دولار سلامة بعد 31 تشـرين

ثبُت بما لا يقبل الشك انّ سعر صرف الليرة في السوق الحرة اصطناعي، وانّ مصرف لبنان هو اللاعب الرئيسي القادر على تحريكه. فهل ينوي حاكم المركزي خفض الدولار اكثر بعد 31 تشرين الاول، موعد نهاية ولاية الرئيس ميشال عون؟ وما هي التوقعات بالنسبة الى المسار الذي سيسلكه سعر الدولار في المرحلة المقبلة؟

 

لا تزال أصداء البيان الذي أعلنه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مساء الاحد في 23 تشرين الاول الجاري، وتعهّد فيه بأنه سيوقِف شراء الدولار وسيكتفي ببيعه عبر منصة صيرفة، تتردّد في الاسواق وفي الاوساط الشعبية. والتساؤلات تشمل الخلفيات، الاهداف، المدى، النتائج والتوقعات.

 

في الواقع، تبدو لائحة الاهداف المُتماهية مع الاسباب، طويلة ويصعب فرزها وتصفيتها وصولاً الى استنتاج وحيد يقود الى معرفة المسار الذي سيسلكه سعر صرف الدولار في الايام المقبلة، وهو الامر الذي يشغل بال اللبنانيين اكثر من سواه في هذه المرحلة. هذه اللائحة، تشمل الاحتمالات التالية:

 

اولاً – مع تخطّي سعر صرف الدولار الاربعين الف ليرة، واتجاهه صعوداً، قرر سلامة التدخّل للجمه واعادة المنحنى (curve) الى مسار شبه مستقر على سعر يتراوح بين 36 و37 الف ليرة.

 

ثانياً – مع اتّساع الفارق بين سعر منصة صيرفة وسعر السوق الحرة الى مستويات غير مسبوقة، تجاوزت الـ10 آلاف ليرة للدولار الواحد، كان سلامة امام خيارين. إما التدخل لخفض دولار السوق الحرة، وإما رفع سعر منصة صيرفة. خصوصا ان الفارق الكبير بين السعرين تسبّب بمشاكل كثيرة من ضمنها زيادة الطلب على الشراء عبر صيرفة بما تجاوز الكوتا التي يخصّصها المركزي للمصارف يومياً. وهذا ما يفسّر لجوء المصارف الى اجراءات خاصة لتلبية الطلب، مثل خفض سقف المبلغ الذي يستطيع الزبون حجزه عبر «صيرفة»…

 

ثالثاً – تسبّب تخطّي الدولار الاربعين الف ليرة بإشكالية في تطبيق التعميمين 151 و158 اللذين يتيحان السحب بالليرة على سعري 8 آلاف و12 الف ليرة. وكان هناك نقاش في شأن رفع سعر السحب الى 15 الف ليرة، لكي تبقى نسبة الاقتطاع (haircut) من الودائع الدولارية مقبولة وقريبة من النسبة التي اعتمدت لدى إصدار التعميمين. ولكن، ومع اعتراض جهات سياسية على خطوة تغيير سعر السحب، لجأ سلامة الى خيار خفض دولار السوق الحرة.

 

رابعاً – مع اقتراب نهاية ولاية رئيس الجمهورية، ومع بروز مؤشرات اضافية تؤكد الاتجاه نحو الفراغ، اعتبر سلامة انه لا بد من التدخّل المسبق، لمنع ارتفاع دراماتيكي بعد 31 تشرين الاول.

 

خامساً – على نقيض البند الرابع، كانت هناك اجواء اشاعات منتشرة في البلد مفادها ان سلامة سيعمد الى اتخاذ اجراءات لخفض الدولار بعد رحيل عون عن قصر بعبدا للايحاء بأن اجواء ارتياح سادت في البلد بسبب انتهاء الولاية الرئاسية.

