لم تترك أزمة «كورونا» مؤشراً رئيسياً من مؤشرات الحياة والتنمية المستدامة إلا وعصفت به، فقد أُصيب بالوباء ما يزيد على 163 مليون إنسان، توفي منهم نحو 3.4 مليون. وتؤكد مجلة «الإكونوميست» البريطانية، وفقاً لنموذج إحصائي طورته باستخدام 121 مؤشراً لتغطية فجوات الأرقام غير المتاحة، أن حقيقة أرقام الوفيات تتجاوز ثلاثة أمثال هذا الرقم عالمياً، بما جعلها تضع هذا الرقم ليكون عنوان غلاف عددها الأخير بأن هناك 10 ملايين سبب لتلقيح سكان العالم.
وفي عالم تفقد فيه الأرقام معناها يصعب اتخاذ قرار لحماية عموم الناس وتتغلب الخرافة والشائعات على العلم والحقائق. وقطعاً للشك بيقين المشاهدة لأثر اللقاح، فما من سبيل إلا التوسع العاجل في إتاحة اللقاح.
وقد ضاع من العالم ستة أشهر حاسمة في جدل ومهاترات حول مدى ضرورة إعفاء اللقاح من قيود حقوق الملكية الفكرية التي تقدمت الهند وجنوب أفريقيا، مدعومتين بعشرات من الدول النامية، بطلب في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لمنظمة التجارة العالمية لإعفاء مؤقت منها، وهو ما رفضته دول متقدمة قادتها الإدارة الأميركية السابقة. وقد تطلب تفهم هذا الطلب البديهي تغيراً في الرئاسة الأميركية وسقوطاً لعشرات الملايين من البشر بين قتيل بالفيروس ومريض به، حتى يتم الإعلان عن عدم الممانعة في منح الإعفاء المؤقت وفقاً لضوابط تسمح بإنتاج اللقاح وإتاحته في الدول النامية.
وفي حين ستصل دول متقدمة عدة للمناعة المطلوبة من الوباء بنسبة 70 في المائة من مواطنيها الملقحين في خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، فإن الدول النامية بمنأى عن تحقيق هذه النسبة قبل سنوات ممتدة، إذا ما استمرت وتيرة إتاحة اللقاحات على ما هي عليه من معدلات شديدة الانخفاض، مع تخوف بأن عملية التصويت على الإعفاء في منظمة التجارة العالمية قد لا يتم قبل شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل. ولا بد من فتح سريع لهذه الأبواب التي أغلقتها نوازع الاحتكار وتعقد الإجراءات في البيروقراطيات الدولية والتذرع بحجج واهية عن نقص القدرات التكنولوجية في الدول النامية والحاجة إلى اتفاقيات ضامنة لنقل المعارف وطرق الإنتاج. وإلى أن يتحقق تطور في هذا المسار، ينبغي التدعيم الفوري لآلية الكوفاكس التي تشرف عليها منظمة الصحة العالمية بتوفير التمويل اللازم لتغطية عجز مواردها المانع من فاعليتها، ولا يقل أهمية عن المال القيام بإعادة توزيع فوري لفوائض اللقاحات التي تتجاوز في بعض البلدان المتقدمة 10 أمثال احتياجاتها الفعلية لمواطنيها.
إن هذه الإجراءات العاجلة لا تأتي تحت باب محبة الخير للغير فحسب، لمن يقدّر فضائلها الإنسانية، ولكنها تأتي أيضاً وفقاً لأولويات تحقيق المصلحة الشخصية وحماية النفس. فإذا تُرك الفيروس يستشري عاتياً في الدول الأفقر والأقل تقدماً يحذر العلماء وخبراء منظمة الصحة العالمية من زيادة في تحوره، بما يهدد المناعة المكتسبة من اللقاح المتعارف عليه. كما أن ارتباط اقتصادات الدول المتقدمة من خلال سلاسل الإمداد العالمية يحتم عليها ألا تتسبب في حجب اللقاح عن مصادر خاماتها وغذائها واحتياجاتها من السلع الأولية، والمصنعة وأسواق بيع منتجاتها بما يترتب على ذلك من عرقلة تعافيها الاقتصادي الذي تتطلع إليه، ويهدد نموها واستثماراتها وفرص العمل فيها، ويرفع أسعار المنتجات ومكوناتها بما يزيد من احتمالات التضخم.
فضلاً عما سبق، فلقد ضيعت أزمة «كورونا» في أقل من سنة واحدة ما تم إنجازه في أعوام. ألم تزد أرقام من يعانون من الفقر المدقع لأول مرة منذ عام 1998 بما يتجاوز 120 مليوناً؟ ألم ترتفع نسب التلاميذ الذين يعانون من فقر التعلم بمقدار 10 في المائة في خلال عام دراسي واحد؟ ألم تتضاعف فيه أرقام من يعانون من الجوع لتصل إلى 265 مليون إنسان؟ ألم تتفاقم بسببها البطالة ليعاني منها 255 مليون عامل فقدوا أسباب الرزق في سوق العمل الرسمية وأضعاف هذا العدد في القطاع غير الرسمي في الدول النامية؟ بهذا كثرت انسدادات قنوات الاقتصاد ونضبت بعض مصادره حتى انكمش، مُعانياً من ركود غير مسبوق منذ الكساد العظيم في القرن الماضي.
