمال تحليق الدولار، وإشاعة القلق والرعب والبلبلة في البلد.

2 – التدخّل في السوق لبيع الدولار، وهذا يعني تسريع استنفاذ ما تبقّى من دولارات، وتأجيل الكارثة بضعة أشهر، وتقليل فرص النجاة لاحقاً.

3 – وقف بيع الدولار عبر المنصّة والسماح مجدداً بعودة السوق السوداء.

كل الخيارات ستكون صعبة وقاسية، والأرجح انّ سلامة سيتعرّض لضغوطات سياسية من العيار الثقيل لإلزامه بالتدخّل، خصوصاً انّه سيصبح مسؤولاً الى حدٍ ما عن السوق، بسبب إشراف المركزي على منصة التداول، وسينتقل البلد بسرعة من تحت الدلفة الى تحت المزراب… كل الطرق المرسومة حتى الآن توصل الى جهنم.

انطوان فرح

مستجدات دور الدولة وضرائبها وعملتها.. الفوائد . التضخم..

استوجبت الأزمات الصحية والاقتصادية والمالية المتزامنة تدخلاً غير مسبوق للدولة. اتخذ هذا التدخل حزماً من الإنفاق للعام لمواجهة هذه الأزمات والتعافي منها. وفي حين يتصف إنفاق المواجهة طبيعة مؤقتة تنتهي بنهاية الأزمة الصحية بالسيطرة على انتشار الوباء، إلا أن التعافي يتطلب استثماراً عاماً مستثمراً لتنشيط الأسواق وحفز القطاع الخاص. كما تمتد استثمارات التعافي لمساندة قطاعات التعليم والرعاية الصحية، وتطوير البنية الأساسية والتكنولوجية على النحو الذي نراه الآن في الولايات المتحدة التي أنفقت 1.9 تريليون دولار وهي بصدد إنفاق 3 تريليونات أخرى في هذه المجالات بما يتجاوز 20 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي في عام واحد. ويتجاوز الإنفاق في دول الاتحاد الأوروبي متوسط 10 في المائة من ناتجها وكذلك تفعل باقي الدول ذات القدرة الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
استعانت هذه الدول في إنفاقها المالي بإمكانية تعبئتها لتمويل منخفض التكلفة بدعم من سياسات نقدية لبنوكها المركزية وجودة في تصنيفها الائتماني تجعل الأسواق المالية تمنحها ما تحتاج بتكاليف زهيدة. أما الدول النامية فلا تملك ترفاً مالياً أو سخاءً نقدياً فتجدها مقيدة في إنفاقها. وهي إن تجاوزت حدودها هددها التضخم المحلي ولوحت لها مؤسسة التصنيف الائتماني بعواقب الأمور وما يترتب عليها من تكاليف وأعباء في التمويل الخارجي. وبعد سنوات من التقارب الاقتصادي بين الدول المتقدمة والدول النامية تجد إشارات واضحة للتباين والتفاوت لصالح الدول الأغنى التي ستشهد تعافياً أسرع من الجائحة ونمواً اقتصادياً أعلى دون أن تتعرض لأزمة مديونية؛ كتلك التي تحدق بأشباحها وتداعياتها على الدول النامية، خاصةً بعدما تسارعت معدلات نمو تراكم مديونياتها من قبل صدمة الجائحة فيما عرف بالموجة الرابعة للديون.
ستترك الأزمات الراهنة صناع القرار أمام تساؤلات هامة:
– ما هو شكل التعافي؟ فمن الأرجح أن يأخذ التعافي شكل حرف K، بما يعكس التفاوت بين الدول والقطاعات في معدلات نموها وبما يكرس عدم العدالة وينذر بتوترات اجتماعية وسياسية تهدد الاستقرار الاقتصادي.