 

وبالنسبة الى هذا البند بالذات، لا تزال التفسيرات متناقضة. اذ هناك من يعتبر ان الاشاعة لم تكن صحيحة، لكن سلامة استغل الجو السائد، بحيث ان المواطنين الذين يخزّنون الدولار، كانوا متوجّسين وقلقين من مباغتتهم بانخفاضٍ سريعٍ للدولار، وبالتالي، كانوا جاهزين للاسراع في بيع الدولار فَور بروز اي اشارة في هذا الاتجاه. وهذا ما استغلّه سلامة، واصدر بيان 23 تشرين، ونجح في خفض الدولار من حوالى 41 الف ليرة الى 36 الف ليرة في ساعة واحدة، ومن دون ان يضطر الى بيع دولار واحد في السوق.

 

النظرية النقيضة تقول ان سلامة كان ينوي فعلاً اتخاذ اجراءات لخفض الدولار لها علاقة برحيل عون، لكنه وَقّتها بذكاء. اذ أنه أصدر بيانه قبل نهاية الولاية بحيث أثبت ان اتهامه بهذا «المخطط» في غير محله. وفي الوقت نفسه تدخّل لمنع تراجع الدولار بسرعة وبنسبة مرتفعة من خلال عدم ضخ الدولارات في السوق. لكنه سيُقدم على هذه الخطوة بعد 31 تشرين، وسيرفع منسوب ضخ الدولارات لخفضه الى مستويات جديدة تقترب اكثر من سعر منصة «صيرفة».

 

ويسأل اصحاب هذه النظرية، من يستطيع ان يراقب ماذا يفعل سلامة؟ فهو قال انه سيتوقف عن شراء الدولار، لكن كيف نعرف انه لم يبادر الى شراء الدولار سراً في الايام التي تلت بيانه. ألم يكن مستغرباً ان يهبط الدولار في فترة العطلة وفي فترة السماح، اكثر ممّا هبط لاحقاً طوال الاسبوع بعد بدء تنفيذ القرار يوم الثلاثاء؟ ألا يعني ذلك ان سلامة قد يكون تدخّل في الاتجاه المعاكس لرفع سعر الدولار قليلاً، لأنه لم يكن يرغب بهذا الخفض السريع قبل نهاية الولاية الرئاسية؟

 

بالاضافة الى كل هذه القراءات، تبرز مسألة انتهاء ولاية سلامة نفسه في تموز المقبل. وهناك كلام كثير على انّ اجراءات التهدئة، ومنع الدولار من الارتفاع ولو على حساب ما تبقّى من اموالٍ للمودعين مُحتجزة في المركزي، يهدف الى تأمين نوع من الاستقرار النسبي لحين انتهاء ولاية سلامة وخروجه من مصرف لبنان، وبعد ذلك لكل حادث حديث.

