في السنوات الأخيرة، اخترقت العملات الرقمية المشهد السياسي الاقتصادي الراكد منذ عقود، محدثةً زعزعةً في الاصطفافات وتبدلاً في المفاهيم. أمام هذه الثورة التكنولوجية، برزت الحاجة لمراجعة الكثير من المواقف التقليدية إزاء السوق واقتصاده. هي مراجعة أفضت الى انقسامات داخل الصف الواحد والى افراز توجهات سياسية جديدة بالكامل. فأين يقف متحمسو “بيتكوين” وغيرها من عملات “الكريبتو” في المشهد السياسي المتدرج من اليمين الى اليسار؟
في البداية ثمة من يرفض تسييس عالم “الكريبتو” باعتبار أن العملات الرقمية هي أداة اقتصادية خارجة عن كل السياقات السياسية. في المقابل، ثمة من يرى أن هذه التكنولوجيا التي تصب في الغاء المركزية المالية وسيطرة المصارف لا يمكن أن تكون الا سياسية.
ويعتبر اليمين ان “الكريبتو” فرصة للتخلص من سلطة الدولة وضرائبها، بينما ينظر اليها (بعض) اليسار كوسيلة لإعادة توزيع الثروات وتحريرها من قبضة المصارف. لا شك بأن الأوساط المتحمسة للعملات المشفرة تطغى عليها التوجهات الليبرالية التي تنادي بالسوق الحر وتطمح الى تكديس الربح السريع، لكن مع ذلك يُقبل مزيد من اليساريين اليوم عليها انطلاقاً من أهداف وتطلعات مختلفة.
أظهر استطلاع أجرته منصة CoinDesk، وشمل 1200 مستجيب أميركي من حاملي العملات الرقمية، أن جمهور “الكريبتو” أكثر تنوعاً مما قد يظن المرء. وفيما يشكل التيار اليميني (من محافظين وأناركيين-رأسماليين وغيرهم) حوالي 52٪ من هذا الجمهور، فان حصة اليسار ليست أدنى بكثير مع تسجيلها 45٪. كذلك يبين البحث انقسام الأطياف السياسية بحسب نوع العملة، فنلحظ شعبية “البتكوين” في أوساط اليمينيين و”ايثيريوم” لدى الطرف الاخر. فما أسباب هذا الشرخ؟ وهل تحمل العملات الرقمية ميزات سياسية متأصلة؟
من الناحية التقنية: الأمان مقابل الابتكار
تتشابه “بتكوين” و”ايثير” من حيث كونهما عملتين رقميتين غير مركزيتين يتم تداولهما وتخزينهما الكترونياً. أما الفارق الأساسي بينهما فيكمن في تقنية “البلوكتشين” التي ابتدعها مؤسس- او مؤسسي- بيتكوين، ووجد لها مطورو شبكة ايثيريوم استخدامات كثيرة تتجاوز مجرد تمكين العملة المشفرة والحفاظ على شبكة الدفع اللامركزية كما في حالة بتكوين.
وقد كان مؤسس “ايثيريوم”، فيتاليك بوترين، من أتباع بتكوين الى ان لاحظ محدوديته التقنية، فشرع في صياغة نظام يتيح درجة أكبر من قابلية البرمجة، ويوفر للمطورين المزيد من الحرية في تجربة الأكواد الخاصة بهم وإنشاء التطبيقات اللامركزية ما بات يعرف بالعقود الذكية.
هذه الأخيرة هي اتفاقيات ذاتية التنفيذ بين البائع والمشتري يتم ترجمتها مباشرة إلى خطوط برمجية دون تدخل من جانب ثالث أو حتى آلية تنفيذ خارجية. بناءً على لغته البرمجية الغنية وظيفياً، فان الحد الوحيد للمعاملات التي يمكن تشغيلها على “ايثيريوم” هو خيال المطورين الذين يبنون تطبيقات الشبكة.
من الناحية السياسية: الاستقرار مقابل التقدمية
في كتابه “سياسات بتكوين: البرمجيات كنموذج للتطرف اليميني”، يزعم دايفيد غولومبيا أن عملة بتكوين قد صممت “لتلبية احتياجات لا معنى لها سوى في سياق السياسات اليمينية”. ويشير غولومبيا، وهو أستاذ في الدراسات الرقمية، الى أن بتكوين هي وليدة فلسفة “الأناركو-رأسمالية” التي تروج لإلغاء الحكومات المركزية لصالح نظام يحكمه السوق الحر والملكية الخاصة.