– ما هو مستقبل العمل؟ لقد كان الحديث قبل الجائحة مشغولاً بآثار الثورة الصناعية الرابعة والرقمنة ومستحدثات تكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها على البطالة. وقد أثرت إجراءات الإغلاق الكلي والجزئي للنشاط الاقتصادي لتحجيم الوباء على سوق العمل فأضافت ما يربو على 250 مليون متعطل في السوق الرسمية وأضعاف هذا الرقم في السوق غير الرسمية. وهنا يأتي دور الاستثمارات العامة للدولة في تحفيز النشاط الاقتصادي وكذلك دور سياسات الدولة في ضبط قواعد إعادة فتح المشروعات والقطاعات الاقتصادية للعمل، ومدى تفعيل نماذج التشغيل الهجين بالتفاعل الكفء بين نظم العمل التقليدية ومن خلال الوسائل الافتراضية وعبر شبكات الإنترنت.
– ما هي احتمالات عودة التضخم؟ فبعد عقدين من السيطرة على التضخم، هناك جدل محتدم حول الآثار التضخمية لحزم الإنفاق العام خاصةً في الولايات المتحدة، التي بلغ متوسط معدل التضخم فيها 1.2 في المائة في العام الماضي 2020، ولكن هذا المعدل في شهر مارس الماضي قد بلغ 2.6 في المائة. وهناك رأي يقوده لاري سمرز وزير الخزانة الأميركية الأسبق بأن حزم الإنفاق العام الأخيرة تتجاوز حجم المطلوب لتجسير الفجوات التي سببتها الجائحة وأن هذا الإنفاق سيكون تضخمياً. في حين يترقب بنك الاحتياطي الفيدرالي آثار هذا الإنفاق مفرقاً بين ما يمكن أن يكون تضخماً مؤقتاً انتقالياً أو ذا طبيعة متواصلة تستوجب التدخل. وإن كان الأمر يتطلب في كل الأحوال عدم إغفال عامل التوقعات التي تشكل سلوك المستهلكين والمدخرين والمستثمرين خاصةً في ظروف اللايقين التي تسود الأسواق.
– ما هي مسارات سعر الفائدة؟ رغم التراجع النسبي للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي فما زال الدولار يهيمن على أسواق الصرف ويشكل أكثر من 60 في المائة من احتياطي البنوك المركزية و85 في المائة من التداول في سوق العملات الدولية. ومن ثم فإن تغيرات أسعار الفائدة على الدولار ستستمر في تأثيراتها المعتادة على أسعار الفائدة للعملات الرئيسية وكذلك أسعار الصرف والتدفقات المالية خاصةً قصيرة الأجل.
وفي ظل تزايد دور الدولة يلزم حسن توجيه إنفاقها العام، فكلما كان هذا الإنفاق في «مهمة موجهة» وفقاً للاقتصادية الإيطالية – الأميركية ماريانا مازوكاتو أصبح الأثر تكافلياً ومسانداً لنمو اقتصادي أكثر شمولاً وأعلى في قيمته المضافة طويلة المدى. وقد يكون هذا الإنفاق مكثفاً للبحث والتطوير في مجالات الأبحاث الطبية والتكنولوجية أو في جهود السيطرة على الانبعاثات الضارة بالمناخ. أما إذا كان الإنفاق العام مزاحماً للقطاع الخاص مقيداً لحركة السوق مشوهاً للمنافسة فسيتجاوز ضرره نفعه، ولو بعد حين.
ويتطلب توسع الدولة في إنفاقها العام مراجعة لهيكل إيراداتها خاصةً من الضرائب. فنجد، على سبيل المثال، الإدارة الأميركية الجديدة وهي تتوسع في الإنفاق العام تراجع معدلات الضرائب على أرباح الشركات فتزيدها من 21 في المائة إلى 28 في المائة، وتتخذ إجراءات لتفعيل تحصيل الضرائب، وتقترح حداً أدنى للضرائب على الشركات دولية النشاط لا يقل عن 21 في المائة عبر الحدود بما يستلزمه ذلك من اتفاقات وتنسيق دولي، كما تنظر في تغييرات في الضرائب على الأرباح الرأسمالية، بما قد يحقق في مجمله زيادة في الإيرادات الضريبية تغطي جانباً من الإنفاق المستجد وتسهم في إعادة توزيع الدخول.