أهمية المنافسة

هل سبق لك التذمر من وجود شركة واحدة فقط تقدم خدمة معينة أو منتجا معينا؟ قد يخطر ببالك عدد من الأمثلة على الشركات المحلية التي تستفرد بالسوق دون وجود منافس حقيقي لها، فتصبح لها السيطرة الكاملة على السوق دون وجود تهديد حقيقي على حصتها السوقية. تبعات هذه السيطرة سلوكيات تضر بالمستهلك والاقتصاد المحلي، بل وحتى بالشركات المسيطرة نفسها التي تميل إلى الكسل في حال غياب المنافسة، وهي نتيجة حتمية في حال غياب قانون المنافسة عن السوق المحلية، وهو ما فيه ضرر مباشر على الاقتصاد، ويمكن تلخيص أهمية المنافسة في السوق في خمس نقاط.
النقطة الأولى: هي الأوضح بالنسبة للمستهلك وهي أسعار المنتجات، فوجود عدد من الشركات تقدم نفس المنتج أو الخدمة يزيد المنافسة على الأسعار، وهو ما يتسبب بشكل كبير في انخفاضها، لكون السعر أحد أهم عوامل المقارنة بين المنتجات. ولذلك فإن ارتفاع أسعار المنتجات هو من أوضح نتائج الاحتكار، وفي زمن يشكل فيه التضخم مشكلة كبرى، يمكن فهم دور الاحتكار في تأجيج نار التضخم.
النقطة الثانية: هي جودة المنتجات، فمن دون المنافسة، لا تملك الشركات محفزا لتحسين جودة منتجاتها أو خدماتها. وقد يكون المثال الأوضح على ذلك هو خدمات ما بعد البيع، فقد تجد الشركات مبررا للتعامل الحسن مع العملاء قبل البيع لرفع أرقام المبيعات، ولكن المحفز الأكبر لخدمات ما بعد البيع هو ضمان عودة هذا العميل للشراء مرة أخرى، وفي حال عدم وجود منافس حقيقي للشركة، فإنها لا تحتاج إلى تحفيز العميل لإعادة الشراء لأنها وبكل بساطة خياره الوحيد.
النقطة الثالثة التي تضيفها المنافسة، هي زيادة الخيارات في المنتجات والخدمات. ففي السوق التنافسية، تحاول كل شركة جعل منتجاتها مختلفة عن الشركات الأخرى في محاولة لإيجاد سوق جديدة لمنتجاتها أو للابتعاد عن مساحة المنافسة في المنتجات شديدة التنافسية. وتعطي هذه النقطة تنوعا وخيارات أكثر للمستهلك للاختيار بين الخدمات والمنتجات.
النقطة الرابعة تتضمن الابتكار، فمن دون المنافسة في السوق تغيب أهمية الابتكار بشكل كبير، بالمقابل فإن المنافسة تدفع الشركات للابتكار في منتجاتها وخدماتها ومحاولة خلق فرص جديدة من خلال ابتكار منتجات وخدمات كثيرة. والابتكار تحديدا هو أهم نقاط الالتقاء بين المنافسة والنمو الاقتصادي، فالابتكار هو أحد أهم محركات النمو الاقتصادي، والمنافسة هي الدافع الأكبر للابتكار. ويمكن للقارئ التفكر في السوق المحلية والنظر في القطاعات التي تشهد تنافسا عاليا، وكيف لجأت شركات هذا القطاع للابتكار للمنافسة والبقاء في السوق.
النقطة الخامسة هي أن المنافسة العالمية تبدأ من المنافسة المحلية، وإن لم تجد الشركة منافسا محليا لها فهي في الأغلب لن تتطور لتصبح لاعبا عالميا في صناعتها. ولذلك فإن العديد من الحكومات تصمم أنظمة منافستها لتكون سببا في منافسة شركاتها على النطاق العالمي، وإحدى أدوات زيادة المنافسة العالمية هي أداة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية، حيث تحصر الحكومات مشترياتها على الشركات المحلية، وذلك لخلق سوق محلية تنافسية تتمكن في المستقبل من منافسة الشركات العالمية.
يقابل هذا التنافس، موجة من الاستحواذات والاندماجات، تقلل من عدد الشركات في السوق، وتجعلها شركات أكبر حجما وسيطرة على السوق. ورغم وجود مبرر في كثير من حالات الاستحواذات والاندماجات، فإن أثرها على المنافسة لا يمكن إغفاله. فعلى سبيل المثال، أظهر استطلاع أن الاندماجات تتسبب في زيادة الأسعار بمتوسط 7.2 في المائة، وتختلف هذه الزيادة بحسب القطاع، فأظهرت دراسة أن الأسعار تزيد في قطاع المستشفيات بنسبة 20 في المائة، بينما تزيد في قطاع الطيران بنسبة تتراوح بين 7 و29 في المائة.
إن المنافسة عنصر أساسي لا يمكن الاستغناء عنه في الأسواق، وهي سبب رئيسي للانتعاش الاقتصادي، ووجود منافسة قوية في السوق يحمي الشركات المحلية كذلك من سيطرة الشركات الأجنبية في حال دخولها، وكم من شركة أجنبية حاولت اختراق أسواق محلية ولم تستطع تحمل المنافسة، وهذا دليل على قوة هذه القطاعات. في المقابل فإن النظرة التفضيلية إلى الشركات العملاقة والتي تملك حصصا كبرى في السوق المحلية هي نظرة قاصرة، فهذه الشركات تنمو على حساب الشركات الصغيرة، ونموها يزيد من أرباحها وأرباح مستثمريها، بينما تزيد التكلفة على المستهلك والاقتصاد، وتقلل من خلق الفرص الوظيفية لارتفاع كفاءتها التشغيلية.

