بدأ يتّضِح أكثر فأكثر انّ الدولة لن تكون شريكاً في تعويض الخسائر التي مُني بها القطاع المالي، وبالتالي ستقع الخسائر في نهاية المطاف على المودع. ومن خلال اللوائح والتقسيمات التي بدأت تتظهّر، يمكن الاستنتاج ان عملية اعادة الودائع الى أصحابها أصبحت معقدة جداً.
هناك مجموعة عوامل وإجراءات ومؤشرات وتسريبات تدفع الى الاستنتاج ان عملية اعادة الودائع ستكون ظالمة، من أهمها:
اولاً – الاتجاه نحو مفاوضة الدائنين من حملة اليوروبوندز (حوالى 31 مليار دولار)، على اقتطاع ما بين 80 و90% من أصل السندات. هذا الكلام سمعه من التقى رئيس اللجنة اللبنانية المكلفة إعداد خطة التعافي، سعادة الشامي. وهذا يعني ان المصارف اللبنانية التي تحمل 50% من هذه السندات تقريباً، سوف تخسر كمعدل وسطي حوالى 13 مليار دولار دفعة واحدة. واذا أضفنا الخسائر التي مُني بها القطاع في السنتين الماضيتين، يمكن ان نستنتج ان رساميل المصارف (حوالى 20 مليار دولار) تكون قد استنفدت بالكامل.
ثانيا – ان الودائع بالليرة والتي كان يبلغ مجموعها حوالى 30 مليار دولار على اساس سعر الصرف الرسمي، فقدت من قيمتها اكثر من 90%. من كان يمتلك وديعة تساوي مليون دولار، أصبحت تساوي اليوم حوالى 65 الف ليرة، هذا اذا افترضنا ان سعر الدولار سيبقى على 23 الف ليرة، في حين ان هذا السعر قد يتغير نحو الاعلى، عندما سيضطر مصرف لبنان الى وقف دعم الليرة الذي بدأ بقرار سياسي اتخذه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. في كل الاحوال، ووفق السعر الحالي، سيكون المودع بالليرة قد خسر حوالى 93% من وديعته.
ثالثا – ان الحسابات المصرفية بالدولار، والتي جرى تحويلها من الليرة بعد 17 تشرين 2019، والودائع الدولارية التي تكوّنت بعد هذا التاريخ ايضا، والتي يبلغ مجموعها ما يقارب الـ30 مليار دولار سيتم التعاطي معها على اساس انها أقرب الى الليرة منها الى الدولار. وهي ستفقد في هذه الحالة، وفق التقديرات، ما لا يقل عن 80% من قيمتها، اذا أُعيدت دفعة واحدة. أما اذا تم تحديد موعد بعيد المدى، (10 سنوات) فهذا سيفقدها اكثر من 90% من قيمتها الحقيقية.
رابعا – سيتمّ تصنيف الودائع ما دون الـ200 الف دولار (المودعة قبل 17 تشرين) على اساس انه سيتم ارجاعها الى أصحابها وفق الآلية المعتمدة في التعميم 158. للوهلة الاولى، يعتقد البعض ان ذلك يعني هيركات بنسبة لا تتجاوز الـ30%، وهي نسبة مقبولة. لكن هذا الاعتقاد غير دقيق عندما يتم احتساب القيمة على المدى الطويل. هذه النسبة تنطبق على السنة الاولى فقط، لكنها تتراجع تدريجا مع مرور السنوات. وفي المشروع الحكومي ستُعاد هذه الودائع على مدى 20 سنة. وهنا بيت القصيد. اذ ان وديعة قيمتها 200 الف دولار تتم اعادتها بهذه الطريقة، ولا تُحتسب على المبلغ اية فوائد، تعني عملياً اعادة الفوائد فقط من أصل المبلغ. اذ انّ مستوى الفوائد على الدولار وفق تسعيرة سندات الخزانة الاميركية على 20 سنة، اكثر من 2% سنوياً. اذا احتسبنا هذه الفائدة على اساس المبلغ يتبين ان قيمة الفوائد السنوية هي حوالى 4000 دولار. في حين ان المودع سيحصل سنويا على 4800 دولار، زائد ما يوازي المبلغ بالليرة. واذا احتسبنا كم كان سيصبح المبلغ في حال تمّ تجميده لـ20 سنة، يتبيّن انه سيرتفع بحوالي 100 الف دولار، على اساس الفوائد المركّبة. في حين ان المودع سيحصل على 96 الف دولار على مدى 20 سنة، زائد المبالغ بالليرة. وبذلك، تكون عملية اعادة الوديعة هي أشبه بتحويلها الى راتب تقاعدي لمدة عشرين سنة. وعملياً، الهيركات هنا لن يقلّ عن 80%.
خامسا – تبقى شريحة الودائع الدولارية الكبيرة التي كانت موجودة قبل 17 تشرين 2019. هذه الودائع سيتم الاتفاق على طريقة اعادتها بوسائل لا يمكن أن تكون «أرحم» من اعادة الودائع الاخرى، لا سيما الصغيرة منها. وبالتالي، اذا كانت كل الشرائح، باستثناء الصغيرة جدا، والتي تتم اعادتها في غضون سنة او سنتين، قد تعرضت لهيركات يتجاوز الـ50 %، وصولاً الى 80 أو 90%، كلما طالت فترة الاسترداد، فما هي نسبة الهيركات التي ستكون مقبولة لهذه الشريحة من الودائع؟ والسؤال الأهم، ما هي المدة التي سيتمّ تحديدها لاستعادة ما تيسّر من الوديعة؟ وهل ستكون هناك آلية اختيارية (optional) لاستعادة الودائع ضمن هذه الشريحة؟
انها «مجزرة» بكل ما للكلمة من معنى، ولا يمكن تخفيف وطأتها، اذا لم تتبدّل فلسفة توزيع الخسائر، وإشراك الدولة ككيان (entity) في تحمّل قسم وازن من هذه الخسائر.
أنطوان فرح