بعد 22 عاماً من تثبيت الدولار/الليرة: لماذا اندلعت أزمة سعر الصرف؟

بعد 22 عاماً من تثبيت سعر صرف الدولار الأميركي الى الليرة اللبنانية منذ عام 1997 على معدّل 1507.5، كاد هذا الرقم يشكّل حقيقة ثابتة ورمز الثقة الوحيد بالإقتصاد اللبناني، وبات غير قابل للبحث، وكأنّ سعر الصرف على جزيرة نائية، لا يتأثّر بكل ما يدور حوله من تطوّرات تطاول مختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية وعوامل المخاطر الناتجة من غياب الاستقرار السياسي، التي تعتمدها مختلف مؤسسات التصنيف الدولية، لتقييم قدرة البلدان على سداد ديونها بالعملات الأجنبية…من هنا لا يزال السؤال المركزي في مختلف الأوساط يتمحور حول الأسباب العميقة لاندلاع ازمة سعر الصرف؟ والجواب المباشر: إذا أردتم أن تعرفوا ماذا جرى عام 2019، إبحثوا في ما حصل منذ العام 2011…

إنطلاقاً من الأدبيات العلمية الإقتصادية، من المعلوم أنّ تاريخ أزمات سعر الصرف عالمياً أتاح وفق المراحل تفسير أبرز أسبابها وعناصر تطوّرها من خلال «أجيال من النماذج» التي تأخذ في الاعتبار أصل الأزمات وعواملها ومحدّداتها الرئيسية.

في هذا السياق، تمّ تصنيفها وفق ثلاثة أجيال من النماذج وهي:

– نماذج الجيل الأول، الذي يفسّر الأزمات بملاحظة تدهور أساسيات الاقتصاد الكلي، أي تدهور شامل لمختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية بشكل جامع ومتراكم لسنوات (عجز مالي، تراجع في نمو الإقتصاد، عجز في ميزان المدفوعات…) بحيث يفقد الإقتصاد المعني ثقة مختلف العملاء الإقتصاديين به وبعملته…

– نماذج الجيل الثاني، التي تشرح حالات أزمة العملة، حيث يبدو أنّ المتغيّرات الأساسية للاقتصاد الكلي لم تتدهور؛ تنشأ هذه الأزمات من توقعات العملاء الإقتصاديين للتطور المستقبلي للمؤشرات في ما يتعلق بشكوك السوق، مما يخلق توازنات متعددة ؛

– نماذج الجيل الثالث، التي تخلق علاقة بين أزمات العملة والأزمات المصرفية. يمكن أن تؤدي أزمة العملة أيضًا إلى أزمة مصرفية إذا كانت المصارف الخاصة مثقلة بالديون بالعملة الاحتياطية.

في حالة لبنان وبمنهج تحليلي تسلسلي، يتبيّن أن نموذج الجيل الأول هو اكثر ما يفسّر إنفجار الأزمة النقدية وسعر الصرف عام 2019، بالنظر الى تراكم تدهور جميع المؤشرات الماكرو-إقتصادية وبشكل حاد ومتصاعد تحديداً منذ العام 2011.

من هنا، يتبيّن أنّ أساسيات الاقتصاد الكلي تشرح تماماً كيف أنّ الفترة الممتدة بين عام 2011 وعام 2019 كانت تحضّر أزمة سعر الصرف على أفضل وجه، من خلال التدهور التراكمي المعمّم لجميع مؤشرات الاقتصاد الكلي في الماضي. ولبنان على وجه الخصوص منذ عام 2011، كما سنُظهر في هذا الإطار.

أزمة العملة «الجيل الاول»

بول كروغمان (1979)، كان رائداً في المفهوم النظري الأساسي لما يُسمّى بنموذج أزمة العملة «الجيل الأول». يوضح كروغمان من خلال نموذجه، أنّ نمو الإئتمان المحلي المرتبط بتمويل عجز الميزانية المزمن عن طريق الاقتراض من البنك المركزي (عن طريق طبع النقد)، يؤدي إلى انخفاض الاحتياطيات، ويجبر السلطات النقدية على التخلّي عن نظام أسعار الصرف الثابتة.

ويظهر، مع تساوي جميع العوامل الأخرى، أنّ الاحتياطيات تنخفض، لأنّ القطاع الخاص غير راغب في الاحتفاظ بالجزء المتزايد من القاعدة النقدية. النتيجة المنطقية التي يشرحها كروغمان، هي أنّه سيكون هناك هجوم مضاربات، بسبب التوسع المفرط في المعروض النقدي (التضخم)، ما يؤدي إلى استنفاد الاحتياطيات وبدء أزمة العملة.

وبالتالي، فإنّ الحفاظ على التكافؤ في سعر الصرف يؤدي بالبنك المركزي إلى السحب من احتياطياته لإعادة شراء عملته، متدخّلا في سوق القطع في حدود استنفاد احتياطياته، ما يضطر البنك المركزي إلى التخلّي عن أسعار الصرف الثابتة ومراقبة نظام سعر الصرف العائم.

وطبعاً، لا تتغيّر النتائج الأساسية للنموذج في حالة تمويل عجز الموازنة عن طريق إصدار الأوراق المالية بدلاً من طباعة النقد مباشرة.