حربُ الرقائق الإلكترونية

الحروبُ التجارية ليست جديدة على العالم، وفي أغلبها حمائية الطابع، بهدف تحقيق أفضلية اقتصادية.بمعنى، أن الدول بغرض حماية منتجاتها وصناعاتها المحلية، وأسواقها الداخلية، وضمان مواطن عمل للقوى العاملة، تعلن حرباً على السلع المستوردة، عبر فرض رسوم جمركية عالية.وعلى سبيل المثال لا الحصر، لعلنا ما زلنا نذكر ما قام به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، خلال فترة حكمه، من إجراءات حمائية تمثلت في فرض رسوم جمركية عالية، ضد السلع والبضائع المستوردة من الصين ومن دول الاتحاد الأوروبي، مما أدّى بتلك الدول إلى اتخاذ إجراءات مماثلة.الإجراءات الحمائية، تتسم بكونها مؤقتة، ولفترات محدودة، وعادة بقصد خدمة أغراض سياسية، يأتي في مقدمتها سعي القيادة السياسية إلى إرضاء فئات معينة في المجتمع، لضمان أصواتهم في الانتخابات.
أحياناً، تلجأ الدول إلى محاولة إلحاق الضرر بدولة أخرى، باتخاذ إجراءات تقلص من نسبة ما كانت تستورده منها من بضائع وسلع، أو تمنعها كلية.الهدف في هذه الحالة يكون بغرض مفاقمة الضغوط على تلك الدولة، لقاء الحصول على منافع سياسية أو اقتصادية أو كلتيهما.
في بعض الحالات، تسعى الدول إلى حظر ما تصدّره من منتجات استراتيجية إلى دولة أو دول معينة.وعادة ما يكون الهدف، في هذه الحالة، استراتيجيا أمنيا في المقام الأول.وهو الحفاظ على أفضليتها الأمنية.ويستتبع ذلك، تحمّل خزينة الدولة لكل الخسائر المالية التي تلحق بالمؤسسات والشركات المصنّعة لتلك السلع الاستراتيجية، لقاء توقفها عن التصدير.في هذا السياق، تتحولُ التجارة سلاحاً في حرب معلنة.وفي هذا السياق، أيضاً، يمكننا موضعة وقراءة ما أصدره الرئيس الأميركي جو بايدن من قرارات، في نهاية الأسبوع الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، تتعلق بوضع ضوابط رقابية شديدة على تصدير منتجات التقنية العالية الأميركية إلى الصين، في محاولة لمنع الصين من تحقيق طموحها في أن تكون دولة عظمى.وعلى رأسها وأهمها الرقائق الإلكترونية (Semiconductors-Chips) الضرورية في العديد من الصناعات المدنية والعسكرية عالية التقنية.
الصين لن تقف مكتوفة اليدين أمام هذه الخطوة العدائية الأميركية، من دون اللجوء إلى إجراء مماثل في القوة ومخالف في الاتجاه، بمنع تصدير مواد خام ضرورية لعدد من الصناعات التقنية المهمة.المراقبون الغربيون يتفقون على أن قرارات الرئيس بايدن بمثابة إعلان حرب على الصين، وأطلقوا عليها اسم حرب الرقائق الإلكترونية.
أهمية الرقائق الإلكترونية بدت أكثر وضوحاً في أزمة توقف الإنتاج في مصانع السيارات الأوروبية، بعد رفع حالة الإغلاق العام في أزمة انتشار الوباء الفيروسي، والسبب أن السيارات الحديثة تعتمد في تقنيتها على الرقائق الإلكترونية، ونقص مخزونها من تلك الرقائق بسبب محنة الوباء الفيروسي، أدى إلى إرباك المصانع، وتوقف خطوط الإنتاج بها.
هذا التوجه الأميركي مؤخراً ليس اقتصادي الطابع، بل، يؤكد الخبراء، استراتيجي أمني.وهو دائم وليس مؤقتاً.قرارات الرئيس بايدن تؤكد كذلك على عودة المئات من المواطنين الأميركيين وحملة البطاقات الخضراء العاملين في صناعة الرقائق الإلكترونية في الصين.من المهم الإشارة هنا إلى أن الصين وضعت خطة وبدأت تنفيذها لتحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصادياً من الرقائق الإلكترونية، واستعانت في ذلك بأعداد كبيرة من مهندسي التقنية في أميركا وأوروبا.
وتساءل المعلقون الغربيون عن الأسباب التي دفعت الرئيس الأميركي بايدن إلى اللجوء إلى هذا الإجراء الأحادي، ومن دون السعي إلى الاستعانة بالحلفاء الأوروبيين. ويقولون إن الحكمة تقتضي أنك إذا قررت الدخول في حرب فمن الأفضل ألا تذهب إليها وحيداً. ويوضحون أن الخطوة الأميركية هذه تقطع بالقوة الصلات بين القطاع التقني الأميركي ونظيره الصيني.
الجدير بالذكر، أن واشنطن حاولت إقناع الحلفاء الأوروبيين بضرورة التنسيق فيما بينها لوضع ضوابط رقابية على تصدير التقنية إلى الصين، شبيهة بسياسة فرض العقوبات على روسيا. إلا أن الأوروبيين يرون أن تلك الضوابط الرقابية يجب تطبيقها على المنتجات، وليس على النحو الموسع الذي اتخذته واشنطن.
المراقبون الغربيون يرون أن سد المنافذ أمام الصين ومنعها من الحصول على ما تحتاجه صناعاتها من تقنية، وخاصة تطوير صناعة الرقائق الإلكترونية محلياً، وعلى مسافة أقل من 100 ميل من تايوان، التي تعد أكبر مركز في صناعة الرقائق، سوف يجعل من تايوان هدفاً عسكرياً للصين أكثر من ذي قبل، ويسرّع في عملية اجتياحها. ويستشهدون بما حدث في عام 1940 عندما حظر الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت تصدير النفط والحديد الصلب إلى اليابان لمنعها من تطوير صناعاتها العسكرية. وكان رد الفعل الياباني التحرك سريعاً واحتلال الدول التي يتوفر بها النفط والحديد.

