الاقتصاد برواية ريما

العقبة الكبرى أمام التغيير في أي مجتمع ليست في الشوط المقطوع فقط، إنما في الاتجاه المزمع، في تحديد الهدف. ستقول لي إن تحديد الهدف سهل، كلنا نريد مجتمعاً أفضل، أقول لك إن هذه رغبة وليست هدفاً. الهدف هو الخطوة التالية تماماً، ومنها نعرف في أي اتجاه نمضي. قل لي خطوتك التالية أقل لك ماذا تعني بعبارة «المجتمع الأفضل».
بعض الناس يعتقد أن المجتمع الأفضل صورة من مجتمع حدث في الماضي، خطوته التالية ستكون استلهام هذا الماضي في سمت من سماته، والخطوة التالية سمت آخر وهكذا. بعضهم يعتقد أن المجتمع الأفضل مجتمع المساواة الطبقية. وخطوتهم التالية تقليص القدرة المالية للأغنياء لصالح دعم الفقراء. على ما يبدو من فارق بين هاتين الذهنيتين فإن شيئاً جوهرياً يجمعهما، وشيئاً أساسياً يغيب عنهما.
يجمعهما الاستسهال، ومبدؤه اختيار الفعل السهل لا الفعل الناجع الذي يدعمه المنطق. لا يمكن تحسين أحوال الفقراء بطريقة راسخة فعالة إلا بتشغيلهم، وهذا يستلزم خلق فرص عمل. وخلق فرص عمل لن يحدث إلا بحيازة المجتمع قدراً من المشاريع الرابحة كافياً لتشغيل أفراده. وهذا بدوره لن يتحقق إلا بوجود عدد كبير من أصحاب رؤوس الأموال الذين تجاوزوا حد الثراء الجامد إلى الثراء القادر على الاستثمار. وأيضاً بوجود عدد أكبر من أصحاب القوى الشرائية التي تُربِح هذه المشاريع. تشتري منها الأثاث، أو الأحذية أو السيارات إلى آخره.
كما أن التحسين الفعال الراسخ لأحوال الفقراء عملية طويلة الأمد، وفيها قرارات صعبة، وتنضوي على خطوات كثيرة يكون ظاهرها تشجيع الأثرياء على زيادة ثرائهم بفتح طريق الاستثمار، واحترام الملكية الخاصة، وتوفير الثقة والأمان، وكلها تسمح لرؤوس الأموال بالتراكم. هذا يعني قضاء فترة طويلة تمتد عقوداً من دون تحقيق الشعار، بل السير في طريق يبدو معاكساً له.
بهذا المنطق البسيط فإن سحب أموال الأغنياء للإنفاق على الفقراء خطوة تقوض هدفها المعلن، وتفقر الجميع. والاستسهال السبب الوحيد للإقدام عليها، وهو استسهال يشبه ما في ذهنية الفريق الآخر الذي يريد العودة إلى نقطة ذهبية في الماضي، فيرفع شعاراً مثل «يختفي الغلاء إن تحجبت النساء». الاستسهال دائماً فعل لا يتطلب جهداً كبيراً، ويروّج على أنه حل لمشكلة لن يحلها في الحقيقة إلا السير في طريق صعب إلى مكافأة كبرى.
هذا ما يجمع الفريقين. فماذا يغيب عنهما؟ يغيب عنهما الأصالة. وهنا يستوقفني استخدام الكلمة في اللغة العربية على عكس معناها المقصود. نستخدم لفظة الأصالة للإشارة إلى العودة إلى «أصول» قديمة، بينما المقصود بالأصالة اختلاق شيء جديد يصير هو أصلاً لما بعده. حين أقول إن فلاناً لديه «أصالة» في التفكير، المفترض أن أعني أنه يأتي من الأفكار بما لم يستطعه الأوائل. إنه أصل لنفسه، وأصل لغيره. أما إن أردت المعنى الآخر، أنه يعود إلى أصول من الماضي، فالكلمة التي ينبغي استخدامها هي الأصولية، لا الأصالة.