لكن بالرغم من خلفيتها الموائمة للرأسمالية، ظهرت تيارات متعددة لدى حاملي العملة مما خلق شرخاً بين المحافظين الذين يريدون الحفاظ على السمات الأساسية للعملة، وأبرزها الأمن والخصوصية والاستقرار، وبين أولئك الذين يرغبون بالتجريب وتطوير هذه التكنولوجيا التي يرون فيها أداةً لتغيير الواقع الاجتماعي.
فحين ارتطم بوترين في العام 2013 بمقاومة مجتمع “البتكوينرز” لاقتراحه بشأن تطوير لغة برمجة خاصة بالعملة، قرر إطلاق منصة “ايثيريوم” التي نجحت في استقطاب معظم المنفتحين على التجريب العلمي. ومن هنا، يرى كثيرون أن الصراع بين حاملي “بتكوين” وحاملي “ايثيريوم” ليس بالضرورة صراعاً بين “اليمين واليسار”، لكنه على الأقل صراع بين “التقدم والاستقرار”. وان كان مصممو بتكوين، الآباء المؤسسين للعملات المشفرة، هم رواد التطور الاقتصادي الرقمي، فانهم قد تحولوا الى محافظين يحرصون على ادامة status-quo النظام المالي المشفر.
على ان “التقدمية” التي تتصف بها عملة ايثيريوم من الناحية التقنية تنعكس على نواحِ أخرى وتظهر من خلال مواقف وصيحات المطورين والأتباع. بينما يعتبر حوت المال ايلون ماسك من أبرز الشخصيات المؤثرة في عالم البتكوين، فان الأسماء المرتبطة بـ”ايثيريوم” مختلفة الى حد كبير.
نذكر منها اسم غلين وايل، وهو أكاديمي ضليع في الاقتصاد السياسي وباحث في شركة مايكروسوفت. يوصَف وايل أحياناً بـ”كبير المفكرين الاقتصاديين في ايثيريوم” حيث لفتت طروحاته وأفكاره المعادية للرأسمالية والملكية الخاصة أنظار مؤسس ايثيريوم وولدت بينهم شراكة فكرية. في مؤتمر “ايثيريوم ديف-كوين”، أطلق وايل صرخة ضد “الرأسمالية والفردية المتطرفة”، كما نادى بإلغاء الملكية الخاصة باستخدام تقنية البلوكتشين.
يصنف وايل نفسه كـ”ليبرالي راديكالي”، وهو توجه سياسي جديد فيه من التناقض اللغوي ما يلخص ظاهرة الاقبال اليساري على احدى ابرز صيحات وافرازات الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين. ولا يقتصر الأمر على الرؤية المتعلقة بالاقتصاد السياسي بل يتعداها الى ميدان القضايا الاجتماعية حيث تعلن منصة RadicalxChange التي أسسها وايل مناصرتها لحركات العدالة الاجتماعية مثل Black Lives Matter و Global Pride.
كذلك، يحاول بوترين ووايل إشراك المزيد من النساء والأقليات في عالم العملات الرقمية الذي يهيمن عليه رجال بيض. وفي سلسلة من المراسلات بينهما، اقترح الثنائي على سبيل النكتة- ربما- “فرض ضريبة على كل من يتكلم الإنكليزية القياسية البيضاء”، بالإضافة الى “فرض ضريبة على الرجولة من أجل دعم الأنوثة”. بالتأكيد، يشكل الرجال البيض الأغلبية الساحقة لأتباع ايثيريوم كما سائر العملات الرقمية، الا أنهم الرجال البيض الذين يدركون امتيازاتهم ويعتذرون عنها.
في المقابل، يرفض معظم أتباع بتكوين استدراجهم الى هذه النقاشات والصراعات السياسية والاجتماعية لا سيما تلك المتعلقة بسياسات الهوية. يتنافى هذا الخطاب مع انخراط رواد البتكوين في حركة الـ CypherPunksالتي تدعو إلى الاستخدام الواسع النطاق للتشفير وتقنيات تعزيز الخصوصية كسبيلٍ للتغيير الاجتماعي والسياسي.
يبدو أن الجميع يريد تغيير العالم من خلال العملات الرقمية لكن يبقى السؤال: أي تغيير؟ وأي عالم سيبنيه مستقبل العملات الرقمية؟ أما في الوقت الحالي، فالمؤكد هو أن الجميع، من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، يريد كسب المال.