مصرف لبنان ومراحل من الاحتياطي السلبي بالـــدولار… إقتصاد لبنان لم يبدأ عام 1993!

من المستغرب أن تشهد معظم النقاشات الاقتصادية الاعلامية وكثير من الكتابات، تركيزاً حصرياً على فترة ما بعد عام 1993، وربما يعود ذلك إلى سهولة إيجاد المعلومات والأرقام لهذه الفترة، بعد تسلّم الرئيس الشهيد رفيق الحريري السلطة التنفيذية وإعادة انتظام عمل المالية العامة ونشر الإحصاءات في وزارة المال ومصرف لبنان المركزي. إلّا أنّ اقتصاد لبنان لم يبدأ عام 1993، والاختلالات في موازين المالية العامة وبيانات المصرف المركزي ومنها الاحتياطي من العملات الأجنبية، لم تطلق صفارات الإنذار فقط بدءاً بالعام 2005، ولو أنّ كارثية ميزان المدفوعات منذ العام 2011 لا مثيل لها حتى خلال سنوات الحرب. لكن معظم ما نعانيه حتى اليوم من نقص في الأرقام وشح في التقارير يعود تحديداً إلى المراحل السابقة… أحد أبرز المؤشرات التي تشكّل مصدر قلق نقدي اليوم، يكمن في مستوى الاحتياط الصافي من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وهو الذي عرف مستويات سلبية (أي تحت الصفر) في مراحل سابقة، لا بدّ من التوقّف عندها وتسليط الضوء على الخيارات التي اتُخِذت حينها وتبيان الدروس المستخلصة للوضع الحالي…