في هذه الحالة، تؤدي خدمة الدين إلى زيادة تدريجية في العجز حتى يعبّر فيها القطاع الخاص عن رفضه الاحتفاظ بمزيد من سندات الدين. وقد يؤدي ذلك إلى لجوء السلطات إلى طباعة النقد لتمويل العجز المالي.

ويتلخّص تدهور المؤشرات الماكرو-إقتصادية وفق ثلاثة مرتكزات أساسية:

1) إنغماس الجهاز المصرفي في تمويل الدين العام المتنامي، والذي تمت دولرة ثلثه (اي أنّ ثلث الدين العام هو بالعملات الأجنبية)، ويحمل الجهاز المصرفي أكثر من نصف الدين بالعملات الأجنبية، فضلاً عن معظم الدين العام بالليرة اللبنانية..

2) الدولرة الثابتة والمرتفعة منذ الأزمة النقدية في لبنان في الثمانينات على الرغم من تثبيت سعر الصرف طيلة 22 عاماً.

3) التمسّك باعتماد نظام ربط سعر صرف الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي بشكل متشدّد على معدّل 1507.5، بغض النظر عن أي تطوّرات في مختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية، لاسيما منها تراكم العجز الحاد لميزان المدفوعات منذ العام 2011، مما ساهم بنفاد إحتياطي البنك المركزي بالعملات الأجنبية.

أولاً، انغماس القطاع المصرفي في تمويل الدين العام، من خلال شراء سندات يوروبوند بقيمة 15 مليار دولار أميركي، وشهادات إيداع من مصرف لبنان بقيمة 52.2 مليار دولار (بلومبرغ)، والتي تُضاف إلى 17.5 مليار دولار كانت تشكّل الاحتياطي الإلزامي على الودائع بالعملات الأجنبية، أو ما يفوق 70 مليار دولار لدى مصرف لبنان من إجمالي الودائع بالعملات الأجنبية البالغة 120 مليار دولار.. تُضاف الى معظم الدين العام بالليرة اللبنانية الذي يحمله الجهاز المصرفي..

مما يجعل معظم الودائع موظفّة لدى القطاع العام من خلال القطاع المصرفي. كما أنّ معظم الودائع بالعملات الأجنبية عالقة في القطاع العام بين شهادات الإيداع بالدولار للمصرف المركزي وشراء اليوروبوند للدولة اللبنانية.. يعني أنّ المصارف منكشفة على القطاع العام بما يفوق ثلثي التوظيفات لديها، فيما تسليفاتها للقطاع الخاص تقلّ عن ثلث التوظيفات…

وعلى الرغم من مخاطر الاستدانة بالعملات الأجنبية خصوصاً، تظهر الأدبيات الإقتصادية ميل البلدان الناشئة والبلدان المشابهة لوضع لبنان الاقتصادي، الى الاستدانة بالدولار الأميركي لتتمكن من استقطاب تمويل من الأسواق الخارجية. من هنا اللجوء إلى إصدار سندات اليوروبوند للحصول على تمويل على الصعيد الدولي، كما لكون معدّلات الفوائد على سندات اليوروبوند عمومًا تكون أقل من معدلات الفائدة على سندات الخزينة بالعملة الوطنية (نظرًا لاختلاف عوامل المخاطرة) مما يساعد في تخفيض خدمة الدين. وهذا كان أساس هدف زيادة حصة الدين العام بالدولار الأميركي من مجموع الدين العام في لبنان.

ثانياً، الدولرة (نسبة الودائع بالدولار الأميركي من مجموع الودائع في لبنان)، التي بدأت في لبنان أثناء الأزمة النقدية في الثمانينات، بقيت مرتفعة على الرغم من تثبيت سعر صرف الليرة إزاء الدولار الأميركي طيلة 22 عاماً، الأمر الذي كان يفترض أن يعيد أكثر الثقة بالليرة اللبنانية ويخفّض معدّل الدولرة. علماً أنّ الدولرة في لبنان كانت ولا تزال خياراً تلقائياً للقطاع الخاص، القلق من تدهور سعر الصرف وخسارة القدرة الشرائية للعملة الوطنية، وقد بقي يحاول أن يحتمي بتحويل معظم مدخراته الى الدولار الأميركي، على الرغم من تثبيت سعر الدولار لسنوات… إلّا أنّ الدولرة غير الرسمية والجزئية المرتفعة، ترافقت مع إنشاء البنك المركزي لغرفة مقاصة بالعملات الأجنبية، كما سمح للمصارف بتعبئة الصراف الآلي بالدولار الأميركي، مما ساهم في تدفّق الدولار نحو السوق الموازي بشكل غير منضبط، وتمويل المضاربة على الليرة، كونه كان يُسمح لأي مقيم على الأراضي اللبنانية بإيداع مثلاً 150 ألف ليرة لبنانية في حسابه الجاري وسحبها مباشرة 100 دولار أميركي ورقاً، دون أي تدقيق، بسبب التحويل والسحب الورقي لعملة اجنبية لا يمكن طباعتها في لبنان!

د. سهام رزق الله