من ناحية أخرى تجد تغييراً مهماً في شكل العملات لن تستقيم إدارة السياسة الاقتصادية إلا بإدراك تبعاتها على الاقتصاد والاستقرار النقدي. فقد تنامى الإقبال على الأصول المشفرة وفقاً لخوارزميات مركبة مثل البيتكوين، ولكن لا يمكن اعتبارها من العملات بحال فهي شديدة التقلب لا يمكن الاعتماد عليها كمخزن للقيمة أو وسيط مقبول ذي قوة إبراء واسع النطاق. ولكنها أتت حاملة مزايا تفهم تطور المجتمعات والتقدم في تطبيقات الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات. كما أنها تستفيد من خصائص اللامركزية بين أطراف المعاملات دون وسيط أو تكلفة معاملات، بتأمين نظام «سلسلة الكتل» وقاعدة بياناته الموزعة دون تحكم من مركز واحد. وقد حاولت ابتكارات من نوع العملات المستقرة التي تستخدم تكنولوجيا الأصول المشفرة ولكنها تحاول الحفاظ على استقرارها وتحجيم تقلباتها بربطها بأصول حقيقية ذات قيمة مادية مثل النفط والذهب أو عملات دولية مثل الدولار واليورو، ومن أمثلة هذه العملات المستقرة «ليبرا» التي طورتها شركة فيسبوك مع شركاء لها وواجهت صعوبة في الحصول على الموافقات اللازمة وما زالت تحاول الحصول على الموافقات المطلوبة من خلال الشكل المعدل لها المعروف بوحدة «دايم» استناداً إلى قوة منصتها التي تضم 2.5 مليار مشترك حول العالم بدعوى تعزيز الشمول المالي. ويستلزم تفعيل العملات المستقرة موافقة صريحة من البنوك المركزية التي سترتبط بها هذه العملات وهو ما زال يواجه صعوبات.
المجال الأكثر احتمالاً للتطور هو «العملات الرقمية للبنوك المركزية»، ومن خلالها ستكون للبنوك المركزية صيغة إلكترونية لعملاتها التي يمكن أن يستخدمها عموم الناس مباشرة دون وسيط مصرفي لإجراء المدفوعات وتسوية المعاملات من خلال محفظة أو تطبيق إلكتروني وبهذا تكون قد استفادت البنوك المركزية من المستجدات التكنولوجية التي تتميز بها الأصول المشفرة والعملات المستقرة مع قوة الإبراء والسند السيادي الذي تتمتع به البنوك المركزية. فلم تكن البنوك المركزية لتفرط في احتكار ريع الإصدار النقدي لعملتها، أو تزيد من تعقيدات إدارتها للسياسة النقدية، ولكن الإجراءات القانونية والتطوير المؤسسي اللازم لتفعيل العملات الرقمية للبنوك المركزية يستغرق زمناً قدره البنك المركزي السويدي، المتقدم في هذا المجال، بخمس سنوات، هذا وإن قامت بالفعل البهاما بإصدارها الأول تحت مسمى «ساند دولار» ولكنه لاقتصاد صغير الحجم والتأثير. ووفقاً لمسح قام به بنك التسويات الدولية فهناك 60 في المائة من البنوك المركزية بصدد إصدار عملاتها الرقمية و14 في المائة منها في مرحلة الاختبارات التجريبية ويترقب المتعاملون ما قد يسفر عن إحراز اليوان الصيني سبقاً في هذا المضمار؛ وعندئذ ستتغير قواعد اللعبة في السوق النقدية الدولية وليس فقط في أدوار اللاعبين الرئيسيين.

د. محمود محي الدين