خلافاً لكل مفاعيل الصدمة التي يعبّر عنها البعض اليوم حيال وضع احتياطي المصرف المركزي من العملات الأجنبية خصوصاً بعد اضطراره إلى خفض معدل الاحتياطي الالزامي على الودائع بالعملات الأجنبية من 15 % الى 14 %، ومع ذلك إعلانه فقط عن الاحتياطات الاجمالية بالدولار المتبقية لديه، من دون التطرّق الى الاحتياطات الصافية كونه لم يعد لديه سوى ما تبقّى من احتياط إلزامي على الودائع (من دون أي إضافات صافية)، من الجدير ذكره أننا شهدنا سابقاً مراحل بهذه الصعوبة من دون الإعلان والترويج الكارثي لمعانيها نظراً لاستفادة لبنان في المراحل السابقة من كونه «مُحتضنا» بمظلة عربية ودولية داعمة…

 

أكد صندوق النقد الدولي، في تقريره الخاص بلبنان عام 2002، تدهور الاحتياطات الأجنبية الصافية لمصرف لبنان وخصوصا صافي الاحتياطيات الأجنبية التي أصبحت سلبية لأول مرة في تاريخ لبنان. فماذا تعني الاحتياطات الصافية؟ إنها الاحتياطات بالعملات الأجنبية من دون احتساب الاحتياطي الالزامي والحر الذي يعود للمصارف التجارية لدى المصرف المركزي (وهو طبعاً جزء من الودائع).

 

وأوضح تقرير صندوق النقد الدولي أنه «في أيلول 2001، وفي محاولة لدعم احتياطاته الإجمالية، أدخل مصرف لبنان معدلات احتياطي إلزامي على الودائع بالعملات الأجنبية، تم تحديده بنسبة 10 % خلال الربع الأخير من عام 2001، وبنسبة 15 % اعتبارًا من 1 كانون الثاني 2002. ومع ذلك، في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2002، تعرضت احتياطات النقد الأجنبي لمصرف لبنان لضغط مكثف لأنّ M3 كان في حالة تراجع…

 

وبقيت المصارف التجارية معرّضة بشدة للديون الحكومية واستمرت القروض المتعثرة في الزيادة. القطاع المصرفي اللبناني عبارة عن ودائع مصرفية كبيرة جدا (بما في ذلك الودائع لغير المقيمين) كانت تساوي نحو 240 % من الناتج المحلي الإجمالي – ومُعتمدة على الدولار بمقدار كبير، مع دولرة 72 % من إجمالي الودائع و83 % من الائتمان المقدّم للقطاع الخاص. وأصبحت المصارف التجارية في لبنان تحمل 56 % من إجمالي الدين الحكومي بتوجيهات مباشرة فرضت ذلك عليها بمرحلة اولى، وهو ما يمثّل نحو ثلث إجمالي أصول المصارف وكان يشكل دخل الفوائد المصاحب نحو 40 % من إجمالي دخل المصارف التجارية. بين عامي 1993 و2001، اعتمدت الحكومة اللبنانية في البداية على الاقتراض الكبير من السوق المحلية، وشكّلت الديون بالليرة اللبنانية نحو 81.3 % من إجمالي الدين. وقد تمّ إجبار المصارف على الاكتتاب بسندات الخزينة حتى 60 % من التزاماتها بالليرة اللبنانية، وخُفّض المعدل إلى 40 % في عام 1994 ثم أُلغي في عام 1997.

 

من عام 2002 إلى عام 2008، تصاعدت حصّة الديون بالعملات الأجنبية مع بدء مؤتمر باريس الذي عُقد في شباط 2001، فشكّل متوسّط الديون بالعملات الأجنبية 49.1 % من إجمالي الدين من 2002 إلى 2008. وعاوَد الدين بالليرة اللبنانية النمو ليشكّل من 2010 إلى 2018 متوسّط 60.25 % من مجموع الدين.

 

وبلغت عائدات الدين بالعملة المحلية، خصوصاً على سندات الخزينة عن عام وعامين، مستويات عالية تخطّت 30 % في التسعينات. واشترك اللاعبون المحليون بشكل رئيسي في الديون بالعملة المحلية على أساس عائد مرتفع لتعويض المخاطر العالية. على هذا النحو، تأثرت عائدات سندات الخزينة اللبنانية لعامين، التي احتفظت المصارف المحلية بمعظمها بعائد 33.6 % في آب وأيلول 1992، قبل أن ينخفض تدريجاً الى حدود 7.1 % مطلع العام 2019.

 

علماً أنّه بدءاً من العام 2016 أصبح الاتجاه الى خفض خدمة الدين العام باعتماد سياسات نقدية غير تقليدية عُرفت بـ»الهندسات المالية» بالتوافق بين وزارة المال والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، بغية استبدال تدريجي لجزء من الدين بالليرة بدين بالدولار (يوروبوند)، كون الفوائد على اليوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية نظراً لفارق عامل المخاطرة بين العملتين.

 

وكانت مختلف التوترات السياسية تضغط على مناخ الثقة للاستثمار وتدهور تصنيف لبنان السيادي لدى مؤسسات التصنيف «فيتش»، «موديز» و»ستاندرد أند بورز»، مما يؤدي الى رفع الفوائد لتعويض المخاطر.. اليوم قارَب مجموع الدين العام الـ100 مليار دولار وفق الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المال، إنما فعلياً فقط أقل من ثلثه بالدولار الأميركي والمتبقّي هو بالليرة، وقد تدنت قيمته كثيراً إذا تمّ تقويمه على أساس سعر الدولار في السوق.

 

أما تحميل المصرف المركزي عبء العجوزات المالية فإنه أيضاً لم يبدأ لا حالياً ولا عام 1993 بل كذلك الأمر منذ سنوات الحرب وعن طريق الفرض لا المشورة وضَربَ بعرض الحائط إستقلالية المصرف المركزي وكل بنود قانون النقد والتسليف التي تحول دون استسهال تمويل مصرف لبنان للعجز المالي..

 

بين عام 1962 وحتى عام 1975، عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت كل الموازنات تعاني من عجز، باستثناء موازنات الأعوام 1971 و 1972 و 1974 عشية اندلاع حرب 1975. أول غياب لقطع حسابات الموازنات العامة وحسابات المهمّة (حسابات الخزينة) كان بين عام 1979 وعام 1993. وحديثاً تكرّر الأمر بوقف قطع الحسابات المستمر منذ عام 2004 وحتى عام 2020.

 

وتميّزت حقبة 1983- 1984 بتنامي عجزين: عجز المالية العامة وعجز ميزان المدفوعات. أما الاقتراض من المصرف المركزي، فقد أجازته اتفاقية عُقدت بين وزارة المال والمصرف المركزي عام 1977، سمحت للحكومة بأن تحصل على قروض استثنائية، بغية تمويل تسيير أجهزة الدولة، وإعادة الإعمار. وقد رُفع سقف هذه القروض اكثر من مرّة بعد ذلك التاريخ. وكان ذلك يتمّ بموجب مادة في قانون الموازنة تُجيز للحكومة تعديل الاتفاقية المذكورة بمرسوم.

 

بعد عام 1985، لم تعد الحكومة ترسل مشروع الموازنة إلى مجلس النواب على النحو المنصوص عليه في الدستور. وأقرّ البرلمان إمكانية التصويت على قوانين تسليفات إضافية لموازنة عام 1985، أو اللجوء إلى طلب سلفات خزينة.

 

وقد فرضت الدولة على المصارف إلزامية الاكتتاب بسندات الخزينة على مواردها من الليرة اللبنانية. وأدّت خاتمة فترة الحرب في عامي 1989 و1990 إلى تفاقم وضع المالية العامة وأدّى انخفاض الإيرادات الضريبية إلى اعتماد الخزينة العامة، بالإضافة إلى الديون، على أرباح مصرف لبنان التي يتمّ تحويلها إليه بموجب قانون النقد والتسليف. وبلغت حصة أرباح مصرف لبنان في تمويل الخزينة نحو 62 % من إيرادات الموازنة عام 1989 و38.5 % من إيرادات الموازنة عام 1990.