هذا التناقض الذهني في استخدام الكلمة انعكاس للتناقض الذهني في ممارستها. لكي يخرج مجتمع من حال سيئ عليه أن ينتقد ذاته، أن يقر ويعترف بأن حاله السيئة نتيجة لأفكاره القديمة. أن تلك الأفكار الداء لا الدواء.
هل تبدو الوصفة سهلة؟ بل هي أصعب الوصفات. تتطلب الأصالة زراعة جذور جديدة، في تربة جديدة. تتطلب شجاعة المغامرة والخروج من «البيئة المريحة» التي تهرع إليها كلما واجهتك مشكلة.
ولأننا نتحدث عن الاقتصاد، لا نملك مساحة لكثير من التفلسف والتنظير والالتفاف حول المقصود… حيث ندور منذ الخمسينات في بحيرة من الهيمنة الثقافية لتيارات الأصولية والاستسهال الاقتصادي. المشكلة الكبرى ليست فقط في السياسات الاقتصادية المتعاقبة، ونتائجها السلبية، بل في هيمنة الخطاب الداعم لها على الثقافة أيضاً. الخطاب الذي يشخص الفشل الاقتصادي بالبعد عن الالتزام الحرفي بالأصولية الاشتراكية الريعية في إدارة الاقتصاد. كما يشخص الأصوليون المتدينون أي مشكلة في مجتمعاتنا بالبعد عن الأصولية الحرفية في الالتزام الديني.
إننا نحتاج بوضوح إلى سياسات اقتصادية تعتمد على القطاع الخاص، بما يستلزمه هذا من تقليص دور الدولة واكتفائها بمقعد الحكم الراعي للالتزام بالقانون، وما يستلزمه أيضاً من حماية الملكية الخاصة لكي تتراكم الثروات، فتعبر عتبة القدرة على الشراء، وعتبة القدرة على الاستثمار في مشاريع متناهية الصغر وصغيرة ومتوسطة وكبيرة. وهذا الطريق – نعم – يعني مزيداً من الثراء للأثرياء، ويعني اضطرار الفقراء إلى تحمل مسؤوليات قراراتهم المعيشية، وإدراك أن عليهم التكفل بذواتهم، وأن سبعين سنة من الكفالة المجتمعية لم تنجح في تقليل الفقر، بل ساهمت في توالده، والتوالد في دوائره. لكنه يعني أيضاً مزيداً من فرص العمل للمجتهدين المكافحين من الفقراء. صاحب المشروع الخاص يريد المواهب التي تربحه، لا أبناء العاملين، ولا الموصى عليهم. منطق المسؤولية الاقتصادية نفسه يجعل أصحاب رؤوس الأموال يتحملون مسؤولية دراسة جدوى مشاريعهم، إن نجحت كسبوا، وإن فشلت دفعوا الثمن من ثرواتهم، لا من ثروات عموم المواطنين.
أخلاقية المنطلقات أخلاقية شعاراتية خادعة، استسهالية. العقول العظيمة في الإدارة المجتمعية، التي نقلت حياة الأمم، هي العقول القادرة على تحقيق أخلاقية النتائج النهائية. آدم سميث في الحساب الأخير أكثر فضلاً على البشرية ممن رفعوا شعارات ضمنت لهم تصفيق الجماهير بينما أعلت شأن الأكثر كسلاً وعاقبت المجتهدين.
ونحن في ذلك أكثر حظاً من غيرنا؛ لسبب بسيط هو أننا نستطيع أن ننظر إلى التحولات الاقتصادية الناجحة. تريد تعليماً أفضل مستداماً؟ لا سبيل سوى البدء بالاقتصاد الربحي. تريد سكناً أفضل مستداماً؟ لا سبيل سوى البدء باقتصاد ربحي. تريد تخفيضاً مستداماً لمعدلات الفقر؟ لا سبيل سوى البدء باقتصاد ربحي. كثير من العادات التي نظنها جيدة هي السبب الحقيقي لمعاناتنا.

