تضخّم عالمي 11%: ما مدى تأثيره على لبنان؟

من المعلوم أنّ الاقتصاد اللبناني يئنّ اليوم تحت وطأة معدّلات التضخّم الملتهبة، نتيجة تدهور سعر الصرف. وهي ظاهرة ستتفاقم قريباً إذا دخل لبنان في مرحلة رفع الدعم من دون وجود سيولة تسمح لمصرف لبنان بالتدخّل في سوق القطع لضبط سعر صرف الليرة. ومن المعروف أيضاً أنّ جانباً أساسيّاً من الضغط على السيولة المتوافرة في الأسواق بالدولار يعود إلى حاجة البلاد إلى العملة الصعبة للاستيراد.

لكنّ وتيرة استنزاف العملة الصعبة للاستيراد ومستوى التضخّم سيتأثّران أيضاً بمتغيّرات عالميّة ستزيد من سوداويّة المشهد، خصوصاً لجهة معدّلات التضخّم العالميّة التي بدأت بالارتفاع أخيراً.

تشهد جميع السلع الأساسيّة منذ أشهر ارتفاعاً حادّاً في أسعارها على المستوى الدولي، نتيجة دخول معظم الاقتصادات العالميّة في مسارات التعافي بعد فتح أسواقها تدريجياً، وزيادة الطلب على هذه السلع. وسيؤدّي ارتفاع الأسعار في الخارج، تلقائياً، إلى ارتفاع كلفتها بالنسبة إلى لبنان، الذي يعتمد على الاستيراد لتوفير الغالبيّة الساحقة من احتياجاته، وهذا سيؤدّي بدوره إلى ارتفاع مستوى الطلب على الدولار المطلوب لاستيراد هذه السلع، وإلى زيادة الضغط على سعر صرف الليرة. وفي الوقت نفسه، سيكون ارتفاع الأسعار في الخارج سبباً لارتفاع أسعار السلع نفسها محليّاً، زائداً من معدلات التضخّم المرتفعة أساساً. باختصار، من المفترض أن يكون تعافي الاقتصادات العالميّة خبراً سارّاً لشعوب العالم، التي عانت من آثار وباء كورونا وقرارات الإقفال الشامل في أسواق العالم، لكنّ ذلك لن ينطبق على لبنان الذي ستزيد معاناته في ظل هذه التطوّرات.

وتيرة استنزاف العملة الصعبة للاستيراد ومستوى التضخّم سيتأثّران أيضاً بمتغيّرات عالميّة ستزيد من سوداويّة المشهد، خصوصاً لجهة معدّلات التضخّم العالميّة التي بدأت بالارتفاع أخيراً

وفقاً لأرقام البنك الدولي، ارتفع مؤشّر أسعار المنتجات والمشتقّات الزراعيّة من نحو 97.65 نقطة في بداية أيار من العام الماضي، إلى نحو 123.69 نقطة في بداية شهر آذار من هذا العام. فتكون أسعار هذه المواد على المستوى الدولي قد ارتفعت بنحو 27% خلال فترة 11 شهراً فقط. وتضمّ سلّة المنتجات المشمولة بهذا المؤشّر القمحَ، الذي يُموَّل استيراده حتّى اللحظة من احتياطات مصرف لبنان، والذي ارتفعت أسعاره بنحو 53% بين بداية شهر أيلول من العام الماضي وبداية الشهر الحالي، أي خلال 8 أشهر فقط. وارتفاع أسعار المشتقّات الزراعيّة يرفع أيضاً كل أسعار المصنوعات الغذائيّة، التي تدخل كلفة المشتقّات الزراعيّة في كلفتها، كالمعلّبات والسكاكر والزيت مثلاً.

ارتفع المؤشّر الخاص بالحديد والمعادن، بشكل سريع، من 83.66 نقطة في شهر نيسان من العام الماضي، إلى 140.66 نقطة في بداية آذار من هذا العام، زائداً أكثر من 67% خلال فترة 11 شهراً فقط. بالنسبة إلى لبنان، سيستفيد الاقتصاد المحلّي من هذه التغيّرات من خلال زيادة أسعار خردة الحديد والنحاس التي تصدّرها البلاد، والتي تجاوزت قيمتها 147 مليون دولار خلال العام الماضي، خصوصاً أنّ تصدير الخردة وتجارتها يشهدان منذ بدء الأزمة ازدهاراً غير مسبوق. لكن سيؤدّي، في المقابل، ارتفاع أسعار المعادن والحديد إلى قفزة كبيرة في فاتورة استيراد جميع البضائع التي تدخل هذه الموادّ في كلفتها، بما فيها المعدات والماكينات وحديد البناء وغيرها.

وفقاً لأرقام البنك الدولي، ارتفع مؤشّر أسعار المنتجات والمشتقّات الزراعيّة من نحو 97.65 نقطة في بداية أيار من العام الماضي، إلى نحو 123.69 نقطة في بداية شهر آذار من هذا العام

أمّا القفزة الكبرى في الأسعار فشهدتها مصادر الطاقة بمختلف أشكالها، وخصوصاً النفط والغاز. فمؤشّر الطاقة ارتفع بين بداية نيسان من العام الماضي وبداية آذار من هذا العام من 38.66 نقطة إلى 105.33 نقطة، متضاعفاً خلال 11 سنة بنحو 2.72 مرّة. أمّا حساسيّة هذا المؤشّر بالنسبة إلى لبنان في هذه المرحلة بالذات، فهو ارتباطه بارتفاع حجم السيولة المطلوبة لاستيراد المحروقات. وهي سيولة ستكون السوق الموازية مصدَرَها، بعد الوصول إلى مرحلة رفع الدعم عن استيراد المحروقات، لكنّ هذا سيترك أثراً على سعر صرف الليرة.

مع ارتفاع أسعار المعادن والموادّ الغذائيّة والمحروقات، ستكون النتيجة ارتفاعاً موازياً في أسعار جميع السلع الأخرى، خصوصاً أنّ هذه الموادّ الأساسيّة الثلاث تدخل في كلفة إنتاج جميع أنواع المصنوعات الأخرى بمختلف أنواعها، وخصوصاً المحروقات. ولهذا السبب، تتوقّع وكالةFocusEconomics  أن يشهد الاقتصاد العالمي ارتفاعاً عامّاً في أسعار السوق بنسبة تتجاوز 11% قبل نهاية العام، مسجّلاً بذلك معدّل تضخّم عالميّاً كبيراً قياساً إلى السنوات السابقة. وتتوقّع أرقام الوكالة استمرار نمط الارتفاع نفسه في الأسعار عالميّاً، نتيجة استمرار الارتفاع في الطلب العالمي على السلع والخدمات بعد فتح الأسواق، ومحدوديّة الإنتاج العالمي الذي لم يواكب بعد هذا الارتفاع.

أمّا الدولة اللبنانيّة، وتحديداً حكومة تصريف الأعمال، فتبدو غائبة كلّيّاً عن كل هذه التوقّعات والتطوّرات المقلقة، لا بل بدا واضحاً ابتعادُ الحكومة عن متابعة هذه الأحداث من خلال خطّتها للبطاقة التمويليّة، التي بنت تقديراتها للحاجات التمويليّة على أسعار العام الماضي، والتي تدلّ على عدم معرفة المستشارين بما جرى من تطوّرات أخيراً في أسعار السلع عالميّاً.

علي نور الدين