 

وبعد غياب الموازنة لمدة 5 سنوات، اتّسَمت نهاية عام 1990 بإصدار الموازنة العامة. تحسّن وضع المالية العامة نسبياً، لكن استمرار العجز أدّى إلى نمو قوي في الدين العام الداخلي الذي زاد بنسبة 66 % عام 1991 و92 % عام 1992. في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت المتوجّب على الخزينة اللبنانية يُعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية.

 

وابتداءً من العام 1993 وحتى العام 2005 انتظَم من جديد العمل المؤسساتي في المالية العامة وعُرفت موازنة العام 2005 بـ»الموازنة الإصلاحية»، وترافقت مع آخر قطع حساب عن العام 2004، قبل أن يتوقّف صدور قطوعات الحسابات مجدداً ويستمر غيابه الى اليوم! لا بل توقّف أيضاً إقرار الموازنات المالية من العام 2005 حتى العام 2016، قبل أن يُعاود صدور الموازنات عام 2017 ولكن من دون قطع حسابات.

 

عام 2011 كان عام انقلاب كل المؤشرات الاقتصادية في لبنان، تزامن مع انقلاب مناخ الاستقرار السياسي، تبدّل مسار مؤشر الدين العام/الناتج المحلي ليعاود الارتفاع بعد سنوات من الانخفاض المتتالي، وكان قطاع الكهرباء يُراكم سلفات بالدولار الأميركي وفوائد عليها تخطّت 18 مليار دولار حتى العام 2011 مما رفع الدين بالدولار الى أكثر من 21 مليار دولار. واستمرت الكهرباء في تسجيل عجز مالي سنوي بنحو ملياري دولار وتتراكَم عليها الفوائد حتى باتت تفوق الـ43 مليار دولار ولو كان معظم هذه السلفات بالليرة اللبنانية إلا أنه كان يتم تحويلها تلقائياً من المصرف المركزي الى الدولار الأميركي لتسديد قيمتها بالدولار الأميركي (لا سيما منها مثلاً لاستيراد الفيول وتغطية مدفوعات ومستوردات بالعملات الأجنبية).

 

من عام 2002 إلى عام 2008، تصاعدت حصّة الديون بالعملات الأجنبية مع بدء مؤتمر باريس الذي عُقد في شباط 2001، فشَكّل متوسّط الديون بالعملات الأجنبية 49.1 % من إجمالي الدين من 2002 إلى 2008. وعاوَد الدين بالليرة اللبنانية النمو ليشكّل من 2010 إلى 2018 متوسّط 60.25 % من مجموع الدين، علماً أنّه بدءاً من العام 2016 أصبح الاتجاه الى خفض خدمة الدين العام باعتماد سياسات نقدية غير تقليدية عُرفت بـ»الهندسات المالية» بالتوافق بين وزارة المال والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، بغية استبدال تدريجي لجزء من الدين بالليرة بدين بالدولار (يوروبوند)، كَون الفوائد على اليوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية نظراً لفارق عامل المخاطرة بين العملتين.

 

اليوم لم يعد الاحتياطي بالعملات الأجنبية الاجمالي (وليس الصافي) لدى مصرف لبنان يتخطى منتصف تشرين الأول لعام 2022 حدود الـ10 مليارات دولار، طبعاً عند تنقيص محفظة اليوروبوند اللبنانيّة التي يحملها مصرف لبنان، والبالغة قيمتها 5.03 مليارات دولار والتي أعلنت الدولة الللبنانية العجز عن سدادها منذ آذار 2020. مسار الاحتياطي بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان لا يحدده المصرف المركزي وحده بل مجمل متطلبات الاقتصاد التي يَتشارك بتحمّل مسؤولياتها مجمل السلطات الى حين، وعلى أمل استعادة إستقلالية السياسة النقدية خصوصاً إزاء السياسة المالية للدولة اللبنانية…