مشهد ما بعد الانتخابات: طاروا المصريات

 

لسبب أو لآخر، يتمّ ملء الفراغ الاقتصادي والمالي بنقاشات تبدو خارج السياق، ليس لأنّها غير مُجدية، بل لأنّها تُناقش في التوقيت الخاطئ، ومع جهات غير ذي صفة، وضمن اطار يقود في أحسن الأحوال الى جدل عقيم لا يُقدّم ولا يؤخّر.

طفا الى السطح في الأيام الأخيرة، موضوع مجلس النقد (currency board) بلا مبرّر مُقنع بالنسبة الى الأسباب التي تستدعي طرحه بهذه الحماسة والديناميكية، وكأنّه مشروع قائم في حدّ ذاته، يمكن تنفيذه غداً.

ما هو أكيد انّ فكرة مجلس النقد، وفي أحسن الاحوال تستطيع ان تكون بنداً من عشرات البنود التي ينبغي ان تتضمّنها المفاوضات مع صندوق النقد الدولي عندما تبدأ، بعد تشكيل حكومة طبعاً. وللتذكير، وبما انّ التجربة البلغارية هي التي يستند اليها المؤيّدون لإنشاء مجلسٍ للنقد، لا بدّ من التذكير بأنّ المشروع لم يبدأ سوى بعد مفاوضات طويلة مع صندوق النقد، امتدت من تشرين الثاني 1996 حتى منتصف 1997، وتضمّنت دراسات وافية لتأثير الخطوة على كل مفاصل الاقتصاد في البلد، وفي مقدّمها الانعكاسات المحتملة على القطاع المصرفي. وكذلك، جرى التركيز على وضع البنك المركزي، لضمان تنظيف ميزانياته، بحيث لا يبقى بند المطلوبات (Liabilities) سلبياً في موازاة الموجودات.

اكثر من ذلك، تولّى صندوق النقد تنظيم ورش عمل للنواب في بلغاريا لإطلاعهم على طريقة عمل «مجلس النقد»، وأين قد يفيد، وأين قد يضرّ. ومن خلال هذه الورش يتضح انّ القطبة المخفية هي في حُسنِ التطبيق، وهي على غرار خطط الإنقاذ التي يموّلها صندوق النقد، اذ أنّ نجاحها او فشلها يتعلق بمدى التزام الدولة المعنية بمندرجاتها، وحتى بروحيتها.

باختصار، موضوع مجلس النقد يحتاج الى الاتفاق على خطة شاملة تتضمّن بنوداً ينبغي أن تُنفّذ أولاً، ومنها إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإعادة هيكلة البنك المركزي، وضمان قدرة الدولة على اعتماد موازنة مع صفر عجز، لتخفيف احتمالات الاقتراض من الخارج بمبالغ قد تعرقل خطة الانقاذ، ما دام المركزي، وبوجود مجلس للنقد، سيصبح خارج الخدمة في موضوع إقراض الدولة، او طباعة العملة، لتوفير سيولة ضرورية في حالات الطوارئ.

في المحصّلة، لا وجود لمشروع اسمه مجلس النقد في حدّ ذاته، بل انّه مجرد بند يمكن ان يُناقش ضمن خطة الإنقاذ الشاملة، للتأكّد اذا ما كانت تناسب الوضع اللبناني، وتساعد في مرحلة التعافي ام لا. لكن، هل المشكلة اليوم هي حقاً في اختيار الفكرة الاقتصادية أو المالية الافضل ضمن باقة الافكار القائمة، والتي يعرفها كل الاقتصاديين؟ من المؤكّد انّ المشكلة في مكان آخر، وربما من الأجدى حالياً، وطالما انّ المنظومة السياسية دمّرت تقريباً امكانية تشكيل حكومة تتولّى محاولة البدء في الإنقاذ، وهي خطوة إلزامية للخروج من النفق، ان يتمّ تركيز العصف الفكري الاقتصادي على الإجراءات التي يمكن اتخاذها، لتخفيف المعاناة قدر الإمكان، والحفاظ على الحدّ المقبول من القدرات المالية لاستخدامها لاحقاً، سواء اذا ساء الوضع اكثر، أو اذا انفرجت وحان موعد التفاوض على الإنقاذ.

من خلال المؤشرات القائمة، يبدو انّ احتمال الاستمرار بلا إنقاذ حتى موعد الانتخابات النيابية، وربما من بعدها الرئاسية، بات مُرجّحاً. وبالتالي، يحتاج اللبنانيون الى التركيز على الطريقة التي ينبغي اتباعها خلال هذه السنة، لتقليص الإنفاق من الاموال الوطنية المتبقية في المركزي، وفي الوقت نفسه ضمان الحدّ الأدنى من مقومات العيش للمواطنين، لاسيما الفئة الأضعف والأكثر حاجة. وبالطريقة المُعتمدة في الوقت الراهن، لن يبقى أموال لا للإنقاذ، ولا حتى لضمان استمرارية الحياة في حدّها الأدنى، في حال طال الوضع القائم وتخطّى حاجز السنة. وهذا الاحتمال وارد جداً، بالنظر الى المعطيات القائمة اليوم، إلّا اذا طرأ تغيير مفاجئ في المشهد. ولا مؤشرات حتى الساعة الى انّ التغيير آتٍ.

في هذا المناخ، الجدل البيزنطي حول رفع الدعم او ترشيده، وبالتوازي مع اطلاق البطاقة التمويلية المنتظرة، ماضٍ على قدم وساق. والإنفاق ماشي من «الاموال الوطنية» المتبقية. واذا أضفنا الإنفاق الذي سيضطر اليه المركزي اذا طبّق التعميم 158، يمكن ان نستنتج انّ الأزمة ستأخذ منحى مختلفاً بعد عام. ولا تبدو الإجراءات التي تُتخذ حالياً تستطيع أن تخفّف وطأة المأساة. على سبيل المثال، قبول مصرف لبنان باعتماد سعر الـ3900 ليرة لدعم البنزين، قد يؤدّي الى انفاق اضافي وليس العكس، لأنّ المبلغ الذي سيخصّصه الأخير لشراء البنزين سيزيد قليلاً اذا ما ألغى، نسبة الـ10% بالدولار على سعر السوق السوداء. وبالتالي، لا يهدف اقتراح مصرف لبنان الى خفض انفاق الدولارات بقدر ما يهدف الى امتصاص اضافي للسيولة بالليرة، من خلال جمعها على سعر 3900 بدلاً من 1500، بحيث يكسب القدرة على مضاعفة المبالغ المسحوبة من السوق بنسبة تقارب الـ220%. وليس مستبعداً ان يكون المركزي يخطّط لاستخدام الكتلة النقدية بالليرة المسحوبة من التجار، لإعادة شراء الدولارات من السوق الحقيقية!

في حسبة بدائية للإنفاق، واذا أخذنا في الاعتبار الدعم المُرشّد على طريقة الـ3900 للبنزين، سيتبيّن انّ العام الانتخابي سيكون السنة الأخيرة لوجود اموال وطنية في صناديق مصرف لبنان، وستصبح الخيارات في حينه، أقسى بكثير مما هي عليه اليوم.

انطوان فرح