لن يتحرك الاقتصاد تلقائياً ليستمر في تحقيق معدل النمو المقدر عالمياً هذا العام ليصل إلى 6 في المائة، رغم تفاوت معروف بين الدول في تحقيقه؛ إذ تلزمه مفاتيح فاعلة لمحركاته ومغالق محكمة لمعوقاته، نلخصها فيما يأتي:
1 – منع تحول زيادة تراكم الديون السيادية وقروض الشركات والقطاع العائلي إلى أزمة عالمية، من خلال منح إعفاءات لديون الدول المتعثرة وإعادة هيكلتها ووضع بناء عالمي متوازن، لمعالجة مشكلات المديونية وإدارتها في إطار أسس تمويل التنمية المستدامة.
2 – التصدي للقيود المانعة من حرية التجارة والاستثمار، ومنع اتباع الإجراءات الحمائية غير المبررة التي أدخلت العالم في حروب تجارية قبل أزمة «كورونا» مع الاستعداد عملياً لانتقال مركز ثقل الجاذبية الاقتصادية شرقاً.
3 – التوافق المبكر مع متطلبات التحول الرقمي وتأثيراته على قطاعات الإنتاج والعمل والتعليم والصحة، فضلاً عن مستحدثاته المرتقبة في شكل عملات رقمية رسمية تصدرها الدول من خلال البنوك المركزية، وتحجيم التداعيات الضارة للأصول المالية المشفرة شديدة التقلب عالية المخاطرة.
4 – الاستعداد لتطوير سوق العمل ليتعافى مسترداً ما فقده من عشرات الملايين، من خلال بطالة سببتها الجائحة مع التوافق مع ضرورات الإغلاق الجزئي ونظم العمل الهجين.
5 – المتابعة الحصيفة لتطورات أسعار السلع الاستهلاكية، خاصة بعدما شهدت ارتفاعاً في اقتصادات متقدمة ذات تأثير عالمي؛ إذ ارتفع الرقم القياسي الأميركي لأسعار المستهلكين بمقدار 4.2 في المائة، بما يعد اختباراً لما يعرف «بمعادلة استجابة» البنك الفيدرالي وحدود مرونة سياسته النقدية وخاصة أسعار الفائدة، ومدى اعتباره هذه الزيادات عارضة أم مستمرة، وتأثير ذلك كله على توقعات التضخم التي قد تكون في ظروف عدم اليقين أكبر تأثيراً في سلوك المستهلكين والمستثمرين من اعتمادهم على الأسس الموضوعية لمسارات التضخم.
6 – تغليب منافع دور الدولة الاقتصادي المباشر في دفع آليات التعافي والخروج من الركود بلا مزاحمة للاستثمارات الخاصة أو تشوية لقواعد المنافسة، مع تحديد المجالات التي يزداد فيها مضاعف الاستثمار والتشغيل والقطاعات التي تتطلب استثمارات عامة طويلة الأجل، كالبحث والتطوير ومساندة القاعدة التكنولوجية والمنتجات الحيوية، مع تفعيل نظم المشاركة مع القطاع الخاص لتخفيض الاعتماد على القروض. هذا مع ضرورة تدبير موارد حقيقية لتمويل الاستثمارات العامة من خلال إصلاحات الموازنة العامة.
7 – مراجعة منظومة تمويل التنمية من خلال صياغة الموازنة العامة وأولوياتها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتمحيص قواعد التعاون الدولي في مجالات الضرائب ومنع التهرب منها، وتطبيق القواعد المانعة من استمرار التدفقات المالية غير المشروعة التي تتجاوز قيمتها السنوية في بعض البلدان النامية ما تحصل عليه من مساعدات واستثمارات أجنبية مجتمعة.
إنَّ هذه المفاتيح والمغالق ما هي إلا أدوات وإجراءات تتشكل معاً محددة للسياسة الاقتصادية لتسهم في تحقيق التنمية. ولكي تصاغ بإحكام أمست تحتاج لنهج جديد في تطوير الأسس والأساليب التي تقوم عليها النماذج الاقتصادية التي تستخدمها المؤسسات المحلية والدولية في تحليل أداء الاقتصاد ووضع أولوياته وتوجيهه. وقد عانت هذه النماذج من وضعها في أسر آيديولوجيات جامدة وانحيازات تجاوز العالم قيودها بسرعة تغيره التي تضاعفت مع أزمة الجائحة. إن التعافي المأمول في الاقتصاد يستلزم أن يواكبه تعافٍ في علم الاقتصاد ونماذجه التي يعتمد عليها صانع القرار وتؤثر في عموم الناس، ولن يتحقق ذلك إلا بالاعتماد على البيانات والأدلة والحقائق وتحليلها علمياً والاستفادة من نتائجها بانتهاج «البراغماتية المبدئية» التي لا تحيد عن تحقيق أهداف التنمية مع مرونة في اختيار أنسب الوسائل الناجعة لذلك، والتي ستختلف بالضرورة مع اختلاف الزمان والمكان وطبيعة الاقتصاد السياسي السائد.
د. محمود محي الدين