خالد البري

والكلمة الفائزة بكلمة العام في 2022 هي…

على طريقة إعلان الفائزين بجوائز الأوسكار، أقدم لكم الكلمة التي كانت أكثر الكلمات الجديدة تعبيراً عن الأوضاع في عام 2022، والكلمة هي «بيرماكرايسيس» ومعناها «الأزمة المستمرة». وهي كلمة مدمجة بجمع كلمتين باللغة الإنجليزية «بيرمينانت» كصفة تعني الاستمرار و«كرايسيس» بمعنى أزمة. وقد اعتبرها خبراء اللغة والمعاجم بمؤسسة «كولينز» التي تصدر القاموس الشهير بأنها الأكثر توضيحاً وإيجازاً لمعاناة الناس مع ما شهدته هذه السنة من فظائع. وقد شاع استخدام هذه الكلمة الجديدة في وصف ما يعترض العالم من صدمات، ووجد فيها المعلقون على أحداث عام 2022 ضالتهم بتلخيصها المجمع لمشاهده الكبرى. فقد تصدرت هذه الكلمة المقال الافتتاحي للإصدار السنوي لمجلة «الإكونوميست» البريطانية عن أحداث العام الذي تعرض لثلاث صدمات أربكت العالم، وهي الحرب الأوكرانية، وأزمة الطاقة، والتضخم العالمي في الأسعار خاصة الطعام والوقود، كما جعلتها مجلة «سبيكتاتور» عنوان طبعتها الدولية عن تداعيات هذه الأزمة المستمرة التي داهمت العالم بعد سنتين من المعاناة مع أزمة الجائحة.
فمع نهاية سنة 2021 تطلع الناس لأن تأتي سنة جديدة بعدها حاملة ما يغاثون به. وعقد الاقتصاديون مقارنات بين عشرينات هذا القرن وعشرينات القرن العشرين التي شهدت انتعاشاً أعقب نهاية الحرب العالمية الأولى وجائحة الإنفلونزا الإسبانية التي قتلت في الفترة من 1918 حتى 2020 ما يقدر بنحو 50 مليون إنسان من إجمالي سكان العالم حينها الذي لم يتعد مليارَي نسمة، بما يتضاءل بجانبها ما ألحقته جائحة كورونا من أذى؛ إذ تسببت في موت 6.7 مليون إنسان من 8 مليارات نسمة تقريباً يعيشون في عالم اليوم.
وأسوأ الأزمات حتماً هي ما تأتي فجأة بأوجه متعددة متشابكة، خاصة بعدما منَّى الناس أنفسهم بعهد من التطلعات المتفائلة. فبعد حديث مقتضب في بداية العام عن انتعاش اقتصادي مأمول وأشكال التعافي من تداعيات جائحة كورونا ومتحوراتها، جاءت حرب في شهر فبراير (شباط) لم تشهدها أوروبا على أرضها منذ الحرب العالمية الثانية. كما أدت السياسات الاقتصادية للبلدان المتقدمة، وخاصة الولايات المتحدة إلى انفلات في التضخم المحلي والعالمي بزيادة السيولة النقدية بموجة إصدارات للنقود الرخيصة أثناء عامي الجائحة. ثم ترددت البنوك المركزية للبلدان المتقدمة في التصدي للتضخم الناجم عن النقود الرخيصة وفائض السيولة النقدية عليها مع بداية عودة الناس لحياتهم الطبيعية، وتعثرت في علاج مشكلة سلاسل الإمداد للتجارة الدولية. وفي محاولة لتدارك الخطأ الجسيم بعدم التصدي المبكر للتضخم، الذي لم تشهد مثله منذ أربعين عاماً، سارعت البنوك المركزية الرئيسية بما في ذلك البنك الفيدرالي الأميركي برفع غير مسبوق في سرعته لأسعار الفائدة فتراجعت أسواق المال خاسرة في أسابيع ما جمعته في سنين، وارتفعت تكلفة الاستثمار وتراجعت أسعار العقارات في البلدان المتقدمة، وتوالت الأنباء عن تعثر سداد بلدان نامية لديونها مع زيادة الغلاء فيها، وأمسى العالم مثقلاً بموجات من الركود التضخمي تتفاوت حدتها بين الدول.
وذكرت آن كروجر، الاقتصادية الأميركية الشهيرة، أن العالم متورط في خمس أزمات كبرى تشمل تداعيات جائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا، والتضخم المرتفع، والتخوفات من الركود، وتحديات الديون في البلدان النامية والأسواق الناشئة، ثم أضافت لها سادسة بحكم خبرتها في اقتصاديات التجارة الدولية وهي الحروب التجارية! هذه الحروب الوشيكة ستسببها الولايات المتحدة باتباعها الإجراءات الحمائية الموروثة منذ إدارة الرئيس السابق ترمب وما أضافته إدارة الرئيس بايدن من إجراءات متعلقة بمبادرات اتخذتها هذا العام مثل قانون تخفيض التضخم وقانون الرقائق الإلكترونية. فهذه الإجراءات الحمائية تزيد الدعم لصالح المنتجات المحلية، ولكن آثارها النهائية سيئة إذا ترتب عليها معاملات بالمثل من الشركات التجاريين في الصين وأوروبا، وستفتح المجال لحرب تجارية تضر بمكونات الصناعات وتنافسيتها وتزيد من الأعباء في النهاية على المستهلكين.
رغم اختلافات معروفة بين ترمب وبايدن، فإن سياستيهما اشتركتا في إجراءات حمائية قد تتمتع بشعبوية الأجل القصير، ولكن سيكون لها ذات المآلات التي انتهت إليها سياسات مماثلة حظيت بتأييد مؤقت لدغدغتها عواطف المستهدفين بها ثم تذهب السكرة وتأتي العبرة محملة بضياع الموارد العامة ورفع تكاليف الإنتاج الفعلية وتحميلها على دافعي الضرائب وتراجع التنافسية. ومن المتعارف أن مثل هذه الإجراءات الشعبوية لها مريدوها المهووسون بها وإذا ذُكّروا بثبوت فشلها عللوا لها بالأسباب كافة وزكّوها بحجج بكلمات رنانة عن أهمية مقاصدها، ولكن معترك الاقتصاد لا يعبأ بدعاوى متهافتة، فلا يفوز فيه في النهاية من طارد أوهاماً أو انتهك قوانينه وسننه التي تقدمت بها الأمم. وهو ما حدا بالاقتصادي الأميركي براد ديلونج أن يذكر في كتابه الأخير عن التاريخ الاقتصادي للقرن العشرين بنهاية فعلية للسيطرة الأميركية مع حلفائها على الاقتصاد العالمي على مدار الفترة من 1870 باعتمادها على تنافسية تعتمد على السبق التكنولوجي حتى عام 2010 الذي أعقب الأزمة المالية العالمية وارتباك الدول الغربية في التعامل معها بما اعتبره كاتب هذه السطور بداية النهاية للنظام الاقتصادي العالمي المتعارف عليه منذ الحرب العالمية الثانية.
قد ترى، عن حق، أن ما تم استعراضه حتى الآن غير شامل للمخاطر والأزمات المتواترة كافة؛ فالبعد المحلي والبيئة التي يعيش فيها القارئ يؤثران حتماً على تصنيفه للأزمات والمخاطر، ونبحث هنا عما قد يكون مشتركاً بين مختلف البلدان. فما هي القائمة الأكثر شمولاً لتعين في التعامل مع ظاهرة الأزمة المستمرة؟ من التقارير التي تتمتع بقدر نسبي من الدقة في متابعة المستجدات عن المخاطر ومستقبلها ما تصدره مؤسسة «أكسا» للتأمين بالمشاركة مع مجموعة «يوراسيا»، وهي تعتمد على مسوح واستقصاءات لرأي الخبراء حول أرجاء العالم. وفي هذا العام اعتمدت في ترتيب المخاطر على استطلاع رأي 4500 من خبراء المخاطر من 58 دولة، بالإضافة إلى عينة من عشرين ألف شخص من 15 دولة بالتعاون مع معهد «إيبسوس» للأبحاث.
وقد جاء تصنيفها للمخاطر في هذا العالم على النحو التالي:
1- تغيرات المناخ
2- الاضطرابات الجيوسياسية
3- مخاطر الأمن السيبراني
4- تحديات الطاقة
5- الأوبئة والأمراض المعدية
6- التوترات الاجتماعية
7- مخاطر على الموارد الطبيعية والتنوع البيئي
8- مخاطر مالية
9- مخاطر الاقتصاد الكلي
10- مخاطر السياسات النقدية والمالية
وقد احتلت تغيرات المناخ المرتبة الأولى في مقدمة المخاطر منذ عام 2018 باستثناء عام الجائحة 2020، ثم عادت مخاطر تغيرات المناخ للصدارة على المستوى العالمي. ففي تقرير العام الماضي (2021) كانت المخاطر الخمسة الأولى على الترتيب، هي: تغيرات المناخ، ثم أمن المعلومات أو الأمن السيبراني، والجوائح والأمراض المعدية، والمخاطر الجيوسياسية، ومخاطر التذمر الاجتماعي ونشوب صراعات داخلية. أي أن التغيير قد طرأ بسبب الحرب الأوكرانية وتداعياتها فرفعت من مرتبة المخاطر الجيوسياسية فجعلتها في المرتبة الثانية ودفعت بمخاطر الطاقة إلى المرتبة الرابعة، هذا مع قدر من التفاوت في الترتيب بين الأقاليم المختلفة حول العالم.
وعلينا على مستوى كل دولة أن نأخذ من هذه التقارير ونترك وفقاً للمعطيات المحلية وأولوياتها، لا ننجذب لأي منها انحيازاً حتى إذا ساق أصحابها ما يدعو للثقة في توقعات تقاريرهم عن المستقبل، فنحن في عالم شديد التغير، تكثر فيه البيانات وتندر فيه المعلومات المدققة وتُحتكر فيه المعرفة وتكاد تغيب عنه الحكمة في استخدامها.
ولكن ما لا يستفاد منه كله يجب ألا يهدر جله. فيجب الاعتماد على مصادر متعددة للاستشراف للتوقي من المخاطر في عالم تكتنفه أزمة مستمرة ترسم واقعاً جديداً يجعل من عملية رسم السياسات وإدارة المؤسسات حالة دائمة من إدارة الأزمات. ويمكن التعرف بيسر على إمكانيات الاستفادة من الأزمات في الإصلاح والتطوير واكتساب مراكز متقدمة في العالم الجديد، فالأزمات ما هي إلا معابر من واقع قديم إلى واقع جديد. ولهذا؛ أعجب من متخوف في البلدان النامية على مصير النظام الدولي القائم الذي لم تستفد بلداننا منه إلا الفتات مما يفيض عن الأغنياء المهيمنين فيه من خلال قنوات التجارة وبعض الاستثمارات وتحويلات المهاجرين، وما قد يقدم من منح وهبات.
هذا نظام دولي أوشك على نهاياته ومن المراقبين مَن يرى أن نهايته قد حلت بالفعل ولكن لم يعلنها النعاة بعد. نحن في إطار ترتيبات جديدة لنظام جديد لم يسفر عن معالمه وقواعده بعد، وحتى يحين زمنه بقواه الجديدة وقواعد ألعابه السياسية والاقتصادية تسير الأمور ببقايا متوارثة قانوناً وعرفاً من النظام الدولي الذي سيصير بائداً وفي ذمة التاريخ كما جرى لنظم سابقة عليه. ما نرجوه أن يكون النظام الجديد أكثر عدلاً وكفاءة من سابقه والأهم أن يكون لبلداننا فيه ما يليق بها. ولن تأتي لها جدارة السبق إلا بالهمة في الاستثمار في أهم مواردها وأرفع أصولها وأقيم ما لديها وهم البشر. هكذا فعل أهل الشرق في الصين وما حولها الذين يتجه نحوهم المركز العالمي للجاذبية الاقتصادية. قد يكون من أسباب التخوف أن عملية الانتقال من نظام إلى نظام لا يعلم أحد مداها الزمني وملابسات انتقالها سواء سلماً أو حرباً، وأن هناك خسائر ومكاسب محتملة، وضحايا وفائزين، وحلفاء وأعداء جدداً؛ وهو ما يستوجب إيضاحه في مقال قادم عن سبل إعداد العدة للتعامل مع التحديات وزيادة فرص التقدم في سباق الأمم رغم المربكات من أزمات وإن أطلق عليها «بيرماكرايسيس».

د. محمود